القصة القصيرة جداً نوع أدبي جديد ظهر على الساحة الأدبية، لكنه ليس منبتّ الجذور عن التراث العربي والعالمي، ويُجمع النقاد أن ولادتها عربياً عراقية، وعالمياً يعدّ إرنست همنغواي "E. Hemingway" أول من كتب قصة قصيرة جداً، وهي: "للبيع، حذاء طفل، لم يولد بعد"1. ويمكن أن نردّ هذا النوع الأدبي إلى جذور في تراثنا العربي، فللقصة القصيرة جداً علاقة بالنادرة، والأحجية، والمَثَل، والقبسة الصوفية، والكرامة، ولها علاقة بأدب التوقيعات الذي يقوم على النصّ والنصّ المضاد، فالتوقيع خطاب تُذيّل به رسالة تتضمن شكوى، أو استفساراً، ويأتي التوقيع جملة مكثفة موحية معبرة قد تكون بيتً شعرياً، أو مثلاً، أو حكمة، أو جملة من إنشاء الموقّع، تتضمن بعداً رؤياوياً بديلاً من الرؤية الموجودة في النص الأول.
وللقصة القصيرة جداً مقوّمات، وركائز2، فمن مقوماتها: الإدهاش، والإثارة، والانطلاق من موقف فلسفي يختزل العالم في تكثيف ما، ومن مقاييسها القصر، والترقيم الذي يتحول إلى علامات سيميائية، والتنوع الفضائي، من فضاء الجملة الواحدة إلى الفضاء السردي والشعري والدرامي والمتقطِّع. ومن معاييرها: المعيار السردي، وهو معيار القصصية التي تبنى على الأفعال النووية، والاستغناء عن الأفعال الثانوية، وتنكير الشخصيات، والتلغيز، والترفيه. والمعيار التركيبي المتمثل في الجمل الفعلية الحركية البسيطة، والمعيار المعماري، فلها بداية، وجسد، وقفلة، ويشترط في القفلة المفارقة. ويتمثل المعيار البلاغي في الصورة الوامضة التي تقوم على عوالم عجائبية تخيلية، والمفارقة أساسية في القصة القصيرة جداً؛ ذلك أنها تجمع بين المتضادات لغة واختلافاً، وتبنى على تنافر الظواهر في ثنائيات مفارقة في جدليتها الواقعية والتاريخية.
ويعدّ الترميز ضرورياً لتغدو لغتها مؤشرات نصيّة مفتوحة على تأويلات متعددة. وقد ظهرت؛ لتستجيب للتحولات المعاصرة السريعة، وصدرت عن الأنواع الأدبية الأخرى المجاورة لها كالقصة القصيرة، والأقصوصة، والخاطرة، واللغز، والنادرة. وتقوم القصة القصيرة جداً على التوازن بين الثنائيات الضدية، ففيها الإيجاز، وعمق المعنى، والحلم، والواقع، و.. وسنحاول أن نرصد جملة من الثنائيات التي ينهض عليها فن القصة القصيرة جداً.
-ثنائية الثابت/ المتغيِّر
حين نتحدث عن قواعد ناظمة لفن القصة القصيرة جداً فنحن نقف أمام متقابلات ضدية، فكيف تُجمع القواعد الناظمة، والفن في مقام واحد ويبقى كلّ عنصر محافظاً على وجوده. في قانون الثنائيات الضدية لا يجتمعان؛ لأن جوهر الثنائيات التوازي، لا الجمع، فيجب أن يحكم التوازن هذا العالم المتضادّ، فالقواعد ضابطة، ومتحكّمة، ولازمة، ومحدِّدة، والفن انعتاق، وانطلاق، وفضاء مفتوح.
وفي القصة القصيرة جداً ترجح كفة الثنائية لحساب الفن على حساب القواعد، وتحمل مسؤولية كبيرة وهي ترجّح كفة الحرية والفن على كفة القاعدة بعد أن انتهكت القاعدة، وقد أثبتت أن القواعد قابلة للتحوّل بناء على التغييرات الطارئة، فثمة وفرة في ضروب الكتابة في ميدان القصة القصيرة جداً، وهي تنفتح على الأنواع الأدبية، وغير الأدبية، وهذا ما يجعلها نصاً عابراً للنوع، فثمة انفتاح أجناسي تبنى عليه القصة القصيرة جداً. إن ثنائية ثبات/ تحوّل تعني مسؤولية فنية؛ لذا يمكن أن نتكلّم على ضوابط، ومعايير، أكثر مما نتكلم على قواعد تنتظمها. إن ثمة متغيراً متعلقاً بالتجريب في القصة القصيرة جداً، وترتكز القصة التجريبية على التجديد في اللغة، والتقنية، ورؤية الذات والعالم، فيسلك الكاتب طرقاً غير مألوفة.
