أثر نصوص محمود درويش الجديدة تلك مثل أثر الفراشة الذي لا يرى ولكنه لايزول، فمن خلال هذا المزيج الساحر بين الشعر واليوميات يفتح الشاعر آفاقا جديدا للشعر والنثر معا.

مصادر السنة .. مصادر الشيعة

محمد شاويش

تمهيد:
يخشي ان الاتجاه العام للمجتمع والسياسة، في زمن عربي هو الاسوأ منذ غزوة المغول، هو اتجاه التهديم والانتحار الطوعي. يتضمن هذا الاتجاه عداء المكونات السكانية لبعضها، وانتشار روح الكراهية المغذاة طبعاً من قوي سياسية خارجية متمثلة في الادارة الامريكية وحليفتها الاستراتيجية الصهيونية وقوي سياسية داخلية متساوقة معهما ومنفذة لاوامرهما ليس عندها اي ذرة من ضمير او شعور بالمسؤولية. الاكثرية السنية تتجه بصورة متزايدة نحو تبني اكثر التوجهات العصبوية الاقصائية المناقضة بحكم التعريف لمفهوم السنة التاريخي الذي تضمن معني الجماعة المستوعبة لاجتهادات مختلفة داخلها وقبول الاختلاف في الفروع والتسامح الذي جاء كمحصلة للتجربة التاريخية مع المكونات الدينية والمذهبية الاخري. والاسم العام الذي يطلق في زماننا علي هذا المآل هو ما يمكن تسميته الوهابية الشائعة ، وهي ايديولوجيا شديدة التعصب ميالة للاقصاء والتكفير والضيق بكل اختلاف، مما يعني في البداية حرباً طائفية مفتوحة وفي النهاية دماراً ذاتياً للمجتمع المتعصب نفسه. لان هذه الفرقة المتعصبة علي غرار نظيرتها التاريخية (الخوارج) قابلة للانقسام علي نفسها الي ما لا نهاية، ونموذج مآل هذا المسار يمكن رؤيته في تنظيم القاعدة في العراق.

واتجاه الفرقة الثانية عددياً التي هي الشيعة هو الي تبني خيار طائفي حاقد يشابه في جميع التفاصيل الوهابية الشائعة، ويتضمن نزوعاً لتحطيم الاكثرية ولو بالتحالف مع الشيطان، ونموذجه هو الاحزاب الشيعية العراقية.

واتجاه الاقليات القومية الوازنة هو الشوفينية التي تري في الشريك العربي التاريخي الشقيق خصماً وعدواً، وتعيد تاويل التاريخ بل تزويره عند اللزوم لكي يتناسب مع هذا الحقد الاعمي غير المبرر، ونموذج هؤلاء هو الاحزاب الكردية والمنظمات ذات التوجه الامازيغي الشوفيني في المغرب والجزائر.

و سمة العصر العربي الآن هي المصادرة و فرض الهوية ، فمفهوم السنة صادرته لنفسها فرقة صغيرة منشقة هي ابعد ما يكون عن السنة، وهذا ما جري للشيعة ايضاً. اما الاكراد وكذلك الامازيغ فيجري اقناعهم بان العرب كانوا يضطهدونهم عبر التاريخ، حتي لو ان كل وثائق التاريخ تدحض تسعين بالمائة علي الاقل من هذا الزعم وتظهره لابسط نظر متفحص انه اكذوبة لا اكثر. وفي هذا المجتمع المتناحر يجري فرض الهوية علي الافراد فانت مضطر ان تقبل هوية طائفية وقومية ويعاملونك علي اساسها حتي لو كنت ترفض الطائفية وترفض القومية ايضاً.

ولكن كاتباً ايطالياً ذكياً اسمه أنطونيو غرامشي ـ خالف زمانه وحزبه ورفاقه في كثير من الاشياء ـ تكلم مرة عن تشاؤم الفكر وتفاؤل الارادة ، واحب ان اهدي مقالي هذا الي فاعل نهضوي عربي شجاع يستطيع ان يرفع راية الانسانية في وسط التوحش وراية الالفة بين الشعوب والمجموعات الشقيقة وسط غابة من رايات الكراهية والتذابح الاهلي. 

