ترسم القاصة العراقية مشاعر طالبة جامعية عاشقة، لهفتها، ترددها، خوفها، أحلامها، في موضوعة الحب الأبدية بين الجنسيين، ومن خلال اللهفة تصور أيضا الموانع والمخاوف التي تفرضها القيم وتجعل من الأحلام شديدة تربك الذات كما حصل مع التلميذة.

زقزقةٌ خلف ستائر عالية

فائـزة سلطان

 خرجتْ من ضبابٍ كثيفٍ لفّ الأبنية العالية والأشجار الكبيرة حولها. حطت عصفورةٌ شرسةٌ راحت تنقر على رأسها الذي بات بيضة كبيرة ملساء، أو كرة غريبة بيضاء نبتت على كتفيها فجأة. سارعت العصفورة بالنقر وكأنها تبحث عن شيء داخلها، ومع كلّ نقرةٍ تصرخُ من الألم وتحاول إبعادها عن رأسها دون جدوى. ومع كلّ صرخةٍ تتقافزُ وترتطمُ كائناتٌ صغيرةٌ بجدارن رأسها. تنقرُ العصفورة نقرةً عظيمةً وقويةً فتخرجُ من رأسها سرب عصافير صغيرة سرعان ما تختفي في الضباب مع الصرخة الأخيرة. فزّت مع صرختها، متحسسةً رأسها، ما زال في مكانه. تنفست الصعداء، ربما أخذتها قيلولةٌ قصيرةٌ في جلستها اليومية تحت شجرتها الصغيرة. الشجرة التي تفتح لها ذراعيها كأمٍ حنون، كصديقةٍ مخلصةٍ أو حتى ككائنٍ وحيدٍ حائرٍ. جلست تسند رأسها على جذعها الفتي وأغمضت عينيها فذابت فيها والتحمتا بشيء أقرب إلى الهيام. راقبت عصافير صغيرة مشاغبة تقف قربها أو على ذراعيها الممتدين على الأرض الخصبة والأعشاب تدغدغ قدميها مع نسمة خفيفة خرجت من فم الريح العابرة. أقبلت الفراشات بأثوابها تحمل ربيعاً مبهجاً لتقبّل جبهتها وهي في تأملٍ صافٍ، في صمتٍ وفي إتحادٍ مع كل قوى الطبيعة. جاء النمل وترك حبّات السكر عند أصابعها وكأنها تحاول أن تبني قلعةً بيضاء للملكة أو لها. وقفت الشجرة قرب جسدها النحيل المنهك من الوحدة القاسية الانتظار الثقيل المعتم الذي حجب الشمس عن روحها الشبيهة بسماء المدينة. السماء الملبّدة بالآمال التي تتسع مع الأفق وتتحلل مع الغروب هاربةً مع الغيوم كما في كل يوم. تتطلّع شهوراً طويلةً لزيارته، وتنتظر أسابيعاً لكلماته المخطوطة بحروفٍ صغيرةٍ ومصطفةٍ مع بعضها بعنايةٍ شديدةٍ في رسائله وكأنه ينقشُ هدايا روحه لها. تفرّغ أياماً للعصافير الزائرة التي تحط قرب رأسها وقدميها وهي تنبئ بمجيئه. تحوم الكلمات بأجنحةٍ حول رأسها كفراشاتٍ مرئيةٍ وغير مرئيةٍ، تزورها كسحابةٍ مستعجلةٍ وتسقط بهدوءٍ وبتناغمٍ على رأسها الهائم كحبّات مطرٍ بلون الحبر وأحياناً بلون الحب وكثيراً ما تكون بلون الانتظار. الطبيعة نفسها تحتضنها وتحاول أن تخفف عنها هذا البعد القسري في المسافات بين الأجساد وبين التواريخ وبين الأسماء. مشت بخطواتٍ في ظهيرة ذلك اليوم تلسعها أشعة الشمس وتخرج الحسرات من أنفاسها كحياتٍ تهرب من صدرها المثخن إلى المدينة المنعزلة والمنغلقة على ذاتها لتختفي بين أزقتها، المدينة الغريبة عنها بهوائها وأشجارها، بناسها وحتى بصوت عصافيرها والباعة المتجولين في طرقاتها. صعدت إلى الطابق الرابع من بناية سكن الطالبات وكأنها تصعد جبلاً شاهقاً مثلما كانت تفعلها جداتها القرويات قبل أن ينتقلنّ إلى المدينة وهن يحملنّ سحر ونقاء الطبيعة وقوة الجبال ورشاقة الجسد وقصص العشق السرمدية. فتحت باب غرفتها المظلمة والتي تحمل في طياتها أياماً طويلة مليئة بالمتناقضات والانتكاسات وساعاتٍ تنخرُ جدرانها القبيحة. كانت صديقاتها مستلقيات على أسرتهن في قيلولةٍ قصيرةٍ كالمعتاد، لم ترغب بإزعاجهن وسؤالهنّ عن الطعام، مكتفيةً بالحزن الذي يأكل منها وتأكل منه. دسّت جسدها النحيل تحت غطائها الوردي، ربما ستراه في الحلم أو ستقرأ آخر رسالةٍ بعثها إليها قبل أسابيع أو تدندن مع نفسها أغنيتهما المفضلة، مدركةً إن موعد لقائه لن يكون قريباً وإن أمامها أيّاماً طويلةً من الانتظار أيّاماً طويلةً كي يزورها إذا ما تمكّن من المجيء أصلاً هذه المرّة. أغمضت عينيها الواسعتين كسهولٍ فارغةٍ إلا من شوقٍ للقاء، لابتسامه، لظلٍ يرافق ظلها على الطريق المزيّن بقطعٍ كونكريتيةٍ ملّونةٍ. شعرت بتوقف الزمن وتوقف نبضات قلبها للحظة، سمعت زقزقةً غير عاديةٍ قادمةٍ من الشرفة خلف الستائر المسدلة، فتحت عينيها، فتحت رتاجات قلبها المقفلة، وأصوات الزقزقة تتعالى بل تلّحُ بصورةٍ غير مألوفة، انتفضت من مكانها وهتف:

- هذا هو. إنه هنا

 فزّت وهبيّة من النوم على صرختها. وقفت تلهث على فراشها وكأنها تعوض بوقوفها على السرير عن قصر قامتها. كانت من أقرب صاحباتها إليها، رغم اختلافهما في كل شيء؛ فقد كانت على العكس منها تماماً، تستخف بقصص الحب ولا ترى في تحقّقها إلاّ نوعٌ من الجنون:

- عودي إلى النوم أيتها المجنونة، لا أحد هنا. دعينا ننام عندي اختبار مهم غداً

- أقسم بالله إنه هنا. لقد أتى. إنه يناديني، ألا تسمعين؟

 نفشت وهبيّة شعرها ونزلت من السرير بقفزة

 - لم أسمع غير صراخك، أنه في مدينة أخرى ولديه يوم دراسي فكيف أتى لزيارتك وكان قبل أسابيع هنا، أنت لم تتعرفي عليه جيدا فهل أذهب التعلق به بعقلك؟!.

- اعرف. هو يقولها لي دائماً. أنا مجنونةٌ، بل مجنونةٌ جداً.

هرعت إلى الشرفة. فتحت الباب الحديدي الثخين الذي يشبه أبواب زنزانة سجن. رأت عصفورةً تحدّقُ فيها بعينين ثاقبتين يشع منهما بريقٌ سحريٌّ وهي تزقزقُ دون توقف. نظرت إلى الأعلى ثم إلى الشارع البعيد الذي يقابل مبنى سكن الطالبات، رأت خيال رجلٍ واقفٍ على الرصيف المقابل، حاملاً حقيبة سفرٍ صغيرةٍ، يلوّح بيمينه نحوها. لم تتمكن من تمييز ملامحه إلّا أنها كانت على يقين من إن الواقف هناك على الرصيف هو بعينه، يتطلّع إليها ويلوّح من لا مكان! عادت مسرعة إلى الغرفة سحبت يد صديقتها وهبيّة إلى الشرفة وقالت: -

انظري هناك؟ - أين؟ - هناك، ذاك هو واقفٌ على الرصيف يلوّح من بعيد وفي يده حقيبة سفر

  • أيتها المعتوهة من قال إنه هو فأنا لا أرى غير خيالٍ لشخصٍ دون ملامح
  • العصفورة، العصفورة هي التي قالت لي-
  • مجنونةٌ بحق

ركضت مسرعة للداخل وتركت صديقتها تهز رأسها. سارعت بارتداء ملابسها وأطلقت العنان لشعرها تركته مثل الغجر يرقصُ على كتفيها كل خصلةٍ مشتاقة إلى رؤيته، وكل خصلةٍ تتسابق بالسقوط قبل الأخرى كي يحتفظ بها في محفظته السوداء ككلّ مرة، محفظته الملتصقة على قلبه الدافئ. صفقت باب البناية وراءها ونهبت الأرض بخطواتها المتسارعة، بدا الطريق طويلاً: "هل جُننتُ حقّاً؟" اقتربت من بوابة الجامعة. أحست بأن عيون الحراس تراقبها بفضولٍ شديد مثلا لم تألفه من قبل، أبطأت خطواتها وخطت أمامهم بارتباكٍ واضحٍ، تعثرت بأذيال فستانها الأزرق الطويل، الغامق والمرقط بدوائر بيضاء، ولم تستطع النهوض من جديد. ارتبكت أكثر حينما اقترب منها شابٌ ظهر فجأة ومدّ يده بودّ لينهضها: - هاتي يدكِ؟

  • لا أستطيع النهوض شكراً. –
  •  حسناَ كوني حذرة، الأرض وعرةٌ وقد تبتلعكِ في لحظةٍ. لا تستعجلي لن تهرب الحياة منكِ.

