تمثل العلاقة ذات الطابع الإشكالي الى حد كبير، بين كل من الحداثة واللسانيات في ادبيات رولان بارت (1915-1980) من اهم المداخل الأساسية والرئيسية لفهم وتأويل تاريخ اللسانيات في الفكر الغربي من جهة؛ وتطور السيميولوجيا والخطاب النقدي من جهة أخرى. والباحث المتعمق في بنية اعمال بارت اللسانية والسيميولوجية، سيجد كيف ان خطابه لم يكن مقتصرا ضمن حدود الدرس اللساني الأكاديمي والتقليدي الضيقة. بل على العكس من ذلك تماما، إن المشروع النقدي الطليعي عند بارت يعبر في الواقع عن يوتوبيا دلالية مغايرة تطمح نحو تأسيس منطق بحث inquiry جديد لم تشهده علوم اللغة واللسانيات والنقد الادبي من قبل.
ولقد تحول ذلك المنطق الجديد فيما بعد، الى اورغانون Organon الحداثة اللسانية والنظرية الثقافية Cultural theory والأدبية في اثريات بارت. وبطبيعة الحال، فأن الإشارة هنا الى مفهوم الاورغانون لا يحيل بالضرورة ولا يتطابق ابدا مع اورغانون ارسطو او فرنسيس بيكون. بل على العكس، إن الاورغانون البارتي –نسبة الى بارت– الجديد يتقاطع تماما مع فلسفات ارسطو وبيكون ومع تاريخ الفلسفة التقليدي برمته. وذلك لان معظم طروحات بارت في اللغة والنقد واللسانيات، لم تتحدد ضمن منطق جوهر Essenes اللغة وبنيتها الميتافيزيقية المطلقة. بل ان الطروحات البارتية ذهبت الى ما هو ابعد من ذلك بكثير، عندما شرعت في تفكيك ظاهرة الوجود الانتيكي antiquity القديمة والملازمة لتاريخ اللغة والادب والثقافة في الفكر الغربي على الدوام.
بعبارة اخرى، ان حداثة بارت اللسانية/ واللغوية كانت بمثابة ثورة على "تكنولوجيا الاسلوبيات التقليدية" التي لطالما عملت على عزل اللغة واللسانيات عن مجمل تحولات الثقافة والخطاب في السياقات التاريخية. وهذا هو احد اهمّ الأسباب التي دفعت به الى تدشين قطيعة ابستمولوجية مع تاريخ تلك اللسانيات النظرية speculative linguistics لينعرج بذلك الى ابتكار "استراتيجية لسانية" Linguistic Strategy والتي من اهم ميزاتها: انها جدلية تتعارض مع تاريخ اللسانيات الموضوعانية objectivism والوضعية positivism؛ وانها تعمل ضد منطق الثقافة المستقرة Stable culture الذي يجري انتاجه حينما يتم احتكار الثقافة agents من قبل طبقات بعينها كالبرجوازية –حسب بارت– فتتحول الشيفرات الثقافية لهذه الطبقة مع مجمل انظمتها الدلالية واللغوية الى "ثقافة عامة" والى معايير norms على الجميع الخضوع اليها والامتثال الى خطابها وقيمها واحكامها اللامتناهية واشكالها القارة في هسهسة اللسان والتعبير.
