1
لا أدري كيف استبد بي هاجس في نهاية ذلك الأسبوع البعيد، الذي سرعان ما تحول إلى فكرة متسلطة ومرعبة، بأن المرأة التي كانت تحادثني في تلك اللحظات بفرحة الحياة كلها، ستكون في الأيام الأولى من شهر أوت القادم ترقد تحت التراب.
قالت لي ضاحكة بملء شدقيها وهي تخبط باليد اليمنى على اليسرى: "ليتك كنت لي فتاة فأستمتع بلحظات إملاء الشروط على الخطاب!"، فسألتها بدوري متأملا يديها الظريفتين وأصابعها المكسوة بخواتم قديمة قدم الشرق:
_ رحم الله صغيرتك! لو كنت أنا كما تقولين، فكيف ستشتمين رائحة الشرق بعد غياب اليمني؟
ثم عدت إلى نفسي أسألها: "ترى كم تحتاج هذه الأنامل الجميلة من وقت لتنخرها دابة الأرض وتنحل في التراب؟"
وافقت مؤكدة رأيي دون أن تكف عن نفض الغبار عن أثاث بيت الجلوس:
_ حقا عندما تكونا أنت واليمني بجانبي أرى الشرق في يميني و الغرب في يساري، وعندما تحادثانني، أراهما الاثنين في عيني.
تأملتها من القفا وفكرت: "حتى هذا الشعر الأندلسي المتدلي على كتفيها كالحرير، والذي لا يزال يحتفظ بكل سواده رغم أنها أطلت على الخمسين من عمرها، سينسل هو الآخر شعرة تلوى الأخرى، وسيستقر على التراب حذو وجنتيها الورديتين في غضون أسابيع". كانت صورة حكيم تحتل وسط خزانة الغرفة، فرفعتها بيديها ومسحت عنها الغبار برقة وهي تقول متذكرة:
_ لقد سأل عنك حكيم هذا الصباح.
حاولت و أنا في طريقي إلى المقهى طرد ذلك الكابوس واسترجاع صورة أمي، التي أعددتها في عداد الموتى في تلك اللحظات، كما عهدتها منذ نعومة أظافري: امرأة نشيطة، ممتلئة صحة وجمالا وحياة. أما الموت، فقلت أنه قدر الجميع، ولكن أرجو أن لا يكون ذلك قريبا كما حدست.
أدركت حكيم في مقهى الفسيفساء بنهج الملاحة منكبا على صحيفة لا يرفع منها رأسه إلا ليرتشف كأس شاي فاحت رائحته. ما إن لمحني اجتاز الباب، حتى ابتسم مبتهجا. صافحته وجلست وبعض القلق لا يزال باديا على وجهي. تأملني لحظة ثم سألني مستغربا:
_ أراك على غير عادتك. هل أنت بخير؟
أجبته متلكئا:
_ لا بأس، الحمد لله.
أشرت إلى النادل فجاءني بقهوتي المعتادة، و خيم بعض الصمت علينا قبل أن أفصح له عما يشغل فكري كامل تلك المدة:
_ أنهيت بنجاح رسالة الماجستير كما تعلم هذه السنة، وعلي أن أشرع منذ الآن في البحث عن موضوع أطروحة الدكتوراه. أريد كتابة شيء ذا جدوى، لا مجرد عمل أحصل به على لقب جامعي فحسب.
أخذ حكيم رشفة طويلة من كأسه، ثم أطرق كأنه يفكر معي في الأمر. كنت واثقا بأنه لن يفيدني بشيء في هذا المجال، لأنه لا صلة له بالجامعة و البحث العلمي، لكن صداقتنا الفريدة جعلتني أبوح له بكل ما يقلقني. فاجأني بعد لحظات من الصمت وهو يرفع رأسه ويحدق في عيني برهة ثم يقول في نبرة من يبشرني بخبر سعيد:
_ تأتي يوم الخميس القادم إلى المصحة، وهناك سأعرفك بالسيد جابر خليل.
سألته في حيرة:
_ جابر خليل؟ من هو هذا الرجل؟ و لماذا؟
_ انه الأستاذ المغربي بقسم التاريخ في جامعة فاس. ألا تعرفه؟
فأجبته بالنفي.
_ قالت لي ابنته بأنه من كبار مؤرخي المغرب وله عدة مؤلفات في التاريخ القديم والمعاصر، كما أنه يقضى جل السنة متنقلا بين جامعات بغداد و القاهرة ودمشق و بيروت ملقيا محاضراته.
سألته بكثير من اللهفة عن ابنة جابر هذه، وكيف تعرف عليها. فأخبرني بأنها مقيمة عندهم في المصحة منذ أسابيع، وأن أمها تزورها كل يوم أحد وأبوها كل خميس. أدخل علي هذا الخبر بعض الارتياح، ثم سرعان ما تحول إلى طمأنينة، ففرح ورغبة جامحة في الالتقاء بالأستاذ جابر خليل.
عندما تظاهرت مكرها بدفع ثمن المشروبات لأني لا أملك غير معلوم تذكرة الحافلة، دفعني حكيم جانبا، وقام بالواجب، ثم خرجنا. سرنا في اتجاه محطة حافلات باب الخضراء، و قد عاد خبر السيد جابر ليمتلك علي وجداني بأشد مما يتصور. كان حكيم يحدثني طول الطريق عن أشياء لم أتذكر منها إلا القليل. أعتقد أنه روى لي أنه دفع معلوم إقامة يومين لأحد المرضى الفقراء، وأنه أدخل إصلاحات في بيت الاستحمام بالاتفاق مع صاحب المنزل، و أشياء أخرى لم أعد أذكر منها شيئا.
أعددت تلك الليلة جذاذة بها بعض الأسئلة والقضايا التي سأطرحها على السيد جابر خليل عند لقائه، تتعلق كلها بتاريخ المنطقة والعالم العربي عامة. رتبت الأمر جيدا، وجعلت الأسئلة تتدرج من البسيط إلى المركب، ومن السهل إلى الصعب، حتى تحولت الجذاذة إلى ورقات، والورقات إلى ملف صغير، كأني أعد حوارا فكريا مع أفلاطون، أو الإدريسي، أو ابن خلدون، أو طوماس دي أكينو أو ابن رشد. كنت في لحظات التفاؤل أثمن ذلك العمل و أعلق عليه آمالا كبيرة، و في حالات اليأس أعده ضربا من الوهم، لأني لم أسمع أبدا بهذا الاسم، ولم أعثر له عن أي كتاب.غلبت في النهاية الأمل على اليأس، وحملت أوراقي وقصدت المصحة.
عندما وصلت، كنت اتقد حيوية ونشاطا، متأبطا ملف الأوراق كمن يحمل تاريخ الدنيا بين جنبيه. استوقفني حارس بالباب، وعندما ذكرت له اسم حكيم، بش في وجهي وتركني أمر. ركبت المصعد و اتجهت مباشرة إلى الطابق الثاني. عندما وصلت، جعلت قسم الجراحة عن يميني واتجهت مباشرة نحو قسم التصوير بالأشعة. وبما أنه لا يسمح لي بالدخول، شرعت أبحث عن صديقي من خلال زجاج النوافذ، حتى عثرت على ثلة من الممرضات. أخذت ألوح إليهن بيدي تارة، و بطرق خفيف على الزجاج أخرى، حتى رمقتني أحداهن، فأسرعت إلي وهي تتكلف الابتسام، فبادرتها همسا: "حكيم من فضلك... حكيم". عندما أعلمتني بأنه في قسم الإنعاش في تلك اللحظة، عدت مسرعا من حيث أتيت دون أن يخطر ببالي حتى شكرها أو توديعها. مضيت أطوي الممرات طيا مدققا في كل ما كتب على اللافتات والأبواب لعلي أعثر على قسم الإنعاش. وعندما لمحت صديقي من بعيد في قميص أبيض يلف كامل بدنه، تأكدت من أنه قصير القامة على عكس ما كان يبدو لي. صافحني بحرارته المعهودة و جرني ورائه نحو مكتب الاستقبال حيث جلس هو خلف طاولة رتبت بعناية، و جلست أنا أمامه، تماما كالطالب الذي استباحه الأستاذ يوم الامتحان الشفوي. كنت أتلذذ، عكس كل الناس، باستنشاق رائحة الأدوية التي تعم المكان، و لكن سرعان ما تملكتني الخشية من أن يكون السيد خليل حضر قبلي ثم انصرف.
تأملت وجه حكيم بارتباك لعله يفصح لي عن شيء ما يهدئ خاطري، فوجدته كعادته وديعا وباسما. و لكن بسرعة غريبة فاجأني بقوله:
_ أنا متأسف جدا رباح. لم يأتي اليوم السيد جابر.
ضغطت على الأوراق بين أصابعي حتى كدت أعدمها، و أحسست بشحوب يجتاح وجهي، و جفاف شديد في حلقي. غير أنه أضاف محافظا على فسحة من الأمل:
_ لا شك أنه سيأتي في الأسبوع القادم و سأضبط لك معه موعدا.
قلت مسليا نفسي: "لا تيأس، ربما يكون حقا موعدا مع التاريخ". وحتى يخفف عني وطأة الصدمة، راح صديقي يتحدث عن أشياء في الحقيقة لا تعنيني أبدا، مثل اقتناء معدات متطورة للمصحة من بغداد، والدورات التكوينية الممتازة لإطاراتهم في مدينة القيروان بمشاركة كبار أطباء وهران... ولم يكف عن ذلك إلا عندما دخلت "حريفة"، وانشغل بإجراءات تسجيلها. هممت أنا بالمغادرة، لكنه ترجاني أن أنتظر قليلا. جلست الفتاة قبالتي، فرأيتها، وأنا أقاوم في نفسي وطأة الخيبة و الاضطراب، هادئة و مطمأنة كأن على رأسها الطير. كانت تضع أمامها لفة من الأوراق بما في ذلك بطاقة هوية، متسلية بمفاتيح السيارة بين أصابعها. و فجأة هبت عاصفة في الخارج فانفتحت نافذة المكتب على مصراعيها، و تطايرت أوراقها ودفاتر حكيم، وقفزنا جميعا مذعورين نركض خلفها ونطاردها تحت الكراسي وخلف الطاولة وفي كامل أنحاء المكتب. عندما انتهت معركة العاصفة، كنا جميعا نلهث، وكان حكيم يتصبب عرقا، بينما ارتمت الفتاة على كرسيها ماسكة ببعض أوراقها، مثل قط يغرس أظافره في فأرة أرهقته طويلا. وفجأة صرخت الفتاة: "بطاقتي... بطاقة هويتي "، فأعدنا الكرة من جديد حتى عثرت عليها أنا بين الكرسي والحائط. لا أدري كيف انتابني شعور فضولي غريب، فألقيت عليها نظرة خاطفة قبل أن أسلمها إياها. وكانت النظرة التي صدمتني، وجعلتني أعيش بعد ذلك أحداثا مثيرة، ثم أكتب تفاصيلها في هذه القصة. في البداية لم أصدق ما قرأت: "الاسم: أميرة". "اللقب: ابنة الأمين باي" . ظللت مندهشا بما قرأت، لكني راهنت على الصبر والانتظار.
لم يمض وقت طويل حتى غادرت الفتاة المكتب ورافقها حكيم حتى المصعد، بينما كنت أنا أتبعهما من خلف. فتح المصعد، وودعها صديقي، ثم عاد يقص علي مندهشا حادثة العاصفة الغريبة، لكنه ألفاني أندس وراءها في المصعد بسرعة فائقة، وارتحلنا معا. عندما شعرت بوجودي في المصعد، انزوت قليلا، وانتظرت الوصول، حتى إذا ما انفتح الباب اندفعت إلى الخارج منزعجة منى. وعوض أن تقصد باب الخروج، اتجهت إلى مكتب الإرشادات، فاتجهت أنا إلى المشرب وانتظرت خروجها. لم تمض ثلاث دقائق حتى رأيتها تغادر بسرعة عجيبة، فركضت خلفها كالوحش الذي بدأ يطارد فريسته. ولكي لا أطيل مطاردتها فيتضاعف انزعاجها، بادرت باستفسارها عن محطة حافلات المرسى. وفوجئت عندما رأيتها تجيبني بنبرة مهذبة تنم عن ثقة شديدة بالنفس قائلة:
_ متأسفة جدا سيدي... ليس لي أية فكرة، يمكنك أن تسأل أحد حراس المصحة.
شجعني جوابها ذاك على مباغتتها بالسؤال التالي:
_ كيف حال السيد الأمين باي؟
فردت في ابتسامة صفراء:
_ بخير والحمد لله. ولكن كيف عرفت أنه والدي؟
تكلفت ضحكة مختصرة، ثم حاولت الإجابة فتلعثمت وغمغمت... لكنها قاطعتني قائلة:
_ من خلال بطاقة هويتي، قطعا.
فوافقت برأسي مسرورا.
دار بيننا كل هذا الحوار دون أن تتوقف الفتاة عن السير في اتجاه مأوى السيارات. و عندما خشيت أن تبلغ المأوى وتفلت مني، ألححت عليها بالتوقف قليلا:
_ أرجوك أن تتوقفي دقيقة ليس أكثر. أريد أن أسألك عن شيء واحد.
توقفت على الفور، ودارت إلي بوجهها البيضاوي، وعيناها الصغيرتان تكاد تبتسمان، فغمغمت من جديد، وتوقفت الحروف في حلقي قبل أن أطلب منها بعناء شديد ولكن باختصار ووضوح:
_ أريد أن أتحدث معك في شأن هام.
ابتسمت، ثم عادت إلى جديتها، وواصلت سيرها. تركتني حينئذ كالمصعوق متسمرا في مكاني، لكن سرعان ما ركضت خلفها من جديد صارخا:
_ تمهلي... تمهلي لحظة.
و عندما توقفت لم أجد ما أقول لها. ولما همت بالمواصلة صرخت في وجهها:
_ أعطني رقم هاتفك إن كنت لا ترغبين في الحديث معي هنا.
رفضت برأسها دون أن تتوقف، ثم سمعتها تسألني بدورها:
_ وما ذا تفعل برقم هاتفي؟
فطلبت منها أن تأخذ رقم هاتفي أنا، لكنها رفضت أيضا، واختفت في مأوى السيارات، وعدت أنا أجر ذيل الخيبة مرددا: "قد تأتي الخميس القادم".
2
إلى حد الآن لا أذكر كيف و أين قضيت بقية ذلك اليوم. الشيء الوحيد الذي لازلت أتذكره هو أني رجعت ليلا إلى المنزل. كانت غرفتي ضيقة، بها طاولة قديمة، متداعية الأطراف، كنت تسلمتها منذ سنوات من إحدى جاراتنا كمقابل لتقديم بعض الدروس في قواعد اللغة العربية والفرنسية ومادة الرياضيات إلى ابنيها. لم أكن أملك حتى سريرا، بل كنت أطرح حشية بجانب الخزانة و ارتمي عليها كلما أردت النوم.
جاءتني أمي بفنجان قهوة وقالت بأنها أعدت لي إبريقا مملوء في المطبخ، ثم انصرفت بعد أن أوصتني بعدم الإفراط في السهر والقهوة. في الخارج كانت تهب ريح قوية وباردة جدا، وكان التيار الكهربائي ينقطع من حين لآخر، فأحكمت غلق النافذة والباب وجلست إلى الطاولة ملتفا ببطانية من رأسي إلى قدمي. سحبت إلي ورقة بيضاء وتعلقت بالقلم وفكرت: "إن ضربة الحظ تأتي مرة في العمر، ومن يضيعها فهو إما أبله أو جبان. ها قد دقت ساعة حظي وعلي أن أقتنصها دون تردد ومهما كان الثمن. لم أحصل من تلك الفتاة إلا على شيئين : الأول هو أنها فعلا ابنة الأمين باي، والثاني هي أنها ستعود إلى المصحة يوم الخميس القادم". لكن سرعان ما تفطنت إلى شيء هام، فأضفت: " قد تكون حيلة لجأت إليها للتخلص مني في تلك اللحظة، إذ يمكن أن تغير المصحة تماما، أو تغير الطبيب، أو حتى تأتي بالمصحة إلى منزلها بكامل معداتها وإطاراتها الطبية والشبه طبية، فذلك عليها هين ".
رغم كل تلك التخوفات، قررت أن أستمر في مطاردتها وفق خطة تمكنني من صداقتها بداية من يوم الخميس الموالي. لا يهم نوع العلاقة: عاطفية، أو ثقافية، أو دراسية، أو غيرها. إلا أنني استبعدت في النهاية العلاقة العاطفية، لأني لا أحب هذه الفتاة فعلا، كما كنت لا أثق كثيرا في عواطف الحب والكره، وأعتقد لو فعلت ذلك ستكون جريمة لا تقل شناعة من جريمة السرقات العلمية في جامعاتنا العربية.
كانت الساعة تشير إلى العاشرة ليلا، فملأت فنجان ثان من القهوة وواصلت التفكير. قلت: "هي لا تعيرني أي اهتمام في الوقت الحاضر ويتضح ذلك من تهربها مني، وهي محقة في ذلك، إذ ماذا يمكن أن تنال مني أنا رباح النجراني. ولكن، في المقابل، أنا أحتاج إلى خدمات منها ثمينة للغاية، تخص تحرير موضوع الدكتوراه الذي كنت أرغب في أن يكون عملا فريدا من نوعه في البلاد. لا شك أن لديها وثائق نفيسة تتعلق بتاريخ البلاد التونسية في عهد الدولة الحسينية، و بصفة خاصة بالفترات الأخيرة من حكم البايات لتونس. أما المفاجأة الكبرى ستكون عندما أحاور الباي نفسه، وأعرض تصريحاته كشواهد تاريخية جديدة لا يعرفها أي مؤرخ قبلي. لأجل ذلك، علي أن أجعلها تهتم بي أولا، ثم ترغب في ثانيا، رغبتي أنا فيها، فتطاردني مطاردتي لها".
عندما توصلت إلى هذا القرار، سألت نفسي عن كيفية بلوغ هدفي هذا؟ فقلت: "علي أولا أن أبحث في مظهرها وشكلها ولباسها، و أدقق في كل كلمة قالتها في تلك اللحظات القصيرة، لعلي أعثر على أثر يدلني على اهتمامها الرئيس وشغلها الأساسي، وهو موجود بلا شك، خاصة أنها تنتمي إلى تلك الطبقة التي فقدت السلطة دون أن تفقد الثروة ". فكرت في أنه يمكن أن تكون مغرمة بالرياضة، أو مشاركة في إحدى الأندية الرياضية، و ترغب في بلوغ القمة في هذه الرياضة، وعليه يجب أن أقدم لها نفسي بأني أحد أبناء أو أقارب أبرز الوجوه الرياضية في تونس، مثل العداء الشهير محمد القمودي. وهكذا أتحدث معها بشيء من الندية والاعتداد بالنفس. وإن تكن مغرمة بالغناء مثلا، فسأدعي بأني قريب الفنان المغربي المعروف حميد الزاهر وأقيم في تونس منذ سن العاشرة. و إن تكن مولعة بالسياسة، وهو أمر استبعده كثيرا، لأنها تنحدر من عائلة خاضت هذه المعركة و خسرتها، فسأقول لها بأني ابن أخ المناضل الكبير والشهيد فرحات حشاد. وإن تكن مولعة بالرسم، فسأدعي بأني الابن الأكبر للرسام التونسي الفذ الهادي التريكي".
عندما اهتديت إلى هذه الأفكار، أحسست بأني أسلك أقصر الطرق وأنجعها إلى تحقيق هدفي، ألا وهو كتابة موضوع دكتوراه يبهر الجميع، وأحسست أن الوثائق التي أرغب في الحصول عليها باتت في طريقها إلي بأسرع ما كنت أتوقع. علي فقط أن أعرف ما يشغل بالها في الحياة.
شرعت في استعراض صورتها من جديد في حركة تذكرية بطيئة، مدققا في كل جزئياتها، فوجدت أنها شخصية رياضية إذ تتمتع بقامة رشيقة وحركة خفيفة. لكن سرعان ما قفزت إلي فكرة أخرى، وهي إمكانية اهتمامها بالتمثيل، وقد شاهدت كيف تخلصت مني بسرعة وببراعة في حركة مسرحية ممتازة. كما بدت لي أيضا أنها فنانة رائعة من خلال تناسق ألوان لباسها: حذاء أبيض، وتنورة وسترة زرقاوين فاتحين، مع قميص أبيض، فبدت لي سماوية اللون، بحرية الطباع، موسيقية النبرة. كانت تشد شعرها إلى الوراء مع خصلة شعر تدلت حذو خدها الأيمن زادتها تناسقا وأناقة. رغم ثروتها، لم تكن ترتدي أي نوع من الحلي، لا في عنقها ولا في أذنيها، ما عدى خاتما بسيطا في يدها اليمنى. غير أن هذا المنظر يمكن أن يوحي بأنها شاعرة أيضا.
اختلطت علي الأفكار تلك الليلة، ولم أستطع تحديد هواية تلك الفتاة، حتى كدت أتخلى عن هذا المدخل لربط صداقة معها. بشيء من اليأس عدت أستعرض في مخيلتي هيئتها العامة. وفجأة عثرت على ما يمكن أن يهديني إلى بلوغ هدفي. تذكرت بكل صعوبة أنها كانت تحمل على جيب سترتها الأيمن شارة فيها صورة الرسام الاسباني بيكاسو. تذكرت هذا الأمر وكأني رأيته في حلم أو ما يشبه الحلم، لكني كنت متأكدا بأني رأيت بيكاسو على صدرها، هو بعينه!
شرعت منذ تلك اللحظة في الإعداد لخطة تتصل بفن الرسم وبأحد أكبر أعلامه في تونس، وهو بلا شك الهادي التريكي. فقررت بحزم أن أقدم نفسي بأني الابن الأكبر لهذا الرسام وليكن ما يكن. أعترف أني أصررت على قراري ذاك كالغريق المتعلق بقشة، رغم الخوف من أن تكون تعرف عائلة التريكي، فيفضح أمري، ويدمر مشروعي العلمي إلى الأبد، فأجد نفسي مجبرا على العودة إلى اليمن دون رجعة. حدثت نفسي: "إذا ما انطلت حيلتي، فسأكون قريبا جدا أتصفح حقبة هامة من تاريخ تونس من خلال الوثائق التي ترقد عند الباي منذ عشرات السنين، دون أن ترى النور إلى الآن. في المستقبل القريب، سأكون من أكبر مؤرخي تونس، وسأدخل التاريخ من بابه الكبير".
لكنني لا أعرف شيئا تقريبا عن حياة الهادي التريكي الشخصية ولا حتى عن أعماله الفنية. فقط أعرف كبقية الناس أنه تحصل منذ بضع سنوات على جائزة المغرب العربي الكبير للرسم الزيتي، كما نالت لوحته "النجوم في القدس" مرتبة أفضل لوحة في معرض إفريقيا الدولي لسنة 1989. في الحقيقة لم تكن معلوماتي حول الرسم بائسة كثيرا، لأني درست في السنة النهائية من تعليمي الجامعي شهادة اختيارية في الفنون الجميلة.
قبل أن استسلم إلى النوم تلك الليلة، اتخذت القرار التالي: علي أن اتصل بالرسام الهادي التريكي، وأن أجمع ما أمكن من المعلومات حول شخصه وعائلته و أعماله، لكي أتعامل بهدوء ودون حرج مع ابنة الباي.
3
والدي هو أصغر أخوته الثمانية، وأبوه عباس الصباح النجراني كان تاجرا يقضي أغلب أيام السنة متنقلا في أنحاء الجزيرة العربية، وبصفة خاصة بين السعودية واليمن. لما طلق جدي عباس جدتي، لم يتجاوز أبي سن الرابعة. حملت جدتي أربع من أبنائها وعادت بهم إلى البحرين، أما البقية فحملهم جدي معه إلى السعودية، وكان والدي من ضمنهم. هناك تزوج عباس النجراني من امرأة هندية وأوصاها خيرا بالأبناء فاعتنت، بهم وأغدقت عليهم حبا عظيما كأنهم من رحمها. لكن موت جدي مقتولا على الحدود مع فلسطين قلب أمر العائلة رأسا على عقب، إذ فرت الهندية إلى حيث لا يعلم أحد، وكان قدر الأبناء أن يتشردوا في أنحاء الأرض.
نظرا لصغر سن والدي وعدم قدرته على مجابهة الحياة وحيدا، حملوه إلى اليمن من جديد باحثين على من يكفله من أقاربه. عثروا على عمه بشار الصباح النجراني الذي تسلمه ومعه رسالة مغلقة، قيل أنها من أبيه قبل أن يقتل. كثيرا ما كان أبي يردد بأن المعروف الذي عمله معه عمه يتمثل في شيء واحد: هو أنه أدخله في نفس تلك السنة إلى المدرسة حيث تعلم القراءة و الكتابة. باستثناء هذا العمل الفاضل، فان عمه تخلى عنه تماما سنة بعد أن تسلمه من الرجال الأربعة.
أيقظه عمه باكرا ذات صباح وأمره بحمل لوازمه المدرسية في غلاف قديم، وخرجا حتى قبل تناول فطور الصباح. حملتهم الحافلة المزدحمة بالركاب إلى مكان بعيد جدا عن حيهم. وعند النزول، أخذ عمه يسير بسرعة معرجا يمنة ويسرة حتى بلغا بناية فخمة تحيط بها أسوار شاهقة من كل جانب، وشاهد بعض الرجال المسلحين يعتلون قممها. هناك تركه جالسا تحت السور ينتظر عودته التي لم تحصل أبدا. مرت ساعة و تلتها ثانية، فثالثة، وصفرت معدة الصبي، وعوت أحشاؤه جوعا، ونفذ صبره في انتظار عودة عمه، الشخص الوحيد الذي بقي له في الحياة. لا يدري كيف حمل نفسه بمشقة، وسار باحثا عنه في نفس الاتجاه الذي رآه قصده في الصباح. بعد وقت قليل من المشي مرعوبا ومنهكا، أحس بالدوار والإعياء، وخارت قواه فسقط على الأرض. هذا كل ما تذكره قبل أن يجد نفسه في غرفة ممتلئة بالبنادق وسط جمع من الأشخاص المرتدين لباس الحرس والجند.