قال ذلك ومضى، هكذا، وكأنه مرسال من أمها التي كانت تدين تسّرعها في كلّ شيء حتى في أجلها. لملت قواها ونهضت، تدفق الدم إلى وجنتيها حتى بدتا أكثر احمراراً من قبل. امتزج الشوق بالخجل على وجهها الذي يكمّل دائرة كاملة قبل أن يتقلص ليصبح كما هو الآن، أكثر شبهاً بالكرات البيضاء المعلّقة على فستانها الطويل الذي كان بمثابة أجنحةٍ إضافيةٍ تستعجل وصولها إلى هناك حيث كان، فقد صار جلّ ما تتمناه هو أن تصل إليه. تسارعت نبضات قلبها كلما اقتربت من مكان اللقاء، المسافات تتقلص والعالم كلّه ينقبض ويتقلص أمامها، السماء تتقلص وتتكوّر وكل ما تراه الآن هي تلك البقعة على الرصيف الذي ينتظرها هناك. اجتاحها شعورٌ غريبٌ إحساسٌ غامضٌ لم تتمكن من تمييزه. تسارعت خطواتها أكثر، حتى تعالى ضجيج السيارات وهو يمتزج بصراخ الباعة والأغاني الشعبية وهي تحاول عبور الشارع الواسع ، ما هي إلاّ خطواتٍ تبعدها عنه، سمعته وهو يناديها من بعيد بصراخ ٍغير مألوف. ظهرت العصفورة من جديد ومن حيث لا تدري حطت على كتفها وبدأت بالزقزقة مرةً أخرى. توقفت في وسط الشارع المبلط حديثا ً، والتفتت إلى العصفورة حينما سمعت صوتاً لسيارة اقتربت منها فاختلطت رائحة محركها برائحة الإسفلت دون أن تتوقف عندها. طارت العصفورة من كتفها لحظة الاصطدام، وكأنها فشلت في مهمتها، وطارت هي من على الإسفلت بعد أن ارتطمت بمقدمة السيارة لتهوي على الشارع كريشة تسقط من طائرٍ حرٍ فرّ تواً من قفصه. اتسع الشارع واتسعت السموات وتغيرت شكلها وكأنها دخلت في عالمٍ آخر. وجدت نفسها خلف ستائرٍ عظيمةٍ بيضاء نزلت من السماء الشاسعة أمامها فجأةً. توقفت لوهلة وحاولت أن تسترجع أنفاسها المنقطعة وكأنها وصلت من رحلةٍ شاقةٍ وطويلةٍ. اختبأت خلف إحدى الستائر وهي ترتجف، وحيدةً وخائفةً لا تعرف أين هي الآن، وكيف أن عالماً آخر ابتلعها وهي لا تعرف ماذا تفعل. نظرت إلى أسفل قدميها فلم تجد أرض الشارع المغطى بالإسفلت الحار، وإنما عثرت على أرضٍ شفافةٍ صُقلت كطبقةٍ زجاجيةٍ في السماء تعزلها عن الشارع البعيد، عندها التفت ورأته، كان هناك يتكوّر على أرض الشارع ليحضن رأسها المدمّى، وقد تلفّع أمامه بهدوء الملائكة. عندها، تسللت كرات فستانها البيضاء لتتقافز إلى الأعلى لتصل إليها، نادت عليه ولم يرد، صرخت بأعلى صوتها ولم يرد، جمعت كل الكرات البيض ورمتها ناحيته إلا انه كان مشغولاً يحاول إيقاظها من قيلولتها المفاجئة وسط شارع ٍ ضيقٍ وحشدٍ من الناس تجمعوا حولهما وشكلّوا دائرةً سوداء كبيرة تتقلص وتبتعدُ رويداً رويداً عنّها. حطت العصفورة قريبةً منها وبدأت تنقر الكرات البيضاء. خرجت عصافير ملّونة من الكرات البيضاء، حطت على رأسها ورفعوها من خصلات شعرها إلى سمواتٍ أخرى لا تعرفها.