"هل بالامكان أن نقف غير مكترثين بنشاط المدن الكبرى المسعور بسيكولوجية الحياة الليلية الجديدة، بالخليع، بالشقاوة.. سوف نشيد بالعدوان والسهاد والمحموم والخطوات الوثابة والقفزات البهلوانية.. سوف نعلن أن بهاء العالم قد ازدان بجمال جديد وهو جمال السرعة".
بمثل هذه الكلمات استهل الشاعر الايطالي فيليبو توماس مارينيتي (1876-1944) بيانه في صحيفة لوفيجارو الفرنسية عام 1909 ليبشر بولادة فن المستقبل ونهاية الماضي. عبر مارينيتي في إعلانه عن الإحساس بالاشمئزاز من كل شيء قديم، وخصوصاً ما يتعلق بالسياسة والتقاليد والقيم الفنية. يقول: "لا نريد شيئاً من القديم بعد اليوم، نحن الشباب الأقوياء المستقبليون".
حاز إعلان مارينيتي إعجاب عدد من الفنانين الشباب في إيطاليا هم: بياتريس بوتشيوني (1882-1916) وكارلو كاري (1887-1966) ولويجي روسولو (1885-1947)، وجياكومو بالا (1871-1958)، ووجينو سيفيريني (1883-1966) الذين أرادوا أن يجعلوا أفكار مارينيتي تمتد إلى الفنون البصرية، فالتقى هؤلاء بمارينيتي وأصدروا إعلان المستقبليين التشكيليين، وفي إعلانهم تبرأ هؤلاء من الماضي والتقاليد الفنية، وأرادوا أن تتصف الأعمال الفنية بالأصالة المستقبلية والتحدي والعنف والجنون، وأعلنوا ثورتهم على النقد والنقاد والذوق والانسجام الفني ورفضهم لموضوعات الفن السابقة، ومجدوا العلم كموضوع للفن. وقد أعجب المستقبليون بالحركة والسرعة والتكنولوجيا والشباب والعنف والسيارات والطائرات والمدن الصناعية، وكل ما يعكس أثر التكنولوجيا على حياة الإنسان والطبيعة، نشط المستقبليون في جميع فروع الوسط الفني الرسم والنحت والخزف والكرافيك والتصميم الصناعي والداخلي والمسرح والأزياء والأدب والموسيقى والعمارة. لخص المستقبليون ما أرادوا قوله ببياناتهم ومعارضهم اللاحقة في ايطاليا وفرنسا ومن ثم في روسيا إلى: الدعوة للتخلص من عبء الماضي، وتكريس عملهم للاحتفاء بالوجود الحضري المعاصر على نحو جديد. لقد هاجموا بعنف الإعجاب بالرسوم والمعايير والأشياء القديمة وكل ما يمثله أو يدين به للماضي، ومجدوا الحركة الهجومية والخطوة السريعة والوثبة الخطرة والتطلع نحو أفق بعيد مؤكدين في دعوتهم على مفهومي الدينامية والتزامن كعنصرين أساسيين يعبر بهما عن جمال الحركة، وتمردوا على كلمتي الانسجام والذوق السليم واعتبروا هذه المصطلحات مطاطة غير محددة، وطرحوا مفاهيم جديدة عن الفراغ الذي لم يعد سوى جوا تتحرك من خلاله الأجسام والكون نفسه متحرك متلألئ والظلال مضيئة مشتعلة وقدموا تطبيقات في ميادين الفنون المختلفة، ركز الفنان المستقبلي على حالة التغير المتميزة بخلق الجديد وبالفاعلية المستمرة وحاول التعبير عن ذلك بالحركة والضوء، فكل الأشياء تتحرك وتجري وتتغير بسرعة.
تعتبر المدرسة المستقبلية الفنية ذات أهمية بالغة، إذ أنها تمكنت من إيجاد شكل متناسب مع طبيعة العصروإنسانه. وقد عبر الفنان المستقبلي في أعماله عن ذلك بتجزئة الأشكال إلى نقاط وخطوط وألوان، فكل موضوع يحلل إلى أجزاء وكل جزء يعني حركة، وكل حركة هي زمن. كان الهدف نقل الحركة السريعة والوثبات ومحاكاة التطور الصناعي السريع، وقال أحد الفنانين المستقبليين: "إن الحصان الذي يركض لا يملك أربعة حوافر وحسب، إن له عشرين وحركاتها مثلثية". وعلى ذلك كانوا يرسمون الناس والخيل بأطراف متعددة وبترتيب إشعاعي، بحيث تبدو اللوحة المستقبلية كأمواج ملونة متعاقبة توحي بالحركة والسرعة المميزة للحياة المعاصرة.