1 ـ المصادرة بما هي نزعة ملازمة للحداثة:
تتضمن الحداثة بطبيعتها علي ما يبدو لي ما يمكن تسميته نزعة المصادرة ، فالاشكال الحديثة الجديدة (وصف الحديثة هنا اقصد به طبعاً المعني الاصطلاحي للحداثة لا المعني اللغوي) التي ترث الاشكال القديمة تعد نفسها هي الاشكال الشرعية الوحيدة ، والاشكال القديمة علي هذا لا تستحق اسمها!. احسن مثال علي ذلك انكار بعض منظري الشعر العربي الحديث صفة الشعر علي الشعر القديم، بل وانكار الرواية الحديثة ايضاً صفة الرواية علي ما سبقها من رواية تسيرها قواعد الحساسية القديمة (توازياً مع مصطلح ادوار خراط)، مع ان فن الرواية كما هو معلوم فن حديث بخلاف الشعر الذي وجد منذ عصور موغلة في القدم.

اول ما اتي به العصر الحديث في الفكر الاسلامي هو النزعة الاصلاحية السلفية، وهذه النزعة نقدت الموقف الفكري الاسلامي الموروث نقداً صارماً واعلنت عدم صلاحيته بل و مخالفته للاسلام ، وجدنا ذلك عند السلفية الاصلاحية المتوجهة لاصلاح الوضع الحضاري في العالم الاسلامي الذي هزم امام الحضارة الغربية (وهذه هي مدرسة الافغاني وتلاميذه)، ولكننا وجدناه عند مدرسة دعت نفسها ايضاً بالسلفية (هي التجربة الوهابية في الجزيرة العربية) ولم تكن تهتم بالهم الحضاري بتاتاً (ربما بسبب عدم وجود تجربة الصدام مع الخطر الاستعماري وهو حال تجربة الافغاني وتلاميذه) بل تمركزت اهتماماتها النظرية علي جزئيات العقيدة وقررت شن حرب لا هوادة فيها علي المشركين والمبتدعة، وعلي اساسها تكونت دولة هي الدولة السعودية (ويعيد هؤلاء ذاكرة الباحث الي تجارب قديمة فهم يشبهون المعتزلة في مسعاهم شبه الوسواسي لفرض ما يرونه عقيدة صحيحة بالقوة، اما نزعتهم لتكفير غالبية المسلمين او تبديعهم ففيها صلات مشتركة مع المعتزلة ومع الخوارج القدماء علي حد سواء). وهذه النزعات الجديدة الثائرة علي الحالة الاسلامية الموروثة وجدت نظائرها عند الشيعة ايضاً.

فما يجري في ايامنا هذه يمكن توصيفه بانه مصادرة مفهوم السنة لصالح التيار الوهابي الذي هو في الاصل اقلية في التيار السني العام، ولصالح الاسلامانية التي هي الاتجاه الايديولوجي السياسي الذي اسسه حسن البنا رحمه الله، وتعرض من بعده لتغييرات مختلفة منها ما سار في اتجاه العقلنة والاندماج بالحركة الديمقراطية العامة، ومنها ما سار في اتجاه خارجي يكفر المجتمع علاوة علي الحكومات السياسية ويدعو الي العنف. اما عند الشيعة فان السمة الابرز لزماننا هي مصادرة الشيعة الاثني عشرية التي هي في الاصل تتضمن تيارات عديدة لصالح نوع من التشيع السياسي الاسلاماني المتمثل في النزعة الخمينية. وقد اختلف هؤلاء ايضاً الي تيارات مختلفة كنا نفترض مثلاً كدلالة علي اختلافها ان حزب الله اللبناني لا يمت بصلة لحزب الدعوة والمجلس الاعلي في العراق من حيث اختلاف الموقف من الهيمنة الامريكية والصهيونية، ولكن حزب الله (ساقول: للاسف!) اثبت في ممارسته الاعلامية انه متضامن تضامناً طائفياً سافراً مع من كان يفترض انهم يمثلون نقيض مواقفه العامة، ولعل ازدواجية الحزب هذه هي انعكاس لازدواجية الموقف الايراني بين العراق من جهة ولبنان وفلسطين من جهة اخري. 

