لاشك في أن الرؤيا الجمالية هي الرؤيا الإبداعية الخلاقة التي ترتقي بالنسق الشعري، وترقى بمستويات مؤشراته الجمالية، ولا ترتقي الرؤيا الجمالية إلا بمنتوج جمالي، وشكل جمالي جذاب؛ وهذا التفاعل والتضافر بين الإحساس الجمالي والشكل الجمالي هو الذي يرقى بالحدث الشعري، ومثيراته الجمالية، ولا نبالغ إذا قلنا: إن شعرية أي منتج إبداعي تتحدد بالرؤيا الجمالية، والمقامرة الجمالية الناجحة لا تكتسب شعريتها إلا ببكارة هذه الرؤيا، وجدتها، ومدى مراوغتها لذهن القارئ، ومن هنا؛ فإن المقامرة الجمالية المثمرة هي التي تنبني على رؤيا جمالية، وحسٍ جمالي بالمنتج الفني المثير، يقول(مارتيان) :"إن القيمة الفنية هي وحدها التي تتخذ مكانها، لكن هذا يحدث عن طريق قوة عجيبة تربط بين تلك القيمة بوصفها نابعة عن الصفة الإبداعية الشاعرية، والعمل الشاعري الذي يطالب بالسيطرة على الحياة الإنسانية كلها، ويتخذ لنفسه وظيفة يعمل بها، ليهيمن على مصير الإنسانية كلها، فقد أقام كل من (بايرون) و(جوتة) أنفسهم أبطالاً أعظم من الأبطال التي صوروها في أعمالهم، وادعى (أرنولد) أن الشعر يستطيع إنقاذ العالم عن طريق ممارسة جميع الوظائف الأخرى للعقل، وعلى مستوى التعبير الشاعري"(1). وبهذا المعنى، أو التصور، فإن ما يرقى بالمنتج الفني القيمة الجمالية أو الشاعرية التي يكتسبها عبر الرؤيا الشاعرية، أو الرؤيا الجمالية التي ترقى بها الفنون جميعها؛ ولهذا يقال: إن الشيء الشاعري هو الشيء الجمالي الذي نحسه في قرارة أرواحنا، ولا نعيه، ولا نملك له تفسيراً على الغالب، فالجمال لا يقاس إلا بالجمال ذاته، ومحك الجمال هو الرؤيا المبتكرة، والشكل الجمالي المثير. ومن أجل ذلك، فإن المقامرة الجمالية الفاعلة أو الناجحة هي التي ترقى برؤياها، وتنجح بإتقان في توليد الحس الجمالي إزاء تأملها، أو اكتشافها، أو الوصول إليها؛ والمقامر الإبداعي الحق هو الذي يمارس جميع نشاطاته الإبداعية لتخليق منتجه الفني بجمالية غير متوقعة، أو غير مسبوقة، ولهذا قال (دوماس ألابن): "يجب أن يكون الفنان نبيهاً"(2). حتى يستطيع أن ينجح في مقامرته الجمالية؛ وينجح في تخليق رؤيته الإبداعية الفذة، يقول( ألبير كامي):"ليس الفن في نظري استمتاعاً هزيلاً بل هو وسيلة لتحريك أكبر عدد من الناس بأن يقدم لهم صوره مميزة للآلام والسعادة العامة"(3). وهنا، تنبع أهمية الفن من إثارته، وعنصر تأثيره في المتلقي، بما يثيره من انفعال، وحساسية في تلقيه، وهذا ينبع من جوهر الرؤيا التي تنطوي عليها الفن، يقول الشاعر اللبناني المبدع شوقي بزيع: "أنا أعتقد بأن الشاعر العظيم ممكن أن يكتسب أهميته من طريقة مقاربته للأشياء، سواء أكانت هذه الأشياء قضايا كبرى أم كانت تفاصيل جزئية، ممكن أن يكون الشاعر رؤيوي، ويكون شاعراً كبيراً، كما هو حال المتنبي، أو جلال الدين الرومي، وأدونيس، ويمكن أن يكون رؤيوياً، ويكون شاعراً سيئاً، لأنه لم يستطع أن يتمثل هذه الرؤيا عبر شعر حقيقي أو جميل، ومتميز ومغاير"(4).
وبهذا التصور، يمكن أن نعدَّ الرؤيا عنصراً جوهرياً في الرقي بالمنتج الفني، والمبدع الذي لا يملك رؤيا عميقة ليس بمقدوره أن ينتج فناً إبداعياً جمالياً راقياً؛ لأن الرؤيا عنصر جوهري، في تحفيز المنتج الجمالي إلى قيمة جمالية مطلقة، أو عظمى. ولذا، فإن أولى مؤشرات الرؤيا الجمالية المقامرة العميقة التي ترقى بالنسق الجمالي أو الشكل الجمالي، لدرجة تسهم في تكثيف الإيحاءات، والرموز، لإخفاء الحقيقة، أو لصنع الحقيقة الجمالية المتخفية في كل فن من الفنون، فعظمة الفن تكمن في بحثه الدائم عن الحقيقة، وفي لذة البحث هذه تكمن لذة الفن، يقول(بيرجسون): "إن الفن سواء أكان تصويراً، أو نحتاً، أن شعراً، أو موسيقى، ولا هدف له إلا إبعاد الرموز المفيدة عملياً والعموميات المقبولة تقليدياً واجتماعياً، وبالاختصار كل ما يخفي الحقيقة يضعنا وجهاً لوجه أمام الحقيقة نفسها"(5). ومن هذا المنطلق فإن الفن الإبداعي الحق هو فن التلذذ بالرؤيا، والتلذذ بالشكل الجمالي الذي تتجدد فيه هذه الرؤيا، وتكمن لذة المقامرة الجمالية في التفنن بالشكل الجمالي، بإيحاءات الرؤيا أو الخلفية الجمالية للنسق الفني الذي يتجسد فيه، يقول بيرجسون: "الفن الحق يهدف إلى تصوير فردية النموذج، ولذا، فهو يبحث خلف الخطوط التي نراها عن الحركة التي لا نراها، ويبحث خلف الحركة نفسها عن شيء هو أكثر سرية وغموضاً.. ونقصد النية الأولى، والأماني الرئيسية للشخص"(6). أي الرؤيا الشعورية التي تحايث عالم الجوهر، أو الحقيقة، أو المثال.
وبقدر ترسيم الرؤيا في أبعاد شعورية عميقة يزداد تناميها داخل المنتج الفني، ويزداد تناسب الشكل جمالياً لهذه الرؤيا، وبذلك تغدو المقامرة الجمالية الناجحة مقامرة خصبة رؤيوياً، وتكشف جمالياتها عبر التلاحم بين الحركة التي تولدها الرؤيا، والشكل الحيوي الجمالي النابض للمنتج الفني المثير، أو المتوالد جمالياً عبرتمثيلها الفني الدقيق لهذه الرؤيا. وعلى هذا الأساس:"يزداد العمل الفني جمالاً كلما أدخلناه في الحياة الخاصة لهذا العمل الخلقي، إذ إن الجمال ينتمي إلى الشكل، ولكل شكل أصله في حركة ترسمه، وما الشكل إلا حركة قيم يتم تسجيلها"(7). وهذه الحركة هي التي تمنح الرؤيا توالدها الجمالي؛ وحراكها الدافق وبقدر ما تزداد هذه الحركة تموجاً، وتنوعاً في المنتج الفني، بقدر ما يزداد العمل الفني جمالاً وجاذبية إيحائية. ولهذا، لا غنى عن جمالية الرؤيا، ورشاقتها، وتنوعها في خلق المقامرة الجمالية الفاعلة، في رفع سوية المنتج الفني جاذبية إيحائية، وتفعيلاً جمالياً.
1. فواعل الرؤيا الجمالية في قصائد بشرى البستاني:
لاشك في أن الرؤيا الشعرية الخلاقة المنتجة هي أساس كل فن جمالي منتج إبداعياً، على الإطلاق؛ وهذا المنتج الجمالي لا يستقي جمالياته إلا من الشكل الجمالي الجذاب والرؤيا العميقة؛ ولا نبالغ في قولنا: إن ما يميز شعرية القصيدة عند الشاعرة بشرى البستاني الرؤيا الجمالية المقتنصة من الفكر الجمالي المبدع الذي تملكه الشاعرة في تخلق الرؤيا المؤثرة بفواعلها الرؤيوية وطاقتها اللغوية الخلاقة، فالقصيدة لديها تقتنص جماليتها من شعرية الصورة، وبداعة التشكيلات اللغوية المبتكرة في إصابة منتوج الرؤيا الشعرية في الصميم. ولهذا، تبدو القصيدة لديها ذات جمالية خالصة في عمقها وتصوفها ومداليلها المستعصية، على شاكلة قولها:
"وأنا أنتظرُ قمراً يليقُ بفصولي
يليقُ بشُرف البيدِ التي تسكنُ دمي
يليقُ بخمر أزمنتي،
ونِداء نَداي
لكن ذراعيكَ ظلَّتا عاجزتين عن مطاولة
عنان السماءْ،
وظلت عنقُ العناقِ معلقةً في البرزخْ ..
والسواعد ُمشدودةً نحو الوصلِ،
والوصلُ مؤجلْ "(8).
بادئ ذي البدء، نقول: إن شعرية الرؤيا - في قصائد بشرى البستاني- تتأسس على العبارة الحساسة، والدلالة البعيدة، والمعنى العميق الذي ينطوي على دلالات وإيحاءات واسعة ومتعددة في آن معاً؛ وهذا يعني أن اللذة الجمالية في قصائده لذة رؤيا وتشكيل، وإثارة معانٍ ودلالات جديدة، لاسيما في السياقات الصوفية التي تتطلب كثافة الرموز الدالة، وإبراز فواعلها النشطة، وهنا، تبدت الرؤية الجمالية في حركة الرموز والصور الصوفية التي تستقي ألقها من التوق والوله الصوفي، وتلمس الوصال، كما في قولها: [والسواعد مشدودة نحو الوصل، والوصل مؤجل]؛ واللافت حراك الرؤيا الشعرية من خلال كثافة الرموز والصور الصوفية كما في قولها: [عنق العناق=خمر أزمنتي=نداء نداي=عنان السماء= الوصل المؤجل]؛وهكذا، تستمر القصيدة على هذا المنوال من البث والوله الصوفي، على شاكلة المقتطف الشعري التالي:
"ففي أي اللحظات ستقوم قيامةُ الأشياءْ
كي يتكشَّفَ لك نغمُ السماءِ في جلال ملكها،
وتغمركَ أنهارُ نارِها،
وخمرِها ،
وجمرِها،
وعسلِها وشجاها
ومتى يهدي اللهُ قلوبنا لنورهْ
كي تُفتحَ الأبوابُ المغلقةُ ..
وتُفكَّ الأسوارُ والأغلالْ ..
لنسقطَ في حضرة الشهودِ
ساجدين ؟!"(9).
لابد من التنويه- بداية- إلى أن الرؤيا الشعرية الخلاقة هي التي تتمركز على الموقف الرؤيوي العميق، لاسيما في السياقات الصوفية التي تتراكم فيها الرموز والدلالات لدرجة يبدو النسق الشعري لديها مشيراُ بذاته عن دلالاته الصوفية، فرموزها تستدعي الحالة الصوفية باحتدامها واصطهاجها واستغراقها ووضوح مقصدها بالمعنى الدقيق للكلمة: [وتغمركَ أنهارُ نارِها، وخمرِها، وجمرِها، وعسلِها وشجاها]؛ ولعل ما يلفت النظر أن الرؤيا الجمالية تبدو ماثلة في حنكتها في الوقوف على المعنى البعيد، بالمعنى القريب، وهذا الأسلوب دليل وعي بمنعرجات الصوفية، وأساليبهم، فالرموز الصوفية- لديها- في السياقات النصية- رغم اعتمادها الإطار المحسوس، إلا أنها تمعن هنا في التجريد، وهذا التجريد الذي تلجأ إليه الشاعرة مقصود بعناية، وحرص، وانتباه، ووعي جمالي فائق الدقة، والحياكة الجمالية، على شاكلة قوله: [ومتى يهدي اللهُ قلوبنا لنوره/ كي تُفتحَ الأبوابُ المغلقةُ .. وتُفكَّ الأسوارُ والأغلالْ .. لنسقطَ في حضرة الشهود/ ساجدين؟]؛إن من يطلع على الصور والرموز يلحظ وضوحها التام ومقصودها المباشر؛ وهذه هي الطريقة المثلى في التعبير عن فاعلية الرؤية الشعرية في اقترابها من دلالاتها وابتعادها عنها بين التعبير المباشر الدال بوضوح عن حيزها الرؤيوي، وتعبيرها الغير مباشر من خلال إغراقها في الرمزية التي تعبر عن توق الذات واحتراقها، واصطهاجها الوجودي. وهكذا فإن من فواعل الرؤيا الصوفية ما أكدته الشاعرة بقولها:" اللحظة الصوفية إذ تلتحم بالشعرية تزيدها ألقاً، وإرباكاً، وانفتاحا على المطلق، ولذلك، تتسع للمتناقضات كلها، لا منطق في هذه اللحظة ولا تعاقب بل دوران لاهب في كل اتجاه، ولحظات منفصلة عن بعضها، نافرة من تسلسل الرتابة، وسؤال يفضي إلى سؤال إلى سؤال"(10)
وهكذا، تحاول الشاعرة بشرى البستاني أن تحرك النسق الجمالي عبر فاعلية الرؤيا ومحفزاتها الصوفية، من رموز وصور، ودلالات مفتوحة، تتضافر فيما بينها في إنتاج الدلالة العميقة، ومخزونها الرؤيوي الخلاق، على شاكلة قولها:
"في صمتيَ الوثنيّ أكتشفُ أنك آتٍ،
فأفتح ُ جِناني،
وأُدخلكَ قاعة َ العرشْ،
فتبكي الغزالاتُ،
وتنسابُ بالنشوةِ الغصونْ.."(11).
