أوّل الكلام لسحر
"عندما أكتب لا أستطيع أن أفصلَ بين معاناتي كامرأة أو وضعي كفلسطينية محتَلَّة، ولا أرى فرقا كبيرا بين الاحتلال الذكوري للمرأة والاحتلال الاسرائيلي للوطن، فكلاهما يُسبّبُ الهبوط والاحباط على مستوى الفرد وعلى مستوى المجتمع"... "وقد اتّخذتُ قرارا منذ بدأت علاقتي بالكتابة الملتزمة أن أكتب لأُوَضّحَ لا لأُفْرِحَ، والايضاحُ له ثمنه، وهو الخروج عن المألوف والمَرضي عنه، قد أتنازل عن جمال اللغة وأناقتها من أجل الحوار بكلام الناس ولغة الشارع، وقد أتنازل عن صورة البطل الخالد لتقديم صورة حقيقية لرجل مثقل يُصارع ويُقاوم بتواضع، بكل تواضع، وتكون النتيجة محزنة مثل حزنه، وقد أتنازل عن صورة الشعب الجبّار الذي لا يتنازل أو يُكسَر، وأقول ما قاله الشعراء: أنا العربي، أنا النبي، أنا المسيح، وأنا الناصر، وبدلا من ذلك أقدّم صورة حقيقيّة بلا هالات لشعب تهزمه هزائمُه على كل صعيد".(ص165)
وضوح الموقف والرؤية
بهذا الموقف الواضح والرؤية الثاقبة والعزيمة القويّة انطلقت سحر خليفة في إبداعها الملتزم لتلامس الجراح وتدلّ على العيوب وتفضح الفساد وتصرخ محذّرة من مستقبل مظلم آتٍ لا مهرب منه. انطلقت بإيمانها القوي أنّ لا تحرّر لوطن قبل أن يتحرر إنسان هذا الوطن، ولا يتحرّر الانسان قبل أن تكون الحرية للجميع المرأة والرجل. وظلّت هذه الثنائية: الرجل والمرأة، الاحتلال والمقاومة هي محور كل إبداعات سحر خليفة منذ كتابتها رواية الصبار عام 1976.
تناولت سحر خليفة في هذه الروايات العلاقات غير الطبيعية التي حكمت أفراد الشعب الفلسطيني على مختلف مستوياته وطبقاته وتواجده تحت الحكم الاسرائيلي وفي الوقت ذاته علاقة الفلسطيني مع المحتل الغريب. واستطاعت أن تتغلغل في واقع الفلسطيني على المستوى الفردي والجماعي وتكشف الكثير مما لا يراه أو ينتبه إليه المراقب البعيد إذا كان في علاقة الفرد مع غيره من الأفراد القريبين منه أو البعيدين أو في علاقته مع الجماعة الأوسع أو في موقفه من العادات والتقاليد والمفاهيم الدينية التي تتحكم بالمجتمع وترصد التحوّلات والتغيّرات التي تطرأ على هذا المجتمع على المستوى الفردي والجماعي.
فما يميّز سحر خليفة عن غيرها من المبدعين الفلسطينيين وحتى العرب أنها رفضت خيال الشعراء وحلمهم ونبوءاتهم الورديّة وتضخيمهم، كما رفضت منطق الكتّاب وعقلانيتهم وادعائهم بالمسؤولية الجماعية ورغبتهم في التستّر على الواقع للحفاظ على وحدة الشعب وتضامنه ورغبته في الكفاح والالتفاف حول المسؤولين في قيادة المسيرة. لقد رفعت سحر صوتها معلنة: أنْ لا حماية للمفسدين ولا تستّر على الفساد ولا حرمة للفاشلين ولا قبول للمتعاملين والخائنين، وكفى للشعارات والخداع والقبول بالواقع الاجتماعي المتَخلف باسم العادات والتقاليد والدين. وتختلف عن الآخرين بأنّها من البداية أحسّت باستحالة التغيّر نحو الأحسن إذا لم يتغير الانسان بفكره وسلوكه وثقافته، وإذا لم تُعْطَ المرأة كامل حقوقها وتشارك إلى جانب الرجل في بناء المجتمع وصنع المستقبل، فتوفير الحرية للفرد في المجتمع شرط نجاح كلّ مجتمع وتطورّه. ولن تتحرّر المرأة إلاّ بتحرّر الرجل ظالمها، وبتحرّرهما تتوفّر الحريّة في المجتمع، وعندها تكون إمكانية الانطلاق نحو النجاح والانتصارات والمشاركة العالمية في صنع المستقبل.
تغوص سحر في عمق المجتمع الفلسطيني وفي دواخل الذات الانسانية وترسم المشاهد المختلفة التي بمجموعها تعطي الصورة الكاملة للوضع الفلسطيني تحت نير الاحتلال الاسرائيلي، وقد تكون الصورة حادّة وجارحة ومرفوضة عند البعض لكشفها عن هذا الوجع الفردي والجماعي الذي لا يُبقي للواحد فتحة أمل ولا ما يعمل من أجله. هذه السوداويّة في موقف سحر من الواقع الفلسطيني كان بارزا في روايتها "الميراث" في تصويرها لاتفاق "أوسلو" وما تمخّض عنه من سلطة واهية تعتقد في قدرتها على المراوغة وكسب الامتيازات وتحقيق المستحيل في مواجهة احتلال شرس لا تخفى عليه كبيرة ولا صغيرة ويعرف كيف يُداور ويُراوغ ويوقع في شباكه التي لا خلاص منها. وتزداد هذه السوداويّة في روايتها "ربيع حار- رحلة الصبر والصبّار" حيث يكتمل طوق الاحتلال وتسقط البلاد كلها بما فيها مواقع السلطة وحتى مقر الرئيس ياسر عرفات تحت قبضة المحتل، ولا يبقى للفلسطيني من خلاص إلاّ بتفجير نفسه في عملية انتحارية يائسة. وكما قامت سحر خليفة في كل رواية بتسجيل واقع فترة من حياة الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال الاسرائيلي، هكذا جاءت رواية "ربيع حار" لتنقل لنا صورة الواقع الفلسطيني في الأراضي المحتلة زمن الانتفاضة الثانية "انتفاضة الأقصى".
هذه هي القصة
تنقل سحر في روايتها هذه تفاصيل حياة الناس من خلال تتبّع حياة أسرة فلسطينية عاديّة تعيش في قرية عين المرجان في الضفة الغربية وتعاني ما يُعانيه كل الناس من الاحتلال الاسرائيلي للبلاد من مصادرة أراض وبناء مستوطنات وتحرّشات وقحة. تتكوّن الأسرة من أربعة أفراد: الأب فضل القسام ابن تاجر سجاد من حيفا ترك بلده بعد سقوط البلاد عام 1948 وعاش في المخيم حياة المهانة فباع العلكة ولمّا كبر أحبّ فضل شهيرة الفتاة اللعوب التي تضرب على العود وتغني وتزوجها رغم معارضة والده وأنجب منها ابنه مجيد. وبعد موت شهيرة تزوّج فضل امرأة ثانية أنجب منها ابنه أحمد. وهو يعمل صحافيا يتتبع أخبار الناس وينشرها في الصحيفة. وما يضايقه أن يرى ولديه بعيدين عن الهم الوطني مشغولين بنفسيهما، مجيد في اللعب والغناء واللهو ويحلم أن يصبح مطربا مشهورا، وأحمد الولد الذي لا يحسن لفظ الحروف ويُتأتىء في كلامه ويعيش وحيدا بعيدا عن الآخرين، يرسم ما يراه أمامه، ولكن كما يراه هو وليس كما هو في الواقع، ويحب قطته ويعتني بها. يحمل آلة التصوير التي اشتراها له أبوه ويصوّر كل ما يراه يستحق, وتقوده قدماه إلى حدود المستوطنة المحاذية لبلدته، ومن وراء الأسلاك يرى فتاة شقراء جميلة تجذبه إليها ويتعلق بها ويترصّد حركاتها ويتابعها من خلال عدسة آلة التصوير.
وإلى جانب أسرة فاضل القسام تعرّفنا على أم سعاد المرأة القوية التي تُدير شؤون بيتها بعد اعتقال زوجها وتنجح في تربية أولادها، وتثبيت مكانتها وسط أهل الحارة أثناء حصار جيش الاحتلال حتى يعترف بها الجميع مختارة للحارة، وتعيش معها ابنتها سعاد القوية الشجاعة المناضلة التي تحب مجيد القسام ولكنها تضمر حبّه في قلبها، أمّا ابنها سعيد فقد أصبح محاميا يعيش في عمّان ويزور أهله على فترات متباعدة يستغلها لأخذ النقود من أمّه بحجج مختلفة، يتغنى ببطولات شعبه بالكلام فقط والتنظير الذي لا رصيد له في الواقع. وبالمقابل نتعرّف على أسرة الوشمي حيث استطاع الجد المنحدر من أصل وضيع وتربية نَوَر ومَضارب بدو أن يمتلك العقارات ويصبح غنيا وصاحب مركز اجتماعي مهم، لكن نهايته كانت القتل فحمل ابنه بدر اسمه واحتل مكانه، لكن بدر المثقف الذي درس في برنستون يعرف لغات وثقافات وحضارات لا حصر لها، ويتقن العزف على البيانو ولعب التنس، كان على علاقة جيّدة مع سلطات الاحتلال وكبار القوم ومتّهما بالعَمالة والتهريب وبيع الهويّات وتسويق بضائع ومخدّرات. وزوجته خرّيجة دراسات الشرق الأوسط من واشنطن وباحثة متخصصة في اقتصاد الدول النامية ومصادر الثروات المائية وبترول أوبك. وأمه العجوز الأرملة، وابنته لورا التي تلبس المكشوف وتسوق الروفر والأودي وسط رام الله، وهي معجبة بمجيد القسام وبعدما عملت في الصحافة مع محطات تلفزيونية أوروبية ساعدت مجيد على التقدم ليصبح نجما تلفزيونيا من خلال المقابلات العديدة التي تجريها معه.
إضافة إلى هذه الشخصيات الفاعلة في الرواية نتعرّف على عيسى العامل الفلسطيني في المستوطنة اليهودية والذي اتّهم بمعاونة جيش الاحتلال بعد اجتياح نابلس وقُتل. وابن غزة الجندي الذي لاقى حتفه بشظية قنبلة. وأبو رامي القائد المخلص. وميرا الفتاة اليهودية ابنة المستوطنة التي علقَها أحمد وظلّ على حبّها حتى النهاية وصديقتها فتاة السلام الانكليزية التي جرفتها جرّافة الاحتلال وهي تتظاهر ضد جدار الفصل العنصري وتجريف الأراضي العربية، وأيضا تعرّفنا على جند الاحتلال بوجههم البشع الكريه ولكنها تؤكّد أن المشاعر الانسانية قد توجد أيضا عند جندي الاحتلال من خلال شخصية الجندي الشاب الذي تعاطف مع سعاد وأمها وأحمد.
رغم أنّ رواية "ربيع حار" تسجل لنا فظائع أعمال جند الاحتلال ضدّ أبناء الشعب الفلسطيني زمن الانتفاضة الثانية بنقل المشاهد المتفرقة من أعمال الجند على الحواجز والطرقات والمواقع المختلفة، وخاصة ما فعلوه في نابلس ورام الله، إلاّ أنّ هذه الرواية تشير إلى بعض التغيّرات التي طرأت على تفكير وتوجّه وسلوك الانسان الفلسطيني نحو الآخر الاسرائيلي ما بعد اتفاقيّة أوسلو، التغيّرات التي تدلّ على إمكانية القبول والتعايش المشترك، لكنّ الكاتبة تصل إلى نتيجة عكسيّة تُثبّت رؤيتها السوداوية لكل ما يجري على الأرض الفلسطينية وهي أن الاسرائيلي هو الذي يرفض وهو الذي يصرّ على استمراريّة الاحتلال والقهر ممّا يحول دون أيّ إمكانية تعايش وينهي كل أمل، ولو ضعيف، في حياة انسانيّة مشتركة بين الشعبين.
توزيع الرواية إلى جزأين
وزّعت الكاتبة روايتها على جزأين وكان يُفضّل لو أعطت لكل منهما اسما من إسمي الرواية، للقسم الأول عنوان "ربيع حار" وللقسم الثاني "رحلة الصبر والصبّار". وكان بإمكانها أن تنهي الجزء الأول عند مقتل بدر الوشمي. وتنتقل للأحداث اللاحقة ابتداء من هرب مجيد خوفا من اتهامه بالقتل أو حتى من لحظة مقتل بدر الوشمي. لكنّها وكما يبدو من منطلق قناعاتها لم تبغ تقديم صورة لواقع ورديّ جميل يعيش فيه أبناء الشعبين بتوافق وقبول وحتى بعلاقات انسانيّة وعاطفيّة، لأنّ مثل هذه الصورة تكون تزييفا لواقع لا يمكن أن يكون بسبب رفض الآخر، ولهذا انتهت رحلة الربيع الوردية سريعا باعتقال أحمد ومطاردة مجيد وتفجّر العنف في كل الأرض لتكون بداية الرحلة الصعبة، رحلة الصبر والصبّار.
في الجزء الأوّل صوّرت لنا الكاتبة التحوّلات التي طرأت على الكثير من أبناء الشعب الفلسطيني على أثر اتفاقيّة أوسلو والانفراج الاقتصادي الذي عرفته الأراضي المحتلة، والشعور بالأمن والطمأنينة وانخداع الكثيرين بأن الحلم الذي طالما أملوا به بالاستقلال وإقامة الدولة الفلسطينية والحكم الديمقراطي الحر وتحقيق العدالة والمساواة وبناء المجتمع الأمثل قاب قوسين أو أدنى. وفعلت ذلك من خلال شخصيات أسرة فضل القسّام الرجل المناضل الذي شقي في طفولته من حياة المخيّم وشظف العيش وشارك في نضالات الشعب، وها هو الآن يعمل صحفيّا ينشر أخبار البلد ويعلق على الأحداث ويحظى باحترام الناس. لكن ما يثير فضل ويغضبه هذا الجوّ الشبابي العام واللامبالاة بالقضايا الكبيرة والهمّ الوطني، وذلك من خلال مراقبته للواقع ومن ملامسته ذلك بسلوك ابنيه أحمد ومجيد.
فمجيد البكر همّه فقط في اللهو والغناء والسهرات والحفلات والحب حتى أنه عمل في المستوطنة القريبة دون علم أبيه، وكان مجيد يغضب ويضرب عن الطعام لرفض والده شراء البوط الطلياني له. وإذا لامه والدُه على مصروفه الكبير كان مجيبد يغضب ويعلن حريته في ما يفعل وأنه يصرف كما يريد ويتحدّى والده في أكثر من موقف، ولا يجد فضل القسام ما يواجه به ابنه غير الإنطواء على الذات واستحضار الماضي والحنين إليه "ما شاء الله! يضرب عن الأكل ؟! في زمننا كان الأب يحرم أبناءه من الأكل إذا اقترفوا أدنى غلظة. في زمننا كان الأكل مكافأة وليس صفقة. ألأنه يُربّي أولادَه بشكل جيّد ويجعلهم أوادم بين الناس يدفع ضريبة تربيته؟ ألأنّ الأكل المتوفّر دوما في الدار وثلاجته دوما تطفح باللحم والبيض والزبدة يُصبح الأكل مجال ابتزاز؟ لأنّ ابنه لم يعرف الجوع ولم يدُر بالصينيّة ولم يبع العلكة على الأرصفة ولم يعش في المخيّم، يتصرّف مثل الأفندي ويَحرد عن الأكل ولا ياكل؟ أمّا ابن كلب؟(ص32).
ويتألّم وهو يرى تضايق ابنه من سماع قصصه عن الماضي وحياة المخيّم، ويسمع قوله مناقشا :"يابا الطلاب بعيشوا حياتهم بالطول والعرض. أنا طلباتي عمرها ما تزيد. طلباتي دايما معقولة" (ص33). ولا يجد فضل القسّام غير قول" أمّا أولاد كلب! أهذا هو جيل الأمل والمستقبل؟ جيل اليوم، جيل اليويو، جيل الغناء الإفرنجي وال MTV، هذا بالعربي جيل مائع صائع ضائع تربّى على الدّلع والشوكلاته. جيل لا يقرأ ولا يكتب، جيل لا يسمع أم كلثوم بل يسمع ميمي ومادونا. تلك أصوات وحناجر؟ بل لحم ومرق ولظاليظ. من أينَ جاءوا بهذا القرف؟ من هذا الجيل؟ أنعم وأكرم. وتشرفنا يا جيل الدّش"(ص33). ولمّا غضب مجيد لرفض والده طلباته رفس الكرسي وخرج ولم يستمع إلى نداء أبيه له بالعودة، فعلّق فضل القسّام على هذا التصرّف متألما: "أمّا أولاد كلب! أمّا مصيبة! ماذا يفعل بهؤلاء الشباب؟ ماذا يقول وماذا يكتب؟ كتب كثيرا عن هذا الجيل وميوعته، وعن مستوى الوعي وهبوطه، وانتشار الفساد بين الطلبة، وعن إسرائيل تعبث بالجيل وبالطلبة بتسويق العُهر والعَمالة وتهريب الإيدز والمخدّرات والسلاح الرّخيص. ولم يكتفوا بأسواقنا نحن، بل والأسواق العربية. وها هي أجيال تلو أجيال تحصد العار والهزيمة، فكيف إذن نخلص منهم؟ كيف نرتاح؟ كيف نحيا ونرفع رؤوسنا بين الناس ونحن زبالة؟ زبالة، زبالة!"(ص34).
وكذلك أحمد فهو كما يصفه أبوه ولد معاق ينظر بالوَرب ويحكي بالورب ويتأتىء، بينما المعلم يصفه بالفنان وأنّ كل مشهد يستوقفه يتخيّله لوحة فهو ولد رقيق وحسّاس وناعم وموهوب(ص7) يحب القراءة ولا يحب اللهو واللعب مع الأولاد، ولا يتظاهر ولا يرشق الحجارة ولا ينط ولا يركض، فقط يهرب. في كل مرّة يشتغل الضرب ويخرج الأولاد إلى الشارع في مظاهرة تبدأ بهتاف ثم الفوضى ورشق الحجارة وغاز الدموع، كان يتسلّل من غير ضجيج ويختبىء بعيدا في مكان ما: في المراحيض، تحت الدرج، خلف الحاوية، أو مقبرة عين المرجان. وهناك يظل دون نفَس حتى تهدأ معركة اليوم الصغيرة فيرجع إلى البيت دون أن يلاحظه أحد. (ص13). وحتى يضمن فضل القسّام مستقبل ابنه أحمد وأنه سيكون رجلا كاملا طلب من ابنه مجيد أن يصطحبه معه ويعرّفه على الحياة والناس، وكان هو أيضا يأخذه معه في بعض المرات لالتقاط الصور لمقالاته التي سينشرها في الجريدة. وبينما كان أحمد في إحدى المرّات في مرافقته لمجيد يلتقط الصور اتجه بالكمرة نحو الغرب وإذا بمشهد شجرة وقرميد ومرجوحة وبنت شقراء بذيل فرس مثل اللعبة، حلوة وجميلة كما الصورة، هل تحكي عربي أم عبري؟ هل تفهم عليه إذا كلّمها؟ وشغلته الفتاة وأصبحت شغله الشاغل. وخلال وقوفه مرّة بمحاذاة الشريط الفاصل ما بين بلدته والمستوطنة يتعرّف على عيسى الذي يعمل في المستوطنة وتتوطد العلاقة بينهما.
وتتمحور أحداث الجزء الأول حول:
أ- علاقة أحمد بميرا الفتاة اليهودية من المستوطنة المجاورة لبلدته.
ب- علاقة أحمد بعيسى المتهم في نظر أبناء شعبه لعمله في المستوطنة التي أقيمت على أرض بلدته.
ج- علاقة مجيد بلورا ووالدها بدر الوشمي الثريّ القويّ المتّهم بالعَمالة لصالح المحتل.
وبذلك تطرح الكاتبة على بساط البحث ثلاث قضايا حسّاسة وقفت أمام المواطن الفلسطيني بعد أوسلو وعليه مواجهتها والتعامل معها واتّخاذ القرار الحاسم الصحيح. وتبيّن لنا سحر خليفة كيف أنّ فضل القسام ممثل جيل الآباء، الجيل الذي وعى النكبة وعانى الغربة وقاسى التشريد والظلم والجوع يرفض التنازلات، ويصر على مواقفه الرافضة للتنازل لأيّ من هذه الشرائح الثلاث التي يتهمها بالخيانة. فهو يرفض أيّة علاقة وتعامل مع المستوطن الذي يحتل أرضه وبلده ووطنه، ويرى في ذلك استهانة بالوطن والناس والذات. ولا يقبل أيضا التعامل مع الذين يتهمهم بالخيانة والعمالة حتى ولو كان هؤلاء طوق النجاة والنجاح له ولكل أهل بيته.
وتوصلنا الكاتبة إلى النهاية التي تريدها لهذه العلاقات الثلاث، فكما لا مكان للخائن وللعميل بين أفراد شعبه وعلى تراب وطنه ولهذا كانت نهاية كل من عيسى وبدر الوشمي الموت على يد المقاتلين من رجال المقاومة الفلسطينية. هكذا أيضا لا حياة لحب غير طبيعي يلد بين أحمد ابن الشعب المضطهد والمحتل وطنه وميرا الفتاة اليهودية ابنة المستوطن الذي يحتل الأرض ويدوس الكرامة ويضغط على الأعصاب يوميا. وتكون النهاية باستحالة اللقاء بين ميرا وأحمد الذي لا ينسى ما سببته له من ذلّ وظلم وسجن رغم ما يكنّ لها من الشوق والحب والعواطف. حتى ولو لم يكن لها أيّ علاقة ودور ولم تدر به. وتكون النهاية برفض أحمد الانصياع لرغبة ميرا بالسير معها، ومن ثم قيامه بعملية انتحارية يقوم بها أمام ناظري ميرا التي لا تصدّق الذي تراه.
وبانهيار هذا الوهم الخادع الذي سيطر على الكثير من العقول خاصة من جيل الشباب الذين انخدعوا بالتحوّلات الاقتصادية السريعة وتوفير فرص العمل وانفتاح الآفاق والحواجز وارتفاع مستوى المعيشة , بانهيار هذا الوهم بدأ العنف يتجدّد والمحتَل الظالم يقسو لا يترك وسيلة إلا ويستعملها لاذلال الناس وسحق رغبة المقاومة في كل واحد منهم.
حكاية الصّبر والصبّار غير المنتهية
وتكون بداية الجزء الثاني: رحلة الصبر والصبّار في رأيي بعد اعتقال أحمد وبشكل أعنف وأدقّ بعد مقتل بدر الوشمي وهرب مجيد خوفا من اتهامه بالقتل للمشاحنة التي كانت بينهما ليلة قتل. فقد "بدأ الحصار الطويل العريض فانفصل الشارع عن الشارع وصارت المدن أشبه بأقفاص معزولة، فكل مدينة هي جيتو ضخم محاط بجنود ودبابات سدّت مداخلها بخنادق وسواتر ترابية وحواجز" (ص78) واكتسحت الآليّات العسكرية كل بلدة ومدينة في الضفة الغربية، واشتدت القسوة وزادت التحرّشات والإهانات والمضايقات في المعاملات على الحواجز، وبالمقابل ازدادت ضربات المقاتلين ودارت على مختلف المواقع مواجهات عنيفة تُخَلّف بعدها القتلى والجرحى، وتُسارع في إطفاء كل بصيص لأمل يلوح في الآفاق البعيدة. ودخل جند الاحتلال أغلب المواقع وهدمت الدبابات والمجنزرات كل ما صادفته أمامها، واقتلعوا الناس من بيوتهم وأحيائهم، وتشتت أفراد الأسرة الواحدة، ووجد الكثيرون ممّن لم يفكروا بالقتال والخروج عن لامبالاتهم والزاهدين بالعنف والراغبين في حياة هانئة ومريحة وحالة اقتصاديّة مزدهرة وأمسيات ناعمة وعلاقات اجتماعية متبادلة، وجد كل هؤلاء أنفسهم وسط المواجهات.
فعيسى الذي عمل ويعمل في المستوطنة واتهم بالخيانة انضم للمقاتلين لصد الجند المحتل. وأحمد المعاق الذي كان لا يتقن الكلام ويهرب من المظاهرات والمواجهات ويختبىء بعيدا حتى تنتهي ويعود سالما إلى بيته، وكان يحلم بأن يكون فنانا كبيرا يرسم اللوحات والمشاهد ويلتقط الصور المميّزة لكل شيء، أحمد الفتى الناعم الهادىء العاشق الذي انجذب نحو ميرا الفتاة اليهودية ابنة المستوطنة وشغلت عقله وجعلته يتساءل عن اليهود والعرب ويحلم بمستقبل يكفل له حياة سعيدة هانئة مع ميرا. أحمد هذا سرعان ما وجد نفسه يقبع في السجن بتهمة القيام بعملية تخريبية لم تكن أصلا، فصقلته أيام السجن القاسية وخرج منه شابا قويّا شجاعا مواجها. ومثله أخوه مجيد الذي طالما حلم بالغناء واللهو والمستقبل الفني الرائع استفاق ليجد الجند تطارده والتهمة الخطيرة توجه إليه، ولا خيار له إلا أن يكون مع المقاتلين. ومثله ابن غزة الذي نُقل إلى الضفة ليكون شرطيا مدنيا فأخذنه الانتفاضة وأصابته شظية قتلته. وعشرات الشباب والفتيات والرجال والنساء حتى رجال الشرطة والكثيرين من رجال الأمن الفلسطيني وجدوا أنفسهم مع أبناء شعبهم في مواجهة جند الاحتلال.
مشاهد العنف والقتال والمواجهات والموت تنسحب على كل الجزء الثاني من الرواية وتستحضر مشاهد من مواقع عدّة خاصة من نابلس ورام الله ومقرّ الرئيس الشهيد ياسر عرفات. وتنقل ملحمة شعب في مواجهته لأشرس وأعنف وأقسى قوة عتيّة شرسة تكاد تتلخّص في المشهد الأخير من المواجهات في الرواية "أمسك الجندي بوالده من عنقه وجرّه كالكبش وهو يقاوم. رآه يرفسه بالبسطار. ورأى والده يتقيّأ. فأسرع يركض نحو الحادث لكن الجنود مثل الحاجز. ورأى الفتاة ابنة تاتشر تركض إلى الدار لتحمي أباه، فتحت ذراعيها مثل الصليب وأخذت تصرخ Stop.Stop.. لكنّ الجرّافة تتقدّم Stop.Stop مثل الزلزال تدكّ الأرض فتفلقها وتمشي كالرّخ وتترنّح مثل الغيلان. مشت لتتلقّاها مثل الصليب، ذراعاها مفتوحتان والشعر الأشقر يتطاير من حمّ الوهج والجرّافة تقترب ببطء، وتَرَنُّحٍ وذلك السائق في أعلى الرأس، رأس زجاجي يلمع من وهج الشمس، وذاك السائق يلمع أيضا، يلبس نظارة زجاجيّة مثل الضفدع وغطّاس البحر، ذلك السائق لا يتزحزح، لا يتحرّك، لا يُبدي حركة أو نأمة توحي بالفَهم. قطعة معدن، رجل آليّ، إنسان حديديّ، والنظارات مثل الضفدع. صاحوا: وقّف! ولم يتوقّف. رشقوا حجارة، ولم يتوقّف لطمت فلاحة وصاح الشباب: الله أكبر، لكنّ الله كان يُحدّد مسيرة تاريخ.
ومشى التاريخ مثل الَعَقرب وساعة بيج بن نحو فتاة تحلم بالحب وضمير الناس. ابنة تاتشر تحت الدواليب. صَوّرْ، صَوّرْ. ابنة تاتشر كانت بلا دين. صَوّرْ. صوّرْ. ابنة تاتشر صارت منّا، صارت قدّيسة مسيحيّة حين نعاها خوري اللاتين. حملوا الفتاة ووضعوها خلف ظهره. كانت ميرا تبكي وتنوح وأبوه يصيح: أوعى يا ولدي. ما زال يصيح: أوعى يا ولدي! بعد كل الضرب والإهانات والدار تنسحق كقشر البيض وفتوت العيد، أوعى يا ولدي، وميرا تصيحGo.on. Hurry up : هنا فيه عسكر، فيه دبّابة، وأبي يبكي مثل الأطفال ويقول أوعى، وأم سعاد قالت أوعى، وأم الغزاوي قالت له أوعى يا ولدي ولكن الحاضر فاجأها بضربة صاروخ. ورأى السائق في الجرافة يُحدّق من خلف النظارة مثل الضفدع، انسان الغاب، مثل الآلة، لا يتحرّك ولا يُبدي فَهما أو عطفا، فقط يمشي، يقترب بآلته الضخمة، فصاح الشباب: إرجع رفيرس، إرجع، إرجع، إرجع. نظر إلى جانبه في المرآة ورأى العسكر، خمسة، سبعة، عشرة وأكثر.. صاحت ميرا: إرجع رفيرس. إرجع، إرجع. والجرافة تقترب منه. رجع إلى الخلف ثمّ استدار فرأى العسكر في مواجهته، ورأوه يقترب من الحاجز. صليّة رشاش على الأمبولانس فانكسر الزجاج وتطاير، إدعَس، إدْعَسْ، صاح الشباب، إدْعس، إدعسْ. داس البنزين وهو يتمتم مثل المجنون: يا أولاد الكلب! كان الغضب قد نزع الخوفَ والدنيا تموج خلفَ دموعه. لم يرَ إلاّ تلويح أبيه وميرا تصرخ: Hurry up, Hurry up. صليّة رشّاش ثانية فطار صوابه. صور الأحداث مثل السينما. شاشة سريعة، فيلم معطوب، وهو يصَوّر من غير صوَر، داخل عقله، إنْ بقي عقل، واندفع بكامل أجنحته مثل الصاروخ نحو العسكر، خمسة، سبعة، عشرة وأكثر، لم يُميّز، اختلّ العقل، ثم تأرجح، والروح تطير كطيّارة مثل الأوزون. فصاح الوالد: ابني استشهد! في اليوم التالي سمعنا الخبر. قالوا: إرهاب." (ص 218-219)
وتنتهي الرواية بهذا المشهد القاسي الذي يوقفنا على بشاعة الاحتلال ومدى معاناة الشعب واستحالة تحقيق الأمل ولو حتى على المدى البعيد. مَشهد القَتْل هذا قَتَلَ كلّ ما هو إنساني وجميل في أحمد. أحمد الفتى الهادىء الرقيق الهارب من كل مواجهة ومظاهرة، الحالم بكامرته وصوَره ورسوماته، الحاضن قطتَه والراكض نحو السياج ليلتقي فتاته الحلوة ميرا في المستوطنة القريبة، أحمد المتسائل بقلق وحزن عن اليهود وميرا وأهل ميرا، أحمد القلق على ميرا والمتعلّق بها والمحب لها، أحمد فَقَدَ كلّ مشاعر الانسانية والحبّ وهو يرى الفتاةَ الانكليزية فتاة السلام صديقة ميرا التي تضامنت معهم ضد حاجز الفصل وهرعت لتحمي والدَه من جرّافة القتل، يرى أطرافها وأشلاءها وشعرها يتطاير في كل الجهات. لم يعد يسمع نداءات الوالد ولا أم سعاد ولا الشباب ولا حتى ميرا، كان يرى أمامه الأطراف تتناثر في كل الجهات وصليبا يحوم حولها أينما تناثرت. لم يعد يسمع. وحتى ميرا التي أحبّ وعشق وتمنى لم تعُد تُثير فيه غيرَ مشاعر الموت والكراهيّة والانتقام. أصبحت ميرا إنسانة أخرى تُذكّره بهم. يوم قبضوا عليه واتهموه وجَرّوه أمامها وهي تبكي خوفا منهم، وليس شفقة عليه وحبّا له. أصبحت ميرا منهم يتمنى لو أبكاها بدل الدمعة آلاف الدموع. لو عذّبها مثل عذابه. لو غدر بها كما غدرت به (ص219)
بوادر التغيّر في موقف الفلسطيني
تبدو سحر خليفة في روايتها هذه "ربيع حار" واضحة أكثر وحادّة وصريحة وصارمة في تحديد مواقفها من القضايا العديدة. كذلك كانت ذكيّة ومبادرة وجريئة في تلمّس بوادر التغيّرات والتوجّهات وحتى القناعات عند الكثير من شباب الجيل الجديد من الشعب الفلسطيني بعد اتفاق أوسلو. فسحر ترصد هذا التغيّر في اقتناع الكثيرين خاصة من الشباب من منطلق الرغبة في الاقتناع والتمني والأمل في مستقبل جميل بعيدا عن العداء والقتال وشظف العيش، وكيف هذا التغيّر بدا في اهتمامات الشباب بحياتهم الخاصة وملذاتهم وضمان مستقبلهم، فلم تعد قضايا الوطن الكبيرة هي محور الأحاديث وإنما الهموم الذاتية الصغيرة، المأكل والمشرب والملبس واللهو والأصحاب والمال. وحتى في العلاقات الاجتماعية، لم تعد المواقف الفكرية والسلوكيات الاجتماعيّة تُحدّد العلاقات، كما بين أحمد وعيسى و مجيد ولورا ابنة الوشمي، ولا العاطفية كما بين مجيد ولورا وأحمد وميرا المستوطنة اليهوديّة.
مخاطر التنظيمات السّلَفيّة: ولم تختلف صراحتها وحدتها وجرأتها في تسليط الضوء على مخاطر التيارات السلفية التي تعمل للسيطرة على الشباب وجرّ الشعب والوطن إلى ويلات "قل لي يا شاب يا متعلّم، ماذا نعرف عن ذاك الجنس إلاّ الحريم والمحظيّات والمُبرقعات وراء الحُجب؟ أمنَ المعقول أن ندخلَ السوق، سوق العالم، بنساء البشتون والخميني؟ أترى صورهن؟ شوالات الأرز والبطاطا أحلى منهن. أهذا ما نريد؟ أهذا ما نرضى بحدوثه؟ وإذا وصلوا الحكم هل يدَعوننا نعيش بسلام؟ نأكل بسلام نشرب بسلام نغنّي ونرقص ونعامل المرأة كبني آدم، ونصلي لله بطريقتنا ومذاهبنا؟ ماذا يحلّ بالمسيحيين؟ ماذا يحلّ بالعلويين؟ ماذا يحلّ بالبهائيين؟ ما حلّ ببوذا مع طالبان؟ نسفوا بوذا، نسفوا التماثيل الحجرية ذات التاريخ والحضارة وأمجاد الفن. ثروة سياحيّة ونسفوها. نسفوا التاريخ. نسفوا المذهب والحريّة في أن تعبَد ما تُؤمن به. أهذا ما نريد؟ أهذا ما نسمح بوصوله؟
إنْ وصلونا انتهى كلّ شيء، انتهى الفن والحضارة، لكن الفن هو المحور والمُحرّك." (ص51) وتحمّلهم مسؤوليّة الذي يحدث بقولها على لسان سعاد: "إذ طالما حقدت عليهم .. أهل الطرابيش وذوي اللفات والدشاديش. وكانت تقول بلا توقّف: هم أصل الهمّ، هم أصل الشؤم." (ص123). وتسخر من التصرّفات التي تبدو في ظاهرها تأكيد الإيمان بينما في حقيقتها وساعتها تكون غير منطقية وغير مقبولة مثل وصف مجيد لتصرفات الحراس في مَقر الرئيس المحاصر عندما جاءوا يُطالبون بقناني الماء التي أحضرت للشرب كي يقوموا بالوضوء "عتَبي على مَن كفروا من الحرّاس ممّن شربوا عصير المانجا واعترفوا لنا بقناني الماء وعادوا ليستردّوا قناني الماء من أجل الوضوء والاستنجاء. أهذا معقول؟ قلتُ لهم، إذا كان الرئيس لم يذق العصير ولا شرب الماء، فلماذا الوضوء والاستنجاء؟ فقالوا بالحرف: حتى نقابل وجه المولى ونحن نقاتل بوجه جميل، فالله جميل يحبّ الجمال."(ص168).
وتصف لنا الدرس الأول الذي يتلقاه مَن يقع في يد رجال الدين بما حدث لمجيد الذي هرب خوف اتهامه بمقتل بدر الوشمي فوقع بين يدي رجال المقاومة الاسلامية وكان درسه الأول معهم "قال له في المغارة تحت المصباح "إقرأ" ابتسم وقال "ما أنا بقارىء" قال ثانية: إقرأ! فالتفت إليه وتأمّل ذقنَه وشَعْرَ يديه وأظافره. إنسان الغاب، عصر حجري، عصر حجارة وأنا وهو مثل الحجّاج نُصلي لإله لا يسمع فماذا نفعل؟ قالوا: إقرأ تفهم الكون والطبيعة وأغراض الناس وطلعات السوق، اليوم تطلع وغدا تنزل وما عليك إلاّ الرهان على علم الغَيب. قال الرهان على علم الغَيب؟ ما هذا الرهان؟ قالوا إذن، ألديكَ بديل؟ راهنا على العلم ولم ينفع، راهنّا على الفهم ولم ينفع، راهنّا على الحقّ والضمائر فما وجدنا إلاّ غابة وعبَدَة أصنام وبوارص. أمّا نحن فلدينا ما هو أقوى. أقوى من الذّرّة وهيروشيما، أقوى من بوش، ومَن هو هذا الأقوى من بوش؟ قالوا الإيمان، إقرأ، إقرأ، وصلّي لله أن ينصرنا وأن يكسرهم فلا غالبَ لهم إلاّ القوّة ولا حوْل ولا قوّة إلاّ بالله. هزّ رأسَه، ولم يُجادل، ولم يُناقش. وتمتم بأسى: إنْ ينصركم الله فلا غالبَ لكم.
وخرج من المغارة يتفرّج على الأباتشي وهي تقصف وتدكّ القرى والمدائن وتنشر الدّمارَ في كل مكان، فرفع رأسَه وقال لربّه: خمس ركعات أم أكثر؟ ماذا يُرضيك؟ وحين لم يُجبه حمل الفَرشةَ وبسطها هناك خارج كهفه ونام عليها وحدّقّ أعلاه وقال بحقد: إنْ أنتَ غفَرْتَ فلن أغفر، إنْ أنتَ غفَرْتَ فلن أغفر. إنْ أنتَ حكمتَ، فأنا الحاكم، وأغمض عينيه." (ص83-84). وتنتقد هذا التفكير الساذج في مقاومة العلم والسلاح المتطور الفتّاك بالصلوات والغَيبيّات "ها نحن نقاوم إسرائيل ومن خلفها أميركا وعلوم الغرب بشعب مضروب في بنيته وقيادته وحضارته ولقمة عيشه. فقر وجهل وتمزّق وارتداد الناس إلى الجامع بانتظار الحلّ أن ينزل من عند الله. والآن نقاوم مَن هربوا من دنيانا وجاءونا ببدع وخرافات تودي بالعقل وتسحق ما بقي من المنطق وتزيد الهوّة وتسحبنا الى عصور الكهف. ردّة إلى الخلف مليون سنة" (ص179).
انتقاد رجال السلطة: لم تكن سحر خليفة أقلّ حدّة وانتقادا للسلطة ورجالها وسلوك كل واحد منهم "كان لنا وشميّ واحد صرنا بأوشام. وأنظمة بعمائم ونياشين وحجّاج وأئمّة وتجارة بالملايين. ونحن الملايين، نحن الأيتام مثل الخراف بلا راع يا بلد الشوم!" (ص83). و "كانت السلطة بالنسبة له، وللكثيرين من أمثاله وأمثال أبيه، كانت السلطة هي حكومة، شبه حكومة، حكومة جاءتهم بالممجوج، إذ بعد الثورة في بيروت والنضال العظيم وأفكار النور والحريّة وكوبا وموسكو وأشعار التحرّر والتحرير جاءوا لهم بنظام حكم لا يختلف من حيث الشكل والمضمون عن الأنظمة العربية. فوضى وفساد وضرائب وأجهزة قمع واستزلام. أين العمل؟ أين الإنتاج؟ أينَ الوزارات ونوّاب الشعب؟ وكم سمع أباه يجهر علنا بما يعجز قلمه عن رَصده." (ص 111).
وبسخرية جارحة تقول على لسان عيسى المتّهم بالعَمالة والخيانة "مَن يجرؤ على غزو البلد والفصائل وقوّات الأمن والشرطة وقد أضحوا جميعا في وحدة لأوّل مرّة منذ أوسلو وقيام الحكم؟ مَن يتجرّأ ؟ قوّات الأمن، قوّات حماس، فتح والجهاد والشعبية والخ الخ.. حملوا الأعلام، رفعوا الشعارات، هزّوا الأسلحة الرشّاشة فوق الرؤوس المذعورة للخارجين من الجامع والمجتمعين في البلدية وباب الساحة وقالوا كلمات أكبر منهم ووعدوا بالنصر والحرية من خلال الخطب وعدد الأعلام والفصائل وإطلاق الرصاص على الفاضي والأنتينات والمآذن. ومَن يتجرّأ؟"(ص 112)
فعندما جاء أحمد راكضا يخبر أم سعاد بأن اليهود هجموا لم تصدّقه وعلّقت ساخرة سيهجمون، وسيحتلون، أو بالأحرى يُعيدون احتلال قطع السُّلطة. وقطع السلطة كانت أشبه بقطع السَّلَطَة، والناس أيضا في الشارع كانوا يقولون بغيظ ضاحك: أمن السَّلَطَة، حكومة سَلَطة، فوضى السلطة وقرف السّلَطَة، قطع السلطة كانت مساحات جغرافية أشبه بقميص ممزّق كل قطعة بواد. ما هذا الحلّ؟ لا شكل ولا حدّ ولا فاصل. أمّا القادة، ففصائل وقبائل وتنظيمات مثل الخيار والبندورة والفجل والخسّ والبقدونس في سحّارة ينقصها القعر والسّقف والغطاء وبلا جوانب. جاءوا بها من أرض الملح وفرموها مثل البالات وحشوها مثل الفَرْشات وباعوها للفلاحين والفقراء والأرامل. وكذلك شعب كالسلطة. فهذا فلاح من طوباس، وذاك بدوي من خان يونس وذاك مثقف في رام الله كلمة عربي وكلمة إنكليزي وبنات يلعبن بالشورتات وحريم يتلفّعن بالجلباب واليوانس. خليط عجيب بلا تجانس، وبلا تجنيس.(143-144) وتسخر أم سعاد من السلطة بقولها للجندي الغزاوي الذي يرتجف من البرد ويطلب مساعدتها:" كانت السلطة تعرف أنّا سننضرب ونتخوزق، ولهذا وسّعوا البَدلات ووسّعونا حتى تتسع ونتوسّع ونأكل خوازيق."(ص149).
وقول مجيد "الاقتراب من القائد يعني سُلطة. يعني مَنصب، يعني رتبة، يعني راتب، يعني وكيل وزارة، ثم وزارة. وكذلك السّباق على الأخبار والتلفزيون، فهذا يقول وذاك يُحلّل والآخر ينتقد ويترفّع مع أنّ قائمة المنتفعين تبدأ باسمه. وبدأت ألفاظ تتحفنا بما هبّ ودبّ من مصطلحات، وبدأت كلمات ديمقراطية وإصلاح الفساد وإعادة هيكلة الحكومة ونوّاب الشعب تغزو القنوات والجرائد" (ص 170). ومجيد فضل القسّام نموذج من رجال السلطة المتسلقين ويعترف مع نفسه أنه يخدع الآخرين وحتى نفسه" بدل الكاكي لبست البدلة، وبدل السلاح حملت القلم ألوّح به وأنا أحكي وأشرح وأقول بملء الفم ديمقراطيّة وهموم الشعب وإعادة هيكلة الحكومة حتى صدّقتُ ما أُدلي به من تصريحات"(ص170) ويقول"سعاد تقول إنّي أسوأ لأنّي أهتم بالمنصب والتلفزيون وإني لا أختلف عن الباقين ممّن هُزموا وهَزموا معهم آمال الشعب والقضيّة."(ص171).
كشف ظاهرة العُمَلاء المتفشيّة والخطيرة: وتُركز الكاتبة/الراوية على ظاهرة العُملاء والمتعاونين مع قوّات الاحتلال وتزايد أعدادهم باطّراد كبير، ففَضل القسّام يقول عن بدر الوشمي: "أهذا هو بدر الوشّام؟ أهذا ما سمع عن صيته وآل الوشمي؟ أهذا العميل ابن الحرام عديم الأصل؟ أهذا مَن قيل إنّه ساقط؟"(ص52) و "البلد مليئة بالعملاء والوشاشمة. فلان بن فلان صار عميلا، وابن البقّال صار عميلا. وابن أبو يوسف. وبائع زلابية وتمرية، وبائع ترمس يحمل بسطة ويدور بها بين الأحياء ويستطلع. صرنا أجراء زبالة" (ص90). وكثيرون من الذين تظاهروا بالوطنية ومقاومة الاحتلال انكشفوا على حقيقتهم وكانوا عملاء وعيون للاحتلال. وأحمد لم يعد يستطيع السكوت على ما يجري أمام تدمير جند الاحتلال للبلد فيقول لأم سعاد: "أنا مش عارف إيش عملنا؟ ساعات بقول الموت رحمة. وساعات بقول إحنا كفرنا، ويمكن عشان إحنا منكذب ونضحك على حالنا وعلى الناس الله سخطنا. ويمكن عشان إحنا ساكتين على اللي خانونا وباعوا بلدنا الله ما تطلع بخلقتنا. عيسى باعنا يا أم سعاد. عيسى وأمثاله بالعشرات وبقولوا مئات. قالوا الشباب عيسى وغيره كشفوا الألغام وكشفونا. ولمّا دخلوا اليهود مشوا على الأرض فوق الأسلاك المقطوعة لأنّ عيسى، عيسى وغيره، كشفوا الأسلاك وكشفونا".(ص 162).
السخرية من الشعارات الفارغة: وتسخر على لسان أحمد من الشعارات التي تُطلَق ومن الأوصاف التي يطلقها البعض خاصة من الشعراء والقادة على الشعب الفلسطيني كشعب نادر لا مثيل له، ومن تَرديد الرئيس ياسر عرفات وصف الشعب بشعب الجبّارين "كان قد سمع كثيرا عن ذلك الصبر والإيمان والامتحان العجيب الغريب من طرف الله لعباده الصامدين الصّابرين القادرين على التّحمّل أكثر من أيّ شعب في الدنيا لأنّهم من طينة عجيبة معجونة بماء العفاريت ولهذا سمّوهم جبّارين. فأيّ تفسير هذا الذي يقول إنّ الله يمتحن الناس بكلّ هذا؟ ما هذا الامتحان الطويل العريض، ألا ينتهي!؟" (ص153)
فضح المنتقدين المكتفين بالكلام من مواقعهم البعيدة: وتنتقد ظاهرة هؤلاء الذين يعيشون بعيدا عن الوطن وينعمون بطيّبات الحياة ولا يتوّرعون عن انتقاد كل ما يفعله الأهل في الوطن، والتطاول على الغير من قيادات وناس عاديين، سعيد أخو سعاد مثلا درس المحاماة في جامعة دمشق وتخرّج بتقدير جيّد وتدرّب على يدي محام من الوزن الثقيل، لكنه محام غير ناجح يقيم في عمّان ويأتي لزيارة أهله على فترات متباعدة ينتهزها لجعل أمه تمدّه بالمال باختلاقه مختلف الحجج، سعيد هذا الذي زار بيته في نابلس أيام الحصار والهجمة الاحتلالية على المدينة ينتقد ويهاجم الجميع ويصرّح بكل استعلاء "لازم تستمر العمليات وما نخلي باص ولا طيّارة ولا قهوة صغيرة ولا مطعم" وعندما سأل فضل القسّام والد المحامي : يا أبو سعيد مين أحسن للناس والقضيّة، نفقد النص أو نفقد الكل؟
صاح المحامي بعصبيّة: يعني الوطن ذبيحة تنباع بالرطل والكيلو والوقيّة؟ الوطن الغالي ما بنباع. لكن قادتنا البيّاعين قاعدين يفصّلوا على مقاسهم. ومقاسهم نص وربع وخمس. وبعد سنتين أو ثلاث يمكن ما يظل ولا شيء ينباع. وثم صرخ: "لأ ما أخذوه. إحنا واقفين لهم بالمرصاد. حتى لو ظلّ طفل بيرضع مش ممكن نسلّم ونركع." ويقول لأخته سعاد المعارضة له بعد نقاشات وكلام غير منطقي يتشدق به :" أنت لو بتشوفي إيش بيصير لمّا نسمع عن عمليّة! الإذاعات والفضائيات والشارع العربي في أيّ مكان من مراكش حتى لبنان كلّه بوقّف يصفق ويقول: هيك الأبطال، هيك الشجعان، هيك النضال وهيك التحرير، واحنا طبعا نرفع راسنا ونقول مظبوط إحنا قدّها، إحنا اللي ندافع عن العرب ونرفع راسهم." (ص201). ولم تحتمل سعاد أكثر كلام أخيها المثير للقرف وقالت بسخرية وتحدّ: وانت طبعا رافع رأسك. وأيضا أحمد لم يستطع التحمل أكثر فترك المكان وخرج.
تَراجع في مركزيّة قضيّة تحرّر المرأة: لم تنسَ سحر خليفة قضيّتها الرئيسية التي تراها الأساس في بناء المجتمع الحضاري المتطوّر القادر على التعايش مع باقي المجتمعات في العالم، وأعني قضيّة المرأة وتحرّرها. صحيح أنّ هذه القضيّة لم تكن محورا أساسيا في هذه الرواية، وقد يكون السبب تراجع هذه القضيّة أمام تسونامي الهجمة الوحشية لجيش الاحتلال على الشعب في كل مواقعه في الأراضي المحتلة ممّا وضع كلّ الشعب في مواجهة الوضع الخطير الدّاهم. لكنّ القضيّة لم تهمَل بالمرّة ونرى إشارات إليها في نظرة فضل القسّام لأهميّة المرأة في حياة الرجل "فهي أنثى يرتاح الرجل لعشرتها، فهي للحقّ مخدّة من ريش يغطس فيها، ينام عليها، يكمشها فتنصاع لقبضة يديه، ويحسّ بالنعومة من تحته وفوقه وعليه. وجه ناعم صوت ناعم. جلد ناعم. ولحم كمخدّة من الرّيش."(ص35).
ولم يختلف موقف مجيد الشاب المتحرّر عن موقف والده فضل القسّام لما يراه ويعتقده في المرأة، فقد وصفت سعاد موقفه من المرأة قائلة: " شك مزروع في نفسه، في عمق العمق، ربّما يدريه، أو لا يدريه، أنّ المرأة مجرّد نزوة، حسّ مُطلَق، فتنة وإغراء وجنيّة تسحب أعصاب رجولته وتلقي به في ماء ضحل. المرأة نار، المرأة ظلّ، المرأة فَرْج لا أكثر وهو الخيّال" (ص177). وتتألّم سعاد من وضع المرأة "الرجل ينسى بسرعة لأنّ مجالاته مفتوحة ودون حصار؟ حصار الداخل وحصار الخارج وحصار المجتمع وإسرائيل. للرجل فقط حصار واحد، أمّا هي، فكل الحصارات مجتمعة. وأحسّت بالغيرة من الرجل"(ص93). وتقول واصفة حالتها مع مجيد:" ضعنا، ضعنا يا حبّ وضيّعنا. أعطيتك قلبي وخيالي. جعلتُك إحساسي وشعوري. كنتَ الرجل، كنتَ السّاحر، كنتَ الآسر. ثمّ استهنتَ بإحساسي فحقدتُ عليك. أتكون الحبّ وتكون القَيد؟ أتكون المُحرّر والنّخاس؟ وأنا أكون مثل النّعجة: ظلّ ممسوخ، نزوة صغيرة، رقم مُفرَغ من مضمونه، وأعيش لأتلقى ضرباتك وإهاناتك وأقول فلسطين عاشت حرّة وأنا المرأة أرسخ في الذلّ ولا أقوى على ردّ الظلم وأنتَ الظالم، أنتَ القاسي، وما كنتَ تكون جلادي لولا خضوعي وما كنتُ عليه. أنا لن أخضع. فانفرط العقد."(ص 176). وتوضّح أنّ نظرة المجتمع عن المرأة لم تتغيّر " يا بنتي الواحدة ما إلها غير زوجها. الستر مطلوب وانتٍ كبرت ولازم لك عريس وبيت وأولاد ورجل يرعاك ويرعى حياتك" و "البنت تبور وتصير عانس! إذن هكذا! هذا هو الوصف! عانس ومستورة وظل رجل. حتى أبوها، خرّيج السجن المتقدّم يقول هذا. ماذا عن الناس؟" (ص179).
صحيح أنّ سحر خليفة لم تتوسّع في قضيّة المرأة وسَعيها للتحرّر من ظلم المجتمع والرجل، ولكنها كانت ذكيّة في توصيل رأيها وموقفها وقناعتها بأهمية المرأة وجدارتها في تسلّم المهام المهمة ومراكز القيادة والتوجيه. فسعاد تعلّق على كلام والدها بأنْ ليس للمرأة غير زوجها وأولادها وبيتها بقولها: "نسي الوالد أنّ الراعي للبيت والأولاد خلال سنوات سجنه كان امرأته، لكن بصمت، ودون دَويّ وشعارات وبَيانات، بلا أوسمة، دون مَشاعل."(ص182). وتتذكّر كيف كان والدها قبل سجنه يتحكم بكل البيت ويهين زوجته ويقول لها بدون رفّة جفن:" وله يا حرمة، وله يا هَبلة، وله يا حمارة، وكانت تقول مجيبة: طيّب. بَسّ انتَ روّق، طوّل بالك، وتركض هنا، ثم تركض هناك، تمسح لهذا، وتُرضع ذاك، وتُعكّز أمّه للحمّام، ثُُم سُجن هو وماتت أمّه وراح الأولاد وبقيت هي، ولكن أقوى. ولو عاد اليوم بعد خروجه من السن وقال لها يا حمارة ستقيم الدنيا على رأسه. لكن للحق أصبح أحسن. أصبح في السجن أحسن حالا. أهدأ بالا، ألطف واظرف ويحكي النكت ويغازلها. علّموه في السجن. صار بني آدم." (ص142).
وكان رَدّ سَحر القاطع على المشكّكين بقُدرة المرأة على أداء المَهام المختلفة التي قد تُناطُ بها بأنّ قدّمَت جميع الشخصيّات النسائية التي شغلت دورا في الرواية بصورة إيجابيّة وفعّالة ومهمّة وناجحة في تأدية مهامّها المنوطة بها، وهذا برز في أم سعاد وسعاد وزوجة فضل القسّام ولورا ابنة بدر الوشمي وفي نصيرة السلام الفتاة الإنكليزية التي استشهدت دفاعا عن حياة فضل القسّام وبيته. وحتى ميرا الفتاة اليهودية المستوطنة كانت نموذجا للفتاة المناضلة محبّة السلام والتعايش والرافضة لكل مظاهر العنف والقتل والاحتلال. ولم نجد شخصيّة أنثوية واحدة اتّصفت بالسلبية، على عكس الشخصيات الذكورية، فبدر الوشام وقبله والده كانا عميلين وخائنين، ومثلهما عيسى وعشرات ومئات الشباب الذين تورّطوا في العَمالة وخانوا أهلهم وشعبهم ووطنهم.
الاحتلال سبب كلّ العلل والمصائب
تُوَجّه سحر خليفة بكل الغضب والاتهام سهامَها واتّهاماتها ضدّ الاحتلال وجند الاحتلال وتُبرز الأعمال الهمجيّة التي قاموا بها من تنكيل وتدمير وقتل للانسان والأرض. وأنّ وراء هذا الحقد الكبير دافع انتقام شخصي وكراهية لا حدود لها أضمرها شارون لياسر عرفات منذ حصار بيروت عام 1982 والفرصة التي يستغلها الآن لينفذ انتقامه وكراهيته(ص163). وكيف أن ردّ الفعل على عملية حدثت في مدينة نتانيا كان بهجوم كاسح على كل الضفّة الغربية. وبدأ حصار طويل عريض، فانفصل الشارع عن الشارع وصارت المدن أشبه بأقفاص معزولة، فكل مدينة هي جيتو ضخم مُحاط بجنود ودبابات سدّت مداخلها بخنادق وسواتر ترابية وحواجز. وثم بدأت عمليات المداهمات والاعتقالات وإطلاق النار والقتل والطرد والتشريد والتجويع بقطع المياه والكهرباء عن البيوت وسدّ كل المداخل. وعلى كل عملية مقاومة تكون ردّة فعل عنيفة بالمجنزرات والدبابات والطائرات فتهدّمت البيوت والجسور وخربت الطرقات وتوقّفت الأعمال والحركة والحياة. وازداد الحصار والظلم والتعدّي فأخذ الجند يطلقون كلامهم البذيء وشتائمهم وكراهيتهم الدفينة ضدّ كل مَن يتعاطف مع أبناء هذا الشعب حتى ولو كان من اليهود الاسرائييين وحتى من المستوطنين أنفسهم الذين يقيمون على الأرض الفلسطينية. وتجلّى هذا الحقد وهذه الكراهية وافتقاد كل المشاعر الانسانية عند جندي الاحتلال في تصرّف سائق الجرّافة في مشهد حقيقي حدث في الواقع لهدم بيت فضل القسام واقتحام الجرافة للبيت وتهديدها لحياة القسّام ومن ثم تمزيقها لجسد فتاة السلام الانكليزية التي جاءت لتتضامن مع أبناء الشعب الفلسطيني ضدّ بناء جدار الفصل، ورغبت في حماية فضل القسام بجسدها بتصدّيها لجرافة الاحتلال. كذلك في عدم الاستجابة لصراخ واستجداء الرجال والنساء وحتى ميرا الفتاة اليهودية التي صرخت وبكت وطالبت بتوقف آلة التدمير والقتل عن الحركة.
وتقف سحر خليفة على آثار هذا العدوان على حياة الانسان في الأراضي المحتلة وتصرفاته وفكره وقناعاته. فقد أنهى كل حلم جميل وأمل راود أي انسان. وأصبح كل أب وكل أم وكل إنسان يخاف على حياته وبيته وأرضه وأولاده وإخوته ولا يأمن البقاء للغد، ولا الحياة الكريمة التي تُبقي له ما يتعلّق من أجله ويسعى لتحقيقه. ففضل القسّام صُعق وهو يفاجأ بابنيه وقد انضما لرجال المقاومة وتخيّلهما محمولين على الأكتاف ملفوفَين بالأعلام والأزهار مثل الباقين، مثل الشهداء والضحايا بكل الأعمار، وتساءل بألم: "لماذا الموت؟ أهناك سبيل غير الموت والتشرّد والهرب من الجيش والشرطة؟ماذا يفعل هؤلاء الشباب؟ ما نفع الموت والاستشهاد؟ موت عبثي بلا مقابل، وبلا مَردود."(ص86-87).
وكما مجيد وأحمد، دفع هذا العدوان الشّرس كلّ الشباب في اتجاه العنف والكراهية والرغبة في الانتقام والقتل والتدمير. شباب ملّوا القذارةَ والاحتلال وقيود السجن فباتوا قذائف. بات الشباب بلا أمل فأضحوا قنابل مفخخة تمشي وتنتقل على قدمّين وتضرب في العمق وتتحدّى حالة الطوارىء والاحتياطات والحواجز وحصارا خانقا دام سنة، ثم سنتين، ثمّ سنوات. أهناك أمل؟ أهناك مَفرّ؟ (ص90). فحتى أمثال أحمد الفنان الحالم بالرسومات والتصوير والحب، ومجيد المطرب عاشق اللهو والحفلات والحالم بمستقبل فني كبير وجدا نفسيهما بين رجال المقاومة ويقاتلان ضد جند الاحتلال. وتصف حالة أحمد نموذجا لهذا الشباب الكافر بكل شيء واليائس من كل شيء. "جلس بجانبها على الأرض وقال: قرفتُ. وقال: كفرتُ. لا تقولي الله ولا محمد، أنا مش صاحي وقلبي مليان ومش قادر أفكّر بأيّ شيء إلاّ بالقتل.لازم أقتل." نظرت إليه وفرّت الدمعة من عينيها، فهذا الشاب بل هذا الطفل صار كالضبع، كحيوان جريح يتضوّر ويحلم بالقتل، فماذا سيصير حين يكبر؟ رأى ما رأى، وسمع ما سمع، وها هو الآن يتضوّر ويحلم بالقتل. قتلوا قلبَه، قتلوا عقلَه، فَقَد الاحساسَ والمَنطقَ، انتهى كل شيء. لم يبق شيء من أوسلو. قتلوا أوسلو. ضربوا القيادةَ وضربوا الناس وضربوا أوسلو." (ص160). وكانت نهاية أحمد أن قام بعملية انتحارية انتقاما لهدم بيته وقتل فتاة السلام الانكليزية في مشهد حيّ عنيف أنهت به الكاتبة روايتها.
لا تنعدم النماذج الانسانيّة في الشعب الآخر: لكن الكاتبة كانت واعية لوجود مَن يتحلون بالمشاعر الانسانية وبالمبادىء الليبرالية الحرّة البعيدة عن التعصّب القومي بين أبناء الشعب اليهودي مثل الجندي الفتى الذي لم يستطع إهانة أم سعاد وسعاد عندما أوقفتهم الدورية الاسرائيلية وتردّد في كلامه وتعامله وكان ينظر بخجل نحو أم سعاد وسعاد وكأنه يطلب الصفح (ص105) وأخيرا انفجر بالبكاء أمام مشاهد القتل والتدمير(ص109). ومثله عشرات ومئات الشباب اليهود الاسرائيليين حتى من سكان المستوطنات الذين جاءوا ليتظاهروا ضدّ حاجز الفصل وضد الاحتلال والظلم. وكانت ميرا الفتاة اليهودية ابنة المستوطنة النموذج الممتاز لامكانية التعايش بين الشعبين وإقامة عَلاقات طبيعية وحتى علاقات حُبّ. فعلاقتها بأحمد تعدّت كلّ الحواجز والموانع وظل الواحد يحتفظ للثاني بمكانة خاصة وبحبّ دفين لا ينتهي. وقد تكون الكاتبة أرادت أن تقول بأن هذه العلاقات إذا تدمّرت الآن فلأن الوقت لم يحن بعد والظروف لا تزال غير ملائمة، ولكن المستقبل كفيل بإحياء مثلها وتقويتها ورعايتها، فالأمل موجود والعلاقات قد تتجدد ولقاء الشعبين قد يحدث ولا فقدانَ للأمل.
شخصيّات كلّها تُشارك في صُنع الأحداث
شخصيات رواية سحر خليفة هم الأكثر إثارة وجذبا للقارىء، وذلك لكونهم عاديين من الناس وجدوا أنفسهم وسط الأحداث دون دراية مسبقة منهم أو تخطيط قاموا به. شخصيات لا تتميّز بمواقفها الاجتماعية أو السياسية أو النضالية أو الفكرية البارزة. بل تكاد تكون مثل في حالة مجيد وأحمد بعيدة كل البعد عن كل عمل عام. فكل واحد مشغول بذاته ورغباته وحياته الخاصة, مجيد ذو الصوت الجميل يغني ويسهر ويلهو مع زملائه من الجامعة ويحلم بأن يصبح مطربا كبيرا وفنانا ويعيش حياته بالطول والعرض. ومثله أحمد رغم انطوائه على نفسه بسبب التأتأة في الكلام وابتعاده عن الآخرين، فقد كان فنانا بأحاسيسه وكان يعبّر عن موهبته بالرسومات المميزة التي يرسمها لما يشاهده حوله, رسومات لا تنقل الموجود بكل جزئياته وإنما على الشكل الذي يراه هو فيأتي بصورة أجمل وأعمق وأكثر فنيّة. وحتى عندما تعرّف بميرا الفتاة من المستوطنة القريبة على بلدته لم ينفر منها بل انجذب إليها ومع الأيام بدأ ينشد إليها ويحبها ويعمل ما بإمكانه للقائها والتحدّث إليها، حتى أنه خاطر بمساعدتها في العبور إليه ومن ثم في الدخول إلى مستوطنتها. ورغم كل ما حدث خلال أشهر وسنوات الانتفاضة ظلّت تحتل في فؤاده مكانة خاصة وجعلته يتساءل ويسأل والده عن اليهود والعلاقات الثنائية وما شابه.
شخصيات الرواية جرفتهم الأحداث وانخرطوا فيها وساهم كلّ واحد بما طلب منه. فالأحداث المتغيّرة صقلت شخصية كل منهم وبلورتها وخلقت منها شخصيّة جديدة. كل شخصية قامت بدور بطولة في مجالها وشغلت الأحداث وأثرت فيها. في معظمها كانت شخصيات متنامية دينامية دائمة في حركة تكامل وتجدد مفاجئة. فأحمد ومجيد ووالدهما فضل القسام وسعاد وأم سعاد ولورا كل منهم بطل قام بدوره على أكمل وجه , أحببنا هذا الدور كما بالنسبة لأحمد ووالده وسعاد وأمها ولورا. أم كرهناه كما بالنسبة لمجيد في المرحلة الثانية وعيسى. وحتى الشخصيات الثانوية شغلت دورها ومهامها بشكل تام.
لم تُقَدّم الكاتبة شخصياتها على شكل قوالب جاهزة تقوم بالدور الذي رسم لها وإنما كانت شخصيات تمتلك المشاعر والقدرة على التفكير واختيار الدرب وتحديد المسار واختيار ما تُريد. ففضل القسام كان يريد لولديه طريقا واضحا هو يحدّده ولكنه فشل واعترف بفشله وتركهما ليقوم كل منهما بما أراد حتى ولو لم يكن الوالد راضيا. وبدر الوشمي كان يريد توجيه ابنته لورا وتحديد حياتها لها ولكنها رفضت واختارت أن تكون صديقة لمجيد وأن تشق طريقها في الصحافة لتصبح صحفية لفضائية مهمة. وهذا صحيح بالنسبة لأم سعاد المرأة التي كانت منزوية بعيدة عن مركز التأثير طالما زوجها في البيت ويمسك زمام الأمور ولكنها سرعان ما برزت مواهبها في القيادة والتدبير بعد اعتقال زوجها والحكم عليه بالسجن لسنوات، فقد أمسكت بأمور البيت وتدبّرت تربية الأولاد وأثبتت قدرة كبيرة ومسؤولية عظيمة أعطتها مركزيتها وقيمتها واحترامها حتى في عيني زوجها وهو في السجن وبعد خروجه من السجن، وفي عيون كل أبناء الحارة حتى كانت بالنسبة لهم القائد الموجّه فسَمّوها بالمختارة. ومثلها سعاد لم تعد الفتاة الرومانسية المتعلقة بمجيد وإنما أصبحت الفتاة المناضلة الواعية المغامرة والمتحدية كل مَن يمس الوطن والوطنيين حتى ولو كان هذا المسيء أخاها.
ورغم مركزية دور كل من مجيد وأحمد إلاّ أنّ دور الشخصيات الأخرى التي قد نعتبرها ثانوية لم تقل عنها في الأهميّة، فهذه الشخصيات كانت الداعمة والكاشفة والمكملة. فمجيد المتمرّد من صغره والحالم بمستقبل فنيّ كبير وحياة لهو وفرح كان على استعداد للقيام بأي عمل للوصول إلى غايته، وكان بدر الوشمي هو الكاشف استعداد مجيد للإنحراف واستعداده للتعاون مع الوشمي ليحقق حلمه بالسفر وشق طريقه الفني، ومثله كانت لورا ابنة بدر الوشمي سُلّم مجيد في أوّل طريقه لحياة الرفاهية بسكناه بجوارها والتحرش بها واكتساب صداقتها وودّها والوصول إلى والدها صاحب اليد الطويلة. وفي حياته المستقبلية حيث كانت سلّمه للشهرة الاعلاميّة والترقي.
وهذا صحيح بالنسبة لأحمد، فقد كان من الممكن أن يكبر وهو يعاني من التأتأة والخجل وإيثار الوحدة، لولا تنبيه الأستاذ لوالده بأنّه يملك طاقة فنيّة كبيرة وذكي ويجب الاهتمام به فاشترى له والده آلة التصوير التي فجّرت مواهبه في التصوير وكانت الوسيلة التي وصل بها إلى ميرا الفتاة اليهودية التي شدّته إليها وحرّكت عواطفه وبلورت انسانيّته بعيدا عن جوّ الكراهية والحقد المتبادل بين الشعبين، وما كان من تهوّره بالدخول إلى المستوطنة واتهامه بالعمل التخريبي وإلقاء القبض عليه وسجنه وخروجه فيما بعد رجلا آخر لا يتأتىء يختار طريق النضال والمقاومة. كما كانت لسعاد وأم سعاد تأثيرهما الكبير عليه، وكذلك للقائد ابي رامي الذي رأى فيه نموذجا للقائد النقيّ المخلص، فترسّم طريقَه في المقاومة والحياة.
أهميّة الشخصيات الثانوية ليس في أنها ساهمت في بلوَرة وتطوّر وتحديد معالم هويّة الشخصيات الرئيسية فحسب، وإنّما في كونها هي أيضا قاربت الرئيسية في أهمية دورها وعملها وأعطت للعمل الروائي واقعيته ومصداقيّته.
لغة الرواية
السّرد هو أسلوب سحر خليفة المفضّل في أعمالها الروائيّة، وفي هذه الرواية "ربيع حار" فُرض عليها الأسلوب لأنّ الرواية جاءت تسجيلية وثائقيّة إلى حدّ ما لأنها كانت نتيجة عمل ميداني قامت به الكاتبة بلقاء الناس وسماع رواياتهم وذكرياتهم وقصصهم عن أيام المواجهة والقتال والعذاب الطويلة. ويساعد أسلوب السرد الراوية/الكاتبة في أن تكون هي المتحكمة في بلورة هويّة شخصيّاتها وتوجيه خطاهم واختيار اللغة التي سينطقون بها. ورغم أن حالات كثيرة كانت فيها هذه الشخصية أو تلك تفرّ هاربة من قبضة الراوية/الكاتبة، إلاّ أنها تظلّ في نهاية الأمر هي القابضة على الكل. ولغة السرد تظل محكومة للغة القريبة من لغة الناس في الحياة مهما حاولت التهرّب أو التحرّر، فتقترب في الكثير من الأحيان من لغة الناس المحكية المتداولة يوميا، وتبتعد أحيانا لتقترب من لغة الشعر فترق وتسمو وتتأنّق، وأحيانا تتداخل العامية بالشاعرية فتأتي بمقطوعات غاية في الجمال والفنيّة والروعة الأخّاذة مثل:" سألته عن القطة فأجهش ببكاء مرّ حزين حاول كتمه، لكن الشهقة انطلقت منه رغما عنه، فقام واقفا وخرج من الدار ومشى ومشى نحو الهضبة، صارت القطة لها معنى أكبر بكثير. صارت مجيد، صارت ميرا، صارت عنبر وأحبّ الناس. لو عادت عنبر لما أحسّ بكل ذاك الفراغ، فأخذ يتمتم: عنبر يا قمر انت أغلى الناس (ص67). واللغة الجميلة في " حين أحبته قبل سنين كانت مملوءة بالأحلام والعواطف، وجاء هو ليفجرها، شيء ما في شحنة عينيه ورنّة صوته وحنان سيّال يترقرق كخرير الماء يُناديها فاندفعت إليه، بكل الاحساس وحنين الروح والعواطف وجنوح الجسد إلى شهوة فيه اندفاع لا تقوى على إيقافه، اندفعت إليه، ذكّرها بكل المنسيات الخ."(ص174).
وقد نجد هذا التداخل الجميل بين لغة المحبين الصغيرين أحمد وميرا، هي تردد أرقاما وكلمات بالعبرية وهو بالعربية، ويتداخل الصوتان بجمال أخّاذ وانسجام مع المشهد الساحر لطفلين حضنتهما الطبيعة بكل بهائها وقدسيتها بعيدا عن الكراهية والقتل والدم "شعرها مثل القصب، وخدّاها ملسوعان بشمس الربيع واحمرار التعب. كانت تلعب لعبة الإكس وحدها من غير رفيق. تقفز على رجل واحدة فينط الثوبُ المزهر وذيل الفرس ينسدل ناعما مرّة على الصدر ومرّة على الظهر، وهي تقفز وتعدّ البيوت. إخاد، اشنايم، شالوش، أرباع. فردّد خلفها من غير صوت: واحد، اثنين ثلاثة، أربعة. واقترب كثيرا من السياج وهي تكرر: اخاد، وتقفز، اشنايم، وتقفز، شالوش، وتقفز، أربع، وتقف. ثم استدارت من جديد وواصلت العدّ. وهذه المرّة، أثناء القفز، كان يردّد بصوت مرتفع حتى تسمعه: أحاد. اشنايم. شالوش. أربع. التفتت إليه ووقفت لحظة تتامله من تحت لفوق وحطّت عيناها على الكاميرا لكنها عادت للقفز من غير عدّ. فرفع صوته: أحاد، اشنايم، شالوش أربع. ورآها تبتسم خلسة فرفع صوته. وادّعت أنها لم تسمعه وظلّت تنط ورأسها للأرض، فأمسك بالكاميرا وصوّبها نحوها وادّعى أنّه يقوم بالتصوير فخبّأت وجهها بين كفيها وهزّت رأسها وقالت: لو، لو. فقال ضاحكا: لو لو: لا لا. واقترب كثيرا من السياج حتى أصبحت أصابعه بين الفتحات. وكلما قالت كلمة بالعبرية ردّدها بعدها بالعربية: شاعة قال ساعة. أخرج النظارة من جيبه ووضعها على عينيه وقال ضاحكا: نظارة ديجيتال. ضحكت وهمست ديجيتال. وكلّما تضحك، تضحك، تضحك، الذيل يموج، ساعة يمينا وساعة شمالا وساعة للخلف وهي تخبّىء أسنانها الكبيرة بيديها وتقول: ديجيتال وهو يقول ديجيتال"(ص27).
انتماء سحر إلى الطبقة الوسطى في المجتمع الفلسطيني، وانخراطها مع أبناء الطبقات كلها، العليا والشعبية وطبعا أبناء طبقتها، جعلها لا تهتم، أو لا تنتبه، أو تقصد إهمال، التمايز في لغة أفراد هذه الطبقة عن لغة تلك. وهذا ما يجعل التمايز بين مستويات اللغة عندها غير قائم، وقد نجد الكلمة الشعبية المغرقة في شعبيتها وعاميّتها مثل "يتولدن، الشرشوحة" منطوقة على لسان إنسان متعلم ومن طبقة مثقفة وأرستقراطية والعكس صحيح قد نجد وبكثرة العبارات الشاعرية والألفاظ الجميلة تُسمع من فم شخصيات عادية من عامة الناس. وقد يرى البعض في ذلك عيبا، واراه تميّزا خاصا في لغة السّرد عند سحر خليفة.
قد تختلف الآراء حول إبداع سحر خليفة، وحول المواقف التي تطرحها في رواياتها، وحول اللغة التي كما يبدو لا تتنازل عنها، وحول اختيارها أن تكون الراوية التي تستقصي الأخبار والحقائق والقصص من أفواه الناس على مختلف انتماءاتهم الطبقية وحيث يتواجدون لتكون راوية هذا الشعب ومُسجّلة ملحمته الطويلة في مصارعة الحياة ومقاومة المحتل وفضح الواقع غير المقبول وكشف حقائق الناس الكبار المتسربلين ثوب الطّهارة والنّبل والوطنيّة والتضحية والشرف، فتُعَرّيهم على حقيقتهم وتكشف أسرارَهم. ولو أنّ سحر خليفة لم تبغ من كتابتها لرواياتها غيرَ هذه الأهداف التي حَدّدتها لنفسها لَكَفاها ذلك لتكون التي تستحقُ تقديرَ وإعزاز هذا الشعب.
Nabih-alkasem.com www.