2 ـ المختلف والمشترك في بني الايديولوجيا العربية:
بين الافراد والمجتمعات في زمن واحد، كما بين اوضاع هذه الحالة الانسانية التي تتولي دراستها العلوم الانسانية في الازمنة المختلفة، هناك اختلافات مهمة ولكن الحالة حين تتغير تحافظ علي تشابهات في اختلافها، وهذه التشابهات لا تظهر كلها الا لمن يستطيع تجاوز عقبة معرفية اساسية هي عقبة الظن ان اختلاف الدال يعني اختلاف المدلول، والوصول بهذا الي رؤية الوحدة في المضمون (كما يتوصل المرء بعد تجربة الي ان لفظين مختلفين لهما المعني نفسه او ان اشارتين مختلفتين توصلان الرسالة نفسها).  وثمة ظواهر سياسية قابلة للمقارنة مع بعضها، لكن وجهة النظر السطحية تجعلها غريبة عن بعضها كلياً، وهذا واحد من اكثر اخطاء التفكير بدائية، الا وهو الاعتقاد بان الاختلاف في الشكل يعني بصورة حتمية الاختلاف في المضمون. وهذا الخطأ الصغير الفادح مع ذلك يقيم حواجز وحوائط عالية بين التيارات السياسية العربية، ويحول بين الفاعل السياسي ـ الايديولوجي العربي وبين رؤية المشتركات في التجارب السياسية العربية المعاصرة.

تحول دون هذه الرؤية عوامل نفسية بسيطة محايدة انفعالياً تخص العملية المعرفية نفسها، غير ان هناك عوامل نفسية انفعالية، لعلها الاصعب والاشد تاثيراً، تجعل من التعرف علي المشترك في المختلف اصعب، اذكر من هذه العوامل دافعاً استلابياً مهماً ينتج عن احتقار الذات والسعي للتمايز عنها. ان وضع التيارات الاسلامانية المعاصرة التي اتخذت الطابع الشعبي الفج والفظ، ونصبت المتاريس مع الثقافة الحديثة وحامليها، يحول دون رؤية جزء من اليسار السابق، الذي هو (بخلاف منطلقاته النظرية القديمة التي كان يعلنها ويبطن نقيضها ولو في اللاشعور) نخبوي انعزالي يحتقر المجتمع ويعاديه، لما هو مشترك بين تجربته هو وتجربة هذه التيارات الجديدة، ذلك ان تجربته الفكرية كانت تحقق اصلاً هدف نبذ الاصل (المجتمع) فكيف يقبل بان يتذكر او يذكره احد بمشتركاته مع تجليات هذا الاصل؟ وهكذا تغدو الفروق الشكلية فروقاً جوهرية عند هؤلاء، ويجري غالباً خلط الشكل بالمضمون، والتركيز علي اللغة الظاهرة وعدم الانتباه الي وحدة المعني التي تكمن وراء اختلاف الالفاظ (واحياناً اختلاف معناها الظاهري).

هذا الجزء من اليسار السابق صار في زماننا المعبر الفكري الاساسي عن التيار المعادي للمجتمع، وقد وصل في تشاؤمه من امكانيات تغيير وضع المجتمع بحيث يتقبل افكاره، او حتي يحتمل وجوده مجرد احتمال، الي موقع المعول علي غزو خارجي يفرض النموذج الديمقراطي الحديث العصري الي آخره علي المجتمع المستعصي بالحذاء العسكري. وقد توقف منذ زمن عن محاولة فهم التيارات التي يغلي بها هذا المجتمع، فغربته عن مجتمعه تحولت الي شكل قاس جداً من الغربة يتجاوز حتي غربة الغزاة المرغوب فيهم في الحالات التي تحققت فيها امنية هؤلاء المثقفين بان تغزي بلادهم من قبل رسل التمدن والحداثة.

من الصعب ان تقنع هؤلاء مثلاً ان لجوء النساء الفقيرات الي الحجاب هو في بعض جوانبه علي الاقل مدلول جديد لدوال قديمة تتمثل في سعي المحجبات الي اهداف من نوع: 1 ـ الحماية من خطر الانهيار وتفكك الروابط الاخيرة الحامية للفرد في وضع قاس وهي روابط الاسرة 2 ـ وضع حواجز بين الذات والعالم تقوم ببث الطمانينة النفسية ازاء خطر العالم 3 ـ تبني زي يكون محترماً اجتماعياً ولا يكون مكلفاً في ظل فجور الموضة التي تفرض علي الفقراء وضعاً دونياً حتمياً (ولعل زي ثوريي اليسار القديم البسيط كان له الدور نفسه!) ان اللفظ الذي تسمعه الاذن جديد، لكن ثمة دماغ يترجم هذا اللفظ الي مفهوم، والاحتقار والعداء المسبق يحول بين الدماغ وبين الوصول الي هذه العملية التي تري الشخص المعني ان الوحدة قائمة خلف الاختلاف الظاهر.