تداخلت في ناظراتهم خطوط فريدة من التقصي الفني تجلت بتمثيل الحركة واستنباط معادل صوري للماكنة والصوت المرتفع، وتوجه أنعش من خلاله الاهتمام مجددا باللون. ويفيد بوتشيوني في بيان الرسامين المستقبليين 1910 مرددا صدى بيان مارينيتي: "إننا نعلن أنه لايمكن أن يكون ثمة فن عصري إلا إذا اعتمد على إحساس عصري محض، فالفن والإحساس لفظان لا ينفصمان، والحركة التي نسعى إلى تصويرها على لوحاتنا لن تكون مجمدة. إن كل شيء في حالة جريان وتحول سريع". لقد اهتم الفن المستقبلي بتجزئة الحركة ووضع مظاهرها جنباً إلى جنب ليقدم خطوطاً متقاطعة ملتحمة متآزرة عبر سياق لوني مميز يُظهِر تصارع القوى المتعارضة في اللوحة، كما يشدد على تحطيم الأجسام في الرسم المستقبلي، والبحث في أجزائها هدف الكشف عن الخطوط الكامنة في حركتها وتمديد الشكل أو تكثيفه في اتجاه هذه الخطوط.
وعلى الرغم من حماس المستقبليين للماكنة والحركة وإقرار بيانهم أن العلم غيّر البشرية، وأن إنسان عصر الماكنة سيشبه المخترعات الآلية التي يعيش وسطها، وربما يتبنى إيقاعاتها ويشترك في أسرارها. إلا أنهم لم يتجاهلوا في ثورتهم الإمكانات الروحية للجنس البشري، وأكدوا على فعل الإبداع الحسي وكأنه كتابة أوتوماتيكية تقريبا. إذ يبدو أن اليد التي تكتب تبدو كما لو أنها تنفصل عن الجسد. وأفادت بيانات المستقبليين أنه بعد تحرير الموضوع لابد من التمرد على اللغة، وفك مساراتها التقليدية، فلابد لها أن تستهدف التعبير عن لا إنسانية الأشياء المادية، ولا يمكن ذلك –بحسب رؤيتهم– إلا عن طريق الشعر اللانحوي واللامنطقي، الذي له قدرة اختراق جوهر المادة محطماً الحواجز التي تفصله عن النفس.
وللحركة المستقبلية وضع خاص في حوارها مع المذاهب الأخرى، فقد أثار بيان مارينيتي الموجه من ايطاليا إلى العالم كله الكثير من النقاش المرير خارج ايطاليا، إذ اختلف فيه العديد وبسرعة اكتسبت تلك المنازعات الطابع الوطني، وبخاصة السنوات الأولى من الحرب العالمية الأولى، حيث جاء في بيان مارينيتي: "سوف نمجد الحرب واهبة الصحة والروح العسكرية الوطنية، وفن الفوضى الهدام، والأفكار التي تقتل، فهلموا يا مضرمي الحرائق أشعلوا النيران في المكتبات وحولوا مياه الفيضان إلى المتاحف، ودعوا الآيات الشهيرة تطفو إننا لنتحدى نجوم السماء".
وأدى ذلك الاتجاه في الحركة المستقبلية إلى سهولة الخلط بينها وبين الفاشية، إذ تؤكد مفردات عديدة من بياناتهم على تورطهم في اللعبة السياسية، فتارة يعلنون تأييدهم للحرب الليبية، وتارة يرددون أن كلمة ايطاليا يجب أنتسيطر على كلمة حرية. وكانت القاعدة الفكرية التي أستندت عليها تلك التوجهات معاداتهم للاشتراكية والكنيسة معاً، بل ذهبت الحركة إلى أبعد من ذلك عندما اشترك رواد المستقبلية الايطالية في تأسيس جمعية المحاربين الفاشيين، التي تطورت فيما بعد إلى الحزب الفاشي الأصلي.
ويفيد بعض النقاد المتابعين للفن المستقبلي في ايطاليا أن مارينيتي يعد من أبرز المروجين للعنف في زمانه، ورأى في الحروب وسيلة ناجعة للإصلاح والتقدم، وقد شارك فعلياً في الحملات العسكرية ضد ليبيا عام 1911، وفي حرب البلقان عام 1912، ثم الحرب العالمية الأولى عام 1915، وبعدها انغمس في النشاط الفاشستي الايطالي، وقد ظل مارينيتي وفياً لمبادئه العنيفة إلى أن توفي.
وبسبب هذا النشاط العنيف لمارينيتي تجنب الكثير من كتاب الفن الخوض بعمق في شرح الفكر المستقبلي، وانتاب تعرضهم له كثير من التردد والاستحياء، لكن مرور الوقت على تلك الأحداث ودخولها ذمة التاريخ، أصبح التحدث عنها أمراً مقبولاً من جانب ايطاليا، كما أصبح مقبولاً من الأطراف الأخرى التي اكتوت بنيران العنف والحروب.
وعلى نحو مماثل تميزت المستقبلية الروسية التي تضامنت مع البلشفية، ونظرت إليها على أنها حركة تشبه حركتهم من حيث أنها تسعى إلى الإمساك بالمستقبل وربطه بعجلة الحاضر ذي الإيقاع البطيء والمتثاقل، وتطهير الكلمة من طلاء التراث الأدبي العتيق، وقد سخّر الشاعر فلاديمير ماياكوفسكي الموهوب كل طاقاته التي لا تعرف التعب، ونظرياته في علم الجمال الديالكتيكي المتطور في خدمة البلاشفة، ففي قصيدته، تعليمات إلى جيش الفن يدعوا المستقبليين إلى الالتحاق بالبلاشفة، وتوحيد جهودهم السياسية بغية دحر قوى الماضي، بحسب رأيه. وانضم ماياكوفسكي إلى الحزب البلشفي عام 1908 وهو في سن الخامسة عشرة، لتأثره بالكتابات الثورية وبخاصة مؤلفات ماركس، ودخل السجن لأكثر من مرة بتهم توجهات سياسية معارضة، ثم أفرج عنه ليلتحق بمعهد الفنون، حيث التقى عراب المدرسة المستقبلية الرسام دافيد برليوك الذي تأثر فيه كثيراً. وفي إطار مخططات الجهاز الأعلى للدولة الروسية حينها تم التوجيه لخلط أفكار البلشفية الثقافية بالأفكار المستقبلية، واسند إلى ماياكوفسكي مهمة الإشراف على تحرير مجلة جديدة خاصة بإدارة التعليم الشعبي عنوانها "فن الكوميونة"، التي تحولت فيما بعد إلى منبراً مستقبلياً شبه رسمي، يُشيع كراهية الماضي بين القراء. وكتب بونين: "إن تفجير وتهديم أشكال الفن القديمة وحذفها من على وجه الأرض لهو حلم الفنان الجديد، الفنان البروليتاري، الإنسان الجديد". وفي محاضرة ألقى ماياكوفسكي كلمة قال فيها: "إن ما نحتاجه ليس معبد الفن الميّت، حيث تتراكم الإنتاجات الميتة، من المواضيع والمناظر القديمة التي تتكلّم فقط على قيل وقال الأثرياء والبرجوازية. يجب ألا ينصبّ اهتمام الفن على معابد ميّتة، وإنما أن يكون في الشوارع، في عربات الترام، في المعامل، وفي أحياء العمال. وأكد في محاضرته تلك على أن المستقبلية هي التعبير الملائم الوحيد للفن البروليتاري، ذلك أن الأشكال القديمة غير قادرة على عكس الحياة الجديدة. في الحقيقة، إن طروحات المستقبلية تنطوي على نقد قاس للماضي والتقاليد، وتداخل شائك مع الأحزاب الحاكمة، الأمر الذي تسبب بالكثير من النقد، وبخاصة ما جاء على لسان تروتسكي الذي لامَ المستقبلية لأنها تنطوي على رفض مبالغ فيه للماضي موضحاً أن الماركسية تعيش على التقاليد وتعتمد كثيراً على الماضي.
إن المصاهرة بين المستقبلية الايطالية والفاشية، وبين المستقبلية الروسية والبلشفية كانت عقبة أحالت دون ديمومتها فضلاً عن أن الحرب كانت لهم بالمرصاد، فتشظى فنانوها، ولم تستطع جماعات الفنانين من إعادة تشكيل أنفسها، وبخاصة بعد مقتل مارينيتي 1944، مصدر بياناتها، بحادثٍ. في حين حالت نكبة ماياكوفسكي وانتحاره عام 1930 من الاستمرار بتقديم مواهبه المتعددة، كما أن ظهور حركات فنية وأدبية أخرى كان أكثر إثارة وتقبلاً من قبل الجمهور، كالحركة الدادائية والمذهب السريالي، مما حدّ الفن المستقبلي من امكانية الاستمرار بنفس الروحية، رغم أن الكثير من تطبيقات المستقبلية في فن العمارة وجدت طريقها إلى التنفيذ على نحو واسع منذ قيام أنطونيو سانت إيليا بتصميم مشاريعه المستقبلية الكثيرة، فضلاً عن تأثر المعماري السويسري لو كوربوزييه، والاسباني سانتياغو كالاترافا، والعراقية زها حديد، والبرازيلي اوسكار نيماير، والياباني تاداو اندو بالفن المستقبلي وتنفيذ العديد من تصاميمهم على أرض الواقع.