يقدم الكاتب المصري محمود سلامة الهايشة تجربة شعراء يستندون على تجربة الشعر العامي المصري لتخليد دماء الشهداء من الذين غابوا، قدرة الشاعر على استنهاض الهمم والوفاء الى ذكرى الشهداء من خلال صياغات شعرية يتوقف عند مدلولاتها الباحث المصري ويقرأ بعضا مما تؤشر عليه.

الشهيد الحي في المُسدسات

محمود سلامة الهايشة

يتعرض القطر المصري خلال السنوات الأخيرة، خاصة بعدما أصبحت أرض الفيروز موبوءة بكائنات حية ليست دقيقة لا ترى بالعين المجردة كالكائنات الحية المجهرية الدقيقة كالبكتيريا والفطريات والفيروسات، بل كائنات حية للأسف بشرية تظهر فجأة وتختفي بعد أن تقتل وتخرب، فالبكتيريا تمرض الجسد، ولكن إذا ما عالجتها يشفى العضو المصاب، ويمارس الجسم مهامه على أكمل وجه، أما تلك المخلوقات لا حل معها سوء إدخالها المحرقة، والتخلص منها للأبد. ولأن الشاعر من الشارع، في الشكل والمضمون، فكلمتي الشاعر والشارع لهما نفس الأحرف فقط تقديم الراء قبل العين والعكس، فالشاعر إنسان ابن بيئته، وإن لم يكن الشاعر يكتب ما يشعر به الناس ويتفاعل مع الأحداث التي تحيط به، ويناقش مشاكل وأزمات مجتمعه، فلن يصل كلامه وما كتبه لعقول وقلوب من يستمع إليه، وللشاعر المبدع أيضا دوراً في تأريخ الزمان والمكان والأحداث، فمن الممكن أن يصور بالكلمات ويرسم الصور بالأبيات لكل ما يراه ويدركه ويفهمه ويهضمه ويخرج في صورة منتج فني أدبي ألا وهو القصيدة الشعرية طالما نتحدث عن الشعر، وهو هنا يفعل نفس الذي يفعله القاص في قصص والروائي في روايته والسيناريست عندما يعالج النص الأدبي ويخرجه في شكل سيناريو وحوار لكي يجسده الممثلين على خشب المسرح أو عبر الشاشة الصغيرة بالدراما التليفزيونية أو الشاشة الكبيرة للسينما.

وهذا بالفعل ما فعله أصحاب المسدسات، أو سداسيات الشعر العامي المصري، الشاعران إبراهيم رضوان وأشرف عبدالعزيز، بالكتابة عن الشهيد والشهداء من أبناء الوطن المصري عبر التاريخ والأزمان، في تصوير بانورامي، وبالطبع التركيز الأهم على أرض سينا والقناة، ففي صفحة (121) من الديوان كتب د.أشرف عبدالعزيز قصيدته "دين الشهيد"، وجاءت كلماتها كالتالي:

دين الشهيد

كان عمِّى قاعد ع (الإياس) ..

اللى رجع بُه م (الحجاز) ..

أثناء زيارتُه وهوَّ راجع م (اليمن)

جنبُه ميرات عمِّى الجديده بتشتكِيلُه .. نار رحيلُه ..

والقديمه بتشتكيهُم .. للزمن

لمَّا أعوز أفتح مجالى باضحكِك ..

وامَّا يساعنا بأقفلُه .. يبقى اغترابنا ليه بقى

إرتاحى إنتى .. واتركينى فْ غُرْبَه ادوَّر ..

عن دواكى اللى انتهى ..

ومالوش بديل ..غير اللُقا

ساعدينى اخبِّى حزنى عنِّك واحضنينى ..

قبل ما الأيام تباعد بين زوايا المشنقه

دا انا من وفاة عمِّى فى (سينا والسويس) ..

نايم مكانُه ع (الإياس) ..

بـ ادفع لزوجاتُه التمن

طبعا، التطور والمراحل التي سار بها الشاعر في قصيدته والتي بدأت من "الإياس" ثم اليمن والحجاز ثم سينا والسويس ثم الانتهاء مرة أخرى بـ "الإياس"، وأنا الراوي هو ابن الأخ الذي كان يحكي قصة عمه الذي سافر وتغرب، ثم عاد بزوجة ثانية فمات على تراب مصر، فلم يترك هذا الابن مكان وظل هو نائم مكانه على "الإياس" يحمي زوجاته بل ويدفع لهم. والإياس هنا ليس سن اليأس الذي يعني انقطاع الدورة الشهرية عند النساء والسيدات، بل هي كلمة تعني باللهجة المصرية فراش الأرضية، أو ما يفرش لتغطية أرضية البيت، ومازالت تستخدم في بعض القرى الريفية البعيدة عن عواصم المدن والمراكز. وكما نرى في كتابة الشعر العامي تحت حروف الجر بالحذف، أي يكتب كحرف واحد فقط، فكما نرى في القصيدة السابقة "دين الشهيد" الذي يذكرني عنوانها باسم قصيدة الشاعر الكبير "جمال بخيت" طبعا تشبيه مع الفارق "دين أبوهم اسمه أيه؟!"، كتب الشاعر/ أشرف عبدالعزيز حرف الجر (على) = (ع)، (في) = (ف)، و(من) = (م)، أي أنه حرف جر يعني حر، والشيء بالشيء يذكر، عندما تدرس اللغة الألمانية بالمرحلة الثانوية ثم دراستها بمرحلة الدكتوراه كاللغة ثانية في المرحلتين بجانب الانجليزية، فهناك في الإنجليزية حروف تكتب ولا تنطق وتسمى (silent) بينما في الألمانية تتميز عن الإنجليزية أن ما يكتب من حروف ينطق، لذا فمن صعوبات الكتابة باللهجة العامية المصرية أو بالأحرى باللسان أو الألسن لأن اللهجات المصرية بها بعض الاختلافات من منطقة لأخرى داخل مصر على اختلاف الأقاليم الجغرافية، لأن ما ينطق يكتب، مع مراعاة الوزن الموسيقى للأبيات والشاطرات والتقطيع والوقفات.

والموضع الثاني داخل ديوان مسدسات، تم فيه ذكر "الشهيد" كان في مسدس "المنفي" للعم الأستاذ إبراهيم رضوان، وبالتحديد صفحة (216)، وهو من المسدسات التي ينطبق عليها القاعدة السداسية الأبعاد الهندسية، وهي بلغة كرة القدم (2: 3: 1)، أو بالمعادلة الحسابية (المسدس الشعري = 2+3+1). تفسير هذه الأرقام ببساطة شديدة بأن قافية البيتين الأول والثاني متشابهتين، ثم يتم تغيير القافية في الثلاثة أبيات التالية أي في الأبيات الثالث والرابع والخامس، ثم يأتي البيت السادس بنفس قافية البيتين الأول والثاني، فيما يمكن أن أعرفه أو أطلق عليه "استراتيجية أو برتوكول عودة لذي بدء"، أي الانتهاء كما بدانا؛ وإلى قراءة هذا النص للتطبيق العملي عليه:

المنفى

كأنك طيف رغيف راجع ..من المنفى  يشبعنى

بيطفى دموع ألم واجع ..فى قلبى .. و لسه واجعنى

يا ست الروح .. يا جنيه ..يا خوف فى القلب .. مش باين

لأني زمان .. سليم نيه ..عانيت من كل طيف خاين

صبحت شهيد .. مالوش ديه ..لكنه غالى .. مش هاين

هواكي يا ( ضنا ) رائع ..و كل الدنيا .. إيه يعنى

كما نرى الأبيات 1، 2، 6 قافيتهم تنتهي بـ (عنى)، أما الأبيات 3، 4، 5 فتنتهي بقافية مختلفة وهي (اين)، وهذا الأمر في قامة الصعوبة ولا يقدر عليها إلا من لديه أدواته الكاملة من فكر ولغة وثقافة، والأهم من كل ذلك الصبر والمثابرة على كتابة كل قصيدة على حدى، وهي عوامل من الصعب أن تجتمع جميعا في شاعر واحد، وإن توفرت في الكثير من الشعراء، فهم يستطيعون كتابة نص أو نصين أو حتى عشرت نصوص، ولكن هل يقدرون على كتابة ديوان بحجم المسدسات التي بيد أيدينا الآن، نتمنى ذلك، فإبراهيم رضوان وأشرف عبدالعزيز إذا كانوا وضعوا اللبنة الأولى لهذا الفن المبتكر الصعب، فبكل تأكيد كان في ذهنهم أن ينتشر وسط ربوع شعراء العامية المصرية، كنوع من أنواع تطوير قوالب هذا الفن المتفرد، فمن خلاله أحب العرب وكافة الناطقين بلغة الضاد اللهجة المصرية من خلال سماعهم لكبار المطربين المصريين وهم يشدون بتلك اللغة وهذه اللهجة. وحتى نظل نناقش مسألة "الشهيد" في مسدسات الديوان، فقد وردت لفظة "شهيد" في البيت الخامس، وهي جاءت على لسان "شهيد" وبالطبع يفسرها المفسرون، هل هو شهيد لقمة العيش أم شهيد الحب أو حتى المغترب بالغربة أو بالمنفى بعيدا عن أحبابه يعد شهيد؟!

وكما فعل أشرف عبدالعزيز في أول موضع ذكر فيه الشهيد بمسدس "دين الشهيد"، جاء العم إبراهيم رضوان في صفحة 222 من مسدساته بمسدس "الشهيد" موجها كلامه أيضا لوطنه مصر، للأم مصر، إذا يقول فيها:

الشهيد

متأثره .. باللى بيأذِى

و ليلاتى فى شهيدنا تعزِّى

ما تشدى حيلك .. و تدوسى ..

على قلب .. فى الأصل ماجوسى

يا عزوتى و أهلى و ناسى

إوعى فى قولك .. تتهزِى

وحتى لا نكرر ما كتبناه عن قاعدة كتابة المسدس، يظهر جليا في مسدس "الشهيد"، كما ظهر في مسدس "المنفي"، ويقف إبراهيم رضوان ينادي قائلا "يا عزوتي وأهلي وناسي .. لا تتهزي"، وهي دعوة للثبات والتثبيت.

ثم ننتقل للموضع الرابع الذي ذكر فيه الشهيد بالديوان، وهذه المرة ننتقل للشاعر/ أشرف عبدالعزيز، وكأنه يرد على العم الأستاذ بمسدس، فالكتاب عبارة عن مسدسات متبادلة، فهذا يبدأ بالمبتدأ بيرد الآخر بالخبر والعكس، أو يبدأ ذاك بالفعل فيرد عليه رفيقة بالفاعل والعكس، تقرأ الكتاب كأنك في ساحة قتال شعرية، فيقول "أشرف عبدالعزيز" بمسدسه "يا مصر شعبك قال" (ص243):

يا مصر شعبك قال

يا مصر شعبِك قال فَقْدِ الهوِّيه مُحال والشعب لمَّا يقول فَصْل الخطاب قُولُه

قال الإيمان دستور للوحش والعصفور والعَدل لو مغرور هانشِبّ ونطُولُه

يحيا الشهيد ويثور واللى عليه الدُور جاهز فى كل الدُور يحمى المحبَّه كمان

يَسقُط شهود الزورفى سجن بير مسحور وما يطلعوش للنور إلا بألف ضمان

يا مصر شعبك قال بتواصل الأجيال ها نكمِّل السلسال ونعلِّم الإنسان

إزاى يكون إنسان بانى على أصولُه دا احنا بدينا الآن نبنى التاريخ صولو

يحيى هنا الشاعر الشهيد، أي مازال هنا الشهيد حي لأنه برغم أنه شهيد فأنه يثور، لدرجة أن الشاعر أتبع كلمة يثور بل لحقها مباشرة بكلمة الشهيد بحرف الجر (و)، "يحيا الشهيد ويثور"، ما هذا التشبيه الذي يجعل من الشهيد إنسان حي ثائر؟!، ولم يكتفي الشاعر عند هذا الحد بل واصل اثارته للمتلقي قائلا " واللى عليه الدُور جاهز فى كل الدُور" يعني كل الشهداء الذي لم يستشهدوا بعد جاهز للشهادة في كافة البيوت، لماذا كل هذا الاستعداد يا عم أشرف؟!، فأجاب الشاعر: يحمى المحبَّه كمان؛ ما أجمل أن يموت الإنسان فداء لقيمة إنسانية وحماية لمبدأ سماوي رباني، ألا وهو "المحبة". 

إذا حل الشهيد بكتاب مسدسات أربعة مرت، مسدسين للعم إبراهيم رضوان، ومسدين للدكتور أشرف عبدالعزيز، وجميعهم كانوا شهداء أصحاب رسالة يدافعون عنها لذا ضحوا بأنفسهم، يارب اجعلنا منهم.