لهذا، اخذت وظيفة السيميوجيا عند بارت طابعا مختلفا تماما، فلم تعد مجرد علم وضعي يبحث في كينونة العلامات العامة(1). لا سيما إذا علمنا ان بارت جعل من مصطلح السيميولوجيا مرادفا لمصطلح تحليل الخطاب النقدي critical discourse analysis الذي يتجاوز "منطق الثنائيات" Dualism السائد في علم اللسانيات عند سوسير. وهذا ما يمكننا استنتاجه من خلال مطالعتنا لأغلب كتابات بارت ومؤلفاته الاكاديمية ومقالاته الشعبية التي رصد عبرها اثريات الفكر الانتيكي (القديم) المسيطر على تاريخ اللغة وإنتاج منطق الدلالة الثقافي في بنية الخطاب ونظام العلامة. وهنا يأتي انموذج بارت في النقد الجديد النقيض الرسمي لبرادايم النقد القديم، ليشكل بيان الحداثة الجديدة التي تقف بالضد من صعود وسيطرة ثقافة الطبقات المتحكمة في انتاج/ وإعادة انتاج سياسات المعنى الأيديولوجية. حتى مثلت البرجوازية، حسب رأيه، اشبه بالتوجه العام في الثقافة bourgeois-oriented culture، وبطبيعة الحال، كان صعود النزعة التقليدوية traditionalism والنزعة الانسانوية الضيقة من ابرز ملامح ذلك التوجه الثقافي المعياري المحكم والصارم. وهو الذي سينعكس حتما على ظاهرة تطور اللسانيات linguistic development عند بارت، لا سيما المتمثل منها بسلطة إعادة تشكيل أنظمة علامات وشيفرات "الكتب القديمة" ancient books والتي افرزت أجيالاً من الادباء والكُتاب في الشعر والادب والرواية غلب على كتاباتهم واساليبهم اللغوية النزوع نحو انتاج نثر يتعارض تماما مع الأفكار الطليعية للنقد الجديد.(2) وهذا ما جعل تاريخ تطور اللغة واللسانيات ينقسم الى مرحلتين حسب بارت. الأولى: عندما كانت استعمالات اللغة مع تلك الأجيال التقليدية محددة ومقتصرة على الوصف والتحليل الوضعي، وهي المرحلة المبكرة؛ اما المرحلة المتأخرة فهي التي تتمثل في النظر الى استعمالات اللغة التقليدية بوصفها تعبر عن منتج من الممارسات الثقافية لـ"كينونة خطابية"being discursive. حيث يكون استعمال اللغة في هذه المرحلة من خلال فضاء وزمان الذات المتكلمة الرازحة تحت سلطة لامتناهية من دلالات "المرحلة العقلانية" المبكرة للغة.
من هنا، فأن مفهوم اللسانيات عند رولان بارت لا يمكن له ان يستقيم دون ادخال مفهوم "القطيعة الابستمولوجية" Epistemological rupture حيث سعى فيها الى التمييز بين شكلين من اشكال اللسانيات: لسانيات تحليلية analytic linguistic تمثل المرحلة الوضعية المبكرة؛ والمرحلة المتأخرة later linguistic التي يمكن من خلالها تأويل مفهوم الثقافة المستقرة عبر اشكال التعابير اليومية السائدة. لذلك، فأن مفهوم "اللسانيات الشكلانية والبنيوية" المحكم بصرامة وضعانية مطلقة، لم يعد له أي حضور واهمية تُذكر في فكر بارت، منذ اللحظة التي تحولت فيها اللسانيات معه الى وسيط ثقافي linguistic medium وتداولي/ تواصلي.
بارت وفتغنشتاين: جدل المحتمل اللساني والنقدي وفلسفة اللغة العادية:
إن الغاية من عقد سلسلة من المقاربات الفلسفية والمنطقية، بين بارت وفتغنشتاين (1889-1951)، هي الكشف عن طبيعة التداخل المنهجي والاشكالي واللغوي بين كل منهما. وقد يبدو للمتأمل انه ليست هناك ثمة علاقة وتداخل بين بارت وفتغشتاين، فالأول جاء من عالم النقد الادبي وتحليل الخطاب النقدي وفن السيميولوجيا؛ والآخر جاء من عالم الفلسفة والتحليل المنطقي للغة من خلال استعمال لغة الرياضات واعتماد رموزها الوضعية بوصفها معيار المعايير لاستعمال اللغة الصائبة. وبالطبع نحن نشير هنا الى المرحلة الوضعية المبكرة للفيلسوف فتغنشتاين تحديدا مع كتابهtractatus logico-philosophicus . لكن نظرة نقدية فاحصة لطبيعة التحولات والقطائع الحاصلة في فكر كل واحد منهما، يمكن لها ان تشير الى وجود ملامح فلسفية مشتركة بينهما. فالجدل الحاصل في فلسفة فتغنشتاين للانتقال من نظرية اللغة Theory of language الى فلسفة اللغة philosophy of language يعيد الى ذاكرتنا ذلك الحراك الحاصل في فكر بارت من اجل الانتقال: من نظرية اللسانيات التحليلية الوضعية الى فلسفة لسانيات الوسائط الثقافية النقدية. أضف الى ان تفكيك برادايم المنطق الوضعي ونقد الرؤى العقلانية المسستمة مثل القاسم المشترك الأكبر بينهما.
وقد كان مفهوم "نظرية اللغة" واحدا من المفاهيم التي شكلت تحديا كبيرا امام فتغنشتاين في التعاطي مع المفاهيم الوضعية لكل من: اللغة الطبيعية؛ اللغة الشكلانية؛ اللغة الصُنعية artificiel language؛ اللغة المثالية ... الخ. ويتضح حجم الصعوبات التي واجهها فتغنشتاين من خلال طبيعة الصراع الحاصل بين كل من سيطرة النزعة التجريبية في اللغة الطبيعية وفلسفة اللغة العادية ordinary language philosophy. خاصة وان: «نظرية اللغة نفسها اخذت تجد تبريرا كافيا لها، حيثما توفر لكل قاعدة وصفية صائبة في اللغة الطبيعية شكلا محددا مسبقا من ناحية؛ واستعمالا للأبنية متطابق تماما مع المسلمات الكلية في اللغة من ناحية اخرى».(3)
بهذه الطريقة تكون العلاقة بين نظرية اللغة واللغة الطبيعية، علاقة "صُنعية" محكومة بمجموعة من قواعد المنطق التجريبي logical empiricist الذي يساهم الى حد كبير في دعم اللغة الصُنعية واضفاء الطابع الآلي عليها. وهذا ما جعل منها لغة تفتقر الى الملمح الديناميكي الذي تتسم بها عملية التواصل بين كل من: المتكلم واللغة وطرائق التعبير، لا سيما وهي لغة تسعى الى الامتثال والتطابق المطلق مع الانموذج المعرفي المفاهيمي conceptaul knowledge على الدوام. وتقودنا هذه الإشكالية الى حقل ذو صلة مع نظرية اللغة واللغة الطبيعية وهو فلسفة اللغة philosophy of language: «التي تعد مجالا من مجالات البحث الفلسفي في عملية تكوين وبناء المعرفة المفاهيمية، أكثر بكثير من العديد من العلوم الفلسفية المعاصرة أمثال فلسفات العلم والرياضيات والفن وغيرها. انها ذلك الحقل الذي يتطلب منا تعلم ما يتوجب استخلاصه من دراسة كيفية التعبير عن تلك المعرفة المفاهيمية والتواصل بها بواسطة اللغة. بناء على ذلك، فأن الفرضية الاساسية في فلسفة اللغة تستند على وجود علاقة وطيدة بين كل من الشكل والمحتوى في اللغة العادية؛ وبين الشكل والمحتوى في فعل المفهمة لتراكيب الجمل اللغوية». (4)
في الواقع، ان النص أعلاه يكاد يشير الى تلك الحالة من الاختلاف والتباين بين مفهوم نظرية اللغة وفلسفة اللغة التي بدت تنفصل تدريجيا عن ذلك الطابع المفاهيمي التجريدي في تكوين المعرفة واللغة ومعنى المعنى الذي يشكل قطيعة ابستمولوجية ولسانية مع كتاب ريتشاردز معنى المعنى. علاوة على ذلك، ان طبيعة العلاقة المتداخلة بين نظرية اللغة واللسانيات، لم تنعرج هي الأخرى بالطريقة التي تمكنها من ان تتجاوز الأطر الشكلانية والبنيوية في معالجة اللغة. من هنا، ظلّ مفهوم: «نظرية اللغة مقتصرا على اللسانيات الوصفية لوقائع بنية اللسانيات المشتركة لجميع اللغات الطبيعية».(5) وعلينا ان نتساءل هنا، ما هي طبيعة العلاقة اذن بين فلسفة اللغة العادية ونظرية اللغة الطبيعية؟ وهل يمكن لعلم اللسانيات ان يشكل منعرجا جديدا مع فلسفة اللغة العادية؟ وكيف لفلسفة اللغة العادية ان تؤثر على الفاعلية السيمانتيكية semantics للغة؟
لقد كان لظهور فلسفة اللغة العادية الأثر الكبير والبالغ، في احداث سلسلة من التحولات والانعراجات في اللسانيات من جهة؛ ونظرية اللغة واللغة الطبيعية من جهة أخرى. بالطبع، ذلك لا يعني أن مفهوم فلسفة اللغة العادية لوحده كان كفيلا بحل مجمل مشاكل واشكالات الفلسفة والأبستمولوجيا. وانما يمكن القول ان أهمية مفهوم اللغة العادية تكمن في إعادة توجيه النظر الى ماهو نسبي ويومي في ذهنية المتكلم الذي يقع خارج أيديولوجيا السستمة النظرية وسيطرة البرادايم السنتاكسي والفونولوجي المتحكم في الكيفية التي تجري بواسطتها انتاج الجملة والعبارة. لذلك تعد: «اسهامات فلسفة اللغة العادية مهمة الى حد بعيد في مجال البحث في السيمانتيك، بل انها تمثل في واقع الامر أكثر من مجرد ذلك الاسهام الحاصل من قبل علماء اللسانيات الاحترافيين professional linguists في النصف الأول من القرن العشرين. فبينما كان هؤلاء الاحترافيون منشغلين كثيرا بالفونولوجيا والسنتاكس؛ ومشاكل تاريخية أخرى مختلفة، توجه اهتمام فلاسفة اللغة العادية نحو المشاكل الابستمولوجية، لذلك تركزت ابحاثهم حول إعادة قراءة السيمانتكسsemantic». (6)
يمكن القول اذن، ان فلسفة اللغة العادية ظهرت كرد فعل طبيعي ضد سيطرة المنطق التجريبي، الذي حوّل اللغة الى كيان صنعي؛ نظري وعلموي. ومن المعروف انه كان قد: «جرى الاشتغال على الأسس الفلسفية في فلسفة اللغة العادية من قبل عدد من الفلاسفة، وكان ابرز تلك المساهمات هي للفيلسوف فتغنشتاين Wittgenstein الذي بدأ مسيرته كفيلسوف تجريبي منطقي. وقد ناقش في كتابه من مرحلته المبكرة وهو Tractatus Logico-Philosphicus موضوع كيفية التسليم بمبادئ كالمثال واللغة الصنعية حيث يجري بواسطتها تعريف المفاهيم بدقة عالية لتعبر الفرضيات عن الشكل الحقيقي للوقائع بطريقة لا لبس فيها. في الواقع، أصبح فتغنشتاين نفسه عبر ذلك الكتاب معروفا كواحد من بين ابرز المؤسسين للنزعة التجريبية المنطقية logical empiricism. غير ان حالة من عدم الاقتناع بتلك المبادئ أدت به في نهاية المطاف الى تفنيد ودحض تلك النزعة التجريبية بطريقة جعلت منه يضع الحجر الأساس لمفهوم بديل يدعى التحليل والعلاج الفلسفي. لم يأخذ فتغنشتاين بذلك الموقف الذي يرى ان فشل مقاربة اللغة الصنعية ناتج عن عدم اتسامها بالخاصية العلمية الكافية. وإنما كان قريبا من الرأي القائل ان ذلك الفشل ناجم بالأحرى عن التعاطي مع الموضوعات بطريقة علموية مفرطة للغاية. وما كانت نقاشاته إلا تعبيرا عن طموح في محاكاة فاعلية العلماء بهدف تغيير انموذجهم الخاص باللغات الصنعية والأنظمة العلمية». (7)
بهذه الطريقة العلمية، يُعاد صناعة وابتكار المتكلم باعتباره امتداد طبيعي وحتمي لمجمل القواعد والقوانين المنطقية الحتمية التي تفرض عليه ان يستعمل الكلمات بدقة وصرامة هذه المناهج والعلوم الوضعية التي تنشد الى قيام وتأسيس لغة مثالية. إذ: «يرى المنطق التجريبي ان تفسير الكيفية التي يتمكن المتكلم بواسطتها من استعمال كلمة معينة للإحالة على شيء محدد، إنما يكمن في معرفة المتكلم المسبقة لشروط ضرورية ومتسقة بما يكفي لأجل تطبيقها وكذلك من اجل استعمالها بالشكل الذي يتمكن فيه المتكلم من اتخاذ القرار بشأن استعمال كلمة معينة من خلال تحديد ما اذا كانت القضية المطروحة متطابقة تماما مع محتوى تلك الشروط المسبقة. لكن المتكلم -بحسب فتغنشتاين- لا يمكن له ان يستند في اتخاذ القرار حول استعمالات كلمات لغوية محددة وفق ذلك الشكل المنطقي الصارم، لأنه ببساطة لا وجود لمثل تلك الشروط».(8)
من النص أعلاه، يتضح لنا كيف حاول فتغنشتاين ان يعيد النظر في طبيعة الاشكال اللغوية النمطية والتي عملت على مأسسة اللغة بسلسلة من القوانين والقواعد والاطر المثالية ينبغي على المتكلم ان يخضع لأحكامها ولشروطها واسسها ليتمكن من أداء أفعال الكلام السليم معنا ونطقا وتركيبا لغويا ليتطابق مع شروط نمذجة المنطق التجريبي. وتجدر الاشارة هنا الى ان هذه الاشكال الوضعية والعلموية نفسها هي التي كان لها السيادة والسيطرة في الأوساط الاكاديمية الى حد كبير جدا، بل هي التي عملت على تحديد وظائف وخصائص ومفاهيم اللغة وعلم اللسانيات الذي لطالما: «جرى استعماله بشكل غامض جدا ... إذ غالبا ما يشير الى مجمل حقول دراسة اللغة الواقعة تحت هيمنة الانضباط الاكاديمي لعلم اللسانيات، ويشير في احيان أخرى الى ذلك الحقل الذي يتمتع بمرتبة علمية خاصة أي "اللسانيات السليمة" linguistics proper كما اعتدنا على قول ذلك كثيرا. واعني بعلم اللسانيات السليم هو دارسة النحو grammar بالمعنى الشائع: انظمة الصوت في اللغة (phonology)؛ البنية النحوية للكلمات (morphology) نظام تركيب الجمل والعبارات (Syntax) وغيرها من المظاهر الشكلانية للمعنى (Semantics). وقد حازت هذه اللسانيات على قبول واسع النطاق من داخل حقول العلوم الإنسانية نفسها ووصلت الى حالة من التمركز حول اللغة ودراستها مع اقصاء مختلف الظواهر الإنسانية المختلفة من جهة؛ وحقول العلوم الإنسانية من جهة أخرى ... ومن المفارقة، ان هذه اللسانيات منحت اهتماما قليلا نسبيا في دراستها لفاعلية الكتابة او الكلام في الواقع Actual Speech. وذلك يعود الى محدداتها في وصف اللغة بخصائص أمثال ان اللغة هي قوة كامنة، او هي نظام، او هي استعداد تجريدي، عوضا من ان تحاول وصف الممارسات اللغوية في الواقع الثقافي». (9)
في الموضع أعلاه، يبدو ان هناك تماثلا واضحا بين مفهوم اللسانيات الاكاديمية وبين النظرية اللسانية. وكأن البنية المنطقية العميقة لهذين المفهومين، هي نفسها التي تشكل النظرية اللغوية او ما يُعرف باللغة بوصفها حدث كلي language Event. بمعنى آخر، انها اللغة الوضعية positivist language حيث يكون معيار اللغة المتفق عليه مسبقا في علم اللسانيات ونظرية اللغة هو الوصول الى لغة خالية من الشوائبClean up language، لذلك نرى كيف ان نظرية اللغة ونظرية اللسانيات تبقى متمركزة على الجملة/ العبارة Sentence-linguistics. بمعنى آخر، ان نظرية اللسانيات تبقى محددة ومسستمة ضمن نظام البنية السطحية (تراكيب الكلمات الخارجية) والبنية العميقة للجملة (النظام السيمانتيكي المنتج للمعنى) وهي بذلك تختلف عن لسانيات النص Text-linguistics التي تخرج من وحدة المعنى للنص لتتجه نحو فضاء اكبر واشمل للنص في العالم.(10)
رولان بارت... من أيديولوجيا النقد القديم الى ميثولوجيا التواصل الجديد:
من كل ما سبق، يتضح لنا ان العلاقة المتداخلة بين فلسفة اللغة العادية عند فتغنشتاين ولغة النقد الادبي الجديد عند رولان بارت، إنما هي في الأساس علاقة إشكالية عبرت عن أكثر من ازمة، فمن ازمة انطولوجيا اللغة في العالم؛ الى انطولوجيا العمل الادبي في اللغة؛ ومن ازمة المنطق الوضعي في لغة التعبير الفلسفي؛ الى ازمة المنطق في اللسانيات والدراسات الأدبية؛ ومن ازمة هيمنة النزعة الموضوعانية Objectivism في تاريخ الفلسفة؛ الى طغيان هذه النزعة وسيطرتها في تاريخ النقد الادبي وفلسفة البلاغة والسيميائيات الثقافية. من هنا، كان الهدف الأساسي من اجراء المقاربة الابستمولوجية والمنطقية واللغوية بين فتغنشتاين وبارت، هو توضيح كيف يمكن للمختص الأكاديمي التحرر من النزعة "الاكاديمية الوضعانية الضيقة" ليكتشف ابعادا راديكالية جديدة سواء كان في اختصاصه الدقيق او في مختلف العلوم الإنسانية لم يتعرف عليها من قبل جراء سيطرة القراءات الحرفية والوضعية على هذه الحقول. وهذا بالضبط ما سعت اليه ثورة بارت في تفكيك تاريخ "القراءات الحرفية" للأعمال الأدبية في النقد الادبي الفرنسي والناجمة عن سيطرة الحقائق البدهيةEvadent Truths وهو مصطلح يعيد الى ذاكرتنا سيطرة مفهوم اللغة بوصفها حدث كليlanguage Event كما هو الحال عليه في اللغة الوضعية لا سيما في المرحلة المبكرة من فكر فتغنشتاين اللغوي والفلسفي.
ان الفكرة الأساسية عند بارت في نقد وتفكيك مفهوم القراءات الحرفية/ ما قبل التأويلية للعمل الادبي، تكمن في تفكيك "منطق الخطاب الوضعاني في النقد الادبي واللسانيات واللغة". فقد تحول هذا المنطق الى قوانين صارمة تتحكم في انتاج النوع الادبي laws of the genre. حتى أصبحت معه الحقائق البدهية المعتمدة في تأويل العمل الادبي، تمثل في حد ذاتها: «يقينيات اللغة، وآثار السيكولوجيا المحكمة والمتماسكة، والضرورات الحتمية لبنى النوع الادبي». (11) لقد رأى بارت ان محنة واشكالية لغة النقد القديم، تتمركز في سيطرة برادايم "الحقيقة البدهية" التي جعلها بارت تتوسط بين مفهوم "النزعة الوضعانية" في النقد؛ ومفهوم المحتمل النقدي CRITICAL VERISIMILITUDE حيث ان القاسم المشترك بين هذين المفهومين، إنما يتمثل في النزعة الحرفية/ الارثوذكسية المعتمدة في قراءة الاعمال الأدبية التي لا تستطيع «الذهاب الى ماهو ابعد من حرفية الرمز. بل انها في الواقع، غير قادرة على القراءة منذ ان أصبحت القراءة رمزية. إذ انها لا تختلف عن القراءة الحرفية عند بارت لكون هاتين القرائتين تعبران عن قراءة محكمة ودقيقة وصارمة في اختيارها لشيفرات محددة مسبقا». (12)
لقد استحوذ مفهوم "الإحكام في النقد الادبي" على اهتمام كبير من قبل بارت، خاصة وان جزءا كبيرا من هذا الإحكام هو ليس فعلي بقدر ماهي شكلاني ووضعاني، ترجمته طبيعة المفاهيم التقليدية المطلقة حول النقد والقراءة واللغة. فليس من الغريب في شيء، إذا ما رأينا تكرارا واضحا لمفهوم "الحقيقة البدهية" في كتاب بارت (نقد وحقيقة)، عندما نعلم انه مفهوم يعد بمثابة المفتاح الأساسي لفهم/ وإعادة فهم وتأويل مفاهيم النقد الجديد؛ والمحتمل النقدي؛ واللغة الحرفية. لقد اكدّ بارت على أن هذه المفاهيم لا تعبر عن نقد تاريخي وحقيقي، بقدر ما تعكس مجموعة من الافتراضات propositions والقوانين الشكلانية الصارمة حول حياة النقد المفترضة في العالم. وكأن "الحقائق البدهية" أصبحت هي قدر العالم، حتى وان لم يختارها، لأنها: «تحولت في ذاتها المعبر عن مجمل ما نتوفر عليه من اختيارات. ولكونها تؤخذ حرفيا، حتى وإن كان الاختيار الأول تافها او قل ان شئت لا يكون في محله، فليس هناك من أحد ابدا كان قد دحض او سيدحض المعنى الحرفي في خطاب أي عمل من الاعمال الأدبية... وهذا ينطبق على حقائق بدهية أخرى والتي تعتبر بمثابة تأويلات سابقة لكونها تتضمن على اختيار موجود سلفا للأنموذج البنيوي والسايكولوجي. هذه الشيفرة –لكونها شيفرة- يمكن لها ان تتباين، وبذلك فأن الوضعانية إنما سوف تستند بعد ذلك، ليس على اختيار الشيفرة بالطبع، وإنما على خاصية الإحكام التي يجري بواسطتها تطبيق هذا الانموذج المختار والمحدد في قراءة عمل ادبي معين... المحتمل النقدي عادة ما يختار الشيفرة الحرفية» (13).
من هنا، فأن مفهوم المحتمل النقدي حسب اصطلاح بارت، لم يتجاوز أيديولوجيا اللغة الوضعية والمنطق الرمزي الذي أسس لكينونة لغتنا وممارساتنا الكلامية. بمعنى آخر، ان لغة ما يُحمل على أساس النقد لا تشير الى ذلك بالضرورة، لذلك فهو محتمل نقدي يستند في بناء فرضياته النقدية على لغة بدهية/ صنعية تحاول ان تعيد تشكيل الأشياء والوقائع من خلال استعمال نماذج وموديلات منطقية افتراضية، لا تعكس لغة الحياة اليومية العادية، بقدر ما تعكس أنظمتها المتماسكة. ويبدو واضحا هنا، ان بنية النقد القديم التي عمل بارت على نقدها وتفكيك نظامها المنطقي الصارم، تكاد ان تماثل المرحلة المبكرة لفلسفة اللغة والمنطق عند فتغنشتاين في كتابه Tractatus Logico-Philosphicus.
