(1) تقنية التوازي:

إن تقنية التوازي من التقنيات الشعرية البارزة التي دخلت مضمار القصيدة الحداثية، بوصفها قيمة جمالية تحقق للقصيدة توازنها، وتكاملها الفني، وقد أدرك بعض النقاد أهمية التوازي في النص الشعري بما له من دور بارز في تحقيق انسجام النص وتوازنه فنياً، وبهذا المنحى تقول الناقدة خلود ترماميني "يعد التوازي من أعمق أسس الفاعلية الفكرية في الشعر؛ فهو شكل من التنظيم النحوي، ويتمثل في تقسيم البنية اللغوية للجمل الشعرية إلى عناصر متشابهة في الطول والنغمة. فالنص - بكليته- يتوزع في عناصر وأجزاء تربط فيما بينها من خلال التناسب بين المقاطع الشعرية، التي تتضمن جملاً متوازية. وهاهنا، تحقق التماثلات النحوية أنساق التوازي في الشعر، ومن ثم توجه حركة الإيقاع في النص الشعري"(1).

ووفق هذا التصور، فالتوازي قيمة جمالية لا غنى عنها في تحقيق الشعرية؛ إذا ما استطاع الشاعر أن يربط الأنساق المتوازية، بوظائف أخرى تتعلق بالدلالة، وليس فقط الإيقاع والتوازن الصوتي وغيرها من أشكال التوازي. وقد استخدم الناقد (مايكل ريفاتير) مصطلح (التعادل) بديلاً عن (التوازي) في أثناء تعريفه للخطاب الشعري قائلاً: "الخطاب الشعري هو التعادل الفني القائم بين كلمة ونص، أو بين نص ونص آخر"(2). أي هو التعادل الذي تنتجه الأنساق الشعرية في أثناء ربطها وانسجامها مع بعضها البعض في النص الشعري، وبقدر ماتحقق توازنها الفني وانسجامها الإيقاعي؛ وعلى هذا الأساس:" تتجلى خصيصة (التوازي) من خلال نظام التماثلات النحوية التي تكسب النص الشعري انسجامه وتنوعه الفني في آن معاً"(3). وتأتي هذه الظاهرة ذات قيمة دلالية وجمالية تسهم في إثارة المتلقي؛ وتحفيزه ليلتقطها جمالياً، بما يحققه من توازن فني بين الأنساق ليصل إلى أعلى درجات التآلف والانسجام، كما في المقتطف الشعري التالي لجوزف حرب:

"ليس في وسعي

سوى أن أشكركْ

أنا لم أعدْ أسمعُ كلاماً

هو أجملُ

غير أني ضقتُ ذرعاً بالذي أسمعهُ

أنك والله ستفعلْ

وستفعلْ

وستفعلْ

ولأجلي

ولأجلي ستقاوم

سوف تقتل

والذي وتدَّ هذي الأرض لن

تتركني في الحرب أعزلْ

وغداً سوف إلينا تتسللْ

ليس  في وسعي

سوى أن أشكرك

أنا لم أعدْ أسمعُ كلاماً

هو أنعمُ

هو أجمل"(4).

هنا، يؤدي (التوازي)- في القصيدة السابقة- دوراً محورياً مهماً في تحفيز رؤيتها الشعرية، لاسيما عندما أتى منتظماً ذي نسق مطرد متوازن، يكشف عن الترسيمة الشعورية الدقيقة، متمنياً ثبات موقف الحبيبة كذلك، وهذا التوازي أدى إلى خلق حركة متوازنة في القصيدة، ساهمت في إبراز الموقف الشعوري، وتعزيزه؛ وهنا، تلاحمت الجمل في إبراز مشاعر الشاعر المتدفقة وتثبيتها، وهذا دليل أن التوازي يحقق للنسق الشعري حركته المتوازنة وإيقاعه المحكم.

وبتدقيقنا- في لغة الحداثة الشعرية – نجد أن التوازي اتخذ في القصائد الحداثية أشكالاً مختلفة منها:

(2) التوازي النسقي:
ونقصد بـ(التوازي النسقي): تواتر الأنساق اللغوية على صيغ جملية متماثلة، أو متساوية سواء أكانت هذه الأنساق مكررة أم لا، المهم أن يثير التوازي دلالات ورؤى جديدة؛ تنعكس على مسارها الإبداعي. محققة وظيفة فنية ما ترتبط بالرؤية الشعرية التي تبثها القصيدة. وبتقديرنا: إن التوازي النسقي – عند شعراء الحداثة المعاصرين- لا يقف حيال اللفظة أو الجملة؛ وإنما يمتد ليشمل القصيدة كلها؛ وذلك عندما يريد الشاعر الضغط على حالة مأزومة أو مؤلمة، فيضغط على صيغة واحدة أشبه ما تكون بمتوالية نسقية متتابعة تستمر حتى نهاية القصيدة، وللتدليل على ذلك نأخذ المقطع الشعري التالي لمحمد وحيد علي:

"سلامٌ على روحها الشاعرة

سلامٌ على زهرة الضوء في صوتها

وعلى رنة الطير في قلبها المتلبس بالحب والجلنار

ودمعٍ حبيسٍ

تصاعد من شهقةٍ لؤلؤا

ومشى في الفيافي المضيئة نهراً وأعشبْ

سلامٌ على أربعينَ صباحاً وكوكبْ

وشمس تحط عصافيرها في يديها لتحيا وتشرب"(5).

بهذه الأنساق المتتابعة من الجمل المتوازية تؤكد القصيدة فاعليتها في تعزيز الدلالة، وتحقيق شعريتها (صوتاً ودلالة)؛ ودليلنا: أن كل نسق لغوي يتوازى مع النسق الآخر؛ لتشكيل صورة أو لمحة جمالية تشي بإحساسه المفعم صبابة إزاء الحبيبة؛ وهذا ما جعل الأنساق المتوازية موحدة الإيقاع، متناسبة المعنى، لخلق الوئام الفني، أو الاستشفاف الفني في توليد الاستثارة، وخلق الدهشة الصوتية المنغمة؛ ومن هذا المنطلق، استطاعت القصيدة أن تحرك رؤانا الداخلية، وتستثيرنا من أعماقنا، من خلال النمط النسقي المتوازن الذي أثارته الجمل المكررة في حركة توازنها، وتضافرها الفني، لتنطق بفاعلية النسق المتوازي وما يشي به من دلالات، وعلى هذا "تنبثق الدلالة من طبيعة التشكيل اللغوي بقدر ما ينبثق التشكيل اللغوي من طبيعة الدلالة التي يريد الشاعر إيصالها بإسقاط نبضه على لغته التعبيرية؛ لتنطق بالصلة الوشيجة بين التشكيل اللغوي والدلالة الشعرية"(6).

وقد يأتي التوازي النسقي – عند شعراء الحداثة- شكلاً لغوياً منتظماً، ذا فاعلية قصوى في التدليل على تماثله النحوي من خلال تعادل الأنساق، وتوازيها صوتاً ودلالة، على شاكلة المقطع الشعري التالي لياسين الأيوبي:

وامجدها القفزات تسبحُ في الأثيرْ!!

راغداتُ عمر .. نفحاتُ عطرْ.. ومضاتُ لثمٍ مستثيرْ

وامجدها الأرضُ الغوايةُ تحت وقع أرجواني يهتز!

والمجدُ أكبرُ للنواظر تجتلي الألق المثير!"(7).

هنا، تتوازى الأنساق الشعرية- في المقطع الأول- في التدليل على انتظامه النسقي، وتماثلاته النحوية المتوازية: [عمر= عطرٍ]، و[الأثير= المثير] و[ومضات= نفحات] و[بهير= المثير]؛ وهذا التوازي لم يقف حيال الانتظام، والتنسيق الصوتي؛ وإنما امتد ليرسم إيقاعه الروحي الخصيب، بتناغم صوتي، نستشف من خلال نصوص الشاعر مدى حبه ونفحاته الروحية السامية التي يجتلي منها ما يجتلي من آيات الحسن ومعانيها الشيء الكثير بمناجاة صوفية عميقة تشف صبابة، وولهاً، وعشقاً؛ والملاحظ في الأنساق الشعرية المتساوية تساوق حركتها مع ما يمور في داخل الشاعر من رغبات وأحاسيس تدفعه للبوح عنها، مشدوهاً بوقع الحالة، وما تعتريه من لذة، وتوق للوصال. وهكذا، كشف التوازي النسقي عن الانسجام الإبداعي الخلاق بين طبيعة الدلالة المرتبطة بالتشكيل اللغوي، وجوهر الرؤية الصوفية في صميمها، لتحقيق التكامل، والتلاحم، والانسجام الفني المطلوب.

(3) التوازي المتتابع:
ونقصد بـ( التوازي النسقي المتتابع): التوازي اللغوي المتلاحق الذي يتبع بعضه بعضاً، بصيغ لغوية متماثلة، أو متعادلة نحوياً من خلال ضغط الشاعر على صيغ لغوية محددة، أو شكل لغوي معين، بقصد الإثارة الشعرية، أو التنفيس عن موقف شعوري ضاغط (مأزوم) أو إحساس داخلي اصطراعي مؤلم. ومن المقاطع الشعرية الدالة في هذا المقام المقطع الشعري التالي لنزيه أبو عفش:

"من أجل هذا أتيت يا سيدي

من أجل الأحلام أتيت

من أجل سعادة القلب التي تجعل الغريب يبكي

من أجل هذا أتيت

إلى هنا، حيث يمكن للإنسان دونما حياء أن يسجد للضعف، ويعبد الجمال

ويسكر برائحة عطف الإنسانْ

أكتب الرسائل، والأشعار .. وأقاوم الندم

ألعن الطغاة والضجر وأحابيل الحياة

وأحن إلى بلادٍ ضارية لا أتمنى حتى أن أموت فيها"(8).

هنا، يحقق النص الشعري السابق فاعليته على انتظام لغوي نسقي متوازن؛ وهذا التوازي وافق الأنساق اللغوية في تفرعاتها وتشعباتها الكثيرة ضمن النسق الشعري؛ فالشاعر يعاني من أسى وجودي عميق، إذ حاول الضغط على صيغة لغوية واحدة تشي بحجم هذا الضيق؛ وتدلل عليه؛ ولهذا، قام الشاعر – بتكرار الجمل المتوازية- بشكل تعاقبي- ارتداداً نفسياً عما يعيشه من هاجس وجودي قلق يسعى فيه إلى إحلال كل مظاهر الصفاء والود والجمال، ومحاربة كل أحابيل الخداع، والنفاق، والعشق، والضياع؛ وهذا ما أعلنه صراحة (وأحن إلى بلادٍ ضارية لا أتمنى حتى أن أموت فيها)؛ وما هذا الانسلاخ عن هذا الواقع الموبوء إلا دلالة على احتجاجه، ونزوعه الصارخ إلى تكريس الأنساق اللغوية المتتابعة المتوازية التي تشي بالدعوة إلى الفضيلة ضد كل مظاهر الرذيلة، والغش والخداع كلها؛ وقد اعتمد الشاعر نسقاً لغوياً موحداً تقريباً، لتثبيت رؤيته بشكلها اللغوي الثابت، والتدليل على شعوره المتوحد في إبراز جانب الخلاص من هذا الواقع الموبوء، وما فيه من مفاسد، وضغائن، وأحقاد تدمي القلب، وتحرق صبوته المشتعلة. وهكذا، تساوقت مشاعر الشاعر وأحاسيسه مع الأشكال النسقية المتوازية، في تعميق رفضه لهذا الواقع وانسلاخه عنه قولاً وفعلاً، وهذا ما نطقت به البلاغة الوشيجة بين الشكل اللغوي للقصيدة وما تفرزه من دلالات وإيحاءات في السياق الشعري. وقد يتخذ التوازي اللغوي (النسقي) المتتابع -شكل متواليات من الأنساق المتوازية التي تعتمد التكرار ركيزة في ربط الأنساق المتوازية، وتوليفها على شاكلة المقطع الشعري التالي لخالد أبو خالد:

"جسدٌ لكنعانيةٍ خرجت إلى بحرٍ ... فأدركها المساء قبيل أن تصل المراكبْ

جسدٌ لكنعانيةٍ .. كتبت أغانيها مبكرةً .. وأسرجتِ الفضاء

جسدٌ لكنعانيةٍ .. أفضتْ إلى سرِّ النحاسِ بأبجديتها .. وأولمتِ البكاءْ.

جسدٌ لكنعانيةٍ .. حملت بنفسجها .. وغادرتِ الفواجع.. للسواحلْ.. والمناحل"(9).

هنا، يبني الشاعر جمله السابقة على شكل متواليات من الأنساق المتوازية، لرصد مشاهد المرأة الفلسطينية بما يدلل على قوتها، وثباتها، وصمودها بكل ما تملكه من قوة، وإرادة وعزيمة، وثبات على الهوية والموقف معاً، مدللاً عليها بقوله: (جسدٌ لكنعانية)؛ وإن المدقق لسيرورة الأنساق في حركة تعاقبها وتتابعها يدرك أن الأنساق تظهر- بوضوح- نسقها اللغوي المتوازي الذي يشي بالثبات والمقاومة؛ وهذا يدلل على تساوق البنية التركيبية للأنساق مع الدلالة الراسخة التي أراد الشاعر إظهارها عبر الأنساق المتماثلة في الجمل المتوازية؛ مما يدل على شعرية بليغة في ربط الشكل اللغوي بالدلالة، وما تشي به من رؤى؛ مبعثها الأنساق اللغوية المنسجمة في حركة توازيها وتضافرها التشكيلي المركب.

(4) التوازي الصرفي:
ونقصد بـ(التوازي الصرفي): توازي الصيغ الصرفية في وزنها، وإيقاعها الذي تولده في النسق الشعري، لاسيما ذلك النسق الذي تدخل في تركيبه الأنساق الصوتية المتجانسة، مولدة نغماً مموسقاً ينبعث من صدى الكلمات من جهة، ونسقها التركيبي الذي يتضمنها من جهة ثانية؛ وغالباً ما يلجأ شعراء الحداثة إلى هذا النوع من التوازي؛ لتنغيم قصائدهم بأنغام متوازنة تشي بالتآلف، والتفاعل، والانسجام، وللتدليل على هذا التوازي نأخذ المقطع الشعري التالي لسميح القاسم:

" حبقُ الشرفةِ ذابل...

لك في ثغري حساسينُ

وفي صدري بساتينُ

وفي حضني أيائل..

لك في عينيَّ أشعارٌ وأقمارٌ

وفي كفيّ أسحارٌ

وفي رحمي أصائلْ

يا حبيبتي لك في شعري

سنابلْ.."(10)

هنا، تظهر الصيغ الصرفية للكلمات- في المقطع الشعري- توازياً صرفياً تغلغل في الأنساق الشعرية السابقة، محققاُ درجة قصوى من التآلف، والتناغم الصوتي على مستوى الكلمات من جهة، والأنساق الشعرية المتضمنة فيها من جهة ثانية؛ كما في المتوازيات التالية: [حساسين = بساتين] و[أيائل = أصائل = سنابل] و[أشعار = أقمار]؛ وقد أتى التوازي موقعاً صوتياً، بما يخدم الصيغة التركيبية للأنساق، محققاً توازنها الصوتي، وتناغمها الإيقاعي في التعبير عن التوق العاطفي بكل زخمه الشعوري وحراكه النفسي؛ فالشاعر يعيش حالة من الاحتراق العاطفي، يريد أن يقدم للحبيبة كل صور الجمال المغرية عسى ولعلها تعود إليه بعدما فارقته، ولم يعد في مقدوره رؤيتها؛ ولذلك، اختار الصيغ المتوازية لتشي بجمالية الصور الموقعة صوتاً ودلالة هذا من جهه، وإثارة ما في داخلها إليه ، لعلها تعود إليه من جهة ثانية، وهكذا، استطاع الشاعر عبر توازي الصيغ رسم الحالة الشعورية وإحساسها الموقع ،لتأكيد حبه الجارف  الذي لا يمحي أو يزول.

والملاحظ أن فاعلية (التوازي الصرفي) تزداد عندما تقع هذه الموازاة في بنية القوافي، ولهذا، فإن الكثير من شعراء الحداثة اعتمدوا هذه التقنية في موسقة قوافيهم الخارجية والداخلية، محققة التناغم، والتضافر، والانسجام في حركتها النصية، لتزيد القصيدة جمالاً وإحكاماً إيقاعياً مموسقاً على شاكلة المقطع الشعري التالي لسعاد الصباح:

"أنا وحدي أتردى في متاهات الطريقْ

أثقلتني قسوة الأيام بالقيد العتيق

ورمتني وسط أتونٍ من النار سحيق

ثم ألقت بي إلى بحرٍ من اليأس عميق

وأقاسي نهم الضدين: بحرٌ وحريقْ

في وجودٍ ليس لي في جوه الباكي صديقْ

والظلامُ العابسُ الوجه بآمالي محيقْ

ونجومُ الليل سوداء امَّحى منها البريقْ"(11).

هنا، لجأت الشاعرة – في المقطع الشعري السابق- إلى تقنية (التوازي الصرفي)، لإبراز الكثير من الضغوطات النفسية التي تعاني منها الشاعرة بإيقاعها المنتظم الجهم. ولو تأملنا البعد النفسي لهذه المتوازيات لأدركنا أن دائرة اليأس والوحشة والقتامة تغلف إيقاعها الصرفي المتتابع: [عتيق- سحيق- عميق- حريق- صديق- محيق- بريق]؛ وهذا التوازي زاد من وقع  الحالة اليائسة الجاثمة على صدرها؛ وعمَّق من عذاباتها الروحية، واصطراعاتها النفسية المأزومة؛ فمع كل نسق لغوي متوازن وخزة من الأسى والحزن والوحشة تعتصر قلبها وتدميه، لأنها وحيدة ليس لها من أنيس أو وليف، أو صديق يسامر روحها، ويؤنسها في هذا الخواء الروحي المظلم، والانكسار الداخلي العميق، الذي امتد صداه ورجعه الحزين إلى نهاية الأبيات. وعلى هذا الأساس، تمكنت الشاعرة من خلال تقنية (التوازي الصرفي) من إبراز الكثير من مشاعرها الداخلية عبر التناغم الآسر بين الشكل اللغوي للأنساق والدلالة الصوتية والمعنوية عليها؛ مما زاد من أثر هذه التقنية في إنتاج الدلالة، وتوصيلها للقارئ بوقعها الجارح، وصداها النفسي والشعوري الحزين.

(5) التوازي الصوتي المنغم:
ونقصد بـ(التوازي الصوتي): توازي الأنساق اللغوية في الأصوات، والصيغ الصرفية، موازاة فاعلة في تجسيد النغم، وإبراز النسق التركيبي موقعاً صوتاً ودلالة؛ ولعل أبرز ما يثيره هذا التوازي هو تحقيق التناغم وأواصر التفاعل بين الأنساق، بغية تعميق الحدث، وإبراز شعرية الصورة، وتخليق نغمها المتواشج مع بنية الكلمة صوتاً ودلالة. وقد لجأ الكثير من شعراء الحداثة إلى هذه التقنية؛ بوصفها مولداً نغمياً للأنساق الشعرية في تخليق إيقاعها النغمي العجيب، كما في المقطع الشعري التالي لسعدي يوسف:

"كزهرةٍ في الرمل .. أنت كالفرحْ

في موطني الصامت .. يا هادئة العيونْ

الكل في الدروب .. يرقصون في المطر الناعمٍ .. في المرحْ

إلا أنت يا ناعمة العيونْ

 الكل يرقصونْ

وحين أجبت كالذاهل: من بغداد .. ضحكت في صمت

وكان الأصدقاء يرقصون .. والكل يرقصون"(12).

إن الشاعر، هنا، رسم مشهداً عاطفياً متحركاً؛ وهذا المشهد بوصفه مشهداً راقصاً متحركاً استخدم الشاعر في تجسيده تقنية ملائمة له- فنياً- تسهم في إبراز حراك هذا المشهد، وتخليق نغماته السريعة، معتمداً تقنية (التوازي الصوتي) في تحريك هذا النغم،عبر التوازي القائم في الصيغ والأصوات المتجانسة التالية: [العيون = يرقصون] و[الفرح= المرح] و[هادئة العيون = ناعمة العيون]، والملاحظ أن الشاعر باعتماد تقنية (التوازي الصوتي المنغم) استطاع أن يعمق شعرية المشهد، ويرسم ملامحه الداخلية، ومنعرجاته الشعورية المتساوقة مع حركة الكلمات وتجانسها الصوتي في التعبير عن صبابته، وولهه بفتاته التي زادته عشقاً، وخفة، وجمالاً. ولعل تكريس الشاعر الأصوات المتجانسة قد فرض على القصيدة مساراً إيقاعياً منسجماً، زاد من وقع الحالة، وإحساسها، وصداها الشاعري المؤثر. وقد نلحظ  جمالية التوازي الصوتي المنغم ما ثلة في المقاطع التصويرية المؤثرة التي يحقق الشاعر فيها دهشة في الصورة، ونغمة آسرة في الإيقاع، كما في المقطع الشعري التالي لأمل دنقل:

"عيناكِ: لحظتا شروقْ

أرشفُ قهوتي الصباحية من بنهما المحروق

وأقرأ الطالعْ

في سكونِ المغربِ الوادعْ

عيناك: يا حبيبتي، شجيرتا برقوقْ

تجلسُ في ظلهما الشمسُ، وترفو ثوبها المفتوقْ

عن فخذها الناصعْ!"(13).

هنا، يلحظ القارئ تواشج المتوازيات في حركتها وإيقاعها مع بنية الصور، فتبدو الصور موقعة (صوتاً ودلالة) بإيقاعين متلاحمين: دلالي مكثف، وصوتي منغم؛ [شروق= محروق]، و[الطالع= الوادع= الناصع]، و[برقوق= المفتوق]؛ وهذا دليل أن البنية التركيبية للأنساق السابقة بنى متوازية في إيقاعها الصوتي، محققة شعريتها، بتضافر البنيتين معاً (الصوتية/ والدلالية) في تعميق الموقف، وإبراز شعرية الصورة، ودهشتها النغمية الموقعة.

(6) التوازي البصري:
ونقصد بـ(التوازي البصري): التوازي الذي تخلقه المقاطع الشعرية فيما بينها، من بياض على الصفحة الشعرية، بما يحقق للقصيدة بلاغتها البصرية والدلالية معاً. وقد اهتم شعراء الحداثة بتقنية (التوازي البصري) لما لها من منعكسات دلالية على النص الشعري؛ ويعد جوزف حرب من الشعراء البارزين الذين اعتنوا بتقنية (التوازي البصري) في تفعيل قصائدهم، وتنشيط دلالاتها، كما في قصيدته (نم قليلاً):

"نم قليلاً، أيها الحبرُ، ويا أيتها

الأوراقُ لا أدري بماذا يتغطى عندما يبردُ

في الليل الرخامُ؟!!

نمْ قليلاُ، وتغطي، فأنا مثلكما

فتتني البردُ، وحزني 

لا ينامْ.

نم قليلاً، وتغطي لاتلوماني

إذا جاءتني الرؤيا،

وما جاءَ الكلامْ"(14).

هنا، يعمد الشاعر- في المقطع الشعري السابق- إلى تحريك الرؤيا الشعرية، بوساطة التوازن البصري، محققاً درجة من التوازن البصري بين الشكل الكتابي ومساحات البياض التي تتخلل الأبيات؛ وهذا التوازي لم يقف حد التناظر بين الأسطر الشعرية، وإنما ساهم في إنتاج الدلالة؛ فالشاعر يعاني من أرق، وحزن، وبرد شديد؛ وهذا البرد ليس سببه الأرق وحده، أو الحزن والبرد وحدهما؛ وإنما سببه سيطرة المحبوبة على عالمه، لدرجة غطت برؤياه آفاقه الوجودية، ولم يعد بمقدوره الكلام، وقد كشف التوازي البصري عن التطابق الخالص بين ما يخفيه من رؤى، وما يشي به في لحظة انكشاف الرؤية، وتوقف نهر الكلام. وهذا دليل أن التوازي البصري يعكس دلالات معينة في القصيدة، وليس تناظراً مجانياً لا شأن له. ذك أن الشاعر عندما يستخدمه يوجه أنظار المتلقي إلى بؤر الدلالة في القصيدة، مشيراً إلى مركز حركتها، وتناغمها الفني. وقد يسهم التوازي البصري- عند شعراء الحداثة- في تنشيط الإيقاعين (الصوتي/ الدلالي)؛ حين يرتبط بجوهر الرؤية التي ترتكز عليها القصيدة؛ محققاً لها تناغماً فنياً بين الإيقاعين (الصوتي / والدلالي)، عبر التوازي البصري الذي يرفد القصيدة، بالتآلف والانسجام على المستويات كلها. كما في المقطع الشعري التالي لنزار قباني:

"يجوزُ أن تكوني شفافةً كأدمع الربابة

رقيقةً كنجمةٍ

عميقةً كغابهْ

لكنني أشعرُ بالكآبة.. فالجنس في تصوري- حكايةُ انسجام..

كالنحتِ، كالتصويرِ، كالكتابهْ

وجسمكِ النقيِّ كالقشةِ والرخام

لا يحسنُ الكتابهْ"(15).

هنا، يلحظ القارئ التوازي الواضح بين إيقاعها البصري وإيقاعها الصوتي، وهذا التوازي رفع من درجة إثارة الصور إيقاعاً ودلالة؛ ولو تأمل القارئ موحيات هذا التوازي لأدرك أن أبعاد الأسطر في مدها البصري متوازية طولاً وقصراً هذا من جهة، ومتوازية  في الإيقاع الصوتي وتناغم قوافيها من جهة ثانية؛ وبهذا، حقق التوازي وظيفتين حيويتين استطاع أن يولدهما التوازي هما:

1. ساهم التوازي في تعميق دلالة الصورة، ورفع مستوى تناغمها الصوتي ضمن النسق: [أدمع الربابة= عميقة كغابة].

2. رفع التوازي من سوية وقع الصورة في نفس المتلقي، من حيث الوقوف على أصداء نغمية متوازية تشي بالتآلف والانسجام،كما ففي قوله:

[ كالنحت= كالتصوير= كالكتابة= لا يحسن الكتابة].

وتأسيساً على ما سبق نقول: إن التوازي البصري قد يكون عنصراً مؤثراً في القصيدة الحداثية، لدرجة أنه قد يكون ضرورة ملحة من ضروراتها الإبداعية، حين يتساوق مع الحالة الشعورية لدى الشاعر، تبعاً لامتداد النفس الشعري، أو انحساره ضمن القصيدة؛ فيكون التوازي نابعاً من حاجة داخلية، وليس فقط شكلاً بصرياً متوازياً، تركن إليه القصيدة في تشكيلها البصري على بياض الصفحة الشعرية.

 

الحواشي:

1. ترمانيني،خلود،2004- الإيقاع اللغوي في الشعر العربي الحديث، ص97.
2. ريفاتير،مايكل،1997- دلائليات الشعر،ص29.
3. ترمانيني، خلود،2004- الإيقاع اللغوي في الشعر العربي الحديث، ص97.
4. حرب، جوزف،2008- كلك عندي إلا أنت،ص327-329.
5. علي، محمد وحيد،2008- ضياء الحالم، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، ص122-123.
6. ترمانيني، خلود،2004- الإيقاع اللغوي في الشعر العربي الحديث، ص99.
7. الأيوبي،ياسين،1983- قصائد للزمن المهاجر، ص120.
8. أبو عفش،نزيه،2003- الأعمال الشعرية،ج2،ص353.
9. أبو خالد، خالد،2008- العوديسا الفلسطينية، الأفعال الشعرية،قصيدة(فرس لكنعان الفتى)، ج3،ص34-35.
10. القاسم،سميح،2004- الأعمال الشعرية الكاملة،ج3،؟ص223.
11. الصباح،سعاد،1992- أمنية،دار سعاد الصباح، الكويت،ط1،ص73-74.
12. يوسف، سعدي،1979- الأعمال الشعرية، ص534-535.
13. دنقل، أمل،1973- البكاء بين يدي زرقاء اليمامة،ص119.
14. حرب، جوزف،2008- كلك عندي إلا أنت،ص13.
15. قباني، نزار- الأعمال الشعرية الكاملة،ج1(قصائد متوحشة)،ص657-658.