ولا يمكن ضبط القصة القصيرة جداً بمقاييس البناء، فهي تتخذ من الإيحاء والرمز سبيلاً للبوح، فتوحي، ولا تقرّر، وتفتح أمام المتلقي نوافذ الأسئلة والحوار، وتحمل سمة التجدد، وتتخذ من مشكلات الإنسان موضوعاً يقدّم بطريقة مختلفة.
يرتب القاص حسن برطال -على سبيل المثال- مجموعته القصصية أبراج ترتيباً فلكياً، فيستقرئ دلالات القصص في ضوء مواصفات الأبراج، وطبائعها. وهو تبويب واع قصدي لنصوص تخضع لترتيب تحت محور خاص بكل برج بالاعتماد على عنوانات فرعية ترتبط بالعمود الفقري للمجموعة، فكتب بقصد معين مخالفاً الثبات في كتابة القصة القصيرة جداً. يقول في القصة رقم 4:
"حلّت عاشوراء .. حملت الأم في أثناء عودتها من السوق .. قنابل .. بنادق .. مفرقعات .. وقالت لصغيرها: هذه لعب الأولاد .. أما الدمى فتخص البنات فقط"3
يركز النص على ثنائية تربية الذكور/ تربية الإناث، الخير/ الشر، فينتقد تعليم العنف للذكر منذ صغره حين تُحمل له ألعاب تنذر بالخطر، وهو ما يبرز ثنائية ضدية في التربية حين يُغرس الشر في نفوسهم، فيتمّ اللعب على المعنى ببناء مركب، وكلمات منتقاة بعناية، وتركز على ثوابت يسعى الكاتب إلى تغييرها، والإنسان موضوعها، وثمة ثوابت تتعلق بالعادات والتقاليد يسعى إلى خلخلتها، ويتجلى المتحوّل في التقديم الفني من جهة، وعلاقات التضاد بين مكونات النص، وعلاقة الشخصية بالحدث من جهة أخرى، فثمة حركية ثوابت جديدة محددة دلالياً، وفنياً. وتنفتح القصة على التأويل بوجود البياضات النصية، والنقاط، فثمة بلاغة صمت تقابل بلاغة البوح. وتسعى القصة القصيرة جداً إلى المطلق بالحديث عن فكرة مركزة.
-ثنائية النص/ النص الموازي
يعدّ العنوان، أو العتبة النصية نصاً موازياً للنص الأدبي، وهو دالّ سيميائي يرتبط بالنص بعلاقة، وينطوي على دلالات إيديولوجية واجتماعية، وهو بتصدره القصة القصيرة جداً يعدّ رسالة لغوية تعرّف بهوية النص، وتحدّد مضمونه، وتجذب القارئ إليه، والأهم في العتبة النصية قدرتها على الإيحاء، والتلميح بتراكيب لغوية بسيطة.4
يعمّق العنوان الدلالات من الناحية التأويلية من غير أن يفصح عنها، أو يؤطرها، وحين تكون مساحة النص صغيرة يصبح للعتبة النصية وظيفة أكبر. يقول حسين لمناصرة في نصّ حنونة:
"أشواك كثيرة تنمو في الساحة العامة المقابلة للمجلس البلدي .. وردة حمراء صغيرة سامقة تدافعت من بين الأشواك .. أعضاء المجلس البلدي تعجبوا من مغامرة هذه الوردة التي غدت حكاية .. لم يجرؤ أحد منهم على أن يقطفها خوفاً على نفسه من الأشواك .. هم زرعوا الأشواك ليدفعوا البسطاء إليها انتقاماً .. قال الناس: الوردة الحمراء نبتت في المكان الذي وقعت فيه المرأة الحامل .. المرأة التي ماتت تبحث عن زوجها بين الأشواك .. مات جنينها .. ولدت الوردة الحمراء .. تفاءل الناس، وارتعب أعضاء المجلس البلدي"5
ثمة ثنائية ضدية بين العتبة النصية "حنونة" والمتن، ثنائية الوردة الحمراء والشوك المحيط بها، لقد شغلت الناس بلونها، ورقتها، فتفاءلوا بها على الرغم من وجودها بين الأشواك، إنها صوت الرفض في واقع مستسلم يقيّد الأفراد. تدخل العتبة النصية حنونة في حال تضاد مع النص، فقد نبتت الوردة في مكان موت المرأة الحامل وجنينها، والعتبة ليست موضوعاً للخطاب، بل هي أحد التعبيرات الممكنة عن موضوع الخطاب، وحين يتلقى المتلقي العتبة النصية يتوقع الحنان الذي سيقرأ عنه، لكن على المتلقي ان يحذر إغواء العنوان لئلا يقع في فخ القاصّ، ومضمراته الثقافية، فالعتبة نص مواز، يرتبط بالنص، ويستفز القارئ، ويثير اهتمامه، وقد يصدمه، ويثير لديه رغبة في التأويل.