ولأسق مثالاً آخر: التكفير السلفي (لا اعرف لماذا يصر هؤلاء السلفيون علي اهانة السلف بالباسهم هذا اللباس الضيق الذي يلبسونه هم. وقد كان السلف بلا ريب اوسع افقاً واغني مضموناً عقلياً بكثير جداً!) ومبدأ الولاء والبراء الذي يعني عندهم بغض من ليس علي رايهم والتبرؤ منه (علي الاقل!) مفهومه يتطابق مع مفهوم المبدأ الذي جاء به البلاشفة (وليس احد آخر!) واوصله ستالين الي حدوده القصوي القائل بحزبية كل شيء بما فيه حتي العلم الطبيعي لا الفلسفة والسياسة فقط، وبانه ما من خط آخر بين الاشتراكية والراسمالية.

وطرق استناد البلاشفة لماركس ولينين لا تختلف عن تعامل السلفيين مع الآيات والاحاديث (اتحدي بصفتي قارئاً قديماً لجميع مؤلفات لينين الكبيرة، وكثير جدا من مؤلفاته الصغيرة، ان ياتيني احد بمكان واحد اعلن فيه لينين ان ماركس او انجلز كانا مخطئين! هذا مع الاخذ بعين الاعتبار ان لينين كان بالفعل رجلاً موهوباً جدد الافكار الماركسية ولاءمها مع الوضع الروسي، وهو يدعي مع ذلك انه ملتزم بافكار ماركس حرفياً)، وسعي البلاشفة لابادة الراسماليين (الراسماليين بالفكر لا في واقعهم الاقتصادي فقط) وتجريم التحريفيين هو مثل سعي السلفانيين لابادة المشركين وتجريم المبتدعة !

هذا الاتفاق الكبير لدرجة التطابق بين هاتين الظاهرتين المختلفتين كل الاختلاف في تاريخ نشوئهما وحاضنتهما الاجتماعية والفكرية يجد تفسيره في اعتقادي في التاريخ السياسي لكل من دولتي البلاشفة والوهابيين، ففي كلتا الحالتين وجدت الدولتان نفسيهما ازاء ضرورة تبني ايديولوجيا عدوانية واقصائية الي ابعد حد لا تقبل اي اختلاف ولا تحتمل تعدد الالوان، فالنظرة الي العالم علي انه ابيض واسود وفقط، تعني من جهة شحذ همة الانصار الي ابعد حد وجعلهم لا يرحمون في تصديهم لكل تهديد ولو فكري للدولة، ومن جهة اخري يعني تبرير قمع هذا الاختلاف عبر تجريمه وتلوينه باللون النقيض. بالنسبة لستالين هناك اشتراكي و راسمالي وكفي، وبالنسبة للوهابي هناك مسلم وكافر وكفي. وفي الحالتين يطلب من المناصر الولاء المطلق للأول والبغض المطلق والعداء للثاني. وقد تولي ماركسيون كثر من خارج هذا الاطار الروسي في تلك الحقبة المعينة اظهار تغاير هذه الرؤية مع اصول الماركسية، اما الوهابية السياسية ومبدؤها في الولاء والبراء فلم يجد من فقهاء زماننا من يلقي عليه الضوء ويوضح تناقضه الصريح مع صريح القرآن والسنة العملية للنبي عليه الصلاة والسلام، فالقرآن الكريم لم يقسم العالم الي قسمين لا ثالث لهما: مسلمين وكفار في آيات صريحة كثيرة منها مثلاً تلك التي تفرق بوضوح بين الفرس والروم (في اول سورة الروم) او تلك الآية التي تعدد الاديان المعاصرة لظهور الاسلام وهي قوله تعالي ان الذين آمنوا والذين هادوا والنصاري والصابئين من آمن بالله وعمل صالحاً فلهم اجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون (البقرة 62)، بل تذكر الآية بصراحة عن اهل الكتاب انفسهم انهم ليسوا سواء! ومن اهل الكتاب من ان تأمنه بقنطار يؤده اليك ومنهم من ان تأمنه بدينار لا يؤده اليك الا ما دمت عليه قائماً (آل عمران 75). ان عمي الالوان ليس مرض الاسلام لانه دين النور والتفريق والحساب الدقيق فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره (الزلزلة 7،8)، ولكنه مرض وجهة نظر متعصبة جاهلة ظهرت قديماً عند غلاة خوارج الازارقة وهي موجودة الآن عند الوهابية الشائعة التي تتوسع في اقطار العالم الاسلامي، مع ان اذكياء كثر من علماء الوهابية بدؤوا يكتشفون نقاط ضعفها ومخاطر مسلماتها التي تربت عليها اجيال في المدارس السعودية، حين لم تكن تبدو لولاة الامر إلا علي انها سلاح ضد اعداء الدولة، ثم انقلبت في العقدين الماضيين ضد الدولة والمجتمع الذي انتجها. 

3 ـ الوهابية الشائعة ونظيرتها الشيعية:
هذه الوهابية الشائعة هي في الاصل مجرد فرقة صغيرة من فرق اهل السنة (كما كان الحنابلة سابقاً مجرد مذهب من المذاهب الاربعة، علماً ان الحنابلة القدماء كانوا اوسع افقاً بكثير من هؤلاء الخلف المعاصرين في اعتقادي، ويكفي لمعرفة ذلك المقارنة بين حنابلة قدماء من نوع ابن الجوزي وابن القيم بل حتي ابن تيمية الذي هو اذكي بكثير في حقيقته من الصورة التي يعرضه بها انصاره المزعومون الجدد مع حنابلة جدد من نوع الشيخ ابن جبرين او الشيخ صالح بن فوزان الفوزان)، لكنها تنظر الي نفسها علي انها الوحيدة السنية ، وكل ما عداها ليس بسني حتي تجد فيهم مثلاً من يكتب في تصحيح عقائد الغزالي وابن حجر العسقلاني ناهيك بفقهاء معاصرين مثل القرضاوي علي ارضية عقيدة اهل السنة والجماعة بزعمهم (اي عقيدتهم هم!) وتدين في انتشارها الآن الي عوامل كثيرة منها بالتاكيد ضخامة الاستثمارات المالية التي تدعمها من اموال الخليج، ولكن منها ايضاً طبيعة هذه الحقبة التي يؤول فيها الناس الي الغلو عموماً، ولكن من واجب علماء اهل السنة ان يظهروا بوضوح ان هؤلاء قد يكون لهم علاقة بالسنة اي الاحاديث النبوية الشريفة (مع فهمها بشكل حرفي ضيق الافق لا ياخذها بمعانيها ومقاصدها) لكن ليس لهم علاقة بالجماعة! لان هوايتهم المفضلة هي اقصاء من يمكن اقصاؤه من المسلمين محتفظين بصفة المسلم للجماعة الضيقة التي ينتمون اليها.

واعتقد ان اضافتهم لكلمة الجماعة في تعريفهم لانفسهم اهل السنة والجماعة ناتج عن خطأ لفظي ناتج عن الكسل في تتبع هذا المفهوم تاريخياً، لان الجماعة نشات كمفهوم اولاً للتعبير عن اكثرية المسلمين حيال فرق الاقليات الاسلامية وثانياً كتعبير عن الاكثرية القابلة بشرعية السلطة القائمة، وفي الحالتين الوهابية الشائعة هي ابعد ما يكون عن مفهوم الجماعة لان دينها وديدنها ان تقصي كل من خالفها في صغيرة او كبيرة، وفي اصل او فرع من الدين! مما حولها عملياً الي فرقة من فرق الاقلية التي تكفر او تبدع غالبية المسلمين. ومن جهة اخري هي فقدت حتي الجزء الثاني من التعريف الذي هو الاقرار بشرعية الحكومات القائمة اعتباراً من بداية التسعينات (ولهذا الاتجاه في الوهابية سوابق طبعاً تمثلت في اصطدام الاخوان مع الملك عبد العزيز في العشرينات من القرن العشرين وفي حركات اعتراضية عنيفة لاحقة اشهرها حركة جهيمان العتيبي ). ومن المصيبة ان هؤلاء يعملون علي مصادرة مفهوم اهل السنة والجماعة لصالح اتجاههم المفرط في التعصب وضيق الافق، والجاهز لاثارة الفتن الطائفية والحروب الاهلية في بلدان العالمين العربي والاسلامي. والامر الذي يثير الحيرة هو الصمت الذي يتعامل به كثير من علماء السنة بمعناها الواسع الاصلي مع هؤلاء، فكانهم غير واعين لخطرهم الكبير.

لكن التيار المنتشر في الشيعة هو ايضاً وهابية مقلوبة (الاستاذ محمد المختار الشنقيطي يسمي ما اسميه بالوهابية الشائعة باسم التشيع السني!)، وكما ان الوهابية لا تفرق بين الرافضة والشيعة فهؤلاء لا يفرقون بين السنة والنواصب، وقد اتضح لي مع الاسف بعد تجربة طويلة ان متديني الشيعة بنسبة كبيرة جدا منهم في عصرنا يربون اولادهم علي الفكرة القائلة ان السنة هم من قتل الحسين رضي الله عنه او علي اقل تقدير ايد قتله!، ومراسم عاشوراء واستحضار ماساة الحسين رضي الله عنه ليست كما اتضح لي ولكثيرين غيري بريئة كلياً من الطابع التحريضي، وفيها التحريض لا علي الظلم كما يجب عليها ان يكون عليه الحال بل علي الاكثرية الشقيقة السنية. ومن المؤسف ان محاولة اناس مثل علي شريعتي لنقد هذا التوجه الشيعي لا تبدو مؤثرة، بل لم نسمع نقداً واضحاً لهذه التربية التي تشهد عليها الممارسة الشعبية في لبنان (ناهيك بالعراق طبعاً!). ان التوجه الوحدوي المعلن لحزب الله تناقضه وقائع كثيرة علي ارض التعامل اليومي هناك. 

4  ـ مفاجآت الاخ حسن نصر الله:
لقبته بلقب الاخ حسن نصر الله لا السيد لموقف مبدئي للفقير لله يقول بان عباد الله متساوون فلا سادة ولا عبيد، وليسمح لي الاخوة الشيعة بهذا الاعتراض الوحيد علي مبدأ من مبادئهم الاساسية الذي احكيه في محفل عام، اذ الاصل عندي هو عدم الخوض في نقاش بين المذاهب علي الملأ، ذلك ان هذا النقاش لا يقود الا الي تحريض السفهاء علي بعضهم، وهم للاسف ليسوا قلة، بل ان معظم المناقشين الذين دأبت بعض الفضائيات علي دعوتهم للخوض في موضوع السنة والشيعة هم انفسهم ممن لا يهتم بوحدة الشعب والوطن ولا يدرك مخاطر ما يفعله علي الناس في الشارع، وانا لله وانا اليه راجعون!.

وقد استدل علي رايي في موضوع السادة بان القرآن الكريم لم يذكر من معاصري النبي عليه السلام غير شخصين بالاسم: عمه ابا لهب، وهو الهاشمي الشريف النسب وابن عبد المطلب، وعبده زيداً، وقد ذكر الاول في موضع اللعن والتذكير بسوء المآل بينما ذكر الثاني في موضع تكريم عظيم، اذ ان الله عز وجل لم يزوج النبي زينباً (الشريفة بدورها التي كانت لا تري ذلك العبد العظيم كفءاً لها) حتي قضي منها زيد وطراً. واظن، والله اعلم، ان الله عز وجل اراد باقتصاره في الذكر بالاسم من المعاصرين للنبي عليه السلام علي هذين ان ينبهنا الي ان التكريم عنده ليس بالنسب، وفي الحقيقة كل روح الشريعة والكتاب تدل علي هذا المعني ان اكرمكم عند الله اتقاكم ، وقد عاشرت كثيراً من اشقائنا الشيعة ممن ينتسب الي السادة فوجدت منهم الصالح والطالح، ومن ابطأ به عمله لم يسرع به نسبه. ولو شئت ان اذكر اسماء لاكتفيت بتذكير المقاومة اللبنانية خصوصاً، واظنها لا تحتاج لتذكير، بانها حيث انها تتبني معيار المقاومة للمفاضلة بين الناس بان هناك شخصاً ليس بسيد هو الشيخ راغب حرب كان مقاوماً كبيراً بينما هناك سادة كثر في العراق والاردن والحجاز واماكن اخري كانوا عوناً للاجنبي علي بني وطنهم.

وقد اكتسب نصر الله مكانته الرفيعة ليس من وضعه كقائد لجماعة من العرب اوقفت العدو الذي اذل العرب لاربعة عقود عند حده ولقنته دروساً لا تنسي وحطمت كبرياءه فحسب، بل من نزاهته الشخصية وتواضعه، وكم يؤسفنا نحن الفلسطينيين اننا ننظر لقادة حركة المقاومة الفلسطينية الكبار فلا نجد هذا الزهد والتواضع الذي يميز نصر الله، وهو الذي لم يدخر ابنه لبعثة الي امريكا بل قدمه شهيداً. المدرسة التي تعودنا عليها في منظمة التحرير الفلسطينية، في فتح واحياناً في غير فتح ايضاً هي فقدان الزهد والسخرية من مبدأ التقشف الثوري والبحث عن الرفاهية والامتيازات المادية الرخيصة، ولن اعد اكثر من هذا فشعبنا يعرف هذه العقلية ولا يحتاج لمن يسردها عليه من جديد، وعلاوة علي هذا تمتع نصر الله بالمصداقية عند الصديق والعدو علي حين تعودنا نحن العرب علي قادة رسميين و ثوريين ايضاً لا يتمتعون باي مصداقية. حذر اخونا نصر الله في خطابه الاخير العدو من مفاجأة ان اعتدي علي لبنان من شانها ان تقلب توازن القوي في المنطقة، وبسبب مصداقية القائل نوقشت هذه المفاجاة في دوائر شتي عربية واجنبية، فمن قائل انها نوع من اسلحة التدمير الشامل الي قائل بانها نوع من الصواريخ التي تضع حداً للتفوق الجوي الصهيوني، وقد اتي بعض العسكريين بتحليل اوسع من هذا لما يمكن ان تكون علة المفاجآت العسكرية فلم يقصرها علي نوع جديد من الاسلحة، وادخل عناصر اخري عسكرية تخص التكتيك مثلاً يمكن ان تشكل مفاجاة.

الخلل في موازين القوة الصراعية بيننا وبين الدولة الصهيونية كبير جداً، وهو اكبر طبعا بيننا وبين دول تناصبنا العداء لاسباب معقدة لم تتضح كلها في رايي حتي الآن مثل الولايات المتحدة، وهذا الاختلال ياخذ شكله الاكثر بروزاً وجذباً للانتباه النفسي للمواطن عندنا في الخلل العسكري في ميزان القوي، ومن هنا نجد الخلل الكبير في الوعي بهذا الخلل في بلادنا المتمثل في عده خللاً عسكرياً وحسب، فان وجدنا مثلا حلاً من نوع حرب العصابات من شانه ان يردع العدو عن استهدافنا نظن اننا حللنا كل المشكلة. ان مشاكل الوعي الحضاري العربي (اي الوعي بحالة الحضارة العربية القائمة ومشكلاتها الجوهرية وبالتالي الطرق الاساسية لحلها) يمكن تلخيصها بكلمة فرط التي هي الترجمة العربية لكلمة بادئة انكليزية over فقد تقلب الوعي الحضاري عندنا بين فرط تسيس (اي الاعتقاد ان المشكلة الحضارية تجد تفسيرها وحلها في المستوي السياسي للتركيبة الاجتماعية، وبالذات في مسالة من يستلم السلطة) و فرط عسكرة (اي الاعتقاد ان المسالة عسكرية من الفها الي يائها، وان الحل حربي اولاً وآخراً) و فرط ادلجة (اي الاعتقاد ان الحل يكمن في تبني الايديولوجيا الصحيحة) الي فرط شخصنة وهي تعني الاعتقاد بان المشكلة هي في ايجاد الشخص الذي يقود الامة في طريقها الحضاري.

وكما يري القارئ فكاتب هذه السطور لا يدعي ان هذه المستويات في التركيبة الاجتماعية عديمة التاثير في المازق الحضاري. الاختلاف مع عقلية الفرط (ان جازت التسمية) هو فقط في ان التركيز علي مستوي واحد من شانه ان يضلل الوعي ويترك المجال للمستويات الاخري ان تمارس تاثيرها الهدام ونحن نشتغل علي تغيير المستوي الذي افرطنا في تقدير اهميته فعددناه الوحيد ذا العلاقة بموضوعنا الجوهري: موضوع تغيير وضعنا الحضاري ليصبح قادراً علي الدفاع عن نفسه والمنافسة في المباراة الحضارية العالمية. 

5 ـ في الفهم النهضوي والفهم الانحطاطي لنصر حزب الله:
اخشي ان الفهم الجماهيري وحيد البعد للتفوق المؤكد لتجربة حزب الله علي التجارب التي سبقتها سيقود الي تضييع فوائد هذه التجربة القيمة ويبدد امكانية تقليد جوانبها الناجحة في مجتمعاتنا الاخري، بل قد يقود الي التاثير علي التجربة نفسها حين يؤثر علي سلوك الفاعلين الذين بنوا هذه التجربة وهي قائمة عليهم. مثلاً: ان الشخصنة المتزايدة لزعيم حزب الله، والالوان الواضحة من عبادة الشخص التي بدانا نراها ليست بمركب نهضوي من مركبات الوعي الحضاري المنشود، بل هي مركب انحطاطي. وبدلاً منها المطلوب هو مركب نهضوي يركز علي دور المؤسسة والعمل الجماعي المخلص والنزيه لالوف الناس في اماكن مختلفة لا تقتصر بحال علي المستوي العسكري لهذه التجربة التي تشمل عملياً الجنوب اللبناني بأسره، واجزاء مهمة من مناطق لبنانية اخري بما يتضمنه هذا الجنوب وهذه المناطق من بشر. والتركيز علي دور الايمان العميق بالعقيدة الاسلامية (وفقاً لشكلها الشيعي الخاص المتأثر بصورة كبيرة بالتجربة الخمينية مع تعديلاتها الخلاقة في لبنان) شيء مهم، لكن من خطل الراي الاعتقاد بان هذه العقيدة وحدها بدون التنظيم الشامل العقلاني للناس والموارد كان يمكن ان تقود للنجاحات المؤكدة لتجربة حزب الله. 

6 ـ عن مفاجآت كبري حقيقية نتمناها:
لا اعرف ما هي المفاجأة التي اعدها الاخ حسن نصر الله للعدو، لكني كنت اتمني عليه لو عمل لنا مفاجآت اظنها كانت ستدوخ هذا العدو بشكل يزيد علي اي مفاجاة عسكرية. كنت اتمني عليه لو اخذ موقفاً واضحاً من القوي الطائفية الشيعية العراقية، بدلاً من موقف التفهم لهؤلاء وعد سلوكهم الطائفي المفضوح اجتهاداً يختلف معهم فيه وحسب. واقول له بصراحة: ان السنيورة الذي عددتموه عملياً خائناً هو في الحقيقة سيكون من اعظم الوطنيين بل المقاومين ان قارناه بهؤلاء الذين تفهمت مواقفهم وعددتها اجتهاداً! كان هذا الموقف سيحدث انقلاباً مهماً للطاولة علي رؤوس من يخططون ويغذون الفتنة الشيعية ـ السنية في بلادنا لأن نصر الله كان له اعتبار كبير عند السنة والشيعة معاً قبل ان يصمت صمته الفادح (ان جازت هذه الصفة!) يوم خطط المالكي قصداً وعمداً لاثارة حفيظة السنة في العالم الاسلامي في عيد الاضحي باعدام الرئيس العراقي السابق (بغض النظر عن موقفي المدين لاسلوب هذا الرئيس في السياسة، وعلي انني في جميع الاحوال مع الغاء عقوبة الاعدام اصلاً.)

ولو انه حظر علي انصاره تعليق صوره في الساحات، ومنعهم من نعته بانه سيد المقاومة، وطلب منهم التركيز علي المقاومة كعمل جماعي لالوف الناس من عساكر ومدنيين، تسيره قواعد التنظيم والعقلنة بخلاف الفوضي واللاعقلنة التي ميزت التجارب السابقة، لو فعل هذا لكانت مفاجأة يحسب لها العدو الف مرة حساباً اكثر من المفاجأة العسكرية. 

7 ـ هل من مخرج؟
ينتمي الفقير لله كاتب هذه السطور الي تيار اقلوي في الثقافة العربية المعاصرة يؤمن بالفعل الاجتماعي البعيد عن الاحزاب السياسية. اعتقد ان التوجه يجب ان يكون للانسان العادي ولخلق تجارب اجتماعية تكون بمثابة نماذج مصغرة يقتدي بها للخروج من المأزق الانحطاطي القائم، وهذا دون ان تدس السياسة انفها في هذا العمل الاجتماعي السلمي الذي ينحو منحي بعيداً عن منحي فرط التسيس الذي عاني منه الفعل التغييري العربي طوال النصف الثاني من القرن العشرين. ليكن فعلاً يهتم بالمدارس والاحياء والبلديات ويؤمن السادة الحكام علي كراسيهم لانه ما عاد لنا بعد هذه التجارب ان نثق في اي انقلاب عليهم انه سيكون احسن حالاً منهم. 


كاتب من فلسطين يقيم في برلين