برحيل المسرحي الكبير المنصف السويسي، تكون تونس قد ودعت أحد أهم فنانيها الذين طبعوا مسار التجربة المسرحية والفنية في تونس. المنصف السويسي، الفنان والمؤطر والمسير أحد أهم العلامات الفنية في التجربة المسرحية التونسية والذي شكل عبر مساره الطويل، تجربة متفردة في المسرح التونسي والعربي. وقد نعت الهيئة العربية للمسرح المسرحي العربي الكبير، والذي ساهم الراحل الكبير "في قيامها، و مسيرته شاهدة و فاعلة في مفاصل المسرح العربي تستحق التأمل والدراسة". واعتبرت الهيئة العربية للمسرح أن بفقيد الفنان التونسي العربي الكبير المنصف السويسي، فإن "الساحة المسرحية العربية تفقد برحيله واحداً من علاماتها الفارقة، إذ يعتبر الراحل من مفاعيل التغيير و التطوير في المشهد المسرحي تونسياً، و في عديد من البلاد العربية سواءً من خلال التدريب و التأطير أو من خلال الأعمال الإبداعية أو الفعل النقابي التنظيمي".
لقد كان الراحل عضوا في اللجنة الاستشارية لإنشاء الهيئة العربية للمسرح، و كان عضواً في المجلس التنفيذي للهيئة من 2009 إلى 2011. كما أن مسرح دولة الإمارات العربية المتحدة ومسرحييها قد عاصروا الفنان الراحل في عديد المراحل على امتداد ما يزيد على 30 عاماً قام خلالها بإخراج العديد من نصوص صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، تلك الأعمال التي تركت بصمتها في المسرح الإماراتي وسجلت حضورها في المجالين العربي والدولي".
مسيرة المنصف السويسى
ويعتبر المسرحي الراحل (من مواليد 1966) من خريجي مركز الفن المسرحى بتونس (مايعرف بالمعهد العالى للفنون المسرحية) مطلع الستينيات من القرن الماضي، أسس فرقة "الكاف"، ضمن مشروع إنشاء المراكز الثقافية القومية. كما أدار فرقة مسرح تونس والمسرح الوطني التونسي (1984/1988)، كما درس بمعهد الفنون المسرحية بالكويت. وساهم الراحل المسرحي المنصف الويسي في تأسيس العديد من التظاهرات المسرحية في تونس، لعل أبرزها أيام قرطاج المسرحية.
قدم الراحل ما يزيد عن 60 عملا مسرحيا، "سيدي بني آدم، ثورة الزنج، عطشان ياصبايا، الهاني بودربالة، باي باي لندن، ماكبت، راشومون، الحلاج، اللغز،...".
يؤكد الراحل أن منهج اشتغاله يقوم على "الواقعية الفنية"، كما ساهم في انفتاح التجربة المسرحية التونسية على التجارب العالمية الرائدة، وقد استفاد مبكرا من دروس جون فيلار الفرنسي وهي التجربة التي عمقت جزء من اختياراته ورؤيته "للمسرح الشعبي". لقد كان للراحل الفضل في تأسيس المسرح الوطني التونسي انطلاقا من سنة 1983، وقد شكلت السنوات الخمس الأولى مرجعا مهما، قدم خلالها أعمالا مسرحية ظلت مؤثرة في مسار التجربة المسرحية التونسية والعربية.
بحثا عن تأصيل الظاهرة المسرحية
انفتحت تجربة الراحل المنصف السويسي على المسرح العالمي وتجاربه الرائدة، وقد كان وراء "تأصيل الظاهرة المسرحية وتوطينها ضمن الفضاء المسرحي التونسي والعربي". لذلك ظلت اجتهادات الراحل ميالة الى البحث عن تجربة مسرحية تمتح من الموروث العربي، وتشتغل على هويتها الخاصة بمنأى عن أي طمس لخصوصية محلية. وقد استطاع الراحل، بمعية مسرحيين عرب آخرين (الطيب الصديقي، سعدالله ونوس...) أن يلهموا تجربتهم الخاصة من معين البيئة التي ينتمون إليها، لذلك شكلت تجربته الرائدة إلهاما للكثيرين من المسرحيين العرب.
انطلق الراحل من فكرة "النص الدرامي" وسلطته في أي عملية إنتاج مسرحي، لذلك شكلت عروضه المسرحية، ضمن الاختيارات الجمالية التي قام بها، صيرورة مستمرة في أفق تشكيل "هوية خاصة" للتجربة المسرحية التونسية. وتبقى هذه التجربة رافدا مهما اليوم للعديدين، من المسرحيين سواء في تونس أو العالم العربي، كي يجعلوا منها نبراسا واجتهادا أوليا يبلورون من خلاله "المسرح الذي يريدون".
حظي الراحل بالاحتفاء في العديد من المهرجانات العربية، وهو ما أعطى لتجربته الريادة وأمكنه أن ينقلها الى بلدان أخرى. سواء من خلال تجربته في الكويت أو الامارات أو فلسطين..، ظل الراحل منصف السويسي وفيا لرؤيته للمسرح، مكرسا تجربته التي ظلت تميزه على باقي التجارب في العالم العربي. لقد سبق للراحل أن نادى بعقد مؤتمر وطني في الشأن الثقافي التونسي، بحكم إحساسه الخاص بدور الثقافة المحوري والحيوي في المجتمع ولأنه كان يرى فيها باب الأمل للخروج من الوضع الحالي، وهو ما كان يؤجل داك النداء الذي أخرجه عرضا مسرحيا للمسرحي الفلسطيني الراحل عبداللطيف عقل "البلاد طلبت أهلها".