تقول شيمة الشمّري في نصّ "حرص": "تفاحتي التي أعطتني إياها أمنا حواء، وهي تحذرني وضعتها في صندوق أمين، لكنني لم أستطع إنقاذها من الدود الذي لم يُبق منها إلا البذور"6
ثمة علاقة ضدية بين النص والنص الموازي، ففي النص حديث عن التفاحة، والعلاقة الإنسانية الأولى، وثنائية امتلاك/ ضياع، سعادة/ شر أما النص الموازي فيتكلم على الحرص فقط.
من الصعب ضبط إيقاع العتبة النصية، فثمة مفارقة بينها وبين المضمون، وتدخل معه في علاقة حوارية حين تتعدّد أوجه التأويل كنصّ "حياة": "قطعوا ساقيه وذراعيه وتركوه ينزف .. بعد أشهر قليلة شوهد محمولاً على الأكتاف يهتف بحماسة وجموع غفيرة ترفع قبضاتها خلفه."7
ثمة ثنائية ضدية بين العتبة والنص، ويشرّع التضاد الباب على الإيحاء، فثمة تقابل بين طرفي الاستلاب والمواجهة، وتشتمل القفلة على عنصر الدهشة، فتماثل القصة القصيرة جداً قصيدة التوقيعة، أما النقاط فهي علامة سيميائية ترسم فضاء سرديّاً يشاكل فضاء القصيدة.
-ثنائية جسد النص/ القفلة
تقوم المفارقة على كسر أفق التوقع، وإدهاش المتلقي، وإيجاد حال تضاد بين ما قيل قبل المفارقة، وما تشتمل عليه، فهي تثير شعوراً بالسخرية، وتظهر السخرية الإضحاك، لكنها تهدف على المستوى العميق إلى النقد بهدف التغيير، أو التعديل. يقول أحمد جاسم الحسين في نصّ "سوء تشخيص": "أشارت التحليلات الأولية إلى احتمال أن تكون الكتلة في بطنه سرطانية، ولما أجريت العملية كانت المفاجأة عالية إذ وجدوا مجموعة من الخطابات والشعارات والصور المنشورة في جريدة رسمية"8
تتمثل الثنائية الضدية بين جسد النص الذي يجعل المتلقي متوقعاً نتيجة العملية، وقفلته التي تكسر أفق التوقع. يقول مصطفى لغتيري في نصّ "وثيقة": "لأنه يحب الوطن حباً جنونياً، اعتقلته السلطات، واحتفظت به في زنزانة منفردة خوفاً عليه من الضياع. إنها -اللحظة- تفكر جدياً في عرضه في المتحف الوطني."9 تقوم السخرية على التركيز التقابلي، والتضاد، فثمة متقابلات ضدية تبرز المفارقة بين القيم، وانهيارها.
وتحاول القصة القصيرة جداً أن تنظر إلى الأشياء من زاوية مغايرة، تضفي كثيراً من المبالغة على الحدث، وتلجأ إلى السخرية، فتجعل النص بناء تقابلياً ضدياً بين حلة وضدّها، يقول زكريا تامر في نص "الشهادة":
"تباهت بهية أمام نساء حارتها بحفاظها على شرفها، وشرف الحارة التي ولدت فيها، وحكت ما جرى لها أمس عندما كانت تتنزه في أحد البساتين القريبة، فالرجل المجهول الذي اغتصبها شهر سكيناً تذبح جملاً، وأمر بأن تخلع كلّ ثيابها مهدّداً بقتلها إذا عصت أمره، فخلعت ثيابها، ولكنها لم تخلع جواربها متحدية أمر الرجل وسكينه، فشهقت نساء الحارة معجبات بها، وانتشرن في البساتين عازمات على ألا يخلعن الجوارب"10
عمل الكاتب على المبالغة في نقل الحدث، وإعطائه طابعاً كاريكاتورياً، فقد أثارت الحادثة شهوة نساء الحارة، فيعني عدم خلع الجوارب سخرية الكاتب من المجتمع الذي ينحصر مفهومه للشرف بالمرأة، لكن المرأة ترمي هذا المفهوم وراء ظهرها، وتحوّل الشرف إلى مهزلة. إنه نقد اجتماعي ظاهره السخرية، وبناؤه التضاد بين جسد النص، وقفلته.
ويقول حسن برطال في النصّ الرابع:
"استقال من وظيفته.. وانتقل إلى مجال البيع والشراء، وبدأ بضميره"11 يحيل النص على ثنائية البيع والشراء، وثنائية الحلال والحرام، فبيع الضمير أول عملية بيع، وفي ذلك حديث عن هشاشة القيم الاجتماعية، وتضاد بين بداية القصة القصيرة جداً ونهايتها.
-ثنائية روية/ رؤيا
يقدم الكاتب على المستوى الظاهر في نصّه رؤيته، لكن النص يشتمل في المستوى العميق على رؤياه، وهي تقدّم البديل من الرؤيا؛ لذا تدخل معها في علاقة تضاد.
يقول مصطفى لغتيري في نصّ "نكاية": "منحني الظهر، منشغل البال، كان سارتر يمضي حثيثاً، شابكاً يديه وراءه، وهو يردد بلا ملل لازمته الأثيرة ... الوجود أولاً.. الوجود أولاً.. نكاية فيه كانت سيمون دو بوفوار، عن كثب، تقتفي خطواته، بعبوس وتحدّ ظاهرين، وهي تردّد بإصرار .. المرأة أولاً .. المرأة أولاً."12
يتناول الكاتب إصرار المرأة على التحرر الوجودي، فعلى مستوى الرؤية يقدّم إصرار المرأة على التحرر، وعلى مستوى الرؤيا يقدّم فهماً مختلفاً للفلسفة السارترية، التي تعني أن الوجود حرية، بمعنى أن الإنسان يعيش دائماً في موقف وجودي، وهو الذي يحدد موقفه بالاختيار الحر، فقد أعطت الفلسفة السارترية الإنسان حرية الاختيار في تخطيط حياته، واختيار مشروعه، والوسط الثقافي والاجتماعي الذي يفضّل أن يكون فيه، لكن الكاتب يرى أن من يطبق هذه الفلسفة هو الذكر، لا الأنثى؛ لذا يقدّم رؤيا بديلة تقوم على التركيز على فاعلية العنصر الأنثوي، وحقه في تمثيل المفهوم السارتري للوجودية.
وفي صورة تقوم على البعد الرمزي تظهر صورة الوطن المغتصَب فلسطين، ويظهر الرصد للمواجهة في وجه من يريدون طمس معالمه، وإبادة شعبه، ومع هذا الرصد على المستوى الرؤيوي يظهر البعد الرؤياوي المضاد، فهذا الشعب على الرغم من العنف المسلّط عليه يحافظ على هويته وأرضه، فيد الشهيد ترفع الإيمان بالنصر؛ ذلك أنه مؤمن أن دمه فداء لأرض وطنه، والوطن منبع الشهداء المقاومين.
يقول يوسف حطيني في نص "فلسطين": "يد تبني بيتاً، تزرع حقلاً أخضر، تلوّح للمستقبل، تدفعها يد آثمة نحو غربتها. يد كبيرة، تمسك بحنان يداً غضة، تمد أمامها في مواجهة يد تضغط على الزناد: مات الوالد، يد تعانق التراب، ويد ترفع شارة النصر"13
بني النص على التقابل بين الرؤية والرؤيا من جهة، فالواقع احتلال وعنف، والطموح مواجهة ونضال، كما بني على تقابل بين طرفين: الفلسطيني، والمحتل الإسرائيلي: يد تبني بيتاً/ يد تهدم، يد تزرع حقلاً/ يد تزرع الدماء الحمر، يد تلوّح للمستقبل/ يد تهدم الحاضر، يد تتشبث بالأرض/ يد تقتلعهم من الأرض/ يد تدفع الغرباء عنها/ بلد يحتلها الغرباء.