إن قارئ هذا المقتطف لا يخفى عليه التحليق الجمالي الآسر للرؤيا الجمالية التي تصل من خلالها الشاعرة قمة في الإدهاش والإثارة الجمالية، لاسيما في اختيار الصورة اللاهبة بدلالاتها عن الحالة الصوفية، والتعبير بالصورة عن شعرية الإحساس الجمالي المتناهي بها، وكأن الشاعرة تغتسل برحيق الأنوثة، والتجلي الصوفي، لتفيض بجنائن وجدها على المخلوقات، لتنصهر الشاعرة بالحالة، وتتخلق الرؤيا من رحم المعاناة، والإحساس الداخلي بالخراب والدمار، لتنتج النص المضاد، أو الرؤيا المضادة، لهذا الخراب بالرؤية الصاخبة بالحياة ضد سكونية الموت والمصادرة والاستلاب، لتعيش النشوة والنجوى الصوفية معاً، كما في قولها في هذا المقتطف المثير أيضاً:
"في صوتك المربكِ بالحيرة كأصابع الزمنْ
أفتحُ طرقَ الوقار ِ،
وأشُقُّ مسالكَ العتمة ْ،
لتنهمرَ ينابيعي تغسلُ صدأ المعاركِ الخاسرة ِ
في أعمق شِعاب الروحْ "(12).
إن بلاغة الرؤيا الصوفية عند الشاعرة تتبدى في بكارة الاستعارات وخصوبة الصور اللاهبة بدلالاتها عن وقع الحالة الصوفية واتقادها بالوله والتوق والوجد الروحي المفعم صبابة وتوقاً لاهباً للحياة ضد عجلات الموت المدمرة ومدنية الفولاذ المهلكة، لهذا، تنتقل دائما في فضاء رؤيتها الصوفية الجمالية إلى المعنى المضاد، أو الرؤيا المضادة، كما في الأنساق التالية :[طرق الوقار=مسالك العتمة=شعاب الروح]؛ وكأن شيئاً ما من صدأ المادة علق بالروح فدنس براءتها وطهرها ولهذا ما عادت شعاب محلقة كما كانت في فضاء الوصال والملكوت.
ولهذا جاءت إشارتها إلى هذه القصائد الصوفية بليغة في تعريف القارئ بمنتوجها الرؤيوي المؤثر، إذ تقول:"ومع توتر الأزمة واشتباكها كانت الشعرية تزداد التحاما بالشطحة الصوفية؛ وهما ينزاحان عما صار في الألفة، إلى دهشة تفاجئ وتتوهج وتغري وتغوي، إنها الشعرية التي تدهمها في النص شطحة التصوف لترقى بها عابرة ً الحدود متجليةً بتوق الروح نحو الانفراج ولا خلاص، فوصول الشاعر/ الصوفي هو اللا وصول دوماً، لان الوصول إنما يحيل على موت السؤال وسكون النار وانطفاء البحث المكابد"(13).
وهذه الحقيقة حقيقة البحث اللاهبة صوب المجهول هي ما تغلف الرؤيا الصوفية عند المتصوفة، وقد ارتقت الشاعرة حيزاً جمالياً في التعبير عن الحركة المعكوسة في رؤيتها الصوفية المضادة أو المعكوسة، بالانتقال من الذات إلى الذات، ومن الذات إلى الآخر، ومن الآخر إلى الذات، بتفاعل موحي يؤكد شعرية الرؤيا الصوفية، وتنوع مؤثراتها، وموحياتها اللاهبة، كما في قولها:
" وتبقى السماءُ تنشرُ أجنحتها الوردية َ باتجاه خطايْ ..
أنا المذبوحة ُ من خلايا الشعر ِ
حتى أخمص القدمين ِ وأقولُ ..
لا ….
المشنوقة ُ وسط َ غبار ِ الزمنْ
تجدّدُني الحرائقُ كلَّ يوم ْ ..
ووسط َحرائق ِ الفناء تلكْ
أكتبُ على أحداق النخيل ِ : أحبكْ "(14).
إن شعرية الرؤيا الصوفية تتجسد في هذا الحراك الجمالي الذي تشكله الشاعرة من خلال الصور اللاهبة بدلالاتها الوجدية، لتصل قمة البث الروحي العاطفي المتقد لوعة وتوقاً وصبابة، وكأن حالة من الاحتراق والتوق والاشتعال تطال الروح، لتصل قمة في البث والتعبير عن توق الحالة واصطهاجها وقلقها العميق:[ أنا المذبوحة في خلايا الشعر/أكتب على أحداق النخيل : احبك]؛ وهكذا، تشتغل الشاعرة على شعرية الحالة الصوفية باتقادها وفواعلها ورموزها الوجدية الدالة على قمة الاستغراق بالحالة الصوفية، وهيجانها، واتقادها الجمالي؛وهكذا تتفاعل رؤاها الوجودية من خلال تناغم مواقفها الرؤيوية وأحاسيسها الصوفية بفواعل نشطة إحساساً واتقاداً جمالياً، كما في قولها:
"أما أنا ،
فلا أُدخلكَ جنتَهم..
لا أدخلُكَ في الأشباه والنظائرْ،
بل أُدخلك َ في الأضداد ْ
لا أدخلك في الائتلافِ،
بل أدخلك َ في الاختلافْ ،
في اختلافي أنا ....
في توحُّدي ،
وانصياعي،
وجبروتِ وجدي،
وسطوة ِ الأشياء إذ تصهلُ داخلي"(15).
لابد من الإشارة إلى أن من فواعل الرؤيا الصوفية عند الشاعرة بشرى البستاني المعنى المضاد، أو المعنى المخالف، وهذا يعني أن الرؤيا الصوفية لديها جدلية، تعتمد الاختلاف لا الائتلاف، والمواربة لا المواءمة، لخلق الدينامية على صعيد الحركة والرؤيا، فمن الانطفاء تبدأ الحياة دورتها، ومن المضاد أو السلب يتحقق الإيجاب، وتخلق الحياة دورتها التكاملية، وتتحقق المعاني والرؤى، وتكتمل الأشياء في حراكها الجدلي الوجودي؛ وها هنا، أدخلتنا الشاعرة باب الرؤيا من الصميم؛ من الاصطراع الداخلي والاحتدام الشعوري الذي تعانيه الذات الشاعرة، في معمعتها الوجودية، وإحساسها المأزوم، إنها الحركة الجمالية التي تتنامى شيئاً فشيئاً على صعيد الرؤيا ـلتخلق متغيرها الجمالي، طابعها الوجودي الاصطراعي الدقيق، وهذا ما نوهت إليه بقولها:" هو حب يحرّض الكون على الاشتعال ويحرض الإنسان على الإقبال ويحرض الأنهار والمحيطات والغابات والصحارى على التمرد مطالبة بالتواشج والانسجام من اجل الإمساك بمفاتيح الحرية وهي تدق ّأبوابَ السجون ودهاليز الجوع والتعذيب وسراديب الوحشة وليالي التغرب وحمى المواجيد، كي تطلق الثوار والعشاق والمنكسرين بالألم، ولكي تكسر يد الطغاة وهي تطلق الصواريخ على حلم الإنسان … كل ذلك بالحب وبالحب وحده، الحب الذي يتعالى على الانفصال ويدحض القطيعة والخطيئة، لذلك امتزجت إشاراته امتزاج توحد : من الأديان والتاريخ والأدب والطبيعة والفلسفة والتصوف، ومن عذاب الإنسان الذي يحلم بتأثيث الفراغ بالجمال"(16).
وهذا يعني أن الرؤيا الصوفية في قصائد بشرى البستاني مركبة تتضمن السلب لتأسيس الإيجاب، والإيجاب لمحاربة السلب، وهذا لإبراز أوج الديالكتيك الوجودي والاحتدام الشعوري، مما ينمي من شعرية الرؤيا، ويخلق متغيرها الجمالي، كما في قولها:
"وأقولُ ..
أدخلني في نوركَ كي أُمسك َ بجذور الرياحْ
واصنعْ لي لغةً تتَّسع ُ لأمجاد حزني كي أبصرَ براهينكْ ….
وادخلْ زمني ...
كي تظل َّ مُشتعلاً فيهْ "(17).
هنا، تدخلنا الشاعرة فضاءها الصوفي المفتوح؛ لتعبر عن حالة من التوهج لتحثث نور التجلي، وتدخل في زمن الاستغراق والاشتعال الروحي لتصل إلى برد اليقين، وتدخل زمنها المطلق، كي تبقى مضيئة متقدة وجداً وولهاً وهياماً روحياً مفتوحاً على المطلق. وهكذا تشتغل رؤيتها الصوفية كما قلنا سابقاً على التركيب، (الدلالات المركبة/ والمعاني المضاعفة)، لهذا تعتمد الجدل/ والديالكتيك، لإبراز الازدواج والتراكب، لاسيما في تكثيف المداليل والرؤى الصوفية المزدوجة بين الثنائيات، على شاكلة قولها:
"أسألكَ ..
لماذا أتّسعُ وتضيقُ مفرداتُكْ
وأتحررُ،
وتنكسرُ غصونُكْ ..
وأشتعلُ ،
وينطفئُ البنفسج ْ ...!
وقلبي تفاحةٌ تقطّعُها سكينٌ
على مائدة شُرب ."(18).
هنا، تنفتح الدلالات، بالاعتماد على الديالكتيك والجدل الاصطراعي بين ضيق عالمها، والمطلق المفتوح، بين السلب والإيجاب، والقيدية والتحرر والانطلاق في فضاء التجلي والملكوت، لهذا جاءت الصور دالة على الاصطراع والاحتدام بين السلب/ والإيجاب كحالة من تركيب الرؤيا الصوفية عن الشاعرة، لتأسيس ما أسميناه المعنى المركب والدلالة المزدوجة أو المعنى المضاعف والرؤيا المركبة؛ على شاكلة الصور الجدلية التي تحمل المعنى المضاد، أو الدلالة النقيضة: [وأتحررُ، وتنكسرُ غصونُكْ ..وأشتعلُ ، وينطفئُ البنفسج]، وقد تبرز الدلالة المركبة عبر الاصطراع والجدل الوجودي ضمن الرؤية ذاتها والنسق التصويري المتضاد، أو الصورة الجدلية المتضادة: [وقلبي تفاحةٌ تقطّعُها سكينٌ]؛ وهذا يدلنا على أن التركيب عنصر بارز في تخليق الشعرية الصوفية في قصائدها، كحالة من المزج بين ما هو محسوس، وماهو روحي أو مجرد، في إطار من التراسل بين الأحاسيس أو الحواس، والمزج بين المرئي والمتخيل، والمحسوس والمجرد، لإبراز المزج والتركيب في الرؤى لإنتاج الرؤية المضاعفة والمعنى النقيض، كما في قولها أيضاً:
"وقلبكَ جاهلٌ ورعْ ….
لا يخافُ الموتَ،
بل يخافُ الحقيقة ْ،
لا يخافُ الخسائرَ،
بل يخافُ التجليات ْ ،
وقلبكَ مخرِّبٌ أخرسْ ..
يمارسُ المحوَ،
وأمارسُ الكتابة ْ ..
ويمارسُ الهزيمة َ،
وأمارسُ النصرْ ،
ويمارسُ الصمت ْ،
وأُمارسُ الصوتْ ..
ويسقط ُ في النهاية مُربَكاً فوق َ صدري"(19).
هنا، إن الرؤية الجدلية والمعنى المتضاد هو ما يغلف رؤيتها الصوفية، ويزيد من فواعل إثارة الصور المتضادة، وتنوع دلالاتها، وموحياتها ضمن النسق الشعري، وهذا يعني أن ممارسة الكتابة الصوفية هي لإحلال الإيجاب مقابل الدنس والصلادة الوجودية، بين عالم يؤذن بالخراب والدمار، وعالم تبحث عنه ومن خلاله إلى الإعمار والخلود والراحة والاستقرار، بمعنى أن رؤيتها الصوفية تزاوج بين الجوانب المتضادة لإحلال ما أسميناه الإيجاب، أو تخليق الإيجاب لمحاربة السلب بكل وجوهه وأشكاله المدمرة؛ ولهذا فهي تمارس الكتابة، لتمحو السلب، وتمارس الصوت لتعلن الإصرار، والتحدي، والانتصار [ويمارسُ الهزيمة َ، وأمارسُ النصرْ ، ويمارسُ الصمت ْ، وأُمارسُ الصوتْ]؛ وهكذا تؤسس رؤيتها الصوفية على الديالكتيك، والجدل، والمزج، والتركيب، لإبراز منتوج الرؤيا الصوفية بجوانبها المتناقضة، ومعانيها ورؤاها العميقة، مما يدل على أن الشعرية في قصائدها تنبع من كثافة الرؤى، وخصوبة المداليل الشعرية التي تأتي قمة في الاستغراق والتكثيف والإيحاء الفني.
وما ينبغي الإشارة إليه أن أولى فواعل الرؤيا الجمالية في قصائد بشرى البستاني على مستوى الأنساق اللغوية، ودهشة المسندات التشكيلية هي مايلي:
1. المغامرة الجمالية:
ما من شك في أنه ما من متعة أسمى، ولا أرقى من متعة الجمال، والمغامرة الجمالية؛ فالفن مغامرة جمالية قبل أن تكون مغامرة إبداعية، ومغامرته الجمالية تبدأ من لحظة إحساسه، وصولاً إلى لحظة إنتاجه، واكتمال بذرته الإبداعية، وتقييمه، وروز قيمه الجمالية؛ فالفنان الجمالي هو خالق إبداعي يتحسس الأشياء، يتلمسها، يحركها، لينفث فيها روح الحياة من جديد، ولن يرقى الفنان في مغامرته الجمالية إلى آفاق إبداعية خصبة إلا حين يرتاد عوالم تخييلية جديدة، ويبتكر طرائق فنية جذابة في جعل منتجه الجمالي يحايث عوالمنا الداخلية، ليحرك فينا مشاعر قد خمدت، وآمالاً قد انقطعت، وكأننا خرجنا تواً من روتين الحياة، مصقولين بالموهبة، والشعور، والحس الجمالي، فالفنان ليس من مهمته على الإطلاق إبهارنا، ومفاجأتنا بمنتوجه الإبداعي جمالياً، بقدر ما من مهمته الرئيسة جذبنا إلى لذة قد فقدناها، وإحساس جمالي قد رانه الصدى طويلاً، وفجأة تحركت فينا المشاعر في أخاديدنا القديمة؛ واتقدت جذوة الجمال فينا من جديد؛ لحظة أن وجدناها في هذا الشكل الفني أو ذاك، فعادت جذوة المتعة والشرارة الإبداعية التي خمدت منذ زمن طويل لتصطلي من جديد في أعماق أعماقنا، وبهذا المعنى يقول جان برتليمي:"لست واثقاً من أن يكون لدى الفنان النية حتى ولو كانت لا شعورية- في منح الحياة والحركة لأعماله، كما تفعل الطبيعة بالحيوان، والإنسان؛ ولا أظنه يشعر بشيء من الألم إذا لم ينجح في هذا"(20).
