تعاني الوحدة، وتتألم من الجوع، وتتلظي من الظمأ، وهو هناك في الغياب. يضغط بحضوره الزاعق، ويلهو في تيه اللاإحساس. تتلظي أعصابها، وتئن مشاعرها، فيخرج لحنا تتراقص علي أنغامه العصافير، وتغرد البلاب، ويشدو العندليب، تتراقص الخيالات، وتنطق الجمادات، وينبت للإنسان أجنحة تحلق في فضاء المتعة المشتهاه، ويستعذب الألم، فيرسل الأفكار إلي الحكايات الخلفية، والتي يظنها منسية، فيجد نفسه يسبح علي ظهر موجة، حنون دافئة، ليعيش مع تلك النسمات التي تبعثها دفقات "عزة بدر" في رحلة شفافة، هفهافة، ينسي فيها صخب الحياة وصدامات المعيش، وقلق الوجود، تحت عنوان مشحون بالأشجان والألحان، والحنين والأنين .... "موجة دافئة".
وعندما يقرر من يتعرض للمجموعة بالقراءة، لا بد سيقع في حيرة البداية، رغم تعدد العناوين والأقسام، فنحن أمام معزوفة موسيقية ممتدة، يعجز المرء في الإمساك بأولها، أو إدراك منتهاها، فهي من المجموعات القليلة التي يتخللها جو واحد وإحساس واحد، بل قد لا نبالغ إن قلنا أنها قصة واحدة تعزفها أكثر من ألة، فهنا نسمع أنين الناي، وهنا نسمع صوت الفيولينة، وهناك يتألم العود. غير أن آلات الإيقاع اختفي صوتها، فلا نكاد نسمعه، إلا علي دقات القلوب الواجفة المتلهفة.
فإذا ما تأملنا مقطوعة/قصة من المنتصف "حق الشتاء" من قسم "ثلاث قصص للمحبة"، والتي تكاد تكون أقصر مقطوعات المجموعة. وفيها سنتعرف علي معظم خصائص القص في المجموعة، من شاعرية اللغة، ورقة المشاعر، وأنسنة الجمادات، ورحابة الخيال، ورقة الأحاسيس.
سنتعرف علي سيدة كبيرة في السن، هاجمها المطر، فلجأت إلي إحدي المقاهي، وقد تناثرت حبات المطر علي ملابسها، حيث تحولت حبات المطر إلي نجوم ناصعة {ظل ظهري مرصعا بقطرات مطر كالنجوم} تضع شمسيتها التي تحولت إلي الحالة الإنسية{أعلق مظلتي في أكرة الباب حتي لا تضايق الداخلين والخارجين، رأسها إلي الأرض، ويدها معلقة مغلولة بعد أن دكت يدي مفاصلها ومراكبها وقلوعها إلي الداخل، انطوت علي نفسها، ومجت ماءها}.
من بين العاملين، تري أحدهم ، شاب عشريني، تطلب منه أن ينزع حبات المطر، أو حبات النجوم {أرجوك التقطها أنت... أنت مثل ابني} حتي يصل إلي ما علي سلسلة الظهر، فيتوقف عن العمل، فهنا حدوده. فيتلاشي الزمن عندها، يعاودها إحساس الأنثي { اضطرم وجهي وتوهجت مقلتاي}. لتؤنسن "عزة بدر" حبات المطر هي الأخري، فتجلسها علي المقعد المجاور، وتطلب النسكافيه، لها وللأنجم علي الكراسي المجاورة {سقيت الأنجم الخضر التي أمامي، والأنجم الشقر التي جلست إلي جانبي.. ترشفنا النسافيه.. ونحن نلتذ بصوت المطر في الخارج}. لتهتف النجمات الجالسات إلي جوارها، لأبيها المطر{أبانا .. تعال .. نحن هنا في صحبة هذه المرأة المبتردة.. أبانا .. أعطيت الشتاء حقه فاعط هذه المرأة حقها من البرق والسنا.. خلها ترتعد من فرط النشوة..} لتُستجاب دعوة الأنجم لأبيهم المطر.. فتشعر المرأة من جديد بالنشوة، ولتخرج من جديد إلي الشارع والمطر{سرت أغني والمطر يعاودني بين الحين والآخر فيلقي علي ظهري نجمة فألتفت فلا أجده} – الفتي العشريني – {اقترب مني عابث في الطريق، همس بكلمة عابثة ! خفق قلبي بشدة واضطرمت مشاعري: أغضيت ....كان من الواجب أن أغضب أو أصطنع الغضب علي الأقل، ولكني في أعماقي كنت أشكره، كان يقدم التحية الواجبة لامرأة وحيدة ، وضعت علي كفه نجمة من مطر ومضيت}. لتتجلي مشاعر الأنثي التي مضي بها الزمن. وتصورت أنه لم يعد بمقدورها الإحساس والحب والوحدة. الوحدة التي تستشعرها إحدي نجمات المطر التي ظلت وحيدة علي ظهرها، فتشعر بشعورها، بوحدتها، فتسأل أباها المطر، كما فعلت النجمات، ألا يتركها لوحدتها، وتتوحد هي مع النجمة الوحيدة، فكانها تسأل أبانا المطر ألا يتركها في وحدة الكبر، ونضوب المشاعر:
{أبانا المطر.. أعطيت الشتاء حقه فاعطها حقها من الرعدة والبرق والسنا.. أعطها ما تبتل به جوانحها حتي تصرخ شهوة وتنتفض شوقا .. أعطها كما أعطيت الشتاء حقه من البكاء والفرح}.
وقد كان اختيار حبات المطر تحديدا، رؤية ذكية وموفقة إلي حد كبير، إذ المطر هو ما ينزل علي الأرض الجرداء والصحاري القاحلة، فيُنبت فيها الحياة، وتخضر الأوراق، وتسري الحياة في العروق. وقد كانت المرأة، هنا، قد حولها الكبر إلي صحراء، ظنت أن عروقها قد جفت.
وإذا كان الحبيب قد غاب في "حق الشتاء" كما غاب في معظم معزوفات المقطوعة، فإنه يوجد في "البيضة والحجر" والتي يحمل عنوانها ذلك التناقض، أو التنافر، بما يعكس الرؤية في تلك القصة. وهو ما يحسب للكاتبة من حسن ودقة اختيار العناوين التي تعتبر بحق عتبة للعمل. وهنا تذهب العاشقة لتجد محبوبها يجلس مع أخري في ذات المكان الذي اعتاد مقابلتها هي فيه. فتتجلي دواخل الإنثي حينما يصبح عليها أن تتماسك، في الوقت الذي تفور فيه أعماقها، فتتخيل نفسها لاعبة في سيرك والأخري لاعبة في ذات السرك، بينما المحبوب هو مدرب السيرك، تلك اللعبة التي لا تحتمل أي خطأ، ففيه النهاية، بل عليها أن تتوافق مع الأخري في ذات الحركات، تجلس بعيدا والنيران مشتعلة في جوانيتها، إلا ان صرخة في النهاية تصدر منها، رغما عنها، وكأنها لم تعد تتحمل المزيد { غادرت خشبة جسدك خرجت من "الكمبوشة"، كسرتِ كل العبارات المألوفة، خرجتِ عن النص وانفلتت من شفتيك صرخة هائلة، فسرها الناس بأنها لوثة أصابتكِ بعد أن وضعك مدرب الأسود ليلا في قفص الليث الجائع}.
كما كان حضور المحبوب، أيضا مختلف في "بنت بحر" حيث لا يشعر بوجودها، إنه الصياد الذي لايبتسم، تصورت أن شبكته للصيد ليست بالقوة المطلوبة، لذا يتفلت إليها السمك الصغير.فكرت في مغافلته لإستبدال الشبكة كي تكون أكثر إحكاما. عهدت إلي أكثر من واحد كي يحيكوا لها شبكة ليس بها ثغرة ينفذ منها السمك الصغير { أما شبكتي فقد كانت مطرزة بالشوق، مطعمة بحبات المطر، مشبعة برائحة الأناناس، لها ملمس الخوخ، ورعشة المشمش، وطعم المانجو.. ستجعلني سمكته للأبد} وكأنها تزرع له الجنة الوارفة التي لن يغادرها. ولم تكن الشبكة للسمك، وإنما كانت الشبكة التي ستضعه هو ذاته فيها ليبقي أسيرها مدي الحياة، وليصبح هو السمكة، وهي الصياد {ألقيت عليه شبكتي ثم شبكتها حول جسده القوي بالدبابيس والمشابك والمكابح. كان يرتعش ويحاول أن يتملص.. ألقيت علي عينيه وغطيت علي بصره.. حملته علي ظهري وعدت إلي البحر}.
السخرية والرؤية الاجتماعية
إذا كانت أسباب تصحر الحياة المعاشة، عديدة، فإنه من بينها، إن لم يكن في بدايتها، تلك المعاناة التي يعانيها الإنسان، والمرأة بصفة خاصة، في طريق حياته، خاصة خارج البيت. وهو ما تعرضت له الكاتبة في عدد من قصص المجموعة، مثل "أغنية للمترو" التي تعزف فيها علي لغة الوقت الحالي، والذي أصبح من الأمور اليومية، سواء بالمترو، الذي يعتبر وسيلة الغالبية من الناس، أو لأن به، من المفترض، عربات خاصة بالنساء، الأمر الذي يركز علي هموم المرأة كذلك، وصولا للحوادث التي كادت تعتبر يومية أيضا في حياتنا في فترتنا الأخيرة وهي العبوات المفخخة.
تصعد صاحبتنا للمترو من محطة أذيع أو أشيع بأنه كان بها في الصباح عبوة مفخخة، الأمر الذي دفع الكثيرين للهروب من المترو، واستخدام وسائل أخري، فتقف صاحبتنا شبه وحيدة يتنازعها الخوف والترقب، وعلي لسانها أغنية الخوف واليأس "صباح ومسا..شي ما بينتسي تركت الحب .. وخدت الأسي".
وعلي الرغم من هذا الخوف وهذا الترقب، فإنها تتهكم، من خلو المترو من التزاحم، الذي يدفع ببعض النساء من إحضار كراسي لفقدهن الأمل في وجود كراسي يجلسن عليها،في انتقاد لغياب الدولة التي عليها توفير الحياة الكريمة للناس. وأيضا خلو المترو من الباعة الجائلين، والنماذج المتعددة من التسول، وبرؤية تهكمية نسمع أحدهم{ أنا أخرس وعليل، وأنتم لا تعلمون لغة الإشارة، شكرا للحكومة لأنها تهتم بلغة الإشارة الخاصة بنا فقط في نشرة الأخبار! فتشرح لنا المذيعة ما يجري في البلاد.. أحلم بأن تقول لنا يوما إنه يمكننا أن نتكلم وأن نسمع أو يمكنهم أن يفهموا صمتنا ..}، إلي جانب العديد مما يعانيه، أو تعانيه المرأة في تلك الوسيلة.
وفي طريق العودة. كان الناس لا يزالون خائفين، إلا أن السائق كان يقف في كل محطة وينزل للتأكد من خلو القضبان من الأكياس والرمل والأسمنت وأسلاك الكهرباء وقطع الزجاج والأجسام الغريبة المفخخة. إلي أن تمر المحطة.. ويبدأ التزاحم من جديد، لتغني صاحبتنا من جديد ودون خوف هذه المرة "لعل وعسي .. أترك الأسي ويرجع لي حبي .. صباح ومسا}.
إلا أن نبرة السخرية تتعالي، في ظل نقد الكثير من الأوضاع المجتمعية في قصة "صنعة لطافة". وحيث تستمر الكاتبة في لعبة التجسيد لكل ما ليس بإنسان{ترسل في طلبي فيأتي ظلك ليقول لي:.....}. وفي وسائل المواصلات، والتي تعتبر من أكثر الأمور مهانة للمرأة تحديدا، وما يحدث فيها من سخرية مرة{ركبت الميني باص وأسرع السائق وكاد يقفز من علي الكوبري، لولا ستر ربنا.. ساعتها كنت أتشهد علي روحي، وأدعو علي السائق بإشارة مرورية طويلة فنلتقط أنفاسنا ودمنا الهارب}{نزلت من الميني باص بعد أن طبلت راسي وزنت أذني من الأغاني التي سمعتها ...... هاتي بوسة يابت !...... الوسادة الخالية تعبت مني يا غالية}{لا يمكن أن أقول لك : رغم رعبي من السرعة الطائشة والاصطدام بالرصيف! والعناق الخفيف بين المني باص وأتوبيس النقل العام فإنني قد اندمجت كليا مع موسيقي التت..}وهكذا تتعدد صور ما يدعو للسخرية المريرة. لتعبر عن أحد أسباب جفاف الحياة، حياة المرأة التي هي المعنية الأولي في "موجة دافئة" والذي معه نعترف بأنه، رغم الرفض من البعض، فهناك أدب نسائي أو نسوي، ليس فقط لأن كاتبته أنثي، وليس فقط لأنها تتناول هموم المرأة، ولكن لأنها تدخل إلي أعماق المرأة وأحاسيسها التي لا يمكن أن يشعر بها الرجل، مهما حاول التعبير عنها. فجاءت "موجة دافئة" معبرة عن حياة المرأة داخليا بالولوج إلي أدق مشاعرها، والتي نصل من خلالها لإحتياجاتها البيولوجية، لتشكل في النهاية، وجودا إنسانيا، له طبيعته الخاصة، ومناطقه المحددة، التي لا يستطيع النفوذ إليها، إلا هي ذاتها. فضلا عن المطالبة الاجتماعية بالحرية والمساواة، التي تتولد لدي تراكم ذلك الإحساس الأنثوي بالأغلال التي تضعها (الأنثي) في الموقف الأضعف – انتظار من يتفضل بالحضور، ورؤية المحبوب مع الغير في الوقت الذي لاتملك فيه غير الحسرة والألم والخيال -.
وخارجيا، بما صنعته من لغة ناعمة، أشبه بالهدهدات وبنسيم عصاري الصيف. وهو ما يتماشي مع النظرة المحافظة لل(الجنس الناعم).
العنوان "موجة دافئة"
إلي جانب تلك الشحنات المنبعثة من العنوان، والتي تضع القارئ بين طرفي العام، حيث الموج يحيل للمصيف، أو الصيف، وحر الصيف، و"دافئة" تحيل للشتاء والبحث عن الدفئ. في تزاوج بين طرفي النقيض، وكأن عزة بدر تبحث عن التآخي والسلام. وهو ما عبرت عنه في المقدمة التي حملت اسم المجموعة، في أمنية إنسانية سامية:{أريد موجة دافئة لم يعرفها العالم منذ الأزل، موجة دافئة تقول : كفي بردا.. كفي لهبا .. كفي حروبا .. وكفي إرهابا نريد السلام موجة دافئة}. وكأنها تضع منهجا لمسيرتها عبر قصص المجموعة، في السعي نحو التواؤم، والبحث عن الانسجام النفسي ، ولكنها تضع ما يشبه خريطة المسيرة عبر المجموعة، حيث تتحدث عن المفردات التي كانت هي العنصر الرئيس في قصص المجموعة. مثل البحر "البحر ليس بملآن"، "بنت بحر". الشاي واللبن، العسل والسكر، السمكات، العنبر والمسك، الأمل والألم... إلخ.