وفي نص "حرية" يقول: "حين أخذوه إلى السجن، قال لأمه العجوز: أخرجي العصفور من القفص"14
الرؤية قيد، والرؤيا حرية، فثمة ثنائيات: الاعتقال/ الاحتلال، الجرأة/ القيد، فيرتكز النص على ثنائية رؤية/ رؤيا بجمل قصيرة رشيقة، تتوالى بإيقاع سريع.
تثير القصة القصيرة جداً ثقافة السؤال؛ لأنها تمثّل أدب الرؤيا، فلا تقول، بل تومئ، وتترك مساحات صمت، وفراغات تحفّز على التأويل، وتستطيع أن تلتقط ما لا تستطيع الأشكال السردية الطويلة التقاطه. ومساحة الرؤيا فيها واسعة؛ لأنها تحمل الهموم الإنسانية والوطنية والقومية، وتعبّر عن رؤى فلسفية متنوعة، وتثير أسئلة تحمل مغزى أعمق من الجواب، وتتحدى ذكاء المتلقي الذي يؤوّل النص على وفق مرجعيته الثقافية.
يقول حسن برطال: "أجرت إحدى المؤسسات التجارية مباراة لتوظيف "امرأة كاتبة" ففازت "آلة" كاتبة من بين عشرين ألف مرشّحة"15
ثمة سياق تقابلي بين المرأة والآلة، لهما الصفة نفسها، والفعل نفسه، وهو الكتابة، وكلاهما آلة، وتحمل هذه الثنائية الرؤية والرؤيا، فثمة حديث عن تشييء المرأة، وتحويلها إلى آلة، وثمة استشراف، فالفوز للآلة، لا للإنسان، فقد بحثت المؤسسة عن المرأة الآلة، لا المرأة الكاتبة.
-ثنائية شعرية/ سردية
القصة القصيرة جداً نص سردي، لكنه حافل بعناصر الشعرية كالإضمار، والحذف، والفراغات، ولغة المفارقة التي تربك المتلقي، وتزيد شعرية النص. يقول عبد الله المتقي: في نص "السكوت من ذهب": "لكي يصبح الرجل ثرياً .. قرّر أن يصمت إلى الأبد"16
يستعمل الكاتب الخيال؛ لإيضاح المبهم، فاكتفى بالحدث البارز، واستغنى عن الشذرات القصصية المتمّمة، وفي هذا التكثيف إيحاء شديد، وهو أبرز ملامح الشعرية.
القصة القصيرة جداً نصّ حافل بعناصر الشعرية، فكلماتها قليلة، وزمانها مقنّن، ومكانها محدّد، وبناؤها المعماري يحيل على البناء الشعري، أو الهندسة البصرية، أما تركيبتها الحكائية فتحيل على السرد، وتركيبتها الدلالية تحيل على الصورة الوامضة. كما تستوعب مجموعة من الأنواع الأدبية وغير الأدبية، وتنفتح على اللقطة السينمائية، والنادرة، والخاطرة، والصورة التشكيلية، والمحكيّ الدرامي.
يقول عبد الله المتقي في نصّ "أرق:
"علّق معطفه على المشجب
خلع قبعته
ولبس منامته
تحت الفراش
شعرت المنامة بالدفء
احمرّت عيناها و.. نامت
فيما ظلت عيناه جاحظتين في ظلام كفيف"17
ثمة سبع جمل مقتضبة ملأت بياض السطور، فقد اكتفى بالعناصر الأساسية للجملة من غير متممات، وثمة تكثيف مجازي، وتصوير لحال الأرق. وتتحكم في العودة إلى السطر في النص السابق مقتضيات لها أبعاد دلالية، فيكتفي بجملة مقتضبة، ثم يبدأ بجملة أخرى في السطر التالي، فيوزّع الجمل في الفضاء النصي على وفق توزيع شعري، وللجمل تأويلات متعددة، فهنالك خرق دائم لقواعد اللغة المعيارية؛ لأن الدلالات مشبعة بطاقة البث الإيحائي.
وتتقابل الغنائية والدرامية في القصة القصيرة جداً، الغنائية التي تشد النص إلى عالم الشعرية، والدرامية التي تشدّه إلى عالم السردية، فيعلو في الغنائية صوت البوح الوجداني، والمناجاة، والتداعيات، وثمة درامية في الحدث، والذروة، والحوار الدرامي، وثمة ثنائية ضدية بين اللغة المعيارية، والإيحائية، وهيمنة للبعد الاستعاري في الكتابة، فبالهندسة البصرية يتحول النص إلى ما يشبه قصيدة الومضة.
يقول يوسف حطيني: "أصدر فرماناً يمنع استنبات الورود، وذات ليلة أفاق مذعوراً حين رأى ياسمينة بيضاء تتسلق أحلامه"18
إنه نصّ مفتوح على التأويل، تظهر فيه جملة ثنائيات: الهزيمة/ الانتصار، الواقع/ الحلم، القيد/ الحرية. إنه تعبير عن الجنوح الحثيث إلى الحرية بلغة شعرية عالية التكثيف والإيحاء، فقد ركز على ثنائية محورية هي: قوة الضعفاء/ ضعف الأقوياء.
وفي نص آخر لشيمة الشمري تعلو طاقة الإيحاء، تقول: "يلبس القمر السواد حزناً على سقوط نجمة استثنائية"19
إنها نقمة وسخط على الواقع الحالي؛ إذ تظهر ثنائية الفرح والحزن، فلا تقصد الخسوف الطبيعي، بل تعبر عن حال حزينة قلقة من التغير إلى الأسوأ، وتحوّل الشعور من الفرح إلى الحزن.
ويأتي البياض في القصة القصيرة جداً ليزيد من شعريتها، فالبياض صمت، يقدّم كلاماً في هيئة صامتة، فالصمت جزء لا ينفصل عن الكلام.
ويترك الكاتب فراغات، ونقاطاً في نصّه، فيغدو بذلك نصاً داخل نص، ينتظر من المتلقي ملأ الفراغات، وتكوين أفق توقّع، لكنّ القفلة تخيب أفق توقعه هذا، فللبياض، والنقاط علاقة بالسواد، وهي علاقة ضدية؛ إذ يضحي البياض نصاً موازياً يولّد معنى، يشدّ النص إلى دائرة الصمت، وهي دائرة الشعرية، فهذه النقاط إعلان عن التفاعل بين الصمت والكلام، تفاعل المقروء والبصري، الصمت كلام، والغاية من النقاط إلغاء الحدود بين المنطوق وغير المنطوق، ودعوة القارئ ليشارك في ضبط بنية النص، فالصمت متعلق برؤيا المبدع؛ إذ يختار أشد الكلمات توهجاً.
يقول حسن برطال في النص رقم 6: "تزوج بالوزارة الأولى .. ثم ما طاب له من الوزارات مثنى وثلاث ورباع .. ولما خاف أن يعدل فرصاصة واحدة أراحته واستراح"20
ثمة تناصّ قرآني، وتماثل في حالتي العدل وعدم الإنصاف، فالحال واحدة في تعدد الزوجات، وتعدد الوزارات، ولا بد أن تميل الكفة لصالح طرف على حساب طرف آخر من غير أن يكون المرء قادراً على الإنصاف، فلا توزَّع المشاعر. إن ثمة حال فوضى استوجبت حلاً، وكان الحل باقترافه جريمة في حق نفسه، وهو قتل مجازي لمفهوم تجميع السلطة في يد واحدة، وهذه بلاغة تتعدى المفهوم الضيق للكلمات.
وجدلية البياض والسواد أمر يدخل في استراتيجية الكاتب، وهذه النقاط جزء من شعرية النص، فتتحدى النقاط المتلقي؛ لأنها تقوم على الغياب، فيتولد نصّ مواز، ولا تولد القصة القصيرة جداً مكتملة، وتكتمل بفعل القراءة.
-ثنائية الاقتصاد اللغوي/ العمق المعنوي
النص الأدبي نصّ منفتح على التأويل، وتتمتع القصة القصيرة جداً بقدرة أكبر على التأويل نتيجة الاقتصاد اللغوي، والعمق المعنوي، وجنوحها إلى الترميز. تقول الكاتبة شيمة الشمري في نص "انقلاب": "شهرزاد لم تصمت هذه المرة عند صياح الديك
بل استمرت في الكلام المباح .. واللا مباح..
امتدّ لسانها واستطال حتى التفّ حول عنق الديك!!
وامتد حتى جلد السيّاف..
شهريار نام ملتحفاً رعبه..
شهرزاد استمرت في الكلام .. والكلام .. والكلام .."21
تتحدث القاصّة عن ثورة شهرزاد في وجه شهريار والمجتمع الذي قهر الانوثة المغلوب على أمرها، وشرع بقتلها، فشهريار والجلاد والسياف طرف ثنائية لكن شهرزاد تثور ثورة الأنوثة في وجه الذكورة المستبدّة. فثمة ثنائيات: شهرزاد/ شهريار، شهرزاد/ الديك، شهرزاد/ السياف، المرأة/ الرجل، المرأة/ المجتمع، الظلم/ الحرية، الكلام المباح/ الكلام غير المباح.
وفي اقتصاد لغوي وعمق معنوي واضحين تقول في نص "عزم": "عندما زجّوا بي في القفص مع رفقاء التحليق .. لم أشغل نفسي إلا برسم جناحين بلون الحرية .. وبوابة باتجاه السماء..!"22
إنه تعبير عن ثنائية الحلم وإجهاضه، القيد والحرية، الحلم والواقع، الأرض والسماء. ويمكن أن ننظر إلى الفراغات النصية على أنها عملية لا تحديد مقابل تحديد المعنى في الجزء المكتوب. فاللا تحديد مولّد للدلالة.
وتقوم القصة القصيرة جداً على صورة وامضة تولّد في ذهن المتلقي فائض معنى يُدرَك بالتأويل، فيعيد تشكيل الواقع على وفق رؤيته ورؤياه. وتغدو اللغة أيقونية، تولّد دهشة؛ لوجود فائض المعنى. وثمة فرق بين المعنى الذي ينقله الخطاب، والمعنى المتشكّل في ذهن المتلقي، فالقارئ منتج آخر للنص الأدبي، يغني النص بقراءته، وفي كل نص أدبي مستويان: مستوى يلاحظه القارئ العادي، وهو المعنى، وآخر يحتاج إلى تأويل، وهو فائض المعنى.
يقول عشي الجيلالي في نص "هواء العالم": "أحس بالاختناق. تمنى لو كان يملك كل هواء العالم ليملأ به رئتيه. حققت أمنيته قصة قصيرة جداً لم يكن يعلم أنها تطوي كل ذلك الهواء. فعب منه ما يشاء بغير حساب، لكنه انفجر إلى أشلاء متناثرة غاية في الصغر"23
لقد تشظّت الذات الإنسانية، وتردد الصدى في كلّ مكان، وكان للفعل "انفجر" الأثر في الوصول إلى المعنى المفتوح في النص، فلا تحديد للمعنى، ويمكن اكتشافه من دلالة الفعل انفجر. وثمة تقابل ضدي بين الرغبة وتحقيقها، والهواء الحامل الأوكسجين، والهواء القاتل. لقد عبّ من ذلك الهواء ما استطاع، وتمكن من تحقيق حلمه، فقد وجد هواء العالم في قصة قصيرة جداً، عبّ منها ما شاء، ربما حين تلقاها، أو كتبها، فحدث التشظي، وتصدر هذه الجملة عن موقف فلسفي عميق تجاه الكون، وتشظي الذات الإنسانية، وربما اختار القصة القصيرة جداً؛ لإيمانه أنها النوع الأدبي القادر على حمل الدلالات المفتوحة في نصّ مقيّد، وعلى تجسيد هموم المجتمع بالتواري خلف الاقتصاد اللغوي. فالانفجار صورة للواقع المأسوي الذي يشهده واقعه، ولفقدان الحرية التي تحدث عنها بالهواء. فالانفجار سمة زمنه، وواقعه، وحمل البعد العجائبي قدرة على التعبير عن هموم الواقع؛ لذا يمكن أن نقول عن الخطاب العجائبي واقعي بطريقته.
سوريا- حمص- جامعة البعث
الإحالات
1-يُذكر أن همنغواي كتب هذه القصة القصيرة جداً عام 1947م في أحد لقاءاته مع أصدقائه، فقد دخل في رهان معهم على كتابة قصة لا تتجاوز ست كلمات، وهي:
For sage: baby shoes, never worn""
والقصة مع الخبر المتعلق بها موجودان على الرابط:
http://etrethecow.hcibooks.com/2011/...ds-never-said/
وقد كتب المقال شون كينيف" Sean Kenniff" ويشكك موقع:
The “Urban Legends Reference Page,” Snopes.com في صحة ريادة همنغواي، ويرى أن أول ظهور لهذا النوع من الكتابة كان في صحيفة Tucson عام 1947
ويقال إن إدغار آلان بو E. A. Poe أول من كتب قصة قصيرة جداً، وبعد ثلاثة عقود كتبت الكاتبة الفرنسية نتالي ساروتNathalie Sarraute قصة قصيرة جداً وكانت أول من أطلق عليها هذه التسمية.
انظر: أمجد نجم الزيدي: 2002، توازن البناء السردي في القصة القصيرة جداً، مجموعة صور ونبضات للقاص فاهم وارد العفريت أنموذجاً، مجلة كتابات، دائرة الإعلام العراقي.
2- جمع الباحث نبيل المجلي خصائص القصة القصيرة جداً في أرجوزة:
كتبها الأوائل الكبارُ |
|
وليس يدري من هو المغوارُ |
قد ميزتها خمسةُ الأركانِ |
|
حكايةٌ غنية ُ المعاني |
وبعدها يلزمها التكثيفُ |
|
ووحدةٌ يحفظها حصيفُ |
واشترط الناسُ لها المفارقة |
|
وأن تكونَ للحدودِ فارقة |
وجملةٌ فعليةٌ بها كمل |
|
بناؤها وحقّه أن يكتمل |
انظر: يوسف حطيني: 2004، القصة القصيرة جداً بين النظرية والتطبيق، ط1، مطبعة اليازجي، دمشق، ص41
3-حسن برطال: 2006، أبراج- قصص قصيرة جداً، منشورات وزارة الثقافة، المغرب، سلسلة الكتاب الأول، رقم 46، ص23
4-للتوسع في دراسة وظائف العنوان ينظر: عبد القادر رحيم: 2010، علم العنونة، ط1، دار التكوين، دمشق، ص41
5-حسين المناصرة: 2009، زرقاء اليمامة والتنفس حلماً، قصص قصيرة، ط1، دار فضاءات، عمان، ص156
6-شيمة الشمري: 2014، عرافة المساء، ط1، مؤسسة الانتشار العربي، بيروت، ص85
7-ميلاد ديب: 2006، الحدقة، ط1، طبعة خاصة، حمص، سوريا، ص72
8-أحمد جاسم الحسين، سور تشخيص، موقع القصة العربية، 17/1/2003
9-مصطفى لغتيري: 2013، زخات حارقة، قصص قصيرة جداً، ط1، ص26
10-زكريا تامر: 2000، الحصرم- قصص، رياض الريس للكتب والنشر، بيروت، ص105
11-أبراج، ص31
12-مصطفى لغتيري: 2008، تسونامي، ط1، دار أجراس، الدار البيضاء، ص23
13-يوسف حطيني: 2001، مجموعة ذماء، ط1، مطبعة اليازجي، دمشق، ص13 وفي نص آخر بعنوان "عصفور" يحمل رؤيا تشاؤمية لحال فلسطين والعرب يقول: "أخرجوه من القفص، ولكنه عاد إليه بعد أن رأى نفسه مضطراً إلى استخدام مجهره للبحث عن سماء يقال إنها تمتد من المحيط إلى الخليج"
14-المصدر السابق، ص10
15-أبراج، ص48
16-عبد الله المتقي: 2011، مطعم هالة "قصص قصيرة جداً"، ط1، منشورات اتحاد كتاب المغرب، الرباط، ص29
17-المصدر السابق، ص54
18-مجموعة ذماء، ص19
19-عرّافة المساء، ص149
20-أبراج، ص74
21-عرافة المساء، ص51
22-المصدر السابق، ص27
23-عشي الجيلالي: 2009، عصا موسى، قصص، شركة مطابع الأنوار المغاربية، ص83