عشية زفافه، كان والدي يذرف الدمع غزيرا بصمت، متذكرا تلك الليلة النكراء التي خرج فيها من صنعاء سنه 1962 وعمره خمس وعشرين سنة. كان في تلك الأيام يتهيأ فيها للزواج من بنت أحد شيوخ القبائل في ريف صنعاء. و كان مولع بالملك ولعا شديدا، وكان الملك بدوره يحبه ويحترمه، لا لكونه حارسا ماهرا في القصر فحسب، بل لعشرته إياه سنينا طويلة منذ صباه. أي منذ فجر ذلك اليوم الذي اصطحبه عمه حتى سور القصر أين تخلص منه وتركه ينتظر، فأخذه حرس القصر الذي عثر عليه يصارع الجوع والظمأ والحرارة الشديدة وهو ابن العاشرة من عمره.
ليلة الحادث، كان أبي في غرفته يغط في نومه، حين دوت حوله أصوات الرشاشات والقنابل من كل جانب، فهب مذعورا لا يعرف ما الذي حدث. جرى نحو غرفة الحراس، فاستقبلته دماء حمراء داكنة تسيل على الأرض. أخذ يتسلق الجدران، ويقفز فوق البنيان حتى أدرك الحقول المجاورة للقصر، ومن هناك بدأت رحلته الطويلة والشاقة.
قضى بقية تلك الليلة زاحفا على بطنه بعناء شديد، جارا ساقه خلفه التي ظن أنها انكسرت خلال محاولته الهرب من القصر. لما سمع صوت المؤذن يدوي في سماء صنعاء، عرف انه فجرا، وأن عليه أن يدرك البحر قبل أن يدركه النهار، فيكون مآله التنكيل والتعذيب قبل أن ينال رصاصتين في الدماغ.
أشرف على البحر الأحمر قبل انبلاج الصبح بقليل منهكا، يتنفس بصعوبة بالغة، كأنه يلفظ آخر أنفاسه وهو يحاول اجتياز آخر حاجز: حاجز حرس الحدود البحرية. وتمكن من ذلك بعد أن جانب الممرات الرسمية وقطع عدة كيلومترات مشيا حيث عثر على سفينة سودانية تصطاد عرض السواحل خفية، فهربته معها إلى ما وراء البحر. قضى في السودان حوالي شهرين يعيش متخفيا ومتجنبا الظهور في الأماكن العامة، مستعيرا اسم عبود السوداني. لا يريد المكوث طويلا هناك نظرا لقربه من اليمن، ولإمكانية تسليمه إلى السلطة الجديدة التي أطاحت بالملك وبالنظام الملكي. من السودان ارتحل إلى ليبيا معرضا حياته لخطر السجن وحتى القتل، ومن هناك دخل إلى الجنوب التونسي سنة 1963.
في تونس عمل أبي بالساعد في الحقول والبوادي والجبال بلا كلل ولا ملل، مصمما على بدء حياة جديدة هناك. استقر في بنزرت المدينة الشمالية الجميلة، حيث كان يعيش غريبا لا نسب له ولا حسب، رأس ماله اندفاعه البدني وطيبة أخلاقه، الشيء الذي أتاح له العمل كجنان قار في الحديقة العمومية لتلك المدينة.
في احد أيام الصيف الخانق، وجد فتاةً تستغيث المارة لإعانتها على حمل أمها إلى المستشفي اثر تعرضها إلى نوبة قلبية. كان المارة قليلون في تلك الساعة من الهجير، وحتى الذي وجد في الطريق، كان يسرع إلى الشاطئ ليحتمي من قسوة الحر. شاءت الأقدار أن يمر أبي من هناك عائدا من العمل، فيجد امرأة بدينة ملقاة على قارعة الطريق، و بجانبها ابنتها تصعق وتنتحب حينا، و تلوح إلى المارة بيديها أحيانا أخرى. عندما حمل العجوز على ظهره، بدت كأنها في الرمق الأخير، و سار بها مهرولا بضع كيلومترات، بينما كانت الفتاة تتبعه من خلف حتى بلغ المستشفى. لم يبرح المكان حتى عولجت المرأة، و استعادت وعيها و بعض من صحتها، فشكرته و طلبت منه أن يدلها على منزله لكي ترد له الجميل بأفضل ما تملك. و هكذا كانت بداية ارتباط اليمني بالتونسية.
يوم زفافه تذكر اليمن، وفكر في أنهج و أزقة صنعاء حيث كان يلهو وهو طفلا مع أبناء عمه، دون أن يعلم ما كانت تخبؤه له الأيام من قطع للقارات، و فراق للأحبة و الأصدقاء، و مواجهة للكروب و الأحزان.
كانت أمي تنتمي إلى عائلة عريقة في بنزرت، إذ كانت تقول أن جدها الرابع بنزرتي المنشأ، أما الخامس، فهو قرطبي أندلسي، اسمه عصام بن إبراهيم الرشيكو. غير أن عراقتها لم تجن منها شيئا مثل غيرها بعد أن مات والدها و اضطرت أمها إلى كسب قوتهم في سوق السمك. حتى المنزل الذي نسكنه الآن في منوبة هو نفسه الذي تزوج فيه أبي بعد أن باع منزل جدتي في الشمال، وهو بناية صغيرة و قديمة من عهد الحماية الفرنسية، يتكون من قاعة جلوس وغرفتان ومطبخ وممر صغير يؤدي إلى الشارع. عند خروج الاستعمار الفرنسي من تونس باع المستوطنون الإيطاليون كل منازلهم و ضيعتاهم بأرخص الأثمان، لكن جدتي الأرملة كانت غير قادرة حتى على شراء حمار، و لذلك لم تنل شيئا من الأملاك التي تركها الفرنسيون و الإيطاليون.
كان أبي كلما ضاق به الحال هنا في تونس وقست عليه الظروف، يتوق إلى اليمن. و كان كل خبر يسمعه عن تلك البلاد يؤجج فيه نار العودة. غير أن ذلك الشوق الطافح بدأ بعد زواجه يفتر يوما بعد يوم، و يحل محله رضاء المهاجر الذي استسلم لرغبة الظروف. كان الجميع ينادونه "اليمني"، تسمية تدخل على نفسه الابتهاج، حتى أمي نادرا ما كانت تناديه باسمه سواء في وقت الجد أو الهزل، و كثيرا ما كانت تطلب منه مازحة: "خذنا إلى صنعاء أيها اليمني". مع مرور الأيام و السنين انمحى أو كاد من نفسه ذلك ألتوق إلى اليمن حتى بدا كأنه لم يعد يمت بصلة إلى تلك الأرض.
كان والدي رجلا أسمر اللون و نحيفا، و لكنه مفتول العضلات. عيناه صغيرتان، و أنفه مقوس، وحاجباه مقرونتان. منظره يوحي بشدة اليمنيين، لكنه في الحقيقة رجل على غاية من الطيبة، أحبابه أكثر من أعداءه، و حسن خلقه و صدقه لا يوصفان، مما جعل ملك اليمن يقربه منه كحارس للقصر بدل جنان بسيط.
أنا بكر والدي، و في الحقيقة ابنهم الوحيد، لأن أختي الصغيرة توفيت في الثاني من عمرها، و لذلك السبب كانا يعاملانني كرجل و أنا فتى صغير. حدثتني أمي عن كل تفاصيل حياتها، وروى لي أبي كل ما قاساه في صباه و شبابه و كهولته. في الحقيقة، أنا لم أكن أشفق على أمي قدر إشفاقي على أبي، رغم قسوة ظروفها كيتيمة، لأن والدي كان، في نهاية الأمر، مهاجرا، و غريبا، و يتيما، ومشردا. عندما كان يحدثنا عن أطوار حياته الغريبة، لم يكن يشتكي و لم يكن يتذمر... بل كان يتحدث ببطء، في نبرة ثابتة و قوية، وعينان تنظران إلى الأفق البعيد، كأنه يرغب في أن يسجله التاريخ. فقط بسبب هذا الأمر نمى في حب عارم لاكتشاف التاريخ و سبر أغواره. و لذلك لم أكن أستمتع بمادة في المدرسة كاستمتاعي بمادة التاريخ.
4
في اليوم الموالي بدأت أبحث عن الرسام الهادي التريكي، و كان ذلك بالبحث عن رقم هاتفه من خلال تصفحي بلهفة شديدة لدليل الهاتف. سجلت خمسين رقم هاتف يحمل هذا الاسم، ثم بدأت بالرقم الأول، فأجابني صوت شاب حسبته ابن الهادي التريكي. سألته :
_ هل هذا منزل السيد الهادي التريكي؟
_ نعم. من الذي يطلبه؟
_ أقصد الهادي التريكي الرسام.
انزعج الصوت و سمعته يتحدث مع شخص آخر وهو يقول ساخرا: "لا رسام و لا دهان" ثم علق. طلبت الرقم الموالي، فقيل لي بأنه خباز. وظللت أمر من الخباز إلى النجار، إلي العطار، إلى الجزار... حتى عثرت على الرسام فسألته متلهفا:
_ الرسام الهادي التريكي؟
_ نعم أنا الهادي التريكي الرسام.
_ صاحب لوحة "النجوم في القدس"؟
_ نعم... من يكون حضرتك؟
_ أنا؟... أنا باحث من كلية الآداب و الفنون الإنسانية، أعد دراسة حول أعلام الرسم الزيتي في تونس. فهل يمكن أن أجري مع حضرتك مقابلة لهذا الغرض؟
لم يجبني. فصرخت: "ألو... ألو...". فعرفت أن المكالمة انقطعت. فلما أعدت الكرة، أجابتني هذه المرة فتاة، و أعلمتني بأن الرسام انصرف و قال بأنه يمكنني الاتصال به في ورشة الحمائم على العنوان التالي: "2 مكرر نهج الحرية قرب مغازة المونوبري".
سرت من شارع شارل ديغول حتى شارع الحرية و أنا أفكر فيما ينبغي أن أعرف عن الرسام الهادي التريكي، و في كيفية الوصول إلى ذلك. قلت في نفسي بأنها لحظات قليلة تفصلني عن الالتقاء بأكبر رسامي البلد، و أحد أبرز وجوه الفن في العالم العربي، و لا أدري إن كنت قادرا حقا على الحوار مع هذا الصنف من الناس. كنت أسرع الخطى بين أحاسيس مختلفة و مختلطة: فرح وخوف و توتر... حتى بلغت باب الورشة بعد نصف ساعة من السير الحثيث. ضغطت على الناقوس مرتعشا و انتظرت. فتح لي الباب شاب في مثل سني، فحييته بابتسامة صفراء مذكرا إياه بأني "أنا الذي كلمت السيد الهادي التريكي منذ حين و ..." فقاطعني بحفاوة: "تفضل... تفضل". دخلت و شعور عارم بالارتياح يغمرني، و سرت في الممر بهدوء أحمل بيدي اليسرى حقيبة أنيقة كنت قد استعرتها من حكيم، فشعرت بأني حقا باحثا ماهرا في الفنون الجميلة. كانت جدران الممر مزخرفة بعديد اللوحات الزيتية التي تحمل إمضاء التريكي، فتأملتها جميعا و لم تعجبني منها أي واحدة تقريبا، ربما لعدم اهتمامي بهذا الفن من قبل.
انتظرت في قاعة فسيحة هي بدورها مزينة بلوحات من مختلف الألوان و الأحجام والمواضيع لنفس الرسام. أشار علي الشاب بالجلوس ثم انصرف. لم أكد أجلس و استرد أنفاسي و أستعد للقاء الكبير، حتى هل علي رجل يبدو أنه تجاوز الستين من عمره: ابيض شعره و طال حتى كتفيه، وتدلت شارباه الغليظتان على جانب فمه. كان نحيفا و أبيض البشرة، وتبدو الرقة من ابتسامته العريضة، و الرشاقة من مشيته الخفيفة، و الأناقة من جمال وتناسق ثيابه. فانتصبت واقفا، ومددت يدي إليه مسلما دون أن أقدر على الكلام، فابتدرني قائلا بسرور:
_ مرحبا بك يا ابني... مرحبا... كيف حالك؟
_ بخير، شكرا. أنا رباح الباحث في الفنون الجميلة.
لم يتركني أواصل الكلام، و طلب مني الجلوس. وعلى الفور جيء لنا بفنجاني قهوة. جلست متنفسا بصعوبة، باحثا عن كيفية الدخول في الموضوع. قال لي على الفور مجاملا:
_ يعجبني الشباب الطامح إلى العلم و المعرفة مثلك. أنتم شموع الغد وبناة حضارة القرن القادم.
ارتشفت قهوتي و جمعت كل قواي، وقلت متكلفا الشعور بالحرج من مدحه لي:
_ شكرا سيد التريكي... هل يمكنني أن أعرف بعض الأشياء عن مسيرتك الفنية و أهم أعمالك في الرسم؟ و هل بإمكانك مدي ببعض المعلومات حول السيرة الذاتية لشخصك الكريم؟
قبل أن يجيبني دخل الشاب الذي فتح لي الباب ومعه فتاة تصغره ببعض السنوات على ما يبدو، فسلما وجلسا. وبدون أن أطلب منه شيئا نظر، إلي التريكي و قال مقدما إياهما:
_ هذا هو ابني الأكبر نور، طالب بالسنة الثالثة في اختصاص المسرح، و هذه ابنتي نوال، طالبة بالسنة الثانية بكلية العلوم في اختصاص علم الأحياء والبيولوجيا.
صافحت كليهما مبتسما ومبدي إعجابي باختصاصيهما. ثم واصل الرسام حديثه:
_ إني لمسرور جدا بأن أرى من يهتم بهذا الفن الذي كاد ينحصر بين فئة قليلة من النخبة التي يصفونها بالأرسطوقراطية. أما عموم الناس، فهم لا يعيرون أي اهتمام لهذا الفن الذي كان أحد روافد النهضة في أوروبا. من يجهل من الشباب الآن شخصية مارادونا، لاعب كرة القدم الأرجنتيني؟ ولكن في المقابل، قل لي كم عدد الذين يعرفون بابلو رويث بيكاسو، الرسام الاسباني العبقري، أو ليوناردو دي فنتشي، الرسام الايطالي الشهير، أو فينسنت فان غوخ، الرسام الهولندي و صاحب التسع مئة لوحة و الألف وست مئة رسم...؟
فقاطعته مضيفا: " أو الهادي التريكي الرسام التونسي الفذ؟" فضحك معلقا بتواضع:
_ نعم الهادي التريكي... قطرة من بحر.
دعاني بعد ذلك إلى جولة في بقية أجزاء ورشته المتكونة من ثلاث غرف إلى جانب الغرفة الكبرى التي استقبلني فيها و مكتبه الخاص. كان يمر بي أمام لوحاته مفسرا لي رموزها، و موضحا المدرسة التي تنتمي إليها كل واحدة: هذه انطباعية، وتلك تجريدية، و أخرى تكعيبية، ورابعة لست أذكر ماذا. قضينا حوالي ساعة نتجول هناك مرت عليه كأنها دقيقة، و مرت علي كأنها قرن من الزمان، أعطاني بعدها عنوان منزله، و اتفقنا على زيارته هناك في اليوم الموالي لأتسلم بعض الوثائق الهامة حول مسيرته الفنية وسيرته الذاتية.
بت تلك الليلة في نوع من الشعور بالرضا عن النفس، و كان يحدوني أمل كبير في بلوغ هدفي الأخير، و هو الوصول إلى الأمين باي. في اليوم الموالي سلمني التريكي عدة وثائق تتحدث عن فنه و حياته، وقال لي في نبرة كرم:
_ زرني متى شئت ومتى احتجت إلي، فستجدني إن شاء الله كريما.
وافقت شاكرا فضله و أنا أقول في نفسي: "ها أنا أملك الآن عن الرسم ما لا أملكه عن موضوع أطروحتي، فهل أهجر التاريخ يوما ما لأشتغل بالرسم؟"
مضى ذلك الأسبوع وأنا لا أفكر إلا في مقابلة ابنة الباي التي في الحقيقة قد تعود و قد لا تعود، بعد أن غرست لبنة أولى في طريق الإمساك بها. أما ما كان يحيرني أكثر في صورة مجيئها، فهو مسألة اهتمامها بالرسم من عدمه، والحال أني بنيت كل مخططي على مجرد صورة تحملها للرسام بيكاسو. فكرت بأنها يمكن أن تكون زينة لا غير، إذ ليس كل من يحمل صورة رياضي هو بالضرورة مغرم بالرياضة، و كل من يحمل شعار جمعية هو عضو فيها، لأن عامل التقليد والمحاكاة في اللباس والزينة هو المحدد في غالب الأحيان. شعرت بالمرارة والإعياء عندما سيطرت علي هذه الهواجس، غير أن أحد ميزاتي هي أن أتعلق بأتفه أسباب الأمل لتحقيق أهدافي.
استيقظت يوم الخميس باكرا، و لبست أفخم ما اشتريت من سوق اللباس المستعمل، و حملت حقيبتي المستعارة، ووضعت نظارات شمسية عثرت عليها في أسفل الخزانة، دون أن أنسى بعض الملصقات التي مدني بها الهادي التريكي، و التي تحمل سيرته الذاتية. وصلت إلى المصحة حوالي الساعة التاسعة والنصف، و كان من المقرر أن تأتي في العاشرة صباحا. و بما أنه لا توجد مقهى قرب المصحة، كان علي أن أنتظرها في محطة الحافلات المقابلة لباب مأوى السيارات. وضعت حقيبتي بجانبي وجلست أتصفح وجوه المسافرين خوفا من أن ألتقي بأحد الأصدقاء أو المعارف فيعكر لحظات انتظاري تلك. توقعت أن تتعمد التأخير لوقت طويل حتى أمل الانتظار فأنصرف، و من أجل ذلك أصررت على البقاء حتى الليل إن لزم الأمر. بدأت المحطة تخلو من المسافرين و كنت أنا صامت، أراجع بدقة ما أعددته من معلومات حول الرسام التريكي. بدأ إصراري يضعف شيئا فشيئا بعد أن مر وقت لا أستطيع تقديره، وفجأة لمحتها تخرج من المصحة و تتجه نحو مأوى السيارات، فانطلقت نحوها كالبرق الخاطف، فأدركتها في باب المأوى. كانت تسير مطرقة الرأس دون أن تنتبه إلى ما و من حولها، حتى بادرتها بالتحية بعد أن نزعت النظارات. رفعت رأسها نحوي و ردت التحية دون أن تكف عن السير. فسألتها:
_ ألم تذكريني؟ أنا الذي تحادثت معك في نفس هذا المكان في الأسبوع الماضي.
تبسمت، ثم همست بكلمات غير مفهومة. فأضفت بحزم:
_ لقد وعدتني بأن نلتقي اليوم. نعم أنت وعدتني.
عندما سمعت هذا الكلام بدا أنها تذكرت فتوقفت قائلة:
_ آه! حقا أنت الذي أردت أن تعطيني رقم هاتفك.
ثم صمتت قليلا وتابعت متسائلة:
_ و لكن ماذا تريد مني فعلا؟
بسرعة غير متوقعة أجبتها:
_ في الحقيقة الأمر يحتاج إلى بعض الدقائق لأفسر لك ما أريد. فان سمحت نمشي قليلا على الرصيف لأحدثك عنه.
بدون تردد أو ارتباك أو خوف، و بكل ثقة بالنفس قبلت، وسرنا جنبا إلى جنب وأنا أشعر في تلك اللحظات بأني أصطحب التاريخ معي. وقبل أن أشرع في الحديث، نبهتني بأنها لا يمكنها البقاء معي أكثر من ربع ساعة، فقبلت متفهما أمرها ثم بادرت بالقول:
_ أنا رباح، طالب في قسم التاريخ و بصدد إعداد أطروحة الدكتوراه حول تاريخ تونس الحديث. هل فهمت؟ أقصد تونس في العهد الأخير من حكم البايات. وأعتقد أنك أفضل شخص يمكنه أن يعينني على ذلك بمدي ببعض المعطيات حول هذه الفترة، و سأكون ممتنا لك طول حياتي.
ردت علي و كأنها لم تفهم ما كنت أقصد:
_ الموضوع عظيم، و لكن أنا لست مؤرخة ولا حتى طالبة بقسم التاريخ مثلك.
أحسست بتوتر داخلي خشيت أن ينعكس على نبرة صوتي وعلى كامل المحادثة معها، لكني حاولت تهدئة نفسي وخاطبتها مبرزا قيمة الوسط الذي تعيش فيه فأجبتها:
_ نعم ولكن أنت تعيشين في وسط تاريخي، لا بل أنتم التاريخ نفسه. ما ذا ترين؟
لمست من عينيها ترددا وحتى خوفا مني فأردفت قائلا:
_ لا تعجبي، فعائلتي فنية و أنا مولع بالتاريخ.
فسألتني بلهفة:
_ عائلة فنية؟ و أي فن تمارس عائلتك؟
_ والدي رسام. هل سمعت باسم الهادي التريكي؟
و ما أن نطقت بهذا الاسم حتى رأيت وجهها يتهلل فرحا وسألتني مندهشة:
_ تقصد الهادي التريكي الرسام صاحب لوحة "النجوم في القدس"؟
أطلقت ضحكة طويلة وأضفت مبديا افتخار بوالد في الحقيقة ليس والدي:
_ نعم، و صاحب عدة لوحات أخرى و ألقاب عربية وافريقية. أتسمعين به حقا؟
_ و كيف لا، وأنا أهوى وأمارس فن الرسم ؟
فسألتها مندهشا بدوري:
_ أنت إذا تحبين الفن التشكيلي؟
فقالت بأنها لا تعرف غيره، و أنها يمكن أن تتنازل عن كل شيء في حياتها إلا عن فن الرسم. واصلنا السير ببطء و أنا في غبطة لا توصف وأمل كبير في المستقبل. وعادت تسألني كأنها تشك فيما قلته لها:
_ قلت بأنك أنت ابنه؟
فأكدت مازحا:
_ أنا لست ابن الهادي التريكي فقط... بل ابن زبيدة التريكي أيضا.
فضحكت وضحكت أنا أيضا على ضحكي عليها، ثم واصلت القول بنوع من الجدية:
_ أنا الابن الأكبر، و لي أخت أصغر مني بسنتين. إنها تربك تقريبا.
ثم فتحت حقيبتي وأعطيتها الصور الملصقة للهادي التريكي التي جلبتها معي. تسلمتهم مني مسرورة، و راحت تتأملهم الواحدة تلوى الأخرى، ثم دستهم في جزدانها كمن عثر على صيد ثمين. وسألتها فجأة:
_ ما اسمك؟
_ أميرة.
فعلقت بهزل:
_ أميرة ابنة الأمراء!!
فردت بسرعة:
_ لم نعد أمراء منذ زمان. نحن نعيش الآن حياتنا كبقية الناس بعيدا عن الحكم، وأفضل لنا أن نعيش هكذا. نحن الآن أكثر سعادة من أسلافنا الذين عاشوا بايات في البلاد، و أنت كدارس للتاريخ لا تجهل ما يعانيه الملوك والأمراء من أزمات، وتعب، وتوترات مدة كامل حكمهم.
وافقتها على ذلك وأحسست أنها بدأت تطمأن لي، الشيء الذي شجعني على تقديم بعض العروض المغرية لها فقلت:
_ إذا احتجت لي في أي أمر يتعلق بهوايتك المفضلة، فلا تترددي في إعلامي.
ضحكت و شكرتني، ثم راحت تسألني عن أهم المحاور التي سأهتم بها في أطروحة الدكتوراه. وفجأة صرخت بأنها تجاوزت الربع ساعة بكثير، فعدنا إلى مأوى السيارات، وقبل أن نفترق، سلمتها رقم هاتفي على أمل أن تكلمني في وقت قريب.
عدت من هناك ماشيا على الأقدام حتى ساحة برشلونة، حيث انزويت في مقهى صغير وطلبت قهوة، ثم تهت في بحر من التفكير: لم كل هذا الاهتمام بالتاريخ؟ و لم كل هذه المغامرات التي قد لا تحمد عقباها؟ و لم لا أكون طالبا عاديا ألتحق بالتعليم في إحدى مدارس الجمهورية و أدع البحث والكتب لأصحابها؟
5
كنت من حين لآخر أقضي بعض الأمسيات عند حكيم في منزله بعد عودته من العمل. فكنا نضع الطاولة في الشرفة، و نعد الشاي و القهوة، ثم نجلس نتجاذب أطراف الحديث. في الحقيقة لم يكن حكيم ثرثار ولا مولع بالحديث مثلي، بل كان يميل إلى الصمت ومشاهدة التلفاز، غير أنه كان يتمتع بحس رقيق و بصيرة ثاقبة: نقده مركز، وأسئلته دقيقة، وكان قلما يوجه النصائح، ولكن كانت نصائحه جلها مفيدة وصائبة. بعد أن حدثته عن أميرة وكيفية معرفتي لها، وهي تلك الزيارة التي قمت بها إلى مصحتهم، سألني في نبرة حادة:
_ قل لي رباح، ماذا تريد بالضبط من هذه الفتاة؟
_ أنا أبحث عن شيء معالمه بينة وثناياه لا تزال مبهمة.
_ وما معالم هذا الشيء؟
_ التاريخ.
_ ثم ماذا؟
_ أن أملك التاريخ
_ و لم لا تملك الثروة عوضا عن الأخبار والروايات والقيل والقال؟
_ إن الذي لا يملك الثروة ولا يملك السلطة، عليه أن يملك التاريخ حتى يجعل الأثرياء والسلاطين دمى عنده.
كنت أرد على أسئلته بحماس مفرط، و كأن انتصاري عليه نجاح فيما أصبو إليه، وهزيمتي، إخفاق لمخططي. عاد حكيم إلى صمته فوفر علي راحة لا توصف، ومنحي بعض الوقت لمراجعة أجوبتي والنظر في مدى تأثيرها فيه، ثم استأنف أسئلته من جديد:
_ ألا تعتقد أن اهتمامك بهذه المادة وإنفاق أفضل أيام شبابك هو مضيعة للوقت؟ الرجال ينحتون وجه هذا العالم بسواعدهم وعرقهم، و أنت تتبعهم من خلف لتقتات من فتاتهم كالطيور في تتبعها لحارث الأرض.
عندما هممت أن أجيبه واصل تساؤله دون أن ينتظر جوابي:
_ عليسة تبني مدينة قرطاج، وموسى يحرر شعب مصر، و ابن غوريون يؤسس دولة، و أبي يحفر بئرا، وأبوك يشتري بيتا قديما فيرممه...، و أنت ماذا يمكن أن تفعل؟ تكتب كتابا مليئا بذكريات الماضي؟
ظللت أستمع إليه في دهشة كبيرة، مبهورا بمستواه العلمي الذي كنت أحسبه ضحلا لكونه ممرضا ليس إلا. كنت أعتقد أن الإبداع الفكري لا يكون ألا من قبل الدكاترة و الأساتذة المحاضرين. على ذكر الدكاترة، كان أحد أساتذتي في الجامعة مولع بلقب الدكتور إلى درجة الهوس، فلا يقدم نفسه لأحد إلا بهذه الصفة: الدكتور حافظ. حتى سمعته ذات يوم يستعملها مع أفراد عائلته مخاطبا ابنه: "رمزي... قل لأمك أن الدكتور حافظ سوف يعود إلى البيت متأخرا اليوم". بقدر ما فوجئت بمستوى حكيم، أصررت على مواجهته حتى أثبت له ولنفسي جدوى البحث في التاريخ وكتابة الكتب:
_ أنت سألتني و أجبت نفسك في آن واحد. إن تأليف الكتب هو نحت أيضا في هذه الحياة، و لكن لا ينحت شكلها ووجهها فحسب، بل عقلها وجوهرها أيضا. إن التاريخ ميزانا لا يظلم، وعينا لا تنام، وسيفا لا يخفي. كم من حقوق كادت تضيع وحقائق كادت تزيف وجرائم كادت تخفى لولا المؤرخون الذين سلطوا عليها الأضواء وأخرجوها من دائرة الإهمال.
في تلك اللحظة قاطعنا رنين الهاتف، فوثبت كالمصعوق صارخا:
_ ألو... نعم... من؟
فسمعت صوتا فاترا يسأل عن معلوم لست أدري ماذا، فزمجرت غاضبا بأن هذا ليس رقم البلدية.
مرت أيام دون أن تكلمني أميرة وأنا أنتظرها في البيت، فبدأت أشعر بالضجر من المكوث بين الجدران كالمسجون، و أنا معتاد على السير والحركة، لا يكاد يسعني حي حتى أدرك آخر، ولا شارع حتى أقطع غيره... كم مرة أحسست بأن أفكاري لا تنضج وتنتظم إلا أثناء الحركة والسير. إلا أنه لم يكن لي من حل غير مواصلة الانتظار، وقد صار الزمن يتقدم ببطء، وصرت أسلي نفسي بالاسترخاء و بناء أحلام اليقظة تارة، وبالإقبال على الأكل والشرب بنهم طورا، حتى بدأ وزني يزداد، وخيالي يتلبد، ونفسي تسئم كل شيء.
قبل نهاية الأسبوع كلمتني أميرة بعد منتصف النهار، وقالت بأنها ستأتي إلى العاصمة ومعها وثيقة ثمينة للغاية. لم أسألها عن شيء منها، وفضلت رؤيتها مباشرة بأم عيني لأعرف فحواها. توجهت على الفور إلى المصحة وليس معي غير قليل من النقود التي طلبتها من حكيم في اليوم السابق. كان لقاءنا هذه المرة ودي للغاية، وقد بدأت تزول بيننا، على الأقل بالنسبة لي، تلك الحواجز النفسية والمخاوف التي كانت في المرة الأولى. اقترحت عليها بشيء من الحذر الذهاب إلى مقهى البلفيدير، فوافقت دون تردد، فامتطينا أول سيارة أجرى مرت أمامنا. لم تكن تحمل سوى جزدان أبيض في كتفها، فتأملته مليا ونحن في السيارة وفكرت: "في هذه المحفظة ترقد كنوز لو تفطن لها المؤرخون لقاتلوني عليه". عندما وصلنا، طلبت هي عصير برتقال وشرعت مباشرة في الحديث عن ازدحام حركة المرور في الطريق، وعن التجاوزات الممنوعة التي يرتكبها سائقي السيارات، وعن سوء أدب بعضهم، وأكدت أنها من أجل ذلك تفضل أحيانا استعمال وسائل النقل العمومي. عندما كانت تحدثني، كنت أنا لا أكف عن تحريك رأسي موافقا، والحال أن كل تفكيري كان منصبا على الوثيقة. هممت عدة مرات أن أقاطعها وأسألها عنها، لكني أحجمت حتى لا أبدي اهتماما مفرطا، يجعلني في موقع ضعف أمامها. قررت في المقابل أن أجاريها في موضوعها، لكي أخلص منه إلى موضوعي دون جلب انتباهها، فقلت:
_ فعلا إن هذا السلوك لا يمت إلى المدنية بشيء حتى أننا نشعر أحيانا أننا في سوق للحيوانات البرية وليس الأهلية.
تأملت أميرة برهة جزدانها حتى اعتقدت أنها تذكرت الوثيقة، لكنها ضحكت قائلة:
_ إن الحيوانات أكثر انضباطا من البشر أحيانا.
_ لا لوم عليهم، فهم عديمي الثقافة ولا يعرفون غير مشاهدة التلفاز.
_ في الحقيقة السلوك الحضاري يتعلم في البيت و المدرسة والشارع وليس من خلال الكتب.
شعرت بالملل وضاق صدري من هذا الهراء فسألتها بعصبية:
_ هل أتيت بالوثيقة؟
_ آه! المعذرة. لا شك أنها ستعجبك، رغم أني لم أتمكن من الإطلاع على كل ما فيها، لكنها تتحدث بدون شك عن التاريخ.
بينما كانت هي تبحث عنها في جزدانها، كنت أنا أردد كالمجنون: "التاريخ... أرينيها... أرينيها".
كانت الوثيقة في شكل كتيب مخطوط باليد، أصفر اللون وأطراف أوراقه ملتوية، بها عدة بقع سوداء تغطي بعض الكلمات وأحيانا بعض الأسطر. لا يملك عنوانا ولا اسم مؤلف، فتصفحته بلهفة بين الشعور بالأمل و الخيبة. قرأت السطر الأول ثم بعض الأسطر في الوسط والسطر الأخير، فبدا لي كتاب سيرة ذاتية لأحد موظفي قصر الحسينيين. ترجتني الفتاة أن لا يسمع أحد بهذا الكتيب غيري، فطمأنتها بأني سأحافظ عليه وأضعه في بؤبؤة عيني، و في الحقيقة وضعته في الجيب الداخلي للسترة بعد أن شكرتها بجمل موجزة وقليلة، وأنا في الحقيقة لا أجيد فن المجاملة .
سألتني عن أحوال الهادي التريكي وعن آخر إبداعاته في مجال الرسم، وكررت أنها مغرمة كثيرا بهذا الفن. كما قالت بأنها شرعت منذ سنوات قليلة في ممارسته، فأنتجت إلى حد ذلك الوقت اثنا عشر لوحة، منها خمس لوحات من الحجم الكبير. فسألتها:
_ أين تعلمت الرسم؟
_ أنا عصامية التكوين. قرأت عدة كتب بالفرنسية والايطالية وحاولت تطبيق مناهجها. كما استعنت ببعض المغرمين مثلي، فتكونت لي خبرة متواضعة في هذا المجال. غير أن تكويني لا يزال ضعيفا، لذلك كنت دائما أبحث عن مختص في الرسم يأخذ بيدي، حتى عثرت على ابن الهادي التريكي.
قالت ذلك مقهقهة. فابتسمت وقلت:
_ كما تشائين.
فجذبت خصلة الشعر عن خدها الأيمن والتفتت إلي قائلة في شوق:
_ إذا تكلمه في شأني.
_ لا تهتمي. سيكون لك ما تريدين.
أكدت لها ذلك في غرور مصطنع. وقبل أن نفترق طلبت منها رقم هاتفها فترددت في البدء ثم كتبته في جذاذة قائلة:
_ تطلبني في أحد هذين اليومين فقط، الاثنين أو الخميس بين العاشرة والحادية عشر صباحا. وأرجوك أن لا تطلبني خارج هذه الأوقات فتسبب لي إزعاجا كبيرا.
قبل أن أعود إلى البيت، مررت بمقهى الفسيفساء لعلي أعثر على حكيم، فنتناول قهوة معا، و أثير معه موضوع الدكتوراه، فيحتد نقاشنا، وتتخاصم آرائنا، فأكون أنا الرابح في النهاية بإثراء معلوماتي حول ما أنوي إنجازه. لكني لم أجده هناك، فطلبت قهوة و بدأت أرتب أفكاري، وأضبط مراحل العمل التي يتوجب إتباعها. هيمن علي شعور في تلك اللحظات بأني أجتاز مرحلة هامة وصعبة من تنفيذ خطتي المتعلقة بالاستحواذ على وثائق نفيسة ونادرة. شرعت في تقييم مقابلتي الأخيرة مع أميرة، محللا كل دلالاتها، ومخططا للمراحل المقبلة. أخذت رشفة طويلة من القهوة، وفكرت بعمق، فاستنتجت ما يلي:
لقد ارتاحت الفتاة لي واطمأنت إلي، وهي على ما يبدو مستعدة لأشياء أخرى، ويبدو ذلك من خلال مدي بهذا الكتيب الثمين ورقم هاتفها، بعد تردد وارتباك الأيام الأولى. قفز في ذهني فجأة سؤال مهم: لماذا حددت لي بالضبط يومي الاثنين والخميس لمخاطبتها؟ ولماذا صباحا من العاشرة إلى الحادي عشر؟ بدا لي الجواب سهل، أنها تنتمي إلى عائلة كانت مهد السياسة والحكم لمدة قرنين ونصف القرن من الزمان حتى أقيل أباها بالقوة من سدة العرش. يسير هذا النوع من العائلات على نظام دقيق جدا: يحددون معارفهم و يضبطون قائمة في ما ينبغي الإفصاح عنه وفي ما يجب كتمانه. أوقاتهم أيضا مضبوطة: وقت للأكل، ووقت للنوم، ووقت للمزاح، ووقت للجد...
كما استنتجت أن مكتبة الباي تحتوي على درر من التاريخ تتمثل في مخطوطات يدوية لم تر النور بعد كالذي أتتني به أميرة. وبالنسبة لي كباحث، فان المخطوط اليدوي يعني لي الكثير، لأنه لم يحقق ولم يطلع عليه أحد بعد.
النتيجة الثالثة التي توصلت إليها هي أن الفتاة أصبحت بدورها تتشبث بي وتعمل على ربط الصلة بيننا، خدمة لغرضها الخاص وهو إتقان فن الرسم عن طريق الهادي التريكي.
بعدما جمعت هذه الاستنتاجات، تبين لي أن الباب مفتوح أمامي على مصراعيه للمرور إلى تنفيذ المرحلة الثانية من خططي المتمثلة في المعاينة بنفسي للوثائق حيث ترقد منذ زمان في مضجعها الملكي. أي في جملة واحدة الوصول إلي منزل الأمين باي. يبقى خطر وحيد يهدد ما بنيت بالانهيار: هو أن تكتشف ابنة الباي أني لست ابن الهادي التريكي، أمر كنت استبعده لأني نجحت إلى حد ذلك الوقت في ترسيخ القناعة لديها بأني أنا فعلا ابنه.
تركت الأمر يستريح شهرا كاملا حتى تشتاق هي لمكالمتي، ثم طلبتها يوم الاثنين من الأسبوع الخامس، فرفعت السماعة بسرعة كأنها كانت تنتظرني. سلمت عليها و أنا أردد بداخلي: "أنا الآن في قصر سيدي الأمين باي... أنا في بيت التاريخ". أشد ما كنت أخشاه أن يجيبني أحد آخر مكانها، فيذهب سدى كل ما أعددته طيلة تلك الفترة. سألتني عن سبب كل هذا الغياب، فأرجعت ذلك كذبا إلى انشغالي بالبحث في موضوع الدكتوراه في الجامعة. سمعت رنين ضحكاتها في الهاتف كأنها تشجعني على المضي قدما في موضوعي، غير أن ذلك شجعني أيضا على مباغتتها بالطلب التالي:
_ أميرة... أريد أن أزورك في البيت.
تغيرت نبرة صوتها و أجابتني كأنها تصرخ:
_ تزورني؟ أين؟ و كيف؟
فأجبتها في هدوء:
_ طبعا في منزلكم. أين تريدين أن أزورك؟
_ لا. غير ممكن الآن ولا حتى في المستقبل. إن شئت نتقابل في العاصمة.
قالت ذلك بإصرار، فأجبتها بإلحاح:
_ هل يمكن أن تقولي لي سببا واحدا لرفضك؟ أنا الآن صديق لك، ولم لا أكون صديق العائلة أيضا؟
سمعتها تتلعثم من وراء السماعة وكأنها تهذي بأشياء غير مفهومة قبل أن يتضح صوتها من جديد قائلة:
_ طبعا نحن أصدقاء... و لكن المعذرة إن قلت لك أنك لا تستطيع ذلك، لأن عائلتنا ليست على غاية من الانفتاح، بحيث يسهل عليها استقبال أجنبي في البيت ليصبح صديقا لها في وقت وجيز.
فقاطعتها موضحا:
_ نعم أنا أفهم ذلك جيدا، غير أنه يمكنني أن أزورك أنت لأتصفح بعض الوثائق التي تخص موضوع بحثي دون أن أتعرف على العائلة.
صمتت... فأضفت:
_ و من ناحية أخرى لم لا تتعارف العائلات الكبرى في البلاد ويتصل التاريخ بالفن، والسياسة بالثقافة، والثروة بالحضارة؟
لاذت بالصمت من جديد، صمت حيرني، إذ لم أعرف سببه: هل أقنعتها؟ هل هي بصدد التفكير؟ هل غضبت جدا وتركت السماعة وانصرفت؟ فصرخت:
_ هل تسمعينني؟
_ نعم أسمعك.
ثم أضافت بعد صمت قصير:
_ على ذكر الفن هل تحادثت مع السيد التريكي في شأن تقديم بعض الدروس لي في الرسم؟
_ نعم هذا ما كنت سأقوله لك. لكنه مشغول هذه الأيام بإعداد اللوحات التي سيعرضها في أيام إفريقيا الدولية للفنون. المهم أني تمكنت من إقناعه بأن تأتيه غداة عودته من أوغادوغو أين سيقام المعرض.
سمعتها تنشرح وتضحك وهي تشكرني، فبادرتها بالسؤال:
_ إذا متى نلتقي هناك؟
فهمهمت وتلعثمت فاقترحت عليها قائلا:
_ غدا أو بعد غد؟
_ لا. ليكن الأسبوع القادم في مثل هذا اليوم وهذه الساعة.
قبل أن أغادرها، شرحت لي بدقة كيف أصل إلى منزلها.
6
كان علي يوم الاثنين من شهر مارس أن أنهض باكرا، وأكون على الساعة السابعة صباحا قابعا في محطة حافلات الشمال لأمتطي حافلة أو سيارة أجرة تتجه نحو عين دراهم. كان جمال الطقس وزرقة السماء وجلاء الغيوم ينبئ بيوم ربيعي عذب ودافئ. وصلت حوالي العاشرة صباحا إلى مدينة عين دراهم، ومن هناك امتطيت سيارة أجرة محلية نحو ضيعة أبو داود التي تبعد بضع كيلومترات عن المدينة. غمرتني طبيعة تلك الربوع بجمال وهدوء لم أعهدهما في العاصمة. من بعيد، لاحت لي بناية ضخمة فوق ربوة صغيرة، تحيط بها أشجار الصنوبر من كل جانب، وسط ضيعة خضراء ممتدة الأطراف. قلت لا شك أن تونس لم تلقب بالخضراء إلا بسبب عين دراهم.
عندما وصلت إلى باب الضيعة المفتوح على مصراعيه، ترجلت، ودخلت دون أن أجد أي حارس هناك. و لكني رأيت من بعيد بعض العمال الذين يقومون بسقي الأشجار. عرجت إلى اليمين لأبتعد عن ممر الباب الرئيسي الذي يؤدي إلي باب المنزل الكبير، واتبعت ممرا جانبيا أوصلني إلى الباب الخلفي للمنزل، كما أوضحت لي أميرة. حيثما مررت رأيت نافورات الماء بمختلف الأشكال والأحجام ترسم أشكالا هندسية رائعة وسط مساحات كبيرة من العشب والأشجار المثمرة. سرت حوالي ربع ساعة بين صفوف من الأزهار والورود ذات الألوان والروائح المتعددة، حتى بلغت بهوا فسيحا وأنيقا حيث استقبلتني ابنة الباي في هندام لا يقل جمالا عن ضيعتهم: فستان أبيض، وحذاء أزرق، والشعر مشدود إلى الخلف كالعادة بفراشة حمراء. صافحتني بنشاط الرياضيين وسرور الأغنياء، ثم سرنا في ممر واسع تزينه فوانيس تقليدية، ومزهريات مزركشة، ولوحات وصور لشخصيات تاريخية على الجدران، حتى دخلنا قاعة استقبال الضيوف. شعرت ونحن نجلس على الأرائك الوثيرة كأني وزير يؤدي زيارة رسمية . قبل أن تأمر الخادمة بإعداد عصائر الغلال أكدت لي قائلة:
_ بعد قليل سنزور دار الكتب.
فعرفت أنها تقصد المكتبة، فسألتها:
_ وهل تعرفين مختلف مكوناتها؟
_ لا. لا يعرف ذلك جيدا إلا سرور
_ من هو سرور؟
_ أمين دار الكتب. لا يعمل هنا كامل الوقت، بل يأتي يومين فقط في الأسبوع، لذلك سأصطحبك أنا لتتعرف بصورة عامة عن مكوناتها، وخاصة جناح التاريخ.
دامت جولتنا حوالي نصف ساعة خلت نفسي أتجول في المكتبة الوطنية للبلاد التونسية. تحتوي دار كتب الباي على رواقين كبيرين: الأول يضم كتبا ومخطوطات موغلة في تاريخ الحضارات القديمة، والثاني يحتوي على أغلب ما أنتجته الحضارة المعاصرة خلال القرون الثلاثة الأخيرة. كل رواق ينقسم بدوره إلى أجنحة: الفنون، والآداب، والأديان، واللغات، والتاريخ، والعلوم الإنسانية، والعلوم الصحيحة... إلى جانب قاعة كبيرة لكلا الرواقين. وعند مرورنا من الرواق الأول إلى الثاني، توقفنا أمام غرفة فخمة، بها مكتب يحمل زخارف جميلة وملونة بماء الذهب، ويعلو الكرسي إطار لصورة كهل وسيم بصدد كتابة شيئا ما. دون أن أسألها أوضحت لي أميرة:
_ أنه مكتب سيدي الأمين باي
فعلقت مستغربا:
_ ألا زلت تنادينه بايا؟
_ لقد تعود الجميع هنا على تسميته بهذه الصفة. تلك صورته في الأربعين من عمره. لقد صار شكله الآن مختلف... لكن رغم تقدمه في السن، لا يزال يحتفظ بذاكرة قوية... انه لا ينقطع عن مطالعة الكتب.
تركتني في المكتبة بعد ذلك وخرجت قائلة في ضحكة حادة: "الآن أدعك إلى التاريخ. تجول حيث شئت وتصفح ما شئت... و لكن حذار من غضب التاريخ".
أخرجت الجذاذة التي كنت قد أعددتها منذ أسابيع بعد استشارة السيد نعيم الشافعي الأستاذ المشرف على الأطروحة، ورحت ألتهم بعيني عناوين الكتب المرصوفة بعناية، كمن يشبع جوع قرن من المجاعة. كنت مضطربا دون أن أعرف لماذا، لكني حاولت المحافظة على هدوء أعصابي، لكي أستطيع تسجيل أكبر قدر من العناوين المرتبطة بموضوع البحث. كان الهدوء الشامل يخيم على المكتبة، لا تقطعه غير تغريد بعض الطيور المنتشرة فوق أغصان الأشجار المحيطة. مرت نصف ساعة كأنها دقيقة وأنا منغمس في الكتب، حينما عادت أميرة من جديد، وطلبت مني الانصراف. استغربت الأمر و قلت مندهشا:
_ لكنني لم أتمم بعد.
_ أتظن أن تنهي أطروحة الدكتوراه الآن؟
قالت ذلك مبتسمة، فقلت:
_ دعيني على الأقل أختار بعض الكتب التي سأحملها معي.
فصرخت كأني لعنتها:
_ من هنا لا تخرج حتى ربع ورقة. ألم أعلمك بهذا؟
أزعجني صراخها، وسألتها متعجبا:
_ قل لي كيف سأستفيد من هذه الكتب إن لم أعود بها إلى البيت، وأطلع عليها بروية؟
أبدت أسفها على هذا القانون الداخلي للمكتبة، و قالت لي بأنه يمكني أن أضبط أوقات محددة لزيارتها وتسجيل ملاحظاتي. غير أنها عقدت المشكلة أكثر عندما أعلمتني بأن ذلك لا يتم إلا بعد موافقة الباي وبإذن منه. عند ذلك عويت كالذئب:
_ إذن من الباي؟
طمأنتني بأنها ستحاول إقناع الباي بذلك، وزادت في كرمها قائلة بأنها ستحاول إقناعه أيضا بإجراء مقابلة معه. ثم أضافت بأني القارئ الأجنبي الثالث الذي يدخل هذه المكتبة.
عندما كنت عائدا في الطريق، حاولت أن أبحث عن جدوى تلك الزيارة التي لم أجن منها إلا مرارة في الحلق وخيبة في القلب. عدت في الحقيقة بخفي حنين، إذ لم أحصل حتى على ربع صفحة كما قالت الفتاة. في المنزل تذكرت أني سجلت قائمة في أكثر من اثنا عشر كتابا يخص موضوع الأطروحة، الشيء الذي أعاد إلي بعض الأمل بعد يأس، وعاودني التوق إلى مواصلة البحث عن خطة أفضل تمكنني من مكتبة الباي. وفجأة بدأت الشكوك تساورني من جديد عندما تذكرت أن أميرة أخبرتني بأن هناك شخصان دخلا قبلي هذه المكتبة. هذا يعني أني لست أول من أكتشفها من خارج دائرة القصر الملكي، وأن ما أنا بصدد انجازه، قد يكون أنهاه منذ شهور أحد الشخصين أو الاثنين معا. لكنني حاولت في النهاية طرد هذا الكابوس، لأن الأمر لو كان كذلك، لأخبرتني أميرة به منذ أول يوم. لكني فكرت من ناحية أخرى أن ابنة الأمين باي قد تكون تؤجل الأمر إلى حين قضاء حاجتها مني، وهو الوصول إلى الهادي التريكي. كما يمكن أن لا تكون على علم بالمواضيع التي بحثها الشخصين السابقين، أو حتى لم تتصل بهما أبدا. حتى في هذه الحالة الخطر لا يزال قائما.
بعد أسبوعين من تلك الزيارة، هتفت لها كما اتفقنا والأمل يحدوني في أن تبشرني بموافقة الباي على مقابلته، وعلى الحصول على إذنه لزيارة المكتبة. عقدت آمالا كثيرة على مقابلة الأمين باي، وعزمت على أن أجعلها زيارة بحث وعمل، لا زيارة تعارف للحصول على إذن الدخول إلى دار الكتب فحسب. أعددت نفسي جيدا لتلك المقابلة المحتملة، وصممت على إقناع الباي بالموافقة على إجراء حوار فكري و سياسي معه، رغم علمي بأنه منذ عزله، صار يبغض السياسة والسياسيين. ولعل امتناعه على الإدلاء بأي تصريح إلى حد تلك اللحظة لأكبر دليل على ذلك. أعددت مئة وتسع و أربعين سؤالا موزعين على خمس محاور: المحور الأول يهتم بفترة الدولة العثمانية، والثاني يتعلق بفترة حكم الدولة الحسينية التي دامت قرنين ونصف، والثالث يتناول حياة الباي أثناء الحكم، والرابع يهتم بحياة الباي خارج الحكم، والمحور الأخير يتعلق بمواقف الباي من أبرز الأحداث المحلية والعالمية الراهنة.
عندما رفعت أميرة السماعة سألتها قبل أن أحييها سؤالا واحد، صريحا ومختصرا: "ماذا أجاب الباي؟" أجابتني محتجة:
_ ألا تسأل عن حالي أولا؟
_ أنت بخير لا شك في ذلك ما دمت أسمع صوتك القوي والرنان كعادته. هل وافق السيد الأمين باي؟
تلكأت في الجواب ثم صمتت، فشعرت بدوار وفشل يجتاح كامل جسمي، مما جعلني أصرخ مستندا إلى الحائط:
_ لم يوافق؟ أم لم تكلميه بعد؟
_ يجب أن نتقابل ونتحدث بهدوء.
عندئذ فهمت أن التاريخ الذي أطارده، عاد إلي مكشرا عن أنيابه الحادة. ولما طلبت مني أن نلتقي في نفس اليوم في العاصمة أرجأت الأمر إلى اليوم الموالي.
انطلقت مباشرة من هناك إلى ورشة الحمائم حيث التقيت بالسيد الهادي التريكي. رحب بي كعادته، وسألني عن سبب طول الغياب، و عن مدى تقدمي في إنجاز بحث موضوع تاريخ فن الرسم التونسي. عبرت له عن حاجتي المستمرة لمساعدته لي الثمينة باعتباره أحد أكبر مؤسسي المدرسة المغاربية الحديثة في هذا الفن. سألته أنا بدوري بعد ذلك عن المعهد العربي الشعبي للفنون الجميلة الذي قيل في الصحافة أنه سيؤسسه صحبة آخرين، فأكد لي بأن الأمر في مراحله الأخيرة، وأنه سيكون في عاصمة الجنوب، مدينة صفاقس، وسيكون قبلة كل الراغبين في تعلم فن الرسم "من المحيط إلى الخليج" حسب تعبيره هو. كما أوضح السيد التريكي أن معهده سيكون فريدا من نوعه في المنطقة، فسألته متعجبا:
_ و أين يكمن تفرد هذه المؤسسة؟
_ في كلمة "الشعبي"، و لا نقصد العمومي، لأن المؤسسة العمومية على ملك الدولة، أما الشعبية فهي ملك للشعب، كل الشعب. و لذلك ستكون أبواب المعهد مفتوحة كامل اليوم أمام كل طالب بدون قيد ولا شرط. لا نسجل أسماء الدارسين، ولا نطلب منهم مالا ولا حضورا مستمرا...
فصرخت متعجبا:
_ أستاذ، أليس هذا تأسيسا للفوضى في التعليم؟
فعلق مبتسما:
_ الفوضى يا ابني شكل من أشكال النظام، ولا ندري قد تكون الشكل الأرقى والأفضل له. سنقدم دروسنا إلى كل الناس: صغارا وكبارا، حمقى وأذكياء، صالحين وطالحين... الميزان الذي يفصل بين الجميع، هو امتحان آخر السنة.
رغم أني أبديت معارضة لمثل هذا النهج في التدريس، فاني تمنيت في نفسي لو يطبق في بعض مجالات التعليم العمومي وبخاصة في التعليم الجامعي. قبل أن أودعه، أعطاني ثلاث كتيبات تبسط قواعد الرسم للمبتدئين ووعدته بزيارته مرة أخرى.
ذهبت للقاء أميرة في المكتبة الوطنية بشارع 9 أفريل محبطا وعلى غاية من اليأس والخيبة، بعد أن أعلمتني في اليوم السابق برفض الباي، مما جعلني أعتبر ذلك اللقاء الفرصة الأخيرة لإنقاذ نفسي من فشل ذريع، وربما من أمر شنيع لا يحمد عقباه. دام اللقاء زهاء الساعتين دار فيهما الحديث حول الباي ورفضه لطلبي، و تحدثنا عن مسألة ضبط موعد مع الهادي التريكي لحضور حصص في الرسم للمبتدئين. حاولت منذ البداية التحلي بكثير من الرصانة ورباطة الجأش، وأعطيت الأولوية لموضوعها هي على موضوعي أنا. غمرتها سعادة لا توصف وهي تتصفح كتاب التريكي الذي جلبته لها بعنوان: "خمسة عشرة قاعدة أولية لتعلم الرسم" و علقت أنا:
_ قريبا سيحدد أبي لك موعدا لانطلاق الدروس، لكن حذار من الغياب فأنه لا يقبل ذلك أبدأ.
_ و أين ستكون الدروس؟
_ طبعا في ورشته، و بدون مقابل. هو في خدمة الأشخاص الطموحين.
صمتت وهي تقلب وريقات الكتيب بين أصابعها، ثم بدأت تعتذر عن عدم توفقها إلى الحصول على موافقة الباي، معللة ذلك بأنه كان متوترا جدا تلك الأيام بسبب خلاف عائلي، لكنها تركت لي بعض الأمل في المستقبل. فسألتها:
_ و لم قبل الشخصان الآخران؟
_ في الحقيقة لم يكونا أجنبيان عن العائلة، كما أنها لم يدخلا المكتبة بغرض البحث مثلك. عبد الودود مهندس معماري وابن عم الباي أجرى بعض الصيانة للبناية، أما ميمون فهو أحد أقارب والدتي، حمل من المكتبة مباشرة إلى السجن.
قفزت مولولا:
_ إلى السجن...؟
_ دخل المكتبة ليلا خطأ عوضا عن غرفة الأكل المحاذية، فقبض عليه الحارس وسلمه مباشرة إلى الشرطة.
بقدر ما حز في نفسي ما وقع لميمون، أحسست بنوع من الارتياح والغبطة لعلمي بأن هذان الشخصان لا علاقة لهما البتة بالبحث والكتب والتاريخ.
وعدتني أميرة في ختام ذلك اللقاء بأنها سوف تعمل على مساعدتي في تحقيق رغبتي، وقالت أنها متفائلة هذه المرة أكثر من ذي قبل، ونبهتني بأنها لا تريد "هذه بتلك"، موضوع الرسم بموضوع المكتبة. طمأنني كلامها من ناحية، وأفزعني من ناحية أخرى، لأني اعتبرته تمهيدا للرفض القاطع والنهائي لطلبي.
افترقنا على أمل أن أكلمها بعد أسبوعين آخرين لنرى ماذا فعلت. غير أني لم أبق مكتوف الأيدي في تلك المدة. تحدثت مع أحد أساتذة التاريخ في جامعة منوبة حول البحث في موضوع "تونس في عهد الأمين باي". فنبهني إلى أن بعض طلبته أرادوا تناول هذا الموضوع، لكنهم لم يجدوا المصادر الكافية. فزادني كلامه رغبة في السير قدما في بحثي وإصرارا على بلوغ مكتبة الباي والاستحواذ على ما فيها من نفائس الكتب.
7
في الوقت الذي كان الشباب المهتم بالرسم الزيتي ينتظر بشوق فتح المعهد المغربي للفنون أبوابه برئاسة السيد الهادي التريكي، أعلنت الصحف ذات يوم عن تعيين هذا الأخير وزيرا للتجهيز. وكما جرت العادة، قدمت وسائل الإعلام المسموعة والمقروءة والمرئية بسطة عن سيرته الذاتية، وتعرض البعض منها إلى أدق تفاصيل حياته، وتساءل الجميع على مصير المعهد الذي أوشك على تأسيسه.
في ذات المساء كلمتني أميرة، و في أقل من الثانية فكرت في احتمالين لسبب تلك المكالمة: تمكنت في ظرف وجيز من إقناع الباي بمقابلتي والسماح لي بالدخول إلى دار الكتب، فجاءت تبشرني على عجل. أو، وهو الأمر الفظيع، علمت عن التريكي كل شيء من وسائل الإعلام، وانكشفت حيلتي. أخذت السماعة و أجبت مرتعشا:
_ نعم! من؟
_ رباح؟... رباح؟
_ نعم أنا رباح. أميرة؟
_ أنت وغد.
_ أنا؟
_ أنت أخس من حذاء المراحيض.
_ أنا؟... المراحيض؟
_ أنت أقذر من المراحيض نفسها. إن أردت أن تستعير ذرة من الرجولة، فما عليك إلا أن تنسى كل شيء بيننا...
قاطعتها متوسلا:
_ افهميني... أعتذر إن كنت أسأت إليك.
_ أنت خدعتني بكذبك وحيلك السافلة، وأسأت إلي كثيرا، ولكن الشيء من مأتاه لا يستغرب.
أعترف أن هذه العبارة الأخيرة " الشيء من مأتاه لا يستغرب" أثرت في أكثر من كل النعوت السابقة: وغد وخسيس ومراحيض وقذارة، لأنها صارت تتحدث برؤية طبقية وحتى عنصرية. ولكن حاولت أن أجعل الأمر هينا فقلت لها:
_ قولي ما شئت فلك كل الحق، لكنني في الحقيقة لم أقصد إزعاجك. نتقابل إن شئت وسأفسر لك كل شيء.
_ نتقابل...؟ إن لم تنسحب تماما من طريقنا، فسأقدم بك قضية في التخيل وانتحال شخصية، وأزج بك في السجن.
_ السجن؟ معاذ الله... نحن لمن نخلق لهذا. و لكن اسمعي...
علقت قبل أن أتمم كلامي، بينما ظللت أنا متعلقا بالسماعة، وحكيم بجانبي يتوسل إلي بأن أضعها، لأن الفتاة غادرت منذ عشر دقائق.
حاول حكيم أن يهدأ من روعي، موضحا لي بأنه علي أن أترك الأمر يستريح بعض الوقت، وبعده أبدأ في التفكير في حلول أخرى لأطروحة الدكتوراه، بعيدا عن ذلك الحل الفاشل الذي لم يجلب لي غير المآسي والأخطار. كما اقترح علي تغيير موضوع البحث إن تعسر الموضوع الأول. وعندما شعر بالإحباط الكبير الذي أصابني، دعاني إلى جولة في المدينة، فقصدنا عدة مقاهي. كنا في كل واحدة نتناول مشروبا، وظللنا ننتقل من شارع إلى آخر، ومن مغازة إلى أخرى، وأنا أسير حذوه كئيبا، أجر خطايا كمن يحمل الجبال على عاتقيه. كنت أستمع إلى حكيم واجما غير قادر على أي جواب، أو أخذ أي قرار. كنت في الحقيقة كالمنوم مغناطيسيا، يفعل بي حكيم ما يشاء: اتجه حيث يتجه، وأقف حيث يقف، أجلس متى يجلس... متمنيا أن يمر الوقت بقفزة عجيبة فأجد نفسي أنسانا آخر، في مكان وزمان مختلفين.
بعد أكثر من ساعة ونحن نجوب شوارع المدينة وأزقتها، طلب مني حكيم أن أقضي الليلة معه في بيته. لكنني فاجأته بتصميم عجيب على العودة إلى بيتنا، فقال محتارا:
_ و لكني أخشى عليك وأنت في هذه الحالة النفسية الرديئة.
_ لا تخش علي من شيء. رغم الهزيمة لا أزال متماسكا. علي أن أعود إلى البيت، فأمي ليست على علم.
قضيت تلك الليلة أتقلب في فراشي ساهدا إلى أن سمعت آذان الفجر، ففكرت بأن الوقت قد حان لاتخاذ القرار الصعب. أتذكر أني نمت نوما عميقا لا قبل لي به من قبل، بعد أن اتخذت ذلك القرار الحاسم الذي لم أستشر فيه أحدا.
نهضت في الغد بعد منتصف النهار منتفخ العينين، أشعث الشعر، مع صفرة تعلو وجهي من وقع صدمة اليوم السابق. بدا لي أن الإنسان يظل تعيسا حتى يغادر منطقة التردد والاضطراب، وأن سعادة الإنسان تنمو حسب قدرته على الأخذ بزمام أموره. قلت في نفسي: "لا يهم ما حصل لأني استطعت في النهاية، وبعد عناء شديد أن أواجه مصيري". ثم أضفت وكأني أخاطب شخصا آخر: "يجب علي أن أتحصل من مكتبة الباي عشرة كتب على الأقل من بين القائمة التي سجلتها عندي، في ظرف لا يتجاوز الأربعة أيام. الطريقة المثلى هي الطريقة الميمونية".
8
مثلت أمام قاضي التحقيق يوم خميس من شهر جوان، ولا زلت أتذكر جيدا ذلك اليوم لأني زرت فيه السجن لأول مرة. سألني قاضي التحقيق عن دوافع اقتحامي لمنزل السيد الأمين باي وعما كنت أنوي فعله. أجبته، وأنا أقبع أمامه على كرسي خشبي صلب كالفأر أمام مخالب قط:
_ لم أكن أنو فعل شيء آخر عدى سحب بعض الكتب من المكتبة.
_ تقارير الشرطة تقول أنك قمت بالخلع والانتقام من أجل ارتكاب جريمة القتل. ما رأيك؟
_ أنا لم أقتل في حياتي نملة واحدة، فكيف أقدر على قتل بشر. ثم ما الغاية من ارتكاب هذه الجريمة؟
_ لا ترد على أسئلتي بأسئلة أخرى. كنت على علاقة بالآنسة أميرة ثم افترقتما حديثا. أربعة أيام بعد ذلك اقتحمت المنزل، أليس كذلك؟
_ علاقتي بها كانت علاقة ثقافية بحتة: أنا أبحث عن كتب تخص تاريخ تونس في عهد البايات، وهي تريد تعلم فن الرسم الزيتي. على هذا الأساس اجتمعنا، وعندما اختلفنا افترقنا، فصممت أنا استعارة بعض الكتب عن طريق السرقة.
_ أنت تعترف إذا أنك خلعت المنزل للسرقة.
_ أنا لم أخلع شيئا لأني دخلت من الشباك الذي وجدته مفتوحا...
_ و لكن دخول البيوت يكون من الأبواب لا من النوافذ، وبعد إذن أهلها.
_ أما سرقة الكتب فلا أعتبرها سرقة. تماما كالذي لا يجد ما يأكل، يحق له أن يأخذ من أي مكان ما يسد رمقه. فالذي لا يجد مراجع ينجز بها بحثه، من حقه أيضا أن يسرق ما يحتاجه من الكتب.
كان العون المكلف بتسجيل تصريحاتي يبتسم. واصل قاضي التحقيق موضحا:
_ في القانون السرقة هي السرقة، ويعاقب فاعلها، وعليك تغيير مفاهيمك حتى تتفق مع القانون.
_ ولم لا يتغير القانون حسب حاجياتنا، سيدي القاضي؟
_ أنت طالب في المرحلة الثالثة، ومثقف وعليك أن تكون أحرص الناس على احترام القانون. لا تسرق حتى الكتب، فهي ليست من الحاجيات الحياتية للإنسان. يمكن أن نبقى على قيد الحياة بدون كتب. بدون أكل، مستحيل.
تذكرت قول السيد المسيح: "ليس بالخبز فقط يعيش الإنسان، ولكن بكل كلمة من كلمات الله"، فقلت:
_ بالنسبة إلي، الكتاب كالماء والغذاء، وأنا الآن في أشد الحاجة إليه.
تصفح أوراقا بين يديه عدة مرات، ثم رفع رأسه وقال في نبرة غاضبة:
_ المدعون عليك يتهمونك بالتخطيط للقتل والشروع في ذلك بخلع النوافذ.
_ هل لديهم حجة تثبت ذلك؟
_ قلت لك لا تجيبني بسؤال.
كان أول من زارني في السجن المدني والدي بعد أسبوعين من الإيقاف. أحضروني أنا أولا خلف سياج إلى جانب العديد من المساجين الآخرين، ثم نادوا أبي الذي لمحته يتقدم نحوي ببطء شديد، شارد العينين، يتفحص المكان باحثا عني. رغم اعتدال طوله بدا لي من خلال ذلك السياج قصير القامة، وعندما رآني، أفصح عن ابتسامته اليمنية، فبدا لي شبيه بملوك الأردن عند ضحكهم. سألني بصوته المرتفع:
_ كيف حالك؟
_ بخير. في السجن كما ترى. وكيف حال التونسية؟
_ أنها بخير وتبلغك السلام. تقول لك لا تهتم كثيرا، سنجعل لك المحامين وستعود قريبا.
قال ذلك وهو يفتل شاربيه الطويلة يمينا و يسارا. سألته:
_ هل ذكروا شيء عني في الصحافة؟
_ لا تهتم بنقيقهم، هم تجار، ديدنهم الدينار.
_ إذا تحدثوا عني؟
_ البعض منهم نصبوا أنفسهم قضاة يحاكمون المتهمين قبل أن تحاكمهم العدالة. و إذا ما أصدرت حكمها، احتجوا عليها.
_ سوف أكتب لكما رسالة أوضح فيها كل شيء.
_ لا تفعل. لقد حدثنا حكيم عن كل ذلك. هو الآن يتصل بالمحامين...
عندما لمست أنه غير غاضب عني، ومتفهم لمشكلتي، شعرت ببعض الراحة والاطمئنان. وسألني:
_ كيف تحملت الأيام الأولى في السجن؟
_ الأربعة أيام الأولى قضيتها في سجن حقيقي، أما الآن فأنا في إقامة مراقبة ليس إلا...
عندئذ رن جرس قوي يعلن انتهاء الزيارة.
عدت إلى الزنزانة متثاقلا، ووددت لو اتسع الزمن، وتوقفت عقارب الساعات، وظللت أتحادث مع أبي إلى ما لا نهاية.
خلال الأيام الأولى من إقامتي في السجن، وضعوني خطأ في زنزانة المحكوم عليهم بالإعدام، وهم ستة مجرمين: شيخ في السبعين، وثلاثة كهول، وشابان لا يتجاوزان الخامسة والعشرين. كنت أنا أصغر النزلاء سنا هناك. عندما دفعوا بي إلى داخل الزنزانة و أحكموا غلق الأبواب، تسمرت في مكاني وتأملتهم جميعا، مثل ثور المصارعة الذي دفعوه عنوة إلى حلبة المصارعة. ناداني "سحاب" و هو كهل ضعيف جدا و سألني:
_ كم نفس قبضت؟
_ و لا حتى نملة.
_ هذا الكلام لا ينطلي علي أنا. على المحققين، ربما.
قال "البدين" وهو مضطجع في زاوية دون أن يكف عن التهام شيء ما بين يديه:
_ دعه لي، أنا أقلكم أنفس مقبوضة... لأرفع به رصيدي.
قام و جذبني إليه من طرف قميصي فمزقه، ثم دفعني بإصبعين إلى زاوية والشرر يتطاير من عينيه. التفت إلى أصحابه وقال:
_ أخنقه بإصبعي هذين لمدة ثلاثة دقائق، فتسكب روحه دفعة واحدة كقارورة الخمر، بهذا لن يعيش في السجن إلا بضع دقائق.
ثم أطلق ضحكة طويلة هزت أركان الزنزانة. ارتميت على الباب و أشبعته خبطا مستغيثا، فتراجع "البدين"، وسمعت صوتا من الخارج يدوي:
_ "بدين" كف عن الهرج و إلا رميت بك في الخندق.
أفظع ما شاهدت في تلك الزنزانة هو موت "البدين" الفجائي في أول ليلة أقضيها مع تلك الجماعة. كان يتحدث عن جريمة قتله الثانية في السوق الأسبوعية بمدينة صفاقس، وعندما انتهى من سرد تفاصيل الجريمة، أطرق برهة، ثم وضع يده على موضع قلبه، وسقط على وجهه. ظننا جميعا أنه يهزل، فاقترب منه "ابن العارية" وجذبه إلى الخلف .... التفت ألينا وقال بخبرته الواسعة مطمئنا:
_ دعوه... انه مات.
علق "سحاب" من مربضه:
_ لقد أحسن عملا. انه أقلنا ذنوبا، يرحمكم الله.
بعد أسبوع من موت "البدين" تفطنوا إلى خطأهم، و أخرجوني من هناك ليضعوني مع أصحاب الجنايات، لأنهم لم يتهموني إلا بالخلع و السرقة، مسقطين بذلك تهمة محاولة القتل. وجدت هناك وجوها جديدة، لا صلة لها بالدم والطعن والذبح... سألت جاري عن اليمين:
_ و ماذا ارتكبت؟
_ الزنا.
_ وكيف قبض عليك؟
_ كنت أنا و زوجتي وأبنائي على أهبة العودة إلى فرنسا حيث كنت أقيم، عندما وقع ما وقع. سيارتي لا تزال رابضة على قارعة الطريق في الحر والبرد، وعائلتي في حيرة من أمرها لا تعرف ماذا تفعل.
ثم التفت إلى صاحبه الذي سيغادر السجن في اليوم الموالي و ترجاه قائلا:
_ أرجوك، قل لأخي يجعل لي ثلاثة أو أربعة محامين، وعندما أخرج من هنا سأعطيك ما تريد.
عندما دخلت السجن في اليوم الأول، وكان ذلك حوالي السادسة مساء، كان الطقس حارا جدا، و كنا مجموعة من المتهمين نمشي في رواق طويل، رافعين أيدينا إلى الأعلى تحية للسجانين المنتشرين في كل مكان. ما حسبت أن تلك الليلة ستمر بسلام لأني كدت أختنق من جو الزنزانة التي وضع فيها حوالي ثلاثين متهما. في اليوم الموالي، أخذونا إلى مكتب التسجيل حيث صورونا وأخذوا بصماتنا وكل معطياتنا الشخصية، ثم أنزلونا إلى سرداب في الطابق السفلي، حيث جلسنا على مقاعد خشبية طويلة في انتظار ما لا نعرف. جاءنا أحد السجانين وهو شاب لا يفوتني إلا ببعض السنوات، و بدأ يسألنا الواحد تلو الآخر عن تهمته التي جاءت به إلى هناك، مهددا من يكذب بمراجعة ملفه و معاقبته بشدة. لكنه كان يفتتح حواره مع السجين بصفعة قوية عل خده. كان الجميع ينتظر دوره في الصفع و السؤال حتى يستريح. عندما جاء دوري صفعني بقوة ثم سألني:
_ و أنت، ما هي تهمتك؟
_ سرقة كتب.
فبهت العون و تسمر أمامي وراح يسألني عن مستواي الدراسي، فلما أخبرته بأني أدرس بالمرحلة الثالثة بقسم التاريخ، وأني بصدد إعداد أطروحة الدكتوراه حول تاريخ تونس الحديث، لمست ليونة في عينيه وندما في نبرة صوته عما فعله معي وهو يقول:
_ سامحني. هنا يعامل المتهمون هكذا. أما أنت فأمرك مختلف.
والتفت إلى بقية المتهمين و صرخ فيهم قائلا:
أما أنتم فليس فيكم رجلا واحدا، إلا صاحب الكتب والدكتوراه هذا.
زارني أبي في المرة الثانية، وجاء وحيدا مثل المرة الأولى دون والدتي، ولما سألته عن الأمر، علل ذلك بأنها لا تطيق رؤيتي في ذلك المكان. وكالعادة قال بأنها تبلغني السلام، وتوصيني بأن أعتني بصحتي، وبأن لا أنشغل كثيرا بالقضية، إذ حكيم يجد في تخليصي من تلك الورطة. كما بشرني أبي بأن المحامي وعدهم بأن يخرجني من السجن خلال أسبوعين بعد أن اطلع على ملف الإحالة.
بعد أن تأكدت من هزيمتي، ومنيت بالفشل الذي طالما خفت منه، قررت أن أهاجر إلى اليمن اثر خروجي من السجن مباشرة، لأنه لم يبق لي شيئا يربطني بتلك الأرض. وهناك في اليمن أغير موضوع البحث من تاريخ تونس إلى تاريخ العرب، تاريخ مئات الملايين من الناس في رقعة أرضية شاسعة وأحداث عظيمة و شائكة على امتداد مئات القرون. كانت الفكرة تكبر في مع مطلع كل يوم، ومعها يكبر في حلم لا نهاية له، حتى أحسست أن دخولي السجن لم يعد المصيبة، بل حدث غير مجرى حياتي كلها.
يوم 3 أوت أعلمتني إدارة السجن بأنه حكم علي بثلاثة أشهر سجنا مع وقف التنفيذ، وعليه طلبوا مني جمع ثيابي، ومغادرة السجن فورا. جمعت أغراضي المتناثرة فوق السرير فرزينا (حالة فرح ممزوج بالحزن)، في حين وقف الآخرون يتأملونني متنهدين، والحارس بالباب يصرخ: "اسرع... اسرع". في لحظة كئيبة اصطف السجناء يودعونني، لحظة عكست عمق صداقة بيننا دامت شهرين، حتى خيل إلي أني في موكب عزاء لا موكب حرية وفرح.
وجدت بالخارج المحامي وحكيم ينتظرانني أمام الباب، وتنفست رائحة الحرية، وقلت في نفسي: "تبا للجدران العالية، والغرف الضيقة، والأبواب السميكة، وحزم المفاتيح الغليظة"، وأقبلت على ضيفي أحتضنهما كأني عدت إليهم بعد غياب قرون. غير أني شعرت ببعض القلق لعدم وجود اليمني معهما، فلما سألت عنه حكيم، طمأنني وسألني بدوره عن حالي أنا.
في طريق العودة شرح لي المحامي الجهود التي بذلها لفك أسري، موضحا أن مثل هذه القضايا يحكم فيها بعدة سنوات من السجن... ظل حكيم يسير صامتا، لكني لم أستغرب ذلك في البدء، لأن الصمت من عادته. غير أن مبالغته في الوجوم جعلني أحس بأن أمرا ما قد حدث أثناء غيابي. وما أن انصرف المحامي، حتى أسر إلي ونحن في سيارة الأجرة بأن اليمني لم يأت لاستقبالي بسبب مرض والدتي، وأن سبب مرضها هو خبر دخولي السجن، ولذلك لم تزرني لو مرة واحدة.
وجمت ولم أسأله عن شيء بعدها منتظرا الوصول. من بعيد، رأيت نفرا من الناس أمام منزلنا، والباب مفتوح على مصراعيه، وما أن نزلت من السيارة، حتى اندفعت داخل المنزل دون النظر إلى الغرباء في الخارج. وجدت التونسية ممدة على الفراش، وبجانبها اليمني جالس على كرسي خشبي قديم، وفي زاوية من الغرفة جلست امرأتان لا أعرفهما من قبل.
انحنيت فقبلتها يمنة و يسرة، ثم درت إلى الناحية الأخرى وانحنيت لوالدي أقبله، فألفيته صامتا، متجلدا. عدت وجثوت على الأرض بجانب الفراش وتأملت والدتي، فرأيتها تغمض عينيها برهة من الزمن ثم تفتحهما، ثم لا تلبث أن تغمضهما من جديد، لتعود إلى فتحهما بصعوبة. كانت كلما لمحتني، حاولت تحريك شفتيها بلا جدوى، كأنها تعبر لي عن سعادتها بخروجي من السجن. مسكت يدها، فألفيتها باردة ولكنها ناعمة وحنونة، فقبلتها وقلت لها بأني أنا رباح، فضغطت عليها قليلا لتقول شيئا ما. فقلت لها مواسيا:
_ لا بأس عليك أمي. غدا إن شاء الله ستقومين سالمة، وسنحتفل معا بخروجي من السجن، ثم سنغادر معا إن شئت إلى اليمن.
حركت رأسها قليلا دون أن تفتح عينيها. رفعت رأسي، فوقعت عيناي على صورتها معلقة على الحائط وهي تخيط ثوبا، ثم ظللنا صامتين جميعا برهة من الزمن. بعد ذلك، تحرك اليمني، ورأيته يقترب منها وبيده اليمنى كأس ماء، وباليسرى بعض القطن، وجعل يقطر الماء في فمها. كانت تتجرع الماء قطرة قطرة، وخيل إلي أنها تريد المزيد. و فجأة غرغرت، وألقت برأسها إلى جانب، وفاضت روحها الكريمة. قبلتها من جبينها بحرارة عدة مرات بغصة تسد حلقي، ودمعة تملأ عيني. ثم تقدم منها اليمني وأغمض عينيها، ثم أسبل عليها الغطاء، وغادر الغرفة بحرقة في القلب وهو يزعق: "كل من عليها فان، ويبقى وجه ربك ذو الجلال و الإكرام".
9
بعد أسبوع من دفنها، بعنا المنزل بكل بما فيه، وعدنا بحرا إلى اليمن بدون والدتي.
انتهى.