إلا ان الإشكالية التي يثيرها المفتتح "موجة دافئة" هي مشكلة النوع الأدبي. حيث حملت قصص ( وأنا أتعمد هنا ذكر قصص، لا معزوفات) المجموعة الحركة في داخلها. بمعني أنه إذا أخذنا قصة "فراولة" علي سبيل المثال، لأنه من القصص غير الطويلة في المساحة الكتابية، فسنجد فيها تلك الحركة الداخلية. حيث فكرة عابرة جعلت بائع الفول الحراتي، أو الفول الأخضر، جعلته يضع فرولاية وحيدة فوق هرم الفول، وعندما اشترت واحدة منه الفول، منحها الفرولاية فوق البيعة. فرح الفول الأخضر وهمس للفرولاية، وفرحت الفرولاية وهمست لقرن الفول الأخضر، وفرحت المرأة وشكلت من الفول والفراولة، أو من الأخضر والأحمر، صنعت منه سلسلة، وسوار وخاتم عشق، وخطت بالفراولاية شفتيها،.إلي الدرجة التي توقف البيع، فقد انشغل الناس بما صنعت المرأة عن الشراء..فقد وجدنا فعل، وجدنا حركة. وإن كانت الحركة هنا مادية خارجية، فإنها كانت حركة داخلية، معنوية في القصة السابق الحديث عنها "البيضة والحجر" حيث بدأت بمحاولات العاشقة السابقة المحافظة علي اتزانها، مقتنعة بأنها لابد أن تعامل حبيبها السابق مع حبيبته الجديدة، بما يليق بأناس مهذبين، غير أن الثورة الداخلية ظلت تتصاعد، حتي صرخت في النهاية، وظن الناس من حولها أنه قد أصابها لوثة. وقد حافظت الكاتبة علي هذا الخط الدرامي، أو الحركة، وإن كانت الغالبية للحالة الثانية، الحركة الداخلية، في كل (قصص) المجموعة.
وعلي الرغم أن (المفتتح) "موجة دافئة" تم إدراجه في فهرست المجموعة، علي أنه إحدي قصصها. وكما جرت العادة كثيرا، أن تمنح إحدي قصص المجموعة اسمها للمجموعة ككل، وهو ما يساهم في تصور (المفتتح) كإحدي قصص المجموعة، إلا أن خلوها من تلك الحركة، أو الخط الدرامي، فضلا عن إقترابها من الإسلوب الخبري، وإن لم تخلو من الخيال والتجسيد والاقتباس، علي عكس ما نجده بامتياز في قصص المجموعة، القائمة علي الإسلوب الإنشائي، حيث نحد {أريد موجة دافئة تقول ..}، {نحن أيتام العالم حملتنا الحروب علي يديها...}،{ القادم علي أيامنا مبهج..}،{ لأني أريد لي وللعالم :موجة دافئة}. ومن هنا أستطيع القول بأن العنوان، ليس عنوان إحدي قصص المجموعة كما يحدث كثيرا، وإنما هو عنوان المفتتح، والذي بدوره (العنوان) يشمل المجموعة ، ويعبر عن أجوائها، ويمهد لعناصرها التي تمددت بطول القص فيما بعد. حيث جاءت كل القصص تقريبا، تعيش الشخصية النسائية – تحديدا- فيما يشبه الصحراء، أو الجفاف، والبحث عما يرطب القلب، والبحث عن قطرات تُحيي جفافه، أو عن لحظة دفء في ليالي الشتاء الموحشة.
القصة القصيرة جدا
بعد أن دغدغت عزة بدر مشاعرنا، وحملتنا بتؤدة علي جناح الريح لنحلق في فضاء المتعة الروحية، ونتعاطف مع نسائها الباحثات عن لحظة دفء. تصر في النهاية أن تركبنا ديزل أسكندرية أسوان السريع. ننظر إلي الأعمدة والأشجار علي الجانبين، فلا نستطيع تأمل وجودها، أو ما يمكن أن يضفيه وجودها من تداعيات أو ذكريات. وما أن ركنا ظهورنا لنستريح علي الكراسي، طُلب منا الاستعداد للنزول.. فقد وصلنا. ذلك ما فعلته بنا بتقديم مجموعة من القصص القصيرة جدا في نهاية المجموعة.
ربما حاولت الكاتبة أن تقول بأنها قادرة علي مسايرة كل أنواع الكتابة، بعد أن كتبت الرواية والقصة القصيرة والشعر والدراسات الأدبية، وها هي تكتب ما يسمي بال ق ق ج أو القصة القصيرة جدا. فماذا قدمت فيها؟
لقد غابت تلك المتعة التي عشنا معها، فغابت الصورة الشاعرة، وغابت اللغة الساحرة، وحضر الغائب الذي كانت تنتظره بطلاتها من قبل، حتي وإن كان غائبا.
فلنتأمل قصة "رنات" في القسم الأول (القصة القصيرة)، وننظر (قصة) "رنين" في القسم الثاني (الققج). حيث العنوان واحد، والرؤية واحدة. ولكن كيف كانت المعالجة في كل منهما؟
في قصة "رنات" تحضر الساردة لحظة تبادل رنات المحبوب مع أخري، وتصف تورد وجناتها ولحظة حب علي وجدانها، وكيف أنها أنستها الدنيا، وما حولها. تعيش الساردة مع تلك اللحظات التي كانت منذ سبعة أشهر، تعيشها في صورة الأخري، وتتصور أنه سيحدث كل ما حدث معها.تنسي ملابسها ، وتنسي حقيبتها التي بها هويتها، في "الساونا". وكانها معه نسيت من تكون، وعلي أي أرض تكون. تذهب إلي المقهي، {تُجلس غيابك أمامها وتبتسم ..............وتبدأ في سكب القهوة في الصحن الصغير للفنجان .. تسكبها بعناية وبطء ليرتشفه غيابك في سكون .. تقربه من فمه علي مهل مثل عصفور...}و في النهاية {كما فعلت أنا وشفتي ترتعش وغيابك يرتشف آخر قطرة من صحن فنجان القهوة.. أفطمه ليحب أخري وأخري.. نحتضن الرنات ونرتجف}.
وهكذا يتجسد الغياب، وتلعب الصورة الذهنية دورها مع القارئ، لتحيي الجماد، وتنطق الأشياء، فتترسخ الصورة في الذهن، وتُحدث تأثيرها المرجو. فضلا عن المتعة التي بدونها يفقد الإبداع أحد أهم عناصره.
فكيف كانت معالجة نفس الرؤية في "رنين"/ القصة القصيرة جدا. ولنقدمها كاملة:
{ رنين
هكذا تنحني بهدوء أمام مطالبي
- عندك حق
تستمع بهدوء لعتابي، تبتسم ثم تضع سماعة الهاتف.. تزيح مطالبي جانبا .. وتضع عتابي بهدوء علي الكومودينو .. تجر شعري وتلتحف .. تنام بهدوء وأسمع وحدي رنين الهاتف.}
هكذا جاءت (القصة) مكتملة. وكأنها خبر أُلقي إلينا سريعا، قد يصل إلينا نفس الوحدة، بعد أن ألقي بكلماتها/عتابها، ولم يعطه الاهتمام الذي كانت تتمناه، ثم تركها ونام، وبقيت هي تعاني الوحدة والجوع. لندخل في محاولة أخري، أو قصة أخري، ربما، وغالبا ما تكون مغايرة في الجو العام، فيغيب التعايش، وتغيب المعايشة، وفي النهاية .. لا شئ يعلق بالذاكرة، مثلما فعلت القصص في البداية. وأيضا تغيب المتعة التي أسرتنا في القسم الأول.
وقد يرد علينا في هذا، بأن هذه النوعية من الكتابة هي روح العصر. ولكن نتأمل، تتابع هذه المجموعة الكبيرة من الق ق ج في مساحة زمنية وكتابية صغيرة. لاتتيح للقارئ إلتقاط الأنفاس، أو فرصة التأمل ومشاهدة الإبداع. ألا يكون ذلك داعيا لمزيدا من التوتر، الذي يعيشه إنسان العصر، ولا يحتاج المزيد منه، لتعدد الانتقالات الوجدانية المتتابعة؟
لو أن د عزة بدر آثرت أن تجعل تجاربها في القصة القصيرة جدا، تجربة قائمة بذاتها، ويكون لها ما لها، وعليها ما عليها، لظلت "موجة دافئة" تجربة متفردة، بإسلوبها وشاعريتها، ورقة أحاسيسها، قطع موسيقية يركن إليها القارئ في نهاية يومه، يتناولها علي مهل، لتعيد ترتيب أنسجته الشعورية، بعد أن شتتها كدح ومكافحة الحياة اليومية، متكئا علي أجنحة المتعة التي هي العنصر المؤسس للإبداع كافة.
Em:shyehia48@gmail.com
- د عزة بدر – موجة دافئة – قصص – الهيئة العامة للكتاب -2016.