في حين ان مفهوم النقد الجديد عند بارت، يكاد ان يكون موازيا للمرحلة المتأخرة عند فتغنشتاين في كتابه الأبحاث الفلسفية philosophical investigations والذي جرى معه التدشين لفلسفة اللسانيات linguistic philosophy حيث تجاوز فيها اللسانيات الوضعية وفلسفات اللغة النظرية والتقنية والصنعية بالطريقة نفسها التي سعى بارت الى التحرر فيها من برادايم المحتمل النقدي وسلطته المنطقية البرجوازية التي تجعل من العالم مجرد انعكاس آلي لافتراضاته(14) من خلال إعادة احياء شعائر اللغة الطبيعية/ الصنعية النظرية المنفصلة تماما عن فلسفة اللغة العادية.
من هنا، فأن بارت مثلما هو الحال عليه مع فتغنشتاين، ظل يشكك بوجود قواعد وقوانين ثابتة ومطلقة للغة يجري بموجبها تعليم/ وتلقين المتكلم كيفية الحديث واختيار الكلمات وكيفية وضعها ونطقها والتمأسس بمنطقها الوضعي. محاولا، في الوقت نفسه، تفكيك حالة الاغتراب بين اللغة وبين المتكلم الذي أصبح خاضعا لعملية تغذية مكيانيكية استرجاعيةFeedback mechanism. وهذا ما دفع بارت الى التعبير عن "لسانيات ابسوردية/ سيزيفية" دعته الى القول انه: «لم يعد للكلمات قيمة تحيل اليها من قريب او من بعيد، وما هو موجود في الواقع إنما هو مجرد تبادل للقيم السائدة حيث اقتصرت وظيفة الكلمات فيها على تواصل هو أقرب الى التعاملات التجارية البليدة .. بكلمة واحدة، لا تقدم اللغة إلا ماهو يقيني الماثل لما هو متآلف عليه Banality وهو ما ينبغي ان يقع عليه اختيارنا على الدوام». (15)
باحث من العراق- متخصص في فلسفة الدراسات الثقافية/ ومابعدها
الهوامش:
(1) حول تطور مفهوم السيميولوجيا عند بارت يُنظر:Roland Barthes: Éléments de sémiologie
(2) يُنظر: Roland Barthes: degré zéro de l’écriture
(3) Jerrold J. Katz : The Philosophy of Language, New York, 1966, p. 10
(4) Ibid., p. 4
(5) Ibid., p. 8
(6) Ibid., p. 87
(7) Ibid., p. 69-70
(8) Ibid., p. 73-74
(9) Norman Fairclough: Language And Power, Longman, 1989, p. 6-7
(10) للمزيد يُنظر: Roger Fowler: Liguistics and The Nouvel, Methuen-London, 1977
(11) Roland Barthes: Criticism and Truth, translated and edited by Katrine Pilcher Keuneman, Continuum-London, 2007, p. 4
ملاحظة: لابد من الإشارة هنا الى ان الترجمة العربية لكتاب بارت (نقد وحقيقة). لم تولِ أي أهمية وعناية الى تحولات مفهوم الوضعانية في هذا النص، لهذا غلب الطابع الحرفي لترجمة هذا المفهوم. ولم توضح كذلك اهمّ الإشكالات المنطقية والفلسفية التي رافقت تطور هذا المفهوم لا سيما وهو يحتل أهمية ابستمولوجية كبيرة بين النقد القديم وفلسفة نقد ما هو محتمل او المحتمل النقدي من جهة؛ وفي تاريخ اللسانيات وفلسفة اللغة عند بارت من جهة أخرى.
(12) Ibid., p. XVI- XVIII
(13) Ibid., p. 5-6
(14) حول نقد بارت لتمثلات الأيديولوجية البرجوازية في اللغة والثقافة والدلالة يُنظر: Roland Barthes: Mythologies
(15) Roland Barthes: Criticism and Truth, p. 6