وهذا القول على ما فيه من مجازفة كبيرة، أو مغالطة قد تبدو للمتلقي منذ الوهلة الأولى، صحيح لأن المبدع –لا يأخذ باعتباره- أن يحرك الأشياء، وإنما يحرك الأحاسيس إزاء الأشياء، ويبعث فيها روح الجمال، أو روح النبض الجمالي في نمنمة الأشياء، وتشكيلها كما لو أنها مخلوقة من جديد، وتظهر لأول مرة، بحيويتها الخصبة، وألقها الجمالي، يقول (مالرو): "الواقع أن الفن يدخل بنا عالم الإبداع الفني الذي يحل محل عالم الواقع، التافه، اللاإنساني. والحركة التي يبديها الفنان حركة رجل ثائر ينافس العالم، ويضع في وجه هذا العالم عالماً آخر"(21). فالفنان لا يهمه فقط المغامرة، والمجازفة الجمالية، وإنما يهمه أن يبني عالمه الإبداعي بعيداً عن حيز الواقع الروتيني الممل الذي أنهكته القوى البشرية، والنظرة التافهة إلى حركة الأشياء، فالفن لغة تحطيم الأشياء، والخلوص من خلالها إلى فن الإخصاب الجمالي، ونمنمة الأشياء بصورة غير مألوفة، ولهذا، يبقى الفنان في رحلة اغتراب وقلق دائم، يجسد هذا القلق بشكل فني جمالي؛ وبقدر ما يرهقنا المبدع بتأزماته، وانكساراته الشعورية الحزينة، بقدر ما يمتعنا بلذة التجربة وجمالية التعبير عنها يقول جان برتليمي:" يعمل الشيء الجميل على إسعادنا وإنهاكنا في آن واحد"(22).
فالفن الجميل هو الذي يهزنا من الداخل، وينهكنا في متابعة حيثياته الجمالية لتلمس مسبباته الجمالية وخلفياته الشعورية، فالفن الجمالي هو فن إثارة الغريزة المدهشة- حسب العالم الجمالي برادين:" إنها هذه الغريزة المدهشة الأزلية للجمال التي تجعلنا ننظر إلى الأرض، ومناظرها كملخص وتقابل للسماء. إن العطش الذي لا يروي لكل ما هو فيما وراء الدنيا، والذي تكشف عنه الحياة لهو دليل على أبديتنا، والروح ترى عن طريق الشعر، ومن خلال الشعر"(23).
فالدهشة التي يثيرها المنتج الجمالي هي التي تحفزه وتثيره، وتبعث فيه اللذة الجمالية من جديد، ولذلك، تعد المغامرة الجمالية مغامرة إبداعية شاقة؛ لأنها تتطلب مهارة، ووعياً، وإدراكاً فنياً، وخبرة إبداعية حقيقية في تحقيق اللذة، والإثارة الجمالية، يقول برتليمي:" إن اللذة الجمالية تملأ كياننا الروحي، وتكشف عن مطالبه، في حين تشبعها في نفس الوقت، ولهذا، كان التأمل الجمالي علاجاً عظيماً لضجر الحياة، ولا نقصد هنا" الضجر العابر، أو ذلك الضجر الذي نرى منبته، أو هذا الذي نعرف حدوده، بل نقصد الضجر الكامل، أو السأم الخالص، السأم الذي لا يرجع إلى سوء الحظ، أو إلى العجز، والذي لا يختفي بظهور ظروف طيبة. أي ذلك الذي لا مادة له إلا الحياة نفسها... إنه هذا الضجر المطلق الذي هو في ذاته الحياة عارية عندما تنظر إلى نفسها بوضوح"(24).
ومن أجل ذلك، تعد المغامرة الجمالية هي المحرك الشعوري الداخلي للتفرد، والتميز الإبداعي؛ وتأسيساً على هذا، فإن ما يستثير اللذة الجمالية هي المغامرة الجمالية في التقاط الشكل الفني المناسب والأسلوب الجمالي الرائق في التخييل الفني؛ من حيث بداعة العالم التخييلي المجسد، وغناه المعرفي؛ وبقدر ما تزداد المغامرة سموقاً، واختراقاً فنياً لأساليب جمالية معتادة، إلى آفاق خصبة من الإبداع والتخيل الجمالي، بقدر ما تزداد جاذبية المنتج الفني، وسحره الإبداعي، يقول جان برتليمي:" الفن موهبة.. وجدية الفن جدية تتحول إلى مأساة"(25). والفنان لا يمكن إلا أن يكون جاداً في مغامرته الجمالية في البحث عن أسلوب جديد، وطرائق تشكيلية مبتكرة، تساعده على الارتقاء بمستوى منتوجه الفني، بالارتكاز على أسس جمالية، تتفتق لحظة النشوة والانعتاق الوجودي القصوى، ولهذا لا تثمر المغامرة الجمالية، إلا بالارتكاز على محفزات ومثيرات فاعلة تعزز الموقف الشعري، وتستثير الحساسية الجمالية.
وما ينبغي التأكيد عليه أن فاعلية المغامرة الجمالية المؤثرة في قصائد بشرى البستاني تتمثل في مغامرتها بالشكل اللغوي، عبر النسق الجمالي المؤثر، والحياكة الفاعلة التي تعتمد الرشاقة والحساسية التعبيرية، والدهشة التصويرية التي ترفع سوية الأنساق، وتستثير الرؤية الصدمة، لدرجة التكثيف، والإثارة واللذة الجمالية على شاكلة قولها:
"تتهشَّمُ العبارةُ ويضيقُ الأفقْ..
وأبحثُ عنكَ في كل شيءٍ
فلا أجدُ في الغياب شيئا وأجدكَ في كلِّ شيءْ.
أتلمَّسُ أفياءَكْ
أغيبُ عنك لألتقيكْ.
أغيب لأتوحّد بكْ
أغيب فأتلعثم بأنوارك
أغيب فأجدك تفتح عينيك في شغف قلبي
أصمتُ فأسمعكَ في خلايايَ تدعوني"( 26).
إن المغامرة الجمالية تتبدى في الحنكة التعبيرية في بث الصورة الدافقة التي تفيض بحالتها الوجدية، وحالة الاستغراق الصوفي في الأشياء؛ وكأن ثمة اعتكافاً في اللغة نلمسه على صعيد الاستعارات التي تفيض بدلالاتها ورؤاها ومداليلها الصوفية المكثفة للحالة الصوفية باحتراقها الشعوري، وكثافتها العالية، كما في قولها: [أتلمَّسُ أفياءَكْ/ أتلعثم بأنوارك/ أسمعك في خلاياي]؛ إن هذه الأنساق فاعلة في مغامرتها الجمالية وإصابة المعاني الصوفية الملتهبة في توصيف الحالة بكل اتقادها واحتراقها الصوفي، وبثها الرؤيوي العميق، ودلالاتها المفتوحة على أشدها؛ ممايدل على وله مطلق في الكشف والإثارة والفاعلية والتأثير.
وقد تثبت مغامرتها الرؤيوية الناجحة عندما تشكل النسق اللغوي الاستعاري الخلاق في توصيف الحالة الوجدية أو الصوفية الملتهبة، والارتقاء بها جمالياً على شاكلة قولها:
"يا أشلاءَ العذارى المنثوراتِ على أرصفة الوحشة ِ
دثريني
بما يتساقط من عناقيد دمعٍ يلوّنُ عينيك ِ
وبأقواس قزح الحزنِ التي أستظلُّ بكِ منها،
بنقاء كل نبياتِ الكون ينهمرُ من طُهر وجهك .. دثّريني
بأنوار غربة مريمية تسري
بوجعٍ عراقيٍّ ضاقتْ أزرارُ جروحه ِ
وخانه الإيجازُ والمجازْ." (27).
لابد من الإشارة بداية إلى أن المغامرة الجمالية الفاعلة هي التي تحرك الأنساق الشعرية، وتكشف مؤثرات الرؤيا، وفواعلها النشطة داخل المتن الشعري؛ ولهذا، عمدت الشاعرة بشرى البستاني في قصائدها إلى شعرنة الأنساق التصويرية الدالة التي تتحرك بكل اتجاه؛ مما يدل على حرفنة جمالية تشكيلية في اختيار النسق الجمالي المتحرك على مستوى الدلالات، والصور الموحية بدلالاتها ومؤثراتها الجمالية، وهاهنا، تشتعل الرؤيا الشعرية جمالياً، بالارتقاء بالمشهد الصوفي، إلى آفاق رؤيوية، منفتحة في إحساسها وبريقها الجمالي؛ من خلال زخم الدلالات التي تفيض بها كل صورة على حدة؛ معبرة بقوة عن وقعها الجمالي، وإحساسها المتقد، على شاكلة الصور التالية: [يا أشلاءَ العذارى المنثوراتِ على أرصفة الوحشة ِدثريني / بما يتساقط من عناقيد دمعٍ يلوّنُ عينيك /وبأقواس قزح الحزنِ]؛ وهذا يعني تعدد المعطيات الدلالية والصوفية الفاعلة التي تتحرك بكل اتجاه، لإبراز حركية النسق وتناغمه مع الموقف الشعري، وإحساسها الصوفي اللاهب بالتوق والصبابة والوجد العميق.
ومن فواعل الحدث الجمالي والمغامرة الجمالية الآسرة في قصائد بشرى البستاني تنويع الاستعارات، والأنساق التصويرية المتحركة لتشتغل على الحدث الجمالي والمشهد المتوتر، كما في قولها:
"وأعرّيك بأصابع اللهب فتُقبلينْ.
وأقولُ.....
أحبك ِ،
فينفرطُ الرمانُ، وتشتبكُ الأضواءُ بالألوانْ
وتقولين للتقوى، هيت َلكِ.
وللمعصية...تزلزلي.
والمعصية ُهذه الوحشةُ الموصدة ُعن اليقين
واليقينُ حضورُكِ في أمن صدري
حيث تبتدئ صحارى الكون ِ،
وترتعشُ بالنشوةِ الجذورْ"(28).
من الملاحظ أن مؤثرات المغامرة الرؤيوية الناجحة في أية قصيدة- على الإطلاق الرؤيا العميقة والدلالة المزدوجة البليغة التي ترمي ما وراء الملفوظ الظاهر إلى جوهر الرؤيا ومحورها الارتكازي؛ وهذا يعني أن محركات الرؤيا الحدث الجمالي، والإحساس الرؤيوي الخلاق؛ وهذا ما ارتكزت عليه القصيدة في سيرورتها وحراكها الجمالي، مما يدل على حرفنة، بالانتقال من نسق إلى آخر؛ ومن متحول جمالي، مؤسس على التناغم، والاتقاد العاطفي إلى حدث جمالي آخر؛ من خلال عمق الاستعارة الملتهبة (أعرّيك بأصابع اللهب فتُقبلينْ. وأقولُ.....أحبك ِ، فينفرطُ الرمانُ، وتشتبكُ الأضواءُ بالألوانْ/ اليقين حضورك في أمن صدري)؛ وهذه الاستعارات بدلالاتها الصوفية تفتح آفاق المعاني والدلالات المضاعفة، لتؤكد مخزونها الجمالي، وحراكها النصي.
وما ينبغي ملاحظته أن المغامرة الرؤيوية الناجحة هي التي تفتح آفاق مداليلها على ماهو ماورائي، أو غير ملتقط، في اللغة والحساسية وبداعة التعبير، أي تلك الرؤيا المواربة أو المخالفة في نسقها، والتي- بدورها- تعزز بكارتها وعمقها من عمق متغيرها أو مؤثرها الجمالي الخلاق الذي تقوده في نسقها، وتعززه في خانة موقفها، وحدثها، وحالتها الشعرية المجسدة؛ولهذا تتنوع فواعل الرؤيا الشعرية في قصائدها جمالياً، باختلاف مؤثرها اللغوي البليغ المزدوج الدلالة، الكثافة، والإيحاء، كما في قولها:
"روحي وردةٌ وروحك الماءْ
وصوتك المعنى
وأنت ... مضمرٌ في تلافيف أحبُّك،
في ضمتها المقفلة على الباء
في اللهب الحامل على أجنحته أساورَ الموج،
في حرير تشرعه الغيماتُ إذ تجيء إليْ" (29).
إن هذه الفاعلية في التلاعب بالمحسوسات، لاجترار المجردات والمعاني الماورائية البعيدة من خصوبة الشعرية وفواعلها المؤثرة في تعضيد شعرية الرؤيا البليغة، ومرجعيتها الخلاقة، وهنا، تلتقط الشاعرة المؤثرات الجمالية البليغة في نسقها الصوفي المشتعل دلالة وخصوبة، وفاعلية، وإيحاء، كما في قولها: [روحي= وردةٌ/ روحك = الماء]، إن هذا المزج ما بين المحسوس، والمجرد، في بنية الصورة عبر الجسد اللغوي المتقد الذي يتضمنها من فواعل الرؤية الجمالية، والمخيلة الخلاقة، وكأن الشاعرة تتخير اللقطة التعبيرية الخلاقة في تصوير عمق الحالة الصوفية وانفتاحها الجمالي، مما يدل على شعرية خلاقة في هذا الشكل أوذاك، وهذا النسق التعبيري أو النسق الآخر؛ وهكذا، تتأسس فواعل الرؤيا الصوفية في قصائد بشرى البستاني على الدلالات المراوغة والحدث الجمالي المثير، والمغامرة الناجحة في ارتياد آفاق دلالية خصبة في الخلق والتعبير الجمالي الآسر.
2. الصدمة الجمالية أو الحدث الجمالي الطارئ (المفاجئ):
لاشك في أن لكل فن صدمته الجمالية، ولعل من أولى مهام الرؤيا الجمالية إحداث الصدمة الجمالية، إثر مشهد، أو صورة، أو نسق لغوي جذاب؛ يستثير الحساسية، والرؤيا الجمالية؛ وهذه الصدمة هي التي تفعِّل الرؤيا الجمالية، وتحقق متغيرها الإبداعي الخلاق؛ ولا نبالغ إذا قلنا: إن أي منتج إبداعي مؤثر يتمتع بروح الفن، أو روح المتعة الفنية لا بد وأن ينطوي على صدمة جمالية، أو صدمة إيحائية؛ حفزته، وأكسبته قيمته الفنية، أو الجمالية؛ وغالباً ما تأتي هذه الصدمة الجمالية إثر الحدث الطارئ، الذي يقدح الشرارة الإبداعية؛ كما قلنا من قبل؛ ولهذا، عمد عدد من الفنانين التجريديين إلى ممارسة بعض الأفعال التجريدية، لاستحداث الصدمة الجمالية، للرقي بنتاجاتهم الإبداعية، ولوحاتهم الفنية إلى منتهى المتعة، واللذة الجمالية، وهذا ما نوه إليه عالم الجمال ( جان برتليمي) بقوله:" ألا يحكى أن (ماكس إرنست) كان يحك لوحته على الأرض، ويستخدم ما تقدمه له المصادفة الرئيسة نتيجة هذا الاحتكاك بين اللوحة والأرض، ليبني خيالات شيطانية مذهلة؟"(30).
وبهذا، فإن التجريديين سعوا عبر تقنية التجريد، إلى البحث عن المصادفة، لعلهم بذلك يجدون طريقة لصناعة المصادفة الإبداعية، أو الصدمة الجمالية التي تحرف مسار الفن، وتخلق المتعة الجمالية الخاصة؛ يقول (ريفردي) :" إن الفن يبدأ حين تنتهي المصادفة؛ ومع هذا فإن كل ما تجلبه المصادفة يضفي عليها ثروة جديدة .. ودون هذه المصادفة، بصفتها مصدراً لن تبقى إلا القواعد الثابتة"(31).
فالفن- إذاً- هو نتاج لحظة انحراف أو تصادم شعوري مع المعارف، لاكتساب اللذة الجمالية، أو الفن الإيحائي الهادف.. وتبعاً لهذا، يعد فن الشعر من أكثر أنواع الفنون غنىً بالمصادفات، أو الصدمات الجمالية، لأنه الفن الجمالي الأرقى بين الفنون؛ يقول (سترافنسكي): "إن المبدع الحق لا يحتاج إلى الجري وراء شيء يبحث عنه ليكتشفه .. لكن المعروف هو أن الذي يثيره- دائماً- ويدعوه للعمل هو أقل حدث يسترعي انتباهه .. حدث يقود عمليته، ويوجهها. فإن انزلقت إصبعه مثلاً التقط هذه الانزلاقة العشوائية، واستخرج منها فائدة، أو استبان عيباً"(32). وبهذا التصور، فإن الصدمة الجمالية/ أو الحدث الطارئ (المفاجئ) عنصر إبداعي تحفيزي بارز في المجازفة الفنية، أو المقامرة الجمالية، وبقدر ما ينتشي الفنان بالصدمات الإبداعية، التي يولدها في منتجه الفني بقدر ما يستثير الاهتمام، وينتج الإبداع الإيحائي المؤثر، وتبعاً لهذا يقول:" فإن الفنان لا يخلق الحدث الطارئ، بل هو يلاحظه، ليستوحي منه، ولعل هذا هو الوحي الوحيد له.. فمؤلف الموسيقى يبدأ في تأليف دوره، كما يبحث الحيوان عن شيء يأكله.. ونحن نبحث وننتظر... نبحث عن لذة تقودنا، توجهنا في هذا حاسة خاصة.. لكننا قد نصطدم فجأة بعقبة مجهولة، فنشعر بصدمة تعمل على إخصاب قدراتنا الإبداعية"(33(.
إن الصدمة الجمالية إذاً- هي الصدمة الفاعلة في تحفيز المبدع والمتلقي في آن. الأول (المبدع) في خوض المقامرة الجمالية الهادفة، خوضاً فنياً إبداعياً (غير متوقع)؛ والثاني (المتلقي) في خوض المقامرة الجمالية الهادفة عبر كشف المنتج الجمالي، وتفكيك جزئياته، لكشف مغرياتها، ومحفزاتها الجمالية، يقول(ريفردي):"إن هذا التعاون الذي تقدمه المصادفة غير المتوقعة مليء بإمكانات لم تكن قائمة، ولم تبحث عنها، وهي تأتي في ميعادها، لتخفف من جفاف ما قد يكون جافاً في الأعمال الصادرة عن إرادتنا الهادئة"(34).وهنا، لا بد من التنويه إلى أن الصدفة الجمالية أو الحدث الطارئ لا يزيد فاعلية المقامرة الجمالية إثارة إلا حين يتم التقاطها من مبدع جمالي حساس، قادر على التقاطها، وترجمتها بالأسلوب جمالي يستطيع أن يولد من هذا المثير طاقة إبداعية خلاقة لا غنى للمنتج الفني المقامر جمالياً الاستغناء عنها، يقول (سترافنسكي) :" إن القدرة على الملاحظة والإفادة من مزاياها أمران لا يتمتع بهما إلا من كان متملكهما، أو على الأقل في المجال الذي يعمل فيه"(35(.
وما ينبغي التأكيد عليه أن الصدمة الجمالية أو الحدث الطارئ هي بمنزلة المادة الإبداعية الخام، فهي بحاجة إلى مبدع متمرس، حساس قادر على تحويل هذه المادة بمغامرته الجمالية، ومقامرته الرؤيوية إلى منتج إبداعي مثير، يقول جان برتليمي:" إن أحسن ما يمكن أن تقدمه المصادفة للفنان هو أن تقترح عليه فحسب، وعليه بعد ذلك، أن ينظم ويؤلف ويكون. لذلك لن تكون هناك مصادفات سعيدة [مفيدة] إلا بالنسبة لرجل يعرف كيف يلتقطها ويفيد منها"(36). فالمهارة في تحويل هذه الصدفة إلى منتج فني مؤثر هو الذي يحدد نجاح المبدع في مقامرته الجمالية، أي أن المقامرة الجمالية تكتسب أهميتها من قدرة المبدع على الارتقاء بالمنتج الجمالي إلى حيز إبداعي ممتشق فنياً؛ فالصدفة الجمالية أو الحدث الطارئ بمنزلة شيك بلا رصيد، تمليه ثقافته ومهارته في تمويل المنتج، وإكسابه رصيده الجمالي الإبداعي المؤثر.
ومن يطلع على تجربة الشاعرة بشرى البستاني يلحظ الصدمة الجمالية التي تثيرها قصائدها على مستوى الأنساق التصويرية المراوغة في حسها الجمالي، وتشكيلها الفني المراوغ، هذا يعني أن من فواعل الرؤيا جمالياً احتشادها بالصدمات التشكيلية التي تباغت القارئ، وتحفزه جمالياُ، كما في قولها:
"أشدُّ بضفائركِ عروقَ قلبيَ كي لا تفرّي
وأدخلُ قلبك فردوسَ الفراديس
في الفجر أشدّكِ إلى النيران كي تنطفي،
وأقرأُكِ في الليل على ضوء الينابيعْ"(37(.
هنا، تلفتنا الشاعرة بصدماتها التشكيلية المراوغة، وحنكتها على مباغتة القارئ بالنسق الملتهب جمالياً للدلالة على اتقاد الحالة الصوفية، وكشف مغرياتها عبر الاستعارة الصادمة، أو النسق التشكيلي المراوغ، كما في النسق التالي: [في الفجر أشدّكِ إلى النيران كي تنطفي، وأقرأُكِ في الليل على ضوء الينابيعْ]؛ فالصدمة التشكيلية اللافتة (ضوء الينابيع) أدت دوراً جمالياً في تفعيل الحالة الصوفية بكل فيضها وإيحائها الجمالي؛ وهذا الاشتغال على الاستعارة الصادمة والنسق اللغوي الحساس هو ما يعزز من شعرية القصيدة، ويرفع من وترها الجمالي الذي يفض رقة وحساسية جمالية، وقد جاء قول الناقد العراقي علي جعفر العلاق صائباً في الدلالة على توجهات القصيدة لديها وفواعلها الشعرية، إذ يقول: "تحتشـد قصيـدة البستاني بكل ما يمنحها القدرة الاستثنائية على البوح تارة، والتمزق المأزوم بالوحشة تارة أخرى . يتم كل ذلك في مـــزيج دلاليّ عصيّ على الفصم، وهكــذا فإن قصـيــدة البستانيّ تــذهب إلى هدفها دونما جهــــد تــزويقيّ مفتعل، تذهب مثقلة بالغضب أو مثقـلــة بالعذاب، صـادقـة في كلتا الحالتـين إلى أبعـد الحــدود. وهنا مكمن العـــذوبة في قصيدتها دوما"(38(
وهذا القول يشير إلى دقة المرجعية الجمالية التي ترتكز عليها قصائد بشرى البستاني، لاسيما في مجال الابتكار والخلق النصي، وإثارة الصدمات المفاجئة في إلها ب الصورة والنسق اللغوي في السياق النصي، كما في قولها:
"في الليل ترسم خرائط َعمري.
ملونة ًببلاغة أصابعك
في الليل تنبثق أسرارُك وأشجارك في دمي
أقرأك على شعاع نغم خافت..
وأقول للطائف: اقتربي
لنحاصرَ المحنةَ، ونكسِّرُ عُراها.."(39).
لابد من الإشارة إلى أن فاعلية الرؤيا الجمالية – في قصائد بشرى البستاني- تتمثل في الصدمات التشكيلية التي تخترق الرؤيا المباشرة لتصيب الرؤيا العميقة، والدلالة المباشرة لتخلق الدلالة الخفية أو الدلالة الفاعلة في التحفيز النصي؛ مما يجعل النسق الشعري –لديها- نسقاً مراوغاً متحركاً برؤى ودلالات مفتوحة على أشدها؛ ممايدل دلالة أكيدة على مرجعية الرؤيا ومحفزها الجمالي، وهذا يدلنا على أن شعرية النسق الجمالي تتمركز على فواعل الرؤيا الصوفيسة ومؤثراتها التي تبعث الإثارة بالصور الملتهبة لإيحاءات والدلالات المراوغة كما في قولها:
"أعرني انتباهك
لأتعلق بغصون النور المتدلية من عينيك
وأطلقَ راياتِ حزني المشتعلِ في عشب صمتك
متسائلة عما وراء الأكمة من مخاض"(40).(105-106).
هنا، تبدو الأنساق متفاعلة في بث الحالة الصوفية، وكأن الصدمة التشكيلية في نسقها تؤسس ذاتها لتخلق نوسة جمالية في المسار النصي؛ وهذه الزحزحة والنوسة الجمالية من شأنها أن تشعرن الرؤيا وتخلق مؤثرها الجمالي الخلاق، مما يدل على أن من فواعل الرؤيا الجمالية الخلاقة تنويع الرؤى والدلالات وإثارة الأنساق الصادمة في وقعها، كما في الأنساق التشكيلية التالية:[ عشب صمتك= رايات حزني= غصون النور المتدلية من عينيك]؛ وهذه الأنساق تعبر بعمق عن الحالة الصوفية بانفتاحها ورؤاها العميقة.
وقد تنوع الشاعرة في مسارب الشعرية عندما تنتقل من إطار الصدمات الجزئية لتخلق الصدمة التشكيلية في الرؤيا الشعرية ذاتها، أي تخلق صدمتها في الرؤيا الجوهرية المحركة للمشهد الصوفي بحراكه وإحساسه العميق، كما في قولها:
"آه.. جبلي شاهقٌ وعلى استحياء يكشف يواقيته
وجبلك الغيابُ يرتدي شجر الزيتون ثوباً
فأتدحرج على سفح نجومه
وأتضرع تحت أكاليل ورده: أطلقني
لأسقيَ بذور الوديان بكؤوس من ذهب
وأخلعَ قميص العتمة عن بحرك اللجي
وادخلَ حدائقه لأضيعَ في الشعاب"(41).
إن الصدمة الجمالية هنا تنتقل من إطار النسق الجزئي، لتدخل صلب الرؤيا، وهي بدلالتها تعبر عن فيوضاتها الوجدية لتتيه في شعاب التجلي الإلهي، وحدائق الوصال، ولتظفر بكأس الرضى، والقبول، بعد ليالي التيه الضياع، وعناء البحث الشاق المضني، وهكذا، تؤسس الشاعرة بشرى البستاني فواعل الرؤيا الجمالية في قصائدها على الأنساق التصويرية الصادمة في سياقها النصي، لدرجة تحفز النص، وتستثير حساسيته الجمالية، وهذا يدلنا على أن إثارة الصدمة الجمالية في نسقها يحقق للمشهد الصوفي أو الحالة الوجدية قمة الإثارة والخصوبة الجمالية.
وتأسيساُ على ما تقدم يمكن القول: إن تفعيل الرؤيا الجمالية – في قصائد بشرى البستاني- ينطلق من الأنساق الصادمة التي تفاجئ القارئ في سيرورتها واستراتيجيتها الدلالية لتخلق متغيرها الجمالي الآسر؛ وهي بذلك ترتقي بالحدث والمشهد الصوفي الذي تجسده بحراك دلالي وتكثيف إيحائي بالغ الاختلاف والتنوع.
3. الرشاقة الجمالية:
لاشك في أن الرشاقة الجمالية، أو السلاسة الجمالية من محفزات بنية القصيدة المعاصرة التي اعتمدت الانتقال، على مستوى التقنيات، من السرد إلى الحوار، وما الحوار إلالدراما، ومن الدراما إلى الوصف، ومن المشهد المجرد إلى اللقطات التصويرية بالاعتماد على تقنية المونتاج والكولاج في السينما، ولهذا تعد الرشاقة الجمالية، من فواعل الرؤيا الجمالية ومؤثراتها، ولعلنا لا نجافي الحقيقة في قولنا: إن نجاح أي عمل فني إبداعي مؤثر يعتمد الرشاقة الجمالية التي تولدها المجازفة الفنية، أو المقامرة الإبداعية الناجحة بطيفها الإيحائي المتجدد، ورشاقتها الإيحائية في توليد الأطياف الجمالية التي تظهر بين أجزاء العمل الفني، ولهذا كان (جان برتليمي) محقاً فيما وصل إليه: "لا يكون الجمال جميلاً دون الرشاقة الجمالية التي تشع في العمل الفني"(42). والتي ترقى به إبداعياً، فالفن هو رشاقة جمالية وتوالد إيحائي على الدوام، ولهذا، لا تنتهي مثيرات الفن الجمالي طالما هو بتوالد، واستمرار إيحائي على الدوام، وطالما أنه يسير نحو التحقيق الأمثل لهذا الحراك، والرشاقة الجمالية؛ يقول برتليمي:" الرشاقة الجمالية تظهر الحركة قبل أن تختفي، كما لو كان تحققها يسير نحو التحقق . لهذا كان الفنان الحقيقي الذي يعود إلى منبع نشاط الكائنات لكي يستوعب دفعتها بدرجة أعلى، إنساناً يصور الجهد التجديدي للطبيعة بطريقته هو"(43). وبقدر تنامي هذه الرشاقة تتبدى دينامية المقامرة الجمالية وتثمر في مسعاها الفني، وإشعاعها الجمالي على الدوام، ومن هنا، فإن الرشاقة الجمالية لا تقل درجتها الفنية عن الرؤيا؛" لأن استشراف الرؤيا يحتاج إلى الرشاقة في تمثيلها، والرشاقة في لملمة جزئياتها، وتبيان القوى الخفية الفاعلة في تحريكها؛ فهي القوة الإيحائية الخفية التي يختزنها المنتج الفني، والتي وراءها تكمن قيمة المنتج من جهة، وقيمة الفعل الإبداعي ومنتوجه المثمر من جهة ثانية. ولهذا كان يقال إن أكثر مظاهر الفن إثارة هو النشاط الذي يحركه فينا المنتج الفني المؤثر، وهذا النشاط مبعثه الرشاقة الجمالية المختزنة، أو الطاقة الجمالية الإيحائية المشتقة داخل المنتج الفني؛ وقولنا هذا يناقض قول (مايير) الذي يقول: "إن للفن حقائقه، بعيدة عن الواقع الذي تكشفه البديهة، وهو نتاج عمل أكثر منه نتاج رؤية، وجوهره العمل، فإن كان الفنان يبقى وقد تعود الواقع، فذلك بالقدر الذي يبين به الفن أن هناك في الأمر مادة وإنساناً يعمل. وهكذا يعطي الفنان لنفسه حق قيادتنا بعيداً عما هو قائم. ومهمته هي إنكار الواقع، بقصد إعادة بنائه"(44).
فالفن- من منظور- (مايير) هو فن صنعة، وتفنن في هذه الصفة، وليس فن رؤيا، وتفنن في هذه الرؤيا؛ وهذا القول يناقض حقيقة الفن خاصة، وحقيقة الإبداع عامة؛ لأن الرؤيا هي مركز ثقل المنتج الإبداعي، بوصفها تمثل لب الإبداع وجوهره؛ فكيف يتم تغليب ما هو سطحي، عما هو جوهري في الفن والإبداع؟! .. وبهذا الفهم نخالف (مايير) ونقول: إن جوهر الفن الرؤيا، والرشاقة الجمالية في التعبير عن هذه الرؤيا والتقنيات الجمالية في تمثلها أو تجسيدها إبداعياً، ولا غنى لهذه الرشاقة عن جودة الشكل وتآلفه مع جوهر الرؤيا، وإشعاعها الفني. وبرأينا: إن الفن الإبداعي الحقيقي هو الذي يولف بين فنية الرؤيا، وجمالية الشكل الذي تتجسد فيه هذه الرؤيا؛ والرشاقة الجمالية في بث إشعاعاتها الجمالية بين الحيثيات التجسيدية لهذه الرؤيا؛ وهذا ما يجعل المنتج الإبداعي أكثر جاذبية، ورشاقة وسلاسة جمالية في تلقيه. ولا غنى للفن الإبداعي الحقيقي عن مصدر جماليته، وهو الرشاقة، والنشاط الجمالي الذي يولده فينا؛ ليحرك نبضنا، وأحاسيسنا الداخلية إلى تلقيه؛ بوصفه جزءاً لا يتجزأ من تجربتنا وإحساسنا الوجودي. ولذة معاشرتنا للذي فقدناه من زمن. ولهذا يقال: إن الفن الحقيقي هو الذي يبقى مسكوناً فينا، ولا نغادره، هو الذي يحرك فينا ما نعجز عن تفسيره، فالفن في هدفه وتخليق جماله ستار إيحائه الرؤيا الجمالية التي يوحي بها؛ يقول( بيرجسون): "الفن في ستار الكلمات... يصنع جماله بالذات في نسيج لغته.. ومن المحال أن نبعد هذا الستار.. وإن أنت مزقته تكون قد قضيت على الفن"(45). وهذا الستار أو الحجاب الشفيف هو الذي يحرك النشاط الفني، ويحرك الإشعاع الجمالي؛ فكم من الأعمال الفنية قد استهلكت لخفوت إيحائها، ومبعث جمالها فلم يبق لها ذلك البريق الذي فجرته لحظة بروزها، وامتشاقها الفني، وعنفوان إيحائها العميق، واستعلائها الجمالي المثير الذي يستثير الرؤى، ويفجر الأحاسيس لتلقيها، والانشداه إلى إشعاعها، وبريقها الساحر؛ ولهذا أبدع الناقد الجمالي (بايير) في رؤيته الجمالية التي تقول: "إن حركة إنسانية تسكن عالم الفن، وإن صح التعبير، هي عبارة عن صعود روحي دؤوب للنوع"(46). وهذه الحركة الإنسانية، والروحية مبعثها الحراك الجمالي أو النشاط الجمالي الذي تولده لذة تلقي الفن، ولذة الإحساس به، أو التأثر بقيمه الوجودية أو الجمالية التي يخلقها لحظة تلقيه الجمالي، ولهذا، يعد "بيرجسون" الفن رشاقة جمالية بوصفه وسيلة للإغراء"(47). والفن الذي لا يخلق الرشاقة الجمالية أو النشاط الجمالي يعد فناً صامتاً، أو فناً مائتاً، والفن الحقيقي بعيد عما هو ساكن بالمطلق، ويعضد "بيرجسون" رأيه قائلاً :" فلا قيمة للوحات إذا لم تقدم شعوراً لطيفاً، رغم فعل الصدفة التي توحي به، وإن هي لم تبعث فينا لذة ما حين ننظر إليها"(48). وهذه اللذة مبعثها رشاقة الإيحاء، والصدمة الجمالية التي تولدها المقامرة الجمالية في تخليق اللذة الجمالية، إثر تلقي المنتج الفني المؤثر، ولا غنى لأي عمل فني إبداعي خلاق –بحق- عن لذة الرشاقة الجمالية التي تولدها الفنون في مغامرتها الإبداعية، لتخليق عنصر الإثارة والتأثير. ولهذا كان الأستاذ الجمالي( بايير) واقعياً في رؤيته الجمالية بقوله: " إن الفن يتميز بطاقة خاصة تسمح بالتجسيد، وحتى الظلام الذي يخيم على الوسائل الفنية، هي التي تصنع التماسك القائم بذاته للفنون"(49).
وهذا القول دقيق جداً، فالفن يتميز بطاقته الإبداعية التي تحددها الوسائل الفنية، أو الطرائق الفنية في توليف حيثيات هذا المنتج الفني، وبقد ما تظلله هذه الوسائل من إيحاءات ورؤى متفاعلة يخلق العمل الفني تماسكه ونشاطه الجمالي. وتبعاً لهذا، رأى بيرجسون أن الإغراء وحده ليس هدف الفن، لأن للفن نشاطاً داخلياً جمالياً يثيره الهدف الفني؛ والشكل الجمالي الإبداعي المخصوص في تحقيق هذا الهدف؛ إذ يقول:" ليس بالإغراء وحده تبهرنا مصورات" الموزاييك" التي قدمها رافين، ولا العالم الجهنمي الذي قدمه جويا؛ وإنما بالنشاط الجمالي الذي تجسده، والمبعث الإيحائي الذي تستثيره؛ وتحرك معه الحس الجمالي أو الصدفة الجمالية"(50).
ومن المؤكد أن الفن الجمالي لا يقصد اللذة قصداً، وإنما تأتي اللذة نابعة من صدفة ما أثارته الرؤيا الفنية، والأسلوب الجمالي المتبع في تخليقها، والنشاط والرشاقة الإبداعية التي أثارته بين حيثياتها الجزئية، لتوليد الاستثارة الجمالية، والحراك والرشاقة الجمالية لاستظهاره جمالياً؛ وهذه هي لذة الفنون الإبداعية المؤثرة التي لا غنى عنها للرقي المعرفي، والجمالي على الدوام.
وتعد الرشاقة والسلاسة والخفة الجمالية من مكمن شعرية الرؤيا في قصائد بشرى البستاني التي تتنوع برؤاها ومداليلها العميقة، وتثير الحساسية الجمالية برشاقة مؤثراتها، وسلاسة معطياتها الجمالية، فالقصيدة – لديها- ليست سكونية، وليست وصفية بقدر ماهي متحركة في تقنياتها ومؤثراتها ومتحولاتها الجمالية، فهي تنزع دوماً إلى خلق متغيرها الجمالي في الرؤيا، والأسلوب الانزلاقي في تمثيلها وتجسيدها إبداعياً، وللتدليل على ذلك نأخذ قولها:
لا تقفل نوافذ البحر دوني
فالشجر الناهض في احتدام الموج ِ
يُظلّ روحي...
افتح نوافذ البحر عليْ،
كي لا أضيع خارج الشِباكْ.
لا تغمض عينيك ْ..
احتاجهما كي ترتعش الحشائشُ داخلي
ويشتعل عبير الزنابق المتفتحة ِ
في حدائق الكون ْ
لا تغمض عينيك ْ
فعلى بحرهما اكتب قصيدتي
وفي إيقاعهما تتخطفني الجزرْ.
افتحْ شُرف الليل عليْ
كي تظل الصفحة ُ البيضاءُ واعدة ً بالنقوشْ"(51).
إن القارئ يتلذذ بهذه الجمالية التي تثيرها على مستوى الرؤيا، وما تفيض به من مواجد، وأحاسيس لاهبة، برشاقة وخفة جمالية في اختيار النسق الجمالي الذي يبدع بفيوضاته الوجدية، وملامحه الجمالية، وكأن شيئاً من التنامي والانشراح الروحي يفيض من رحيق الأنوثة في هذه القصيدة (افتح شرف الليل عني كي تظل الصفحة البيضاء واعدة بالنقوش)؛ وهذه الانسيابية في الانتقال من صورة إلى أخرى بريشة الإحساس والتنامي الجمالي هي ما تجعل من مؤثرات الرؤيا محفزاً جمالياً من مغرياتها ومحركاتها الجمالية، كما في قولها: [لا تغمض عينيك ْ.. احتاجهما كي ترتعش الحشائشُ داخلي]؛ وبهذا الإحساس الجمالي في التقاط الصورة الانسيابية الوارفة بدلالاتها تحقق الشاعرة دهشتها الجمالية التي ترفع وتيرة الجمال والشعرية في قصائدها، سواء في شكل الصورة، أو موحيات الرؤيا الصوفية وما تفيض بها من معانٍ ورؤى ودلالات مفتوحة تبثها على مستوى أنساقها الشعرية.
وقد تعتمد الشاعرة الرشاقة التصويرية، بالانتقال من نسق استعاري إلى آخر، لتحريك إيقاع القصيدة، وتحميلها من الدلالات ما يغني رؤيتها، ويكثف قيمها الجمالية، لاسيما عندما تغذي هذه الرشاقة الرؤيا وترفع وتيرة شعريتها على هذا النحو المكثف من الفاعلية والتأثير، كما في قولها:
"في الليل أنتظركْ ...
ندخلُ جذور َ الرياح معاً ،
نبحثُ عن مستقرْ ..
أختبئُ في قلبك فأجدُ سفنَهُ المثقلةَ نائمة ْ
أتطهّرُ في دمكَ من خطايا الجوع ِ والظمأ ْ ،
وألوبُ بالياسمينْ .."(52).
لابد من الإشارة إلى أن الرشاقة الجمالية التي تولدها الرؤيا الصوفية – في قصائد بشرى البستاني- تهبها القوة والتميز وتنوع الدلالات، لاسيما عندما ترتبط بالصور وتنقلاتها السريعة من نسق تصويري موارب إلى آخر، بذات الفاعلية وقوة التأثير، لتنصهر كلها وتصب في خانة واحدة هي الرؤيا الشعرية التي تنطوي عليها هذه القصائد؛ بمعنى أدق : إن مرجعية الرؤيا وعمق الإحساس الجمالي بها هو ما يحقق إثارتها في قصائدها الصوفية التي تتنفس عبير المواجد ورقة الدلالات وانسيابها الدافق، وعلى ما يبدو في النسق الشعري السابق تتمفصل الرؤيا على حرارة الصورة الصوفية ورشاقتها في إبراز حالة التوق والوله القصوى التي وصلت إليها: [ألوب بالياسمين- أختبئ في قلبك فأجد سفنه المثقلة نائمة]؛ وهكذا، تتأسس الصور الصوفية على حراك الدلالات، وتناغم الرؤى وتفاعل الإيحاءات المرتبطة بها، وهذا ما يهبها التميز والإثارة والرشاقة الجمالية.
وبتقديرنا: إن فاعلية الرشاقة الجمالية لاتتبدى في رشاقة الصور، وتنوع مؤثراتها الجمالية فحسب، وإنما في اختلاف الرؤى، وكثافة المغريات الاستعارية، من خلال الجمع بين ما هو محسوس وما هو مجرد، كما في قوله:
"وأدثركِ بغصون المنى.
وإذ تحلقين على أجنحة الغمامِ
سأعتنق عبيرَك، وأرتدي أرديةَ الريح ِ،
كي أحرسَ ما يشعُّ من لآلئ نورك على الكونْ."(53).
بادئ ذي بدء، نشير إلى إن إثارة الرؤيا الجمالية –في قصائد بشرى البستاني- تتنوع بين ما تجسده على مستوى الصورة وما تثيره على مستوى الدلالات والرموز، لهذا، تنبني الصورة على دلالات عميقة تتجاوز جسدها اللفظي، لتنفتح بانفتاح الرؤى واختلاف مؤثراتها الجمالية، وليس ذلك فحسب وإنما تتغور آفاق الرؤيا الصوفية، وتفتح مكنونها الجمالي، وهاهنا بدت الرشاقة الجمالية في هذه الصور المتضافرة والمتفاعلة في نسقها (سأعتنق عبيرك= أرتدي أردية الريح= أدثرك بخيوط المنى]؛ وهذه الصور متضافرة في إبراز شعرية المشهد الصوفي، بكثافة ما تمثله الأنساق الاستعارية من رؤى، وما تثيره من إيحاءات ودلالات بالغة الإيحاء والفاعلية والتأثير. وهكذا، فإن فواعل الرؤيا الجمالية في قصائد بشرى البستاني تتنوع بحسب المشاهد والصور وتعدد الدلالات، والرؤى والاستعارات والمعطيات الجمالية التي تفيض بها لتحقق متغيرها الجمالي، بكل ما تثيره في القارئ من دلالات وإيحاءات مختلفة في نسقها الشعري، مما يجعلها مغرية في مؤثراتها وفواعلها الجمالية لاسيما على مستوى الأحداث والمشاهد والصور التي تثيرها في هذا النسق الشعري، أو ذاك؛ وهذا ما يجعلها في حراك دلالي ورؤيوي على الدوام.
4. الإثارة الجمالية:
لاشك في إن الإثارة الجمالية من منابع الشعرية المعاصرة، هذه الشعرية التي تعددت آساليبها وتقنياتها، بتعدد الأشكال، والرؤى، والفواعل الجمالية التي اعتمدتها لتحفيز القارئ، وإثارته جمالياً؛ ومن هذا المنطلق، تختلف شعرية النصوص الإبداعية باختلاف درجة تشكيلها وإبداعها جمالياً، ولا غرو أن نذهب إلى أبعد من ذلك، إذ نقول: إن نجاح أي منتج فني مؤثر يتبدى في مقامرته الجمالية، بحثاً عن الإثارة الجمالية، أو اللذة الشعورية التي يثيرها في نفس المتلقي، لجذبه إلى دائرته الإبداعية؛ ولهذا، يعد البحث عن الجمالية بحثاً مقامراً عن قيمة جمالية مثلى يولدها المنتج لحظة تلقيه، وهذه القيمة غالباً ما أطلق عليها علماء الجمال بـ[اللذة الجمالية] بوصفها خلاصة المغنطة والجاذبية للمتلقي، إذ إن المتلقي لا يتفاعل إلا مع المنتج الفني الذي يستثيره، ويولد في داخله نشوة ما، غير قادر على ترجمتها شعورياً، سوى بالتطهير والتفريغ، والارتياح؛ ولهذا، ربط بعضهم اللذة الجمالية بالإدراك، ومنطق العقل، يقول جان برتليمي:" هل يجب أن نكرر ما قلناه من أن المتعة الجمالية تأتي عن طريق الحواس، وقد أضاءها العقل المفكر؟"(54). ولهذا، عد (كانط) الإثارة الجمالية أعلى درجات المقامرة الجمالية في المنتج الفني المؤثر، لأن المقامرة الجمالية لا تحقق منتوجها الإبداعي الحقيقي إلا حين تولد اللذة في المتلقي، وهذا ما وضحه بوله:" إن الجميل هو الذي يبعث السرور بصورة كلية، وبدون تصور محدد... وهو الذي لا يقبل الانفصال عن تتابع الأنغام أو المقاطع التي تطرق أذني، وعن الألوان التي تقع تحت عيني"(55).
ولذا؛ فالفن الجميل هو الذي يبعث الراحة والاطمئنان في نفس المتلقي بآفاقه الرؤيوية، ولذته الجمالية؛ وبهذا المقترب يقول الشاعر عبد الكريم الناعم في فن الشعر قائلاً:" الشعر ليس نمطاً محدداً... كل قصيدة تثير في النفس اللذة الفنية، وتنطوي على بناء فني جميل، هي لشاعر جيد، وقصائد الشاعر ذاته ليست على سوية واحدة، فقد تتفاوت، والشاعر من يحافظ على (سويات)، ولا أقول (سوية) واحدة، إذ الأمر يختلف، بناءً ومعالجة، وصياغة بين قصيدة طويلة، أو قصيرة، أو ومضة، الشرط الأول والأخير إثارة الدهشة، والجذب، وإثارة الشعور الداخلي بما يحمله إلى عوالم ترتاح إليها الروح، إذ الشعر من غير روح جثة هامدة "(56).
وتأسيساً على هذا، فإن الإثارة الجمالية تحقق أقصى درجات الدهشة في المنتج الفني، وهي التي ترفع سوية تلقيه، وسوية منظوره الفني المتطور، ولما كان الفن في أساسه مجازفة ومغامرة فإن ما يثير هذه المجازفة المتعة الجمالية التي تحققها، وتثيرها في المنتوج الفني المثير، ومن هذا المنطلق لا يثيرنا الفن إن لم يكن مؤثراً باعثاً للذة ما؛ أو محققاً تفاعلاً ما بين مبدعه/ ومتلقيه، ولهذا، يرى عالم الجمال (مورياك) " أن مهنة الفنان تتضمن إغراءات خطيرة للغاية"(57) . وهذه الإغراءات هي التي تضمن لمقامرته الجمالية في نتاجه الفني نجاحها وجاذبيتها للقارئ، يقول الناقد والشاعر علي جعفر العلاق:" إن ما تبعثه القصيدة فينا من نشوة، أو قوة، أو أسى لا يترشح إلا عن مستواها الشكلي أولاً، ومن خلال هذا الشكل بتفاصيله، ومكوناته تنجح القصيدة في إشاعة مناخها الجمالي والفكري في كيان المتلقي؛ وتستدرجه بعد ذلك إلى فضائها الداخلي، وشباكها الخادعة، أي إلى أبهة البناء الشعري وبهائه الساطع"(58).
ولعل اقتران الجمالية أو اللذة في الشكل لأمر مبالغ فيه، فكل ما في القصيدة من شكل، وبنية هو الذي يحقق نجاح القصيدة في مقامرتها الجمالية، لاستثارة القارئ، وجذبه إلى دائرته الإبداعية؛ وهذا ما صرح به قائلاً:" إن النص الشعر شكل قبل أي شيء آخر، ونحن حين نستقبل النص فإننا لا نؤخذ في المرحلة الأولى للمتلقي إلا بشكله أولاً، أي أن الخضة الأولى التي تعترينا لا تنبعث في الغالب إلا من شكل النص، أو عناصره الشكلية الحسية، أما بناء النص فإن اكتشافه مهمة يصعب على المتلقي الأول إنجازها دائماً، لذلك فإن كل قراءة لاحقة تطل اقتراباً من بنية النص واختراقاً لظلمته البهيجة"(59).
وما ينبغي ملاحظته والتأكيد عليه أن قيمة العمل الفني تكمن في إثارته وطريقة صنعته؛ ومقامرته الإبداعية في إبداع طريقة جمالية مبتكرة في التحفيز والتحريض الفني؛ وبهذا، يسمو الفنان على الصانع بدرجات الإبداع، والرشاقة الفنية؛ وبهذا يقول( آلان) ما يلي:" الواقع أن الفن أحسن من المهنة بكثير، كما أن الفنان أكثر تفنناً، وإتقاناً، ودهشة من صاحب الحرفة بكثير، والذي يميز أحدهما عن الآخر قبل كل شيء هو أن صاحب الحرفة ينقل نموذجاً في حين أن الفنان يخترع شكلاً"(60).
وثمة فرق واضح في درجة الفن بين من يخترع، ومن ينقل أنموذجاً أمام عينيه يقلده، وبهذا يقول: إن ميزة الفن الاختراع: الفنان يخترع شكل، اً ومرة أخرى نقول: إن هذا الشكل لا ينبثق عن العقل منذ اللحظة الأولى، بل إنه يظهر عندما يتلامس والمادة. ويتضح تدريجياً مع عملية التنفيذ أما العامل فهو لا يهتم بمثل هذا البحث وتلك التحسسات، وذلك العمل الجاد المتواصل. فهو يتلقى تصميم المنزل أو رسم قطعة أساس، أو صورة تفصيلية لتمثال ما، وعليه أن ينقذ ذلك التصميم، أو هذا الرسم كما هو بكل دقة ممكنة، ولا يتعين عليه حتى إذا استطاع ذلك أن يقدم من نفسه للمادة ما تتطلبه منه، وإن هو فعل ذلك هذا لذهب عنه صفة صاحب الحرفة. وكلما سبقت الحرفة التنفيذ أو نظمته كان الأمر أمر صناعة لا فن"(61).
والملاحظ حقاً أن الإثارة الجمالية تحقق أعلى قيمة يمكن أن يتصف بها الفن، ولهذا، من الطبيعي أن يرقى الفن عن الصناعة، لأن الفن خلق، وابتكار، وتجاوز، وإضافة في حين أن الصناعة هي صنع لأنموذج، أو شكل محدد دون لمسات فنية إضافية على المنتج، ولهذا، فالفن لا يسمو فقط ببداعة صناعته، وإنما بمقامرته بكل شيء ليسمو الفن عن غيره من الفنون.
ومن يطلع على قصائد بشرى البستاني لاسيما الصوفية منها يلحظ خصوبة مردودها الجمالي، وغناها بالمثيرات الجمالية؛ ومصدر جماليتها لا يقتصر على شكل دون آخر؛ أو رؤية دون أخرى، إنها اشتغال مركز على تقنيات فاعلة في تشكيل بنية القصيدة؛ لإبراز متغيرها الجمالي الآسر؛ من خلال تنويع الرموز، وغنى المعجم الصوفي لديها بالدلالات، والمفردات الجديدة، وهنا؛ تكمن الإثارة الشعرية في قصائدها من خلال فواعلها الكاشفة، ومتحركاتها النسقية الخلاقة، كما في قولها:
تلتصق دمعتي
على ليل يتكسر في دمي
ثم يضيء في غفلةٍ أطراف الوجود
ينهض عشبٌ وردي على ساعديك
وتنهمر النجوم في غفوتي الأخيرة
آه.. يا لذلك البرق الذي أضاء شِعابَ الغابة
سأل عنك الشجرَ والنبعَ ونجمةً بعيدة
لكنهم صمتوا"(62).
بادئ ذي بدء، نشير إلى أن الإثارة الشعرية التي تحققها قصائد بشرى البستاني تتمركز الحدث الشائق والصورة الصوفية اللاهبة، والدلالة المضاعفة، والرؤيا الخلاقة، والأنساق التشكيلية المراوغة، والرشاقة السردية، والتناص المتلاحم في النسيج الشعري؛ وكأنه جزءاً لايتجزأ من شعرية القصيدة ومنتوجها الجمالي.
ولو دققنا في المقتطف الشعري السابق لأدركنا جمالية الصور الصوفية المركبة، ونقصد بالصورة الصوفية المركبة : الصورة التي ترتكز على الأخرى، وترتبط دلالتها بها ولاتنفصل عنها، والغاية منها تعميق الرؤيا الصوفية، وخلق صورة مبتكرة من تداخل صورتين أو أكثر في النسق الشعري الواحد، وهذا ما اعتمدته الشاعرة في الصور المركبة التالية: [تلتصق دمعتي/ على ليل يتكسر في دمي/ ثم يضيء في غفلةٍ أطراف الوجود]، إن الصورة السابقة ترتكز على ثلاث صور، للدلالة على فاعلية المزج والتركيب الرؤيوي في النسق الصوفي للتعبير عن معنى مركب ودلالات متداخلة، وهذا الأسلوب المزجي في تركيب الصور تعضده جمالياً بصور مفردة أحياناُ، ومركبة في بعض الأحيان لتكثيف منتوج الرؤيا الصوفية، وإبراز ملمحها الجمالي على شاكلة الصور المفردة التالية: [ينهض عشبٌ وردي على ساعديك/ وتنهمر النجوم في غفوتي الأخيرة]؛وهذا دليل خصوبة الرؤيا الصوفية بالدلالات والإيحاءات الجديدة التي تكشف الدلالة العميقة، والمعنى المراوغ.
وقد تعتمد الشاعرة في تحقيق الإثارة الجمالية على النسق التصويري المبتكر، ودلالاته المحمومة في السياقات الوجدية التي تتطلب حرارة في الموقف، وبلاغة في إصابة المعنى البعيد، كما في قولها:
"فأعتذرُ لوجنتيكَ من برد أصابعي
ولخصرك من وهج ساعديْ
ولقلبك أعتذرُ من ضجيج شوقي
هل صار الرحيلُ غريمي
كيف وكرمةُ دمعي تشرب عبير وجنتك
وقلبك يضمِّدُ ذعرَ صمتي
والصفصافُ يخونْ"(63).
لاشك بداية في أن منابع الإثارة الجمالية في قصائد بشرى البستاني تتنوع بتنوع الرؤيا والصور الملتهبة في تمثيلها وتجسيدها فنياً؛ وهاهنا؛ حققت الشاعرة منابع هذه الإثارة عبر حساسية الصور البليغة والدلالات الوجدية المحمومة بحنكة عالية الإثارة والتركيز، كما في نسق الاستعارات التالية: [فأعتذرُ لوجنتيكَ من برد أصابعي/ ولخصرك من وهج ساعديْ]؛ واللافت بلاغة الرؤيا المرتبطة بها كحالة من الدلالة بعمق عن منتوجها الرؤيوي اللاهب، وإحساسها العاطفي الوجدي المحموم، وكأن الصورة تخرج من جسدها اللفظي لتلبس الحساسية الجمالية برقة بالغة الإثارة والتعبير عن وهج الحالة، وعمق ما أصابته في النفس من لذة ومتعة، على شاكلة قولها:[ كيف وكرمةُ دمعي تشرب عبير وجنتك/ وقلبك يضمِّدُ ذعرَ صمتي]؛ وهكذا، تتأسس الرؤيا الصوفية على مرجعية الرؤيا والحدث الجمالي في تشكيلها، مما يدل على أن منابع الإثارة الشعرية في قصائد بشرى البستاني متنوعو لكنها جلها تصب في بوتقة التشكيل والرؤيا البليغة، والحدث الجمالي المعبر عن عمق الحالة، ومردودها الخلاق.
5. التأمل الجمالي:
لاشك في أن من منابع الإثارة الشعرية التأمل الجمالي، وهذا التأمل الجمالي هو الذي يصنع الفن، ويختار السبل المؤدية إلى ذلك، ولا ينتج الفن إلا عن طريق هذه الحاسة الجمالية التي تختار الشكل الأسلوبي أو الفني المميز، لنقل الرؤيا بإثارتها، ومنتهى لذتها الجمالية، ولا نبالغ إذا قلنا: إن أية مقامرة جمالية رابحة- من منظورنا- ينبغي أن تكون قائمة على تأمل جمالي، وحساسية جمالية عالية، شديدة الوعي، والإدراك، والحساسية، لهذا، فإن الحدس أو الانفعال الجمالي وحده لا يصنع فناً جمالياً بحد ذاته؛ لهذا لا بد من تأمل جمالي أو لمسة فنية؛ وهذا ما يمنح المنتج الفني الرؤيا الفنية التي ترقى به إلى أوج الإجادة، والإشعاع الجمالي، وهذا يعني.. أن مبدأ الفن هو- من منظورنا- يكمن في التأمل الجمالي، والمعرفة الجمالية. في حين أن مبدأ الفن عند" ليبس" و" الوتز" و(كونسورت) يعني: "انعكاس مشاعري في الآخرين، وترديداً عاطفياً إزاء مشاعر الآخرين، والاشتراك في خاصية للأشياء، وإحياء عالم الأشياء الجامدة في نفسي، ويعني اندماجاً توافقياً بين العالم الخارجي والعالم الداخلي لي أنا، وتطابقاً ساحرياً، أو تصوفياً بين الأنا واللاأنا"(64). وهذا يعني بالمفهوم الجمالي العام (التأمل)، أو جمالية التأمل، ونعني بالتأمل الجمالي : التأمل الإبداعي الذي يستثير الرؤيا الجمالية والدفقة الإيحائية، أو الشرارة الإبداعية الخلاقة؛ وهذا ما استشفه الشاعر طالب هماش في قوله:" عالم الشعر لم يعد الآن عالماً أنيقاً مسترسلاً في سيرورة لغوية هادئة تبوح باللطائف في جو من الرقة، والغبطة، والشفافية. ولم يعد هذا الكائن الآتي بكل جماله من ينابيع الموسيقى القصية علة وجودنا، واستبصارنا لثقافة الجميل والماتع بل أصبح كائناً منطوياً على نفسه مثل منحوتة فقدت أمومتها، إنه صخر .. مضجر صخران لعبت بقيمه الفنية أنصاف المواهب وتركت في جسده المثخن بالجراح ندوباً لا تمحي. لذلك ليس غريباً في هذه الآونة أن ينزوي الشاعر الحقيقي خاف قواريره، ليتأمل كالسكران نبيذ الليل، وتلك الحقيقة المحتجبة في هذا السائل البرتقالي الشفاف. بينما يقرع الآخر على الآلات الإيقاعية الحديثة مالئاً الأرض ضجيجاً ونشازاً"(65).
وهذا يعني أن الفنان المبدع أو الشاعر المبدع هو من يتأمل الأشياء تأملاً جمالياً وينزوي في محرابه التأملي، لإنتاج ما هو جمالي وفني ومتع، والفن الحقيقي هو ثمرة يانعة من ثمار التأمل والوعي الجمالي .ويقول (بروست) :"لكي يكون تأمل الفنان خصباً، لا بد أن يرتبط بالفوران العاطفي، وفي مثل ذلك الارتباك بين [ما هو واقعي وخيالي؛ أو ثابت وجدلي] يمنح من نفوسنا نصيباً هو الذي يمكننا من حصول ما نحصل عليه، ونقيض ما نحصل عليه مقدماً، وفي هذا نلاحظ أن بين إمكانية تلك الشيء واستحالة التملك أيضاً ... نلاحظ أنه توجد بينهما حدود، وفواصل متحركة"(66).
ولهذا، تبدو مهمة الفن هي تخليق ما هو جدلي، أو عبثي تخليقاً يرقى به إلى حيز الجمع التام بين المتناقضات، لاكتشاف جوهر الوجود، وجدلية الحياة، يقول جان برتليمي:" لا ينبغي أن ننكر أن مهمة الفن تؤدي بصاحبها إلى أخطار أحياناً ما تكون شديدة، ومن هذه الأخطار مثلاً أن يترك الفنان نفسه تمتصه حياة ملموسة محسوسة، وعاطفية بدرجة يختفي معها في تلك الحياة"(67). دون أن يعطي نفسه مجالاً للتأمل الجمالي؛ وهذا خطر على منتوج الفن، ومصدر جاذبيته، فالفن ليؤدي وظيفته الإبداعية ينبغي أن يؤطر وعياً جمالياً، أو إدراكاً رؤيوياً وجودية جديدة أن يمتص من رحيق الحياة، ويستجلي معالمها بحسه التأملي المرهف، وركيزته التخييلية العالية. ولهذا شدد (بروست) على مقولته التالية: "إن الفنان يرسل لكي يفعل، لا ليكون كائناً فحسب"(68)، ولكي يحقق الفنان هدفه الفني ينبغي أن يؤدي فعلاً جمالياً، أوردة فعل جمالية تتبدى في منتجه الفني|، وبهذا المنحى المقارب يقول (بروست): "أن ما يلزم من ثبات عزيمة، واكتمال عقل، وروح، وشجاعة، وجرأة؛ هدفها جميعاً أن يدافع عن بقاء موهبته ضد الآخرين، وضد نفسه، ولينقذ هذا النقاء من أي شيء قد يصيبه"(69). ولهذا فإن الفنان مطالب- من منظورنا- أن يجانب الكمال الجمالي في منتوجه بما يدركه هو، ويؤسس له في منتجه الإبداعي، رغم أن الكمال ليس من صفة البشر إطلاقاً، وإنما من صفة الخالق وحده، يقول(برتليمي): "إن الفنان ينبغي أن يصبو إلى الكمال في عمله الفني، لكن هذا الكمال يتعلق بمقدار جودة عمله الفني لأنه هو ؛ وهو إذ يحقق هدفه في أعماله، فإنه ينفق فيها كل طاقاته، بحيث لا يتبقى لديه شيء ينفقه في تحقيق كماله الشخصي"(70).
وبهذا التصور؛ فإن الفنان لا يسمو إلا بالارتقاء إلى محايثة الكمال في تأمله، وإحساسه الجمالي؛ وهذا هدف المبدع عامة، والشاعر تحديداً، أن يصبو بنا إلى الحالة الشعرية، أو أن يرتقي بنا عبر تأملاته الحسية إلى آفاق الشعرية، وعوالمها المبتكرة؛ وهذا ما صرح به ( برتليمي) في قوله:" فالشاعر يرمي من هدفه التأملي، الارتقاء بنا إلى الحالة الشعرية، عبر التحويل السحري للألفاظ، ذلك التحويل الذي ينقل به شيئاً من تجربته هو؛ لنذهب به من نفسه العميقة إلى نفوسنا"(71).
وبهذا تتوحد الذوات المتلقية بالذات المبدعة، وتنصهر في تجربة الشاعر ذاته، إلى تجربتنا الداخلية، وكأنه الناطق الشعوري بلسان حالنا الداخلي، بما كنا عاجزين عن الإدلاء به، أو التصريح به جمالياً، وهذا هو فعل الفن الحقيقي، بل هو فعل الإبداع الجوهري، وحصيلة عطائه المثمرة.
ومن يدقق في تجربة الشاعرة بشرى البستاني يدرك عمق تأملاتها الجمالية، والفكر الجمالي الذي تشتغل عليه، مما يدل على شعرية بالغة الاستثارة والتأثير؛ لاسيما في شطحاتها الصوفية، وصورها الملتهبة دلالة وعمقاً وإيحاء، وكأن في صورها الشعرية فيضاً من الرؤى والأحاسيس المصطرعة التي تشي بواقعها المأزوم، رغم تعلقها بالمطلق، ومحاربة السلب بالإيجاب، عبر شعرية اللغة، واللقطة الصوفية التي تعبر عن حرارة الموقف وعمق التأملات الجمالية المفتوحة، كما في قولها:
"حافية ومبلولة بالدمع
هذه الطفلة المربكة على بوابة المنفى
بقلائد تستحيل نداءً في أناملك
بجروح دجلة إذ تخبئ وجعي في ضماد الدخان
بجمرة حصاة في قلبي
وبلابل تهدم أعشاشها في دوالي الروح"(72).
لابد من الإشارة بداية إلى أن الفعل الشعري الجمالي هو وليد إحساس جمالي وتأمل جمالي خلاق، فلا تنتج الرؤيا الجمالية إلا من مبدع خلاق يملك الحساسية والرؤيا والجمال؛ وهاهنا، نلحظ قوة المحفز الجمالي الذي تملكه الشاعرة وعمق منظورها الرؤيوي الفاعل؛ فهي تبني الرؤيا، وتستثير الموقف الصوفي لمواجهة السلب، وخلق المتغير الجمالي الذي يرقى بالحساسية الجمالية إلى آفاق من التأمل والاستغراق الجمالي، كما في هذه الصور المفتوحة في رؤاها وعاطفتها وإحساسها الروحي، على شاكلة الصور التالية: [تخبئ وجعي في ضماد الدخان/ بجمرة حصاة في قلبي]؛ واللافت أن محفزات الحدث الجمالي تتمفصل في الصورة البليغة التي ترقى بالمشهد الصوفي، لخلق الجاذبية الجمالية في هذا النسق أو ذاك، وهذا دليل مهارة وقوة في تجسيد الحدث الجمالي والارتقاء به عبر صيرورة الصور الصوفية المكثفة للمشهد الشعري المتقد جاذبية ورقة صوفية مطعمة برومانسية ساحرة غاية في التفعيل والفاعلية والاحتقان الرؤيوي العميق: [بقلائد تستحيل نداءً في أناملك/ وبلابل تهدم أعشاشها في دوالي الروح]؛ وهذا يدلنا على أن شعرية الرؤيا في قصائد بشرى البستاني ترتكز على عمق التأملات التي تنتج الرؤى الفاعلة، والصور المبتكرة ذات الحساسية المتناهية في خلق الاستثارة والتأثير.
وقد تلجأ الشاعرة في تأملاتها إلى خلق نوع من التفاعل بين الرؤيا المجسدة، والحالة الشعرية، لتبئير الصور، وإنتااالج مؤثرها الجمالي الخلاق، كما في قولها:
"بين خطوتك وزندي
ثمة هديلٌ يتكسَّر
وبين ساعديك والهديلْ
أفقٌ من الصحارى
آهٍ، لو رأيتَ البحرَ... مرة"(73).
إن القارئ هنا، لايخفى عليه عمق التأملات الجمالية، وبداعة ما تجسده في نسقها من حراك استعاري ملتهب بالدلالات الصوفية التي تبرق بوصفها دوالاً متحركة، تبث عمق الإحساس، ودهشة الصورة في نسقها الجمالي، وهذا يعني أن ثمة مرتكزات جمالية تخلقها في صورها وتراكيبها الشعرية لإثارة اللذة والمتعة الجمالية في قصائدها:[ثمة هديلٌ يتكسَّر/ وبين ساعديك والهديلْ/ أفقٌ من الصحارى]؛ وهذا يعني أن فواعل الرؤيا الجمالية في قصائد بشرى البستاني تتمفصل على الحدث البليغ والمشهد الجمالي الخلاق، مما يدل على مرجعية جمالية في اختيار النسق المؤثر، الذي يصيب الرؤيا من الصميم، لاسيما في الأنساق المبتكرة التي تصف لواعج الذات، واحتراقها وتأملاتها المفتوحة.
وتأسيساً على ما تقدم يمكن القول: إن فواعل الرؤيا الجمالية تتطلب وعياً جمالياً وتأملات وجدية مفتوحة، جسدتها الشاعرة بعمق في قصائدها، لخلق اللذة والمتعة الجمالية في تشكيل القصيدة لديها، مما يدل على حنكة معرفية جسدت وعيها وإدراكها الجمالي بوصفها ناقدة وشاعرة، وهذا ما هيأ لقصائدها العمق والفاعلية وشدة الإيحاء؛ وهذا ما يحسب لقصائدها على الصعيد الإبداعي.
6. السر الجمالي:
لاشك في أن لكل تجربة إبداعية سحرها الجمالي، وسرها الإبداعي الذي تنطوي عليه، وهذا السر الجمالي هو الذي يبين مفتاح النصوص الإبداعية جمالياً؛ ولهذا لا يمكن كشف مصدر جمالية أي منتج فني بمعزل عن إدراك محتواه الجمالي، وسره الإبداعي الذي ينطوي عليه، والقيمة الجمالية العليا التي استحوذها حتى حقق نصيبه من الإبداع، والخلق، والتميز. ولا نبالغ في قولنا: إن لكل منتج إبداعي مؤثر سراً جمالياً ينطوي عليه، أو لنقل: سراً جمالياً يبقى متخفياً عنا، ونلهث وراءه بغية تحصيله والتقاطه، ولن نحصله أو ندركه إطلاقاً، لأن هذا السر إذا ما عرف أو كشف مات الفن ومات جوهره الوجودي الأصيل، فالفن هو هذا العلم المتخفي فينا الذي يسكننا ولا نعيه، ويرتئينا ولا نرتئيه، إنه صوتنا الأزلي المبحوح منذ لحظة وجودنا الأزلية في عالم الذر، وهذا السر هو صوت الفن الذي يقول عنه عالم الجمال ( سوريو) :" هذا هو السر الذي يوحي الفن بوجوده في أرفع الأعمال الفنية.. سر يدل على طريقة ما للوجود، بحيث لا يترك لنا فرصة للتساؤل عن سببه، أو علته"(74).وتأسيساً على هذا؛ فإن سر الفنون يكمن في طريقة إبداعها، وسر إبداعها يكمن في رؤيتها، وتحليقها جمالياً، وبهذا الشأن يقول( سوريو): " وبالقدر الذي ينتج به العمل الفني تصبح أدق دقائقه مقدسة ضرورية، وهذا هو السر الإبداعي الجمالي.. إذ من الممكن أن نبتر من الإنسان عضواً دون أن نقتله، لكن ليس من الممكن أن نبتر مقطعاً واحداً من بيت شعر جميل دون أن نهديه"(75).
وهذا هو السر في عملية الإبداع الفني، أن المبدع يقامر جمالياً بكل ما يمنح منتجه الفني تكاملاً جمالياً يصل حد الإعجاز، أو الإدهاش الجمالي؛ لهذا لا يمكن حذف لبنة واحدة من لبنات الإبداع الفني، لأن هذا البناء سيتهدم وينهار لا محالة، ويفقد خاصيته الفنية، وخصوبته الجمالية؛ فغنى الفنون في تكاملها وهندسة بنائها، والشعور الخفي الذي تولده فينا؛ لهذا نوافق القائل:" إن الفن يبعث فينا شعوراً بحالة من الوجود، تتعدى ما تتضمنه الطبيعة بسبب السمو الذي يشوبه .. لأنه بصفته عملاً فنياً يحتاج إلينا لكي يتم وجوده، أي يتم " حقيقته"(76).
وهذا يعني أن المنتج الفني لا يكتمل سره الجمالي إلا بنشاط المتلقي وموهبته في ترجمة ما في مخزون هذا المنتج من مثيرات تغنيه وتغذيه إيحاءً، وجاذبية، وإشعاعاً جمالياً على الدوام. يقول الناقد الجمالي (جيلمون):" إن العمل الجمالي لا يوجد جمالياً إذا لم يكن موضوع تجربة جمالية... فكما يكون من الحق القول بأن أجمل لوحة في العالم لا توجد إلا على حساب الذي يتأملها"(77). وبهذا يولي (جيليمون) المتلقي السر الجمالي في إضفاء اللذة الجمالية على المنتج الفني، شأنه في ذلك شأن عالم الجمال (سوريو) الذي يقول: "إن العمل الفني- رغم وجوده الرفيع- ليس بكائن قائم دائم فالعمل الفني لا يتم خلقه إلا لكي يخلق من جديد، ولا يبقى قائماً في ذاته إلا لكي يتجدد دائماً وأبداً بالنسبة للمادة البشرية "(78).
وبهذا المنظور الجمالي، والحس الفني يتجدد المنتج الإبداعي بفضل التظليلات الإيحائية التي يضفيها المتلقي على المنتج الإبداعي، رافعاً رؤيته الفنية، وبناء على هذا، تتأكد مقولة( شيللنج) الجمالية بالطابع الجمالي للفن؛ إذ يقول:" بعد أن يعطي الفن للأشياء الصفة التي تطبعها بالطابع الفردي، يقوم بخطوة أخرى فيعطيها الرشاقة التي تجعلها محببة بأن يجعلها تلوح كما لو كانت تحب، وفيما بعد هذه الدرجة الثانية لا تبقى إلا خطوة ثالثة تعدلها الثانية وتوضحها مقدماً، وهي أن تعطي للأشياء روحاً بفضلها لا تكتفي بأن تلوح كما لو كانت تحب، بل إنها تحب فعلاً، وهذه هي الدرجة التي لن يصل إليها الفن"(79). فالسر الجمالي إن لم يصلك إلى الخلق الجمالي فلا قيمة له؛ إن لم يقدك إلى الفن الجمالي، والخلق الإبداعي الجمالي الذي يحرك الأشياء، ويمنحها المتعة، بالتأكيد، فإنه لا قيمة له.
وما ينبغي التأكيد عليه: أن سر نجاح المقامرة الجمالية تكمن في السر الجمالي الذي يحتفظ به، أو السر الجمالي الذي يختزنه في منتوجه الفني، ولا ترقى المقامرة الجمالية إلى منظارها الفني المغامر إن لم نحرك المشاعر، وتلهب الأحاسيس، وتخلق صداماً بينها وبين القارئ في الرؤى والمفاهيم، والمحفزات، والإدراكات، لخلخلة توقعه، وجذبه بالمفهوم المضاد أو المفهوم المعكوس لحركة الأشياء، وهذا ما يجعل المنتوج الفني في حراك دائم، واستدعاء العواطف الجارفة المختلفة إزاءه، وأكثر ما تنعكس المقامرة الجمالية في الفن الشعري الممتع، والمكثف بمعطياته الفنية والجمالية؛ ودليلنا أن الشعر يقامر أحياناً باللغة الشائعة بضخ دماء جديدة إلى بنية القصيدة، وهذا ما ألمح إليه عالم الجمال (آلان): "أما الشاعر فهو يعبر في اللغة الشائعة عن عواطفنا الحارقة نفسها، حين ينظمها في نفس الوقت، وهكذا، تصبح عواطفنا الجارفة شيئاً، ومنظراً بفضل الشعر، حيث نقترب من فقدان الأمل والغضب والحب الذي يفقد الإنسان وعيه، ونميل إلى أعلى؛ ولكننا لا نسقط، وحيث إن آلامنا تظل على مسافة بعيدة، وكما لو كانت غريبة عنا فإننا لا نستبدلها بنوع من الجلالة، كما فعل (جوييتر) على قمة إبدا"(80).
وهذا يعني أن السر الإبداعي أو الجمالي هو سمة أي منتج إبداعي مؤثر، وأي مقامرة جمالية ناجحة، في الفنون كلها قاطبة، وتبعاً لهذا، ترى الناقد والشاعرة الفذة بشرى البستاني أن بناء القصيدة جمالياً ينبني على سر جمالي ينظم محاورها بكليتها وأجزائها؛ وهذا ما صرحت به قائلة:" القصيدة الجيدة هي قصيدة مثيرة لكليتها وليس بأجزائها، لأن الإيقاع يتطلب تركيب، ويولد دلالة، والدلالة تتطلب إيقاعاً معيناً، وكلاهما يتواشجان من أجل تأسيس المعنى، فما يمتاز به الشعر العربي، من العصر الجاهلي وحتى اليوم أنه شعر، يؤسس القيمة، ويرسخ فعل المعنى، وكذلك شأن كل أدب عالمي أصيل. فبدون هذا التأسيس يتحول الأدب إلى عبث لا طائل من ورائه ولا هدف، وهذه السمة هي التي وسمت الشعر العربي عبر العصور حتى وصلنا عارماً ومفعماً بالدهشة، نقرأه فتلاشى الأزمان، والأجيال والقرون، حتى كأنه قد كتب لنا من أجل التعبير عن مشاعرنا، ونتأمله فيلامس أرواحنا، ويملؤها نشوة سماوية وسحراً من عبير.
وما يلاحظ على إيقاع قصائدي أنها تشتغل بزمنية عارمة لا مجال فيها للاستسلام ولا المهادنة. وحتى حين تصاب من شدة الوهن فإنها ما تلبث أن تعاود عنفوانها من جديد، وإذا كانت محنة الإنسان في زمنيته الملاحقة بالموت والفقد والعدوان والغياب، فإن هذا الإيقاع المطعم بالحياة إيقاع يقاوم الاغتراب والفقد، والوحشة، ويحرض على التواصل، ودحض القطيعة من أجل إحداث الأثر الذي يؤشر الحضور ويصر على التحقق بالرغم من تمكن عوامل السلب والاغتراب والتغييب في حياتنا المعاصرة"(81). إن ما أدلت به الناقدة المبدعة بشرى البستاني، تضعنا على محطة الرؤية الجمالية في السر الإبداعي وراء كتابة قصائدها، ووراء الكتابة الإبداعية عموماً، والتأسيس الجمالي لها، فالقصيدة الجيدة هي التي تملك خصيصة التكامل الجمالي، ابتداءً من أدنى جزئياتها إلى أعلاها، وهذا يعني أن سر جمالها في منتوجها التكاملي الفني، وسحرها الإيقاعي، وتأسيساً على هذا، نخلص إلى حقيقة مؤداها؛ وهي أن الفن الإبداعي الجمالي المثير هو الذي يحقق مقامرته الإبداعية، بسر جمالي لا يتفتق بشكل كامل إلا بعد طول مران، ودربة في تلقيه الجمالي أو الفني الفاعل.
ووفق هذا التصور؛ فإن غنى النصوص الإبداعية لا يتم بفواعله الرؤيوية إلا عندما يتم الكشف عن سره الإبداعي، ومضمراته الفاعلة التي تؤسس مرجعيته الجمالية الخلاقة، وهذا يعني أن السر الجمالي الذي تنطوي عليه النصوص الشعرية يتعلق بالرؤيا الشعرية وفواعلها المؤثرة في النص الشعري. ومن يدقق في تجربة الشاعرة بشرى البستاني يلحظ غناها بالمثيرات الجمالية، وارتكاز نصوصها على بريقها وسرها الجمالي الفعال، ولهذا لايمكن أن تحقق القصيدة لديها فاعليتها بالمعنى الدقيق للكلمة إلا من خلال الكشف عن سرها الجمالي ومحورها الارتكازي الذي ارتكزت عليه في تحقيق جماليتها ومصدر إبداعها الخلاق.
وإن قارئ قصائد بشرى البستاني في ديوانها الموسوم بـ(البسي شالك الأخضر وتعالي) يدرك أن هذه القصائد تنطوي على سرها الإبداعي المميز؛ فهي ليست قصائد وصفية أو بوحية ذاتية كما قد يظهر للبعض، إنها تتنفس إبداعها من خلية رؤيتها الحية التي تشي بفواعلها الرؤيوية الكاشفة، ومنظارها العميق، لاسيما في بثها لمظاهر الحنين والشوق إلى الأيام الماضي التي تحلو فيها في ظل وطنها الجريح العراق، ليعود منتشياً كما كان في الزمن القديم؛ وهذا يعني أن هذه القصائد أشبه ما تكون بمواويل جريحة في حب العراق، والتصوف في حبه، بلغة صوفية تؤثث لما هو جمالي، وتخلق متغيرها الإبداعي الخلاق من صورها الملتهبة بالشوق والهيام والتصوف المطلق، كما في قولها:
" لا يتعبني ألا تأبه بأسئلتي
متمنّعا بغلائل العتمة
فذلك ما يُبقيك في فضاء تأويلي
ويفتح لي نوافذَ أجوبةٍ مشاكسة..
لا يتعبني أن تغيب طويلا
مادمنا نتهجى حروفَ غيابكَ معاً:
أنا وعصافيرُ حديقتي
ولوعاتُ قصائدي
وأعمدة سريري..
وكؤوسُ الخمرة المترعة بانتظاركْ.."(82).
لابد من الإشارة إلى أن السر الجمالي في تشكيل القصيدة عند بشرى البستاني يتأسس على بلاغة الرؤيا، ومؤثرها التركيبي الذي يستند على الأنساق التصويرية المبتكرة ودلالاتها العميقة التي تخفي درجة من التكثيف، والفاعلية، والإيحاء، وعمق التأثير. وهاهنا، بدت القصيدة ملتهبة بصورها الصوفية الفياضة التي تتقطر رقة ولذة وإثارة جمالية، كما في النسق التالي: [غلائل العتمة =فضاء تأويلي = نوافذ أجوبة مشاكسة= لوعات قصائدي= كؤوس الخمرة المترعة بانتظارك]؛ وهذا يدلنا على أن شعرية الأنساق تتبدى من خلال السر الجمالي الذي يربط هذه الانتهاكات أو الاختراقات اللغوية في نسق النص، وإيقاعه الدلالي؛ مما يدل على شعرية في التقاط الصور الوجدية التي تفيض بدلالاتها العذبة، ومعانيها الشائقة في الدلالة على اللوعة والوله والتصوف المطلق.
ولاتكتفي الشاعرة بتصوير الحالة تصويراً ينم على سرها الإبداعي الذي تشي به، وإنما تتغلغل في مسار الرؤيا، لتكشف محرضها الإبداعي الدفاق بالحساسية والرؤيا والجمال على شاكلة قولها:
"لا يحزنني أن تحاول إطفاء غيمي
لأني سأرث بك الجنان وما عليها
وسأضمُّ فوح طفولتك الشقية
رافلةً بضوء زندي..
لاهيةً ببلابل حزني..
أنا... تاج الخليقة يا سيدي"(83).
إن بلاغة الأنساق التصويرية وفاعليتها المثيرة في التقاط المشهد المؤثر جمالياً هو ما يحقق للقصيدة منتهى غايتها الإبداعية، وهنا بدت الأنساق متفاعلة في إظهار الحرفنة الجمالية عبر الاستعارات الفياضة بمشاعرها وأحاسيسها المتقدة، وكأن وقع الحالة واحتدامها قد فرضت نفسها على القارئ، ليعيش التجربة بكامل حرقتها، وولعها، وتوقها الوهاج، وإحساسها الفياض، على شاكلة الأنساق التصويرية الملتهبة بإيحاءاتها، ومشاعرها المحمومة، كما في الأنساق التالية: [إطفاء غيمي = طفولتك الشقية= ضوء زندي= بلابل حزني]؛ وهذا يؤكد فاعلية الأنساق في التعبير عن الحرفنة الجمالية، وما تحمله من إيقاعات ومؤثرات جمالية ترتكز إليها، لبث حالتها الوجدية وحرقتها الصوفية، وكأن شيئاً من الصبابة الروحية تدفعها إلى اختيار هذه الأنساق المتحركة برؤاها ومؤشراتها الوجدية الفعالة، لتشي بحنكتها، وسرها الإبداعي الفعال. وقد تتأسس الكثير من قصائد هذه المجموعة على سر جمالي يبدو من مطالعتنا الأولى لها، تدليلاً على ارتباطه مباشرة برؤيا القصيدة، ومؤشراتها الدلالية المحرضة للرؤيا، والباعثة لمصادرها الجمالية وقيمها الفنية داخل المسار النصي، كما في قولها:
لا.....
لا تُعدْ لي بوصلة اتزاني،
فقد خامرني فرحٌ طفوليٌّ مذ فقدتها معك
حين صار الشوق يلاعبُ خصلات انتظاري،
وصارت اللحظات تنفرط عن بلابلَ ملونةٍ،
ونُدفٍ من الثلج"(84).
إن القارئ هنا لا يخفى عليه وميضها الجمالي وسرها الإبداعي الذي يرتبط بالصبابة والوله الروحي، وكأن شيئاً ما في داخلنا يتحرك منذ قراءتنا لها، وهي الشعور باللذة التي تعترينا من خلال الصور التي تفيض بدلالاتها ومؤثراتها الجمالية؛ أي كأن حالة من النشوة واللذة والسرور تحرك مشاعرنا صوب هذه الأنساق التي تثيرالقارئ، وتمنحه القشعريرة الجمالية، نظراً إلى ماتضمره من سحر روحاني جذاب في اختيارها وتشكيلها، كما في الأنساق التالية: [بوصلة اتزاني= فرح طفولي= خصلات انتظاري = صارت اللحظات تنفرط عن بلابل ملونة]؛ وهذا يدلنا على شعريتها وفاعليتها الخلاقة في الاستثارة والتأثير، وبث الحالة الوجدية بكامل توقها وإحساسها المحموم.
وقد نلحظ في قصائدها هذه النبرة الجمالية التي تستقيها من إحساسها الروحي، وعمق الأثر الذي تركته الحالة الصوفية في نفسها حتى أثرت في تشكيل القصيدة، وتخليق رؤيتها البليغة، كما في قولها:
"لا تُعدْ لي بوصلة الأماكنْ
فهذا الضياع الأثيريُّ يُدخلني في النشوةْ
وإذ أضيعُ في الطريق إلى بيتي،
أشعرُ أنك معي،
تبحثُ لي عن الدرب في خرائط البلدانْ..
ضبّبْ الوعودَ والكلماتِ واللكماتِ والمنى
فألا نصل يعني الوصولَ ذاتَهْ،
ألا نصل يعني أننا منهمكون بالوجد،
وأنك ستأتي "(85).
إن الدهشة الجمالية في التقاط الحالة الوجدية، بكثافة شعورية، وإحساس جمالي يفتح بوابة الرؤيا على مصراعيها، وهي، هنا، تصور الحالة بتفاصيلها الوجودية، أي تبحث عن وجودها، وتسعى للوصول إلى ذروة الكمال، وقمة الحالة الوجدية التي ترومها في عالمها الوجودي المحترق حساسية ورؤيا، وهذا ما أشارت إليه بوضوح في قولها: [فألا نصل يعني الوصولَ ذاتَهْ/ ألا نصل يعني أننا منهمكون بالوجد، وأنك ستأتي]؛ وهذا يