تخرق إسرائيل منذ احتلالها القدس الشرقية، القانون الدولي يومياً عبر ضم هذا الجزء من المدينة وإعلان القدس عاصمة موحدة لها، ثم اتخاذ سلسلة من الإجراءات التي تسببت بإبعاد آلاف المقدسيين عن المدينة لإحداث تغيير ديموغرافي، ومصادرة المنازل والعقارات للغاية ذاتها.
تسعى هذه المقالة لاستطلاع أفق ومعوقات وصول الفلسطينيين في القدس إلى العدالة الدولية، ممثلة في المحكمة الجنائية الدولية، كون القدس في القانون الدولي هي مدينة محتلة، وبالتالي فإن عمليات التغيير الديموغرافي والاستيلاء على الأملاك، تُعدّ جرائم حرب.
في تعارض مع أحكام القانون الدولي، ضمّت إسرائيل القدس الشرقية، فعلياً في 28 حزيران / يونيو 1967 عندما تبنّى الكنيست تعديلات على "القانون الأساس" بشأن القدس لسنة 1950، بحيث شمل التعديل حدود البلدية "الجديدة"، وتوسيع نطاق تطبيق القانون الإسرائيلي إلى الجزء الشرقي من المدينة، ثم بإصدار الحكومة الإسرائيلية أوامر لتوحيد شطرَي المدينة تحت الاختصاص القانوني لبلدية القدس الاحتلالية القائمة. وحصل هذا الضم على "الشرعية القضائية" الإسرائيلية من المحكمة العليا التي حكمت بأن شطرَي مدينة القدس أصبحا جزءاً لا يتجزأ من إسرائيل1.
وهذه الإجراءات الإسرائيلية تضرب عرض الحائط بالقانون الدولي الذي ينص على عدم جواز الاستيلاء على الأراضي عن طريق استخدام القوة، أو التهديد باستخدامها، وخصوصاً المادة 2 (4) من ميثاق الأمم المتحدة2. واستناداً إلى هذه المادة، لم يعترف المجتمع الدولي قط بضم القدس، واعتبره لاغياً وباطلاً من خلال عدة قرارات، منها قرار الجمعية العامة 2253، 3 وقرار مجلس الأمن 242. 4
ودعت القرارات الدولية كلها إسرائيل إلى الانسحاب من الأراضي المحتلة منذ سنة 1967، وإلغاء جميع التدابير المتخذة، والامتناع من اتخاذ أي تدابير أُخرى من شأنها تغيير وضع القدس الشرقية في ظل بطلان هذه الإجراءات وافتقارها إلى الشرعية.
لكن خلافاً لجميع هذه القرارات، أقرّ الكنيست في سنة 1980 "قانون أساس" ينص في المادة الأولى على أن: "أورشليم القدس، الكاملة الموحدة، هي عاصمة إسرائيل.5" ورداً على القرار الإسرائيلي أصدر مجلس الأمن القرار رقم 478 الذي جاء فيه أن القانون الإسرائيلي يمثل انتهاكاً للقانون الدولي، واعتبره لاغياً وباطلاً، وقرر ألاّ يعترف به، وعليه دعا دول العالم إلى نقل سفاراتها من القدس إلى تل أبيب6، لكن سلطات الاحتلال مضت في تنفيذ قرارها الرامي إلى تهويد المدينة وتغيير معالمها. وارتكزت السياسة الإسرائيلية على مبدأين أساسيين: الأول، تقليل عدد السكان الفلسطينيين في المدينة، والثاني، زيادة عدد السكان اليهود فيها7. وجرى تقليل عدد السكان الفلسطينيين عبر عدم إعطاء رخص للبناء والتطوير، وهدم المنازل وإخلائها، وسحب الهويات وفرض قيود على تسجيل المواليد، وزيادة الضرائب وتقليل الخدمات، في مقابل زيادة عدد المستوطنين الإسرائيليين من خلال البناء والتوسع الاستيطاني في القدس، والذي يخالف قواعد القانون الدولي الإنساني، وخصوصاً المادة 49 (6) من اتفاقية جنيف الرابعة8.
ومنذ سنة 2004، قامت السلطات الإسرائيلية بهدم 641 منزلاً على الأقل، الأمر الذي أدى إلى تهجير 2358 فلسطينياً، 1297 منهم من الأطفال، بحجة البناء من دون ترخيص9، إلى جانب هدم 1219 منزلاً على الأقل كإجراء عقابي منذ سنة 1987 في مختلف محافظات الضفة الغربية10. أمّا بشأن إجراء سحب الهويات، فمنذ سنة 1967 سُحبت هويات (وإقامات) 14,481 فلسطينياً مقيماً في القدس11. ويبلغ عدد الأطفال المعالين المتأثرين (الذين يعيلهم أهلهم والمتأثرين) بسحب إقامات أهاليهم (الأهل،) 86,000 طفل.
استخدام آلية نظام روما فلسطينياً
إن الإجراءات الآنفة الذكر تُعدّ انتهاكاً صارخاً لحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني، والذي يُحرّم ويُجرّم النقل القسري للمدنيين وتدمير الأملاك. وبناء عليه، تندرج الإجراءات الإسرائيلية تحت عدد من الجرائم الدولية التي جرى تقنينها في نظام روما للمحكمة الجنائية الدولية إذا ما استوفت عدداً من المعايير، وهو أمر من شأنه توفير سبيل لمساءلة المسؤولين ومحاسبتهم على هذه الإجراءات والسياسات. ومن أجل تقويم مدى إمكان هذا المقترح، فإن من الضروري البدء بالنظر في آلية انضمام دولة فلسطين إلى نظام روما.
لقد أصبح دخول فلسطين نطاق العدالة الجنائية الدولية ممكناً، بعد الاعتراف بفلسطين عضواً مراقباً، عبر تبنّي الجمعية العامة للأمم المتحدة قرار 67 / 19 في 29 تشرين الثاني / نوفمبر 2012، بأغلبية 138 دولة، في مقابل 9 دول صوتت ضد القرار، بينما امتنعت 41 دولة من التصويت، ليرفع هذا القرار مستوى تمثيل فلسطين إلى مكانة دولة مراقبة غير عضو12. ومكّن رفع مستوى تمثيل دولة فلسطين من الانضمام إلى نظام روما، بتاريخ 1 كانون الثاني / يناير 2015، والذي بموجبه قبلت دولة فلسطين الاختصاص القانوني للمحكمة على أرضها، وتبع ذلك إيداع أداة الانضمام إلى النظام لدى الأمين العام للأمم المتحدة. وأوضح الإعلان أن دولة فلسطين تمنح المحكمة اختصاصاً زمانياً بأثر رجعي إلى 13 حزيران / يونيو 2014، 13ونتيجة ذلك، وبما يتوافق مع سياسة المحكمة14، قام مكتب المدعي العام بفتح فحص أولي بشأن الوضع في فلسطين.
أفق ومعوقات العدالة الدولية في القدس
تنقسم مكونات وصول الفلسطينيين في القدس الشرقية إلى العدالة إلى شقّين: الشروع في التحقيق بعد استكمال الفحص الأولي، ومحاكمة المسؤولين. فيما يتعلق بالشق الأول، فإن فتح التحقيق يعتمد على استيفاء ثلاثة معايير، كما هو منصوص في المادة 53 (1) من نظام روما الأساسي15، وهي: الاختصاص القانوني، وشروط قبول القضية، ومصالح العدالة؛ أمّا الشق الثاني فيتألف من تسليم المتهمين ومحاكمتهم، وعليه، يجري تحليل أفق وتحديات محاكمة المسؤولين الإسرائيليين عن وضع وتنفيذ السياسات المذكورة أعلاه، من خلال تحليل ما إذا كانت هذه السياسات تستوفي معايير ومتطلبات الاختصاص الموضوعي والزمني والإقليمي، إلى جانب متطلبات قبول الدعاوى ومصالح العدالة.
وفي إطار الاختصاص الموضوعي يجري النظر في الجرائم التالية، كجرائم حرب: "إبعاد السكان أو النقل القسري لهم16" كجريمة ضد الإنسانية؛ "إلحاق تدمير واسع النطاق بالأملاك والاستيلاء عليها من دون أن يكون هناك ضرورة عسكرية تبرر ذلك، وذلك عبر مخالفة القانون وبطريقة جائرة17"؛ "الإبعاد أو النقل غير المشروعَين، أو الحبس غير المشروع18"، و"قيام دولة الاحتلال، على نحو مباشر أو غير مباشر، بنقل قسم من سكانها المدنيين إلى الأرض التي تحتلها، أو ترحيل أو نقل جميع سكان الأرض المحتلة أو قسم منهم إلى داخل هذه الأرض أو خارجها.19"
يجري الفحص ضمن الجريمة المنصوص عليها في المادة 8 (2) (أ) (4) على جزئية "التدمير" فقط، ويتم التركيز في الجرائم المنصوص عليها في المادتين 7 (1) (د) و8 (2) (أ) (7) على جزئية النقل القسري وغير المشروع بدلاً من الترحيل، كون مفهوم النقل هو الأكثر ملاءمة في ظل الإجماع الدولي على أن القدس الشرقية هي جزء لا يتجزأ من دولة فلسطين. والمفهوم القانوني للنقل يشير إلى النزوح في داخل أراضي الدولة، أمّا الترحيل فيشير إلى إخراج الشخص إلى خارج حدود الدولة20.
وفي سياق الاختصاص الإقليمي، ومع أن إسرائيل ليست عضواً في المحكمة، إلاّ إن من الممكن محاسبة إسرائيليين ارتكبوا جرائم دولية إذا ما وقعت الجريمة على أراضي دولة عضو في المحكمة، كما هو منصوص عليه في المادة 12 (2) (أ) في نظام روما، وقد باتت فلسطين عضواً في المحكمة21.
الاختصاص القانوني
ينحصر اختصاص المحكمة إقليمياً على الأراضي المخصصة لدولة فلسطين وفق قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة 67/ 19، والتي تتألف من الضفة الغربية ـ بما في ذلك القدس الشرقية ـ وقطاع غزة، أمّا الاختصاص الزماني فيبدأ من 13 حزيران/ يونيو 2014 فصاعداً. وفيما يتعلق بالاختصاص الموضوعي للمحكمة، فإن أحد الآفاق الإيجابية في إحقاق العدالة الجنائية الدولية يتمثل في استيفاء أركان مختلف الجرائم المشار إليها في القسم السابق ضمن إطار الاختصاص الزماني والإقليمي للمحكمة.
وتتضمن هذه الأركان ارتكاب الجرم ضد أشخاص موجودين في المكان بصورة شرعية وقانونية، كجزء من هجوم واسع النطاق ومنهجي في جريمة النقل القسري كجريمة ضد الإنسانية22. أمّا بالنسبة إلى جرائم الحرب فتتضمن أركان الجرائم ارتكاب الفعل الإجرامي من تدمير الأملاك مع غياب الضرورة العسكرية، وعلى نطاق واسع وبشكل تعسفي ضد أملاك محمية بموجب إحدى اتفاقيات جنيف23، أو النقل غير المشروع لأشخاص تشملهم حماية إحدى اتفاقيات جنيف24، أو قيام دولة الاحتلال بنقل سكانها المدنيين بشكل مباشر أو غير مباشر إلى أراضٍ محتلة25، في سياق نزاع مسلح ذي طابع دولي.
لقد عمدت إسرائيل إلى النقل القسري ضد مدنيين موجودين في القدس بصفة شرعية وقانونية، تماشياً مع خطة القدس 2020 التي تسعى للحفاظ على، وزيادة الأغلبية اليهودية في القدس، عبر تفريغ المدينة من سكانها الفلسطينيين واستقطاب السكان اليهود26، الأمر الذي يُعدّ جريمة منهجية ضد فلسطينيين موجودين ويقطنون في القدس بصفة شرعية، مستوفية بذلك الركن الثاني من الجرائم ضد الإنسانية. وفيما يتعلق بأركان جرائم الحرب، فإنه لم تجرِ الإشارة قط في موضوع تدمير المنازل في القدس سواء بحجج غياب تراخيص البناء أو كإجراء عقابي، إلى الضرورة العسكرية كمبرر للهدم، إلى جانب استيفاء معايير النطاق الواسع (الذي يستوفي المعايير الواسعة النطاق) والطبيعة التعسفية في ظل تماشيه مع خطة القدس المذكورة سابقاً، فضلاً عن حمل هذه الأملاك صفة الحماية تحت المادة 53 من اتفاقية جنيف الرابعة27. أمّا بالنسبة إلى جريمة النقل غير المشروع، فإن الأشخاص الذين نُقلوا هم أشخاص محميون بموجب المادة الرابعة من اتفاقية جنيف الرابعة. من جانب آخر، وفيما يتعلق بجريمة نقل دولة الاحتلال سكانها المدنيين بشكل مباشر أو غير مباشر إلى أراضٍ محتلة، فإن أكثر الأمثلة ملاءمة لذلك هو (وجود؛ إنشاء) 15 مستعمرة تمتد عبر القدس الشرقية وتلتف حولها، ويقطن فيها 200,000 مستوطن تقريباً28. ويأتي ارتكاب هذه الجرائم كلها في سياق نزاع مسلح ذي طابع دولي، بموجب المادة 2 (2) من اتفاقية جنيف الرابعة، والتي تضم الاحتلال العسكري تحت مظلة النزاع المسلح ذي الطابع الدولي29.
شروط قبول القضية
تنقسم متطلبات شروط قبول القضية إلى قسمين أساسيين تنظمهما المادة 17 من نظام روما30، وهما: ألاّ تتعارض الدعوى مع الولاية القضائية الجنائية على المستوى الوطني، ودرجة خطورة الوضع. الشق الأول يُعنى بالمبدأ التكميلي الذي تنتهجه المحكمة الجنائية الدولية بحيث تعطي (تعطى) الأولوية للنظم الوطنية في محاسبة مرتكبي الجرائم المذكورة وغيرها من الجرائم الدولية المنصوص عليها في نظام روما. وفي ظل استغلال العديد من النظم السياسية لهذا المبدأ للتمهيد لإفلات مرتكبي الجرائم الدولية من العقاب، وضع نظام روما بعض القيود، كاستيفاء شروط قبول القضية في حالة عدم مقدرة أو عدم رغبة الدولة في إجراء تحقيق وافٍ ومحاكمة المسؤولين. وفي هذا السياق، من المرجح ألاّ يشكل مطلب إعطاء النظام القضائي الوطني أولويةً عائقاً كبيراً أمام محاسبة المسؤولين الإسرائيليين في المحاكم الدولية في ظل النظام السياسي والقانوني الذي جرى وضعه من طرف كل من السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية بعد ضم القدس الشرقية، والذي يرعى ارتكاب هذه الجرائم، ذلك بأن سياسات هدم المنازل وإخلائها وسحب الهويات وفرض قيود على تسجيل المواليد، تأتي في سياق قانوني ضمن قوانين جرى تشريعها من الكنيست، وتحتكم إليها السلطة القضائية في إصدار الأحكام، وتنفذها السلطة التنفيذية.
أمّا الشق الثاني من شروط قبول القضية والذي يتمثل في درجة الخطورة، فمن الممكن أن يشكل تحدياً أكبر، وخصوصاً في حالة تبنّي توجّه كمّي في تحليل مدى خطورة الوضع. فضمن إطار الاختصاص الزمني للمحكمة، جرى تدمير 254 منشأة31، كما تأثر 567 شخصاً بالنقل القسري على النحو التالي:
342 شخصاً جرّاء تدمير منازلهم، و30 شخصاً بسبب إجلائهم من منازلهم، و195 شخصاً جرّاء سحب الهويات (يستثني هذا الرقم الأطفال المُعالين (الذين يعيلهم أهلهم))، بينما تبلغ أعداد المستوطنين في القدس الشرقية نحو 200,000 مستوطن. ولدى مقارنة هذه الأرقام التي يشهدها مختلف دول العالم مثل ساحل العاج حيث النقل القسري وغير المشروع لنحو مليون مدني32، وفي ظل وجود سلطة تقديرية واسعة للمدعية العامة، فإن مكتب المدعي العام ربما يقرر عدم فتح تحقيق في هذه الجرائم نظراً إلى خطورتها المحدودة من وجهة نظره، وهذا أمر مطابق بشكل كامل لما حدث في قضية سفينة أسطول الحرية، على الرغم من وجود دلائل كبيرة على ارتكاب جرائم حرب33. من ناحية أُخرى، يمكن التغلب على هذه المعوقات إذا ما جرى توظيف توجّه كيفي ونوعي لتحليل مدى خطورة الوضع، فهذه السياسات والإجراءات تأتي في سياق نظام سياسي وقانوني محكم ومعقد يترجم إلى سياسات تنفيذية تحت رعاية الدولة بجميع سلطاتها، إلى جانب عدد الأشخاص المهددين في إطار هذا النظام؛ فعلى سبيل المثال، يُظهر المسح الأخير الذي قام به مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا) أن 818 شخصاً، بينهم 372 من الأطفال، مهددون بالإجلاء من 180 بيتاً تمتد عبر 12 موقعاً في القدس الشرقية، بما في ذلك بيت حنينا، وبيت صفافا، والشيخ جراح، وسلوان، وراس العمود، والبلدة القديمة34.
معيار مصالح العدالة
من الممكن أن يكون معيار مصالح العدالة من أكبر العوائق التي تواجه وصول الفلسطينيين في القدس إلى العدالة، ويأتي هذا في سياق عدة متغيرات تتمثل في غياب تعريف ومكونات مفهوم مصالح العدالة في كل من وثائق نظام روما وأركان الجرائم. كما أن مكتب المدعي العام كان قد أصدر ورقة بشأن السياسات في سنة 2007 تتعلق بمفهوم مصالح العدالة، لكنها، وبشكل متعمد، لم تعطِ أي أمثلة لأوضاع تستوجب منع فتح تحقيق، وهو أمر ربما يحرف العدالة عن مجراها35.
فضلاً عمّا سبق، فإن عمليات إحالة القضايا إلى المحكمة كما هو منصوص عليها في المواد 13 ـ 15 في نظام روما تمثل عملية مسيسة إلى حد كبير، وخصوصاً في حالات إحالة القضايا عبر مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة36. وفي ظل غياب تعريف وتوضيح مكونات مصالح العدالة كمانع لفتح تحقيق، والبعد الذاتي الذي يهيمن على تفسير مفهوم العدالة وفهمه، إلى جانب أن الادعاء العام لم يستخدم هذا المطلب من قبل في اتخاذ قرار بعدم فتح تحقيق، فإنه سيكون من الصعب التكهن كيف سيجري استخدام هذا المفهوم كعائق أمام وصول الفلسطينيين في القدس إلى العدالة، ولا سيما في ظل السلطة التقديرية الواسعة الممنوحة للادعاء العام في هذا الشأن، وعليه، سيكون من الصعب التنبؤ ووضع استراتيجيات للتغلب على هذا العائق، إن وجد.
تسليم المتهمين ومحاكمتهم
تتمثل المرحلة الثانية في إحقاق العدالة للفلسطينيين في القدس الشرقية وبعد فتح التحقيق وتحديد المتهمين، في تسليم المتهمين لأنفسهم أو اعتقالهم. فقد تبيّن أن المحكمة تفتقر إلى القوة السياسية الضرورية للتأكد من تسليم الدول الأعضاء في المحكمة المتهمين إلى العدالة في حال قرارهم عدم تسليم أنفسهم كما فعل الرئيس السوداني عمر حسن البشير الذي حضر قمة الاتحاد الأفريقي في جنوب أفريقيا في حزيران/ يونيو 2015، ولم تقم حكومة كيب تاون بتسليمه، على الرغم من وجود مذكرة اعتقال بحقه37، وعلى الرغم من أن الالتزامات القانونية على جميع الدول الأعضاء ـ بما في ذلك جنوب أفريقيا ـ تستوجب تسليمه إلى المحكمة في لاهاي38. ويشكل عدم اختصاص المحكمة بمحاكمة المتهمين غيابيا، عائقاً كبيراً في وجه إحقاق العدالة، كما يتبيّن في حالات كل من والتر براسا من كينيا، وعبد الرحيم محمد حسين، والبشير، وأحمد محمد هارون، من السودان39.
تتألف الجرائم الدولية من ثلاثة مكونات: السياق، والفعل الإجرامي، والنية الجنائية: فمكون السياق في جرائم الحرب المذكورة أعلاه هو نزاع مسلح ذو طابع دولي، وفي الجرائم ضد الإنسانية هو هجوم واسع النطاق ومنهجي موجه ضد مدنيين، وفي ظل استيفاء معيارَي السياق وأركان الأفعال الإجرامية، تبقى معالجة وإثبات الجزئية المعنوية لمحاكمة المتهمين.
توضح المادة 30 من نظام روما أن الجزئية المعنوية، ما لم يُنص على خلاف ذلك في أركان الجريمة نفسها، تتمثل في قيام المتهم بارتكاب الجريمة مع القصد والعلم40. وتوضح المادة ذاتها أن مكون القصد يتوفر عندما يقصد الشخص ارتكاب هذا السلوك عندما يتمثل الفعل الإجرامي بسلوك (الذي يجسده الفعل الإجرامي)، مثل القتل على سبيل المثال، أو أن يسبب تلك النتيجة، أو أن يدرك أنها ستحدث في إطار المسار العادي للأحداث عندما يتمثل الفعل الإجرامي بنتيجة (في نتيجة محددة)، مثل النقل غير المشروع على سبيل المثال. أمّا بالنسبة إلى مكون المعرفة فيعني "أن يكون الشخص مدركاً أنه ستحدث نتائج في (أن) المسار العادي للأحداث (سيولد نتائج معينة).41" وفي هذا السياق، من الجليّ أن إثبات المكون المعنوي لدى مختلف المتهمين يشكل أحد أصعب التحديات في إحقاق العدالة للفلسطينيين في القدس الشرقية (، وذلك) بوجود صعوبة إثبات القصد والعلم في تسبب هذه النتائج لدى المسؤولين الكبار. إلاّ إن المادة 28 من نظام روما توضح مفهوم مسؤولية القادة والرؤساء الآخرين، ويمكن استخدام هذه الآلية لتتبع الجريمة وصولاً إلى أعلى الهرم، كما أن النظم السياسية اللامركزية تساهم نسبياً في الوصول إلى هذه الغاية42. ومع ذلك، فإن إثبات المركب المعنوي يبقى من أصعب التحديات التي ستواجه وصول الفلسطينيين في القدس إلى العدالة.
خاتمة
بناء على ما سبق، يوجد العديد من المزايا والإيجابيات في استخدام القانون الدولي الجنائي والمحكمة الجنائية الدولية كأداة لتدويل الصراع الفلسطيني وإحقاق العدالة للشعب الفلسطيني. فمن المزايا وجود كثير من الأدلة على ارتكاب الجرائم المذكورة أعلاه بشكل واسع وفي السياق الضروري، إلى جانب ارتكاب هذه الجرائم برعاية النظام السياسي الإسرائيلي بمختلف سلطاته التشريعية والتنفيذية والقضائية، واستخدام النظام القانوني لـ "شرعنة" هذه الجرائم. ومن جانب آخر، ثمة عدة صعوبات يجب التغلب عليها، مثل حجم خطورة الوضع القائم في القدس، ومكون مصالح العدالة، وتسليم المتهمين، وإثبات المكون المعنوي.
إن شحّ موارد المحكمة الجنائية الدولية، وارتكاب أفظع الجرائم في العديد من دول العالم، يجعلان من غير العملي للمحكمة محاكمة جميع الأشخاص المتورطين في ارتكاب، أو في التكليف بارتكاب الجرائم التي تدخل في اختصاص المحكمة43. ويتماشى هذا النهج مع ممارسات المحاكم المختصة السابقة مثل المحكمة الجنائية الدولية ليوغسلافيا السابقة، والمحكمة الجنائية الدولية لروندا، اللتين حاكمتا كبار المسؤولين عن جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، وجريمة الإبادة الجماعية (في حالة روندا). فهذا يترجم في السياق الفلسطيني إلى محاكمة كبار المسؤولين الإسرائيليين عن السياسات المذكورة سابقاً، ومن المرجح جداً أن يجري استثناء المسؤولين من الدرجة الثانية والمسؤولين الصغار، بما في ذلك المستوطنون والجنود وغيرهم، الأمر الذي يؤدي إلى سلسلة من الأسئلة عمّا إذا كان هذا الشكل من العدالة يتلاءم مع تطلعات الشعب الفلسطيني ورؤيته. ومن جانب آخر، يُطرح السؤال: هل يوجد رؤية واضحة وإجماع لدى الشعب الفلسطيني بشأن ما هي العدالة التي يتطلعون إليها؟ ويأتي هذا في سياق اختلاف مفهوم العدالة من شخص إلى آخر، وهو مفهوم ذاتي يختلف مع اختلاف الأوضاع ودرجة المعاناة وغيرها من المتغيرات. ففي هذا السياق هناك ضرورة لحملة دعوية شعبية تبلور رؤية فلسطينية بشأن خصائص وميزات العدالة استناداً إلى القانون الدولي.
في نهاية الأمر يصبو الشعب الفلسطيني إلى تحقيق أهداف وحقوق سياسية، لكن مع تدهور الوضع السياسي والاقتصادي والاجتماعي وفشل العملية السياسية، بات الخطاب العام ينحو إلى الصفة الإنسانية بدلاً من السياسية، وإلى توسيع ساحة المعركة كي تشمل مجال القانون الدولي، بما في ذلك القانون الدولي لحقوق الإنسان والقانون الدولي الجنائي. وقد يأخذ الخطاب العام المنحى القانوني الحقوقي بصفة حقوق الإنسان التي ترتكز إلى مبدأ المساواة من دون اعتبار لغياب توازن القوى، وبمعزل عن الأثر الفعلي والاستراتيجي للاحتلال العسكري، إلى جانب غياب آليات تنفيذ أحكام القانون الدولي لحقوق الإنسان. وعليه، فإن من الضروري استثمار جميع أشكال النضال المتاحة، بما في ذلك القانونية والحقوقية، مع أخذ إجراءات تضمن الحفاظ على الطبيعة السياسية لنضال الشعب الفلسطيني.
(عن جدلية)
هوامش
Hanazalis v Court of Greek Orthodox Patriarchate [1968] HCJ, 171/68 (HCJ) 269. 1
2. (UN, Charter of the UN, 24 October 1945, 1 UNTS XVI, art. 2 (4
UNGA Resolution 2253 (4 July 1967), UN Doc A/Res/2253 .3,
UNSC Resolution 242 (22 November 1967), UN Doc S/Res/242 .4,
Basic Law: Jerusalem, Capital of Israel, 1980, art. 1 .5,
UNSC Resolution 478 (20 August 1980), UN Doc S/RES/478 .6 .
7. Nur Arafeh (2016), “Which Jerusalem? Israel’s Little-Known Master Plans”, “Al-Shabakah: The Palestinian Policy Network”,
8. Geneva Convention Relative to the Protection of Civilian Persons in Time of War
(adopted 12 August 1949), 75 UNTS, 287, art. 49(6).
9.B’Tselem, Statistics on Demolition of Houses Built Without Permits in East Jerusalem (B’Tselem, 2016).
10.Ibid., Statistics on Demolition of Houses as Punishment, 1987-2004 (B’Tselem, 2011); Office of Coordination of Humanitarian Affairs/OCHA, Demolition System (OCHA, 2016), p. 2.
11. B’Tselem, Statistics on Revocation of Residency in East Jerusalem (B’Tselem, 2015), p. 1
12.UNGA Resolution 67/19 (29 November 2012),
13.International Criminal Court/ICC, “Palestine Declares Acceptance of ICC Jurisdiction Since 13 June 2014”, ICC-CPI-20150105-PR1080 (1 January 2015),
14.Ibid., “Regulations of the Office of the Prosecutor-ICC-BD/05-01-09” (ICC, 2009),
15.Rome Statute of the International Criminal Court (adopted 17 July 1998, entered into force 1 July 2002), 2187 UNTS, 3 art. 53 (1),
16.Ibid., art. 7 (1) (d).
17.Ibid., art. 8 (2) (a) (4).
18.Ibid., art. 8 (2) (a) (7).
19.Ibid., art. 8 (2) (b) (8).
20.Otto Triffterer and Kai Ambos, eds, The Rome Statute of the International Criminal Court: A Commentary (Oxford: C.H. Beck, Hart and Nomos, 2016), p. 346.
21.Rome Statute…, op.cit., (n 29), art. 12 (2) (a).
22.ICC, Elements of Crimes, 2011, pp. 6-7,
23.Ibid., pp. 15-16.
24.Ibid., p. 17.
25.Ibid., p. 22.
26.Arafeh, op.cit.
27.Geneva Convention…, op.cit. (n 16), art. 53.
28.Rome Statute…, op.cit (n 29), art. 17
B’Tselem, Statistics on Settlements and Settler Population (B’Tselem, 2015), p. 1.29.
30.Geneva Convention…, op.cit. (n 16), art. 2 (2).
31.OCHA, (n 18), 2.
32.ICC, Situation in the Republic of Côte d'Ivoire, ICC-02/11 (ICC),
33.Office of the Prosecutor/OTP, Situation on Registered Vessels of Comoros, Greece and Cambodia (ICC, 2014),
34.OCHA, East Jerusalem: Palestinians at Risk of Eviction (OCHA, 2016), p. 1.
35.OTP, Policy Paper on the Interests of Justice (OTP, 2007), p. 1,
36.Rome Statute…, op.cit. (n 29), art. 15.
37.Thomas Hartleb, “Laughter as Court Told Al-Bashir has Left”, News 24 (2015),
38.Rome Statute…, op.cit. (n 29), art. 86.
39.ICC, Pre-Trial Stage, (2016),
40.Rome Statute…, op.cit. (n 29), art. 30.
41.Ibid., art. 30 (3).
42.Ibid., art. 28.
43.Douglas Guilfoyle, International Criminal Law (Oxford: Oxford University Press, 2016), p. 315.
المراجع
Books
- Guilfoyle, Douglas. International Criminal Law. Oxford: Oxford University Press, 2016.
- Palestinian Academic Society for the Study of International Affairs/PASSIA. 100 Years of Palestinian History: A 20th Century Chronology. Jerusalem: PASSIA, 2011.
- . Arab East Jerusalem: A Reader. Jerusalem: PASSIA, 2013.
- Triffterer, Otto and Kai Ambos, eds. The Rome Statute of the International Criminal Court: A Commentary. Oxford: C.H. Beck, Hart and Nomos, 2016.
International Criminal Court Publications
- International Criminal Court/ICC. Elements of Crimes. 2011.
- . “Palestine Declares Acceptance of ICC Jurisdiction Since 13 June 2014”. ICC-CPI-20150105-PR1080 (1 January 2015).
- . Pre-Trial Stage. ICC, 2016, https://www.icc-cpi.int/Pages/pre-trial.aspx
- . “Regulations of the Office of the Prosecutor-ICC-BD/05-01-09”. ICC, 2009,
- . Report on Preliminary Examination Activities. ICC, 2015.
- Office of the Prosecutor/OTP. Situation on Registered Vessels of Comoros, Greece and Cambodia. ICC, 2014,
. Policy Paper on the Interests of Justice. OTP, 2007.
- Rome Statute of the International Criminal Court. Adopted 17 July 1998. Entered into Force 1 July 2002. 3 UNTS 2187.
Israeli Legislation and Case Law
- Laws and Administration Ordinance, 1948.
- Basic Law: Jerusalem, 1950.
- Hanazalis v Court of Greek Orthodox Patriarchate [1968]. HCJ, 171/68(HCJ).
- Basic Law: Jerusalem, Capital of Israel, 1980.
United Nations Resolutions and Instruments
- Geneva Convention Relative to the Protection of Civilian Persons in Time of War. Adopted 12 August 1949. 75 UNTS 287.
- United Nations. Charter of the UN. 24 October 1945. 1 UNTS XVI.
- UNGA Resolution 273 (11 May 1949). UN Doc A/Res/273.
2253 (4 July 1967). UN Doc A/Res/2253.
- UNSC Resolution 242 (22 November 1967). UN Doc S/Res/242.
478 (20 August 1980). UN Doc S/RES/478.
- UNGA Resolution 67/19 (29 November 2012).
Press Releases
- “ICC Prosecutor Rejects Palestinian Recognition”. BBC News, 2012,
- Hartleb, Thomas. “Laughter as Court Told Al-Bashir has Left”. News 24, 2015,
Fact Sheets, Policy Papers and Reports
- Arafeh, Nur. “Which Jerusalem? Israel’s Little-Known Master Plans”. 2016. “Al-Shabaka: The Palestinian Policy Network”,
- B’Tselem. Statistics on Demolition of Houses as Punishment, 1987-2004 . B’Tselem, 2011.
. Statistics on Revocation of Residency in East Jerusalem. B’Tselem, 2015.
. Statistics on Settlements and Settler Population. B’Tselem, 2015.
Statistics on Demolition of Houses Built Without Permits in East Jerusalem. B’Tselem, 2016.
- Office of Coordination of Humanitarian Affairs/OCHA. Demolition System. OCHA, 2016.
ICC. Situation in the Republic of Côte d'Ivoire. ICC-02/11 (ICC),
- OCHA. East Jerusalem: Palestinians at Risk of Eviction. OCHA, 2016.
33) PASSIA. “Fragmenting Palestine: Formulas for Partition since the British Mandate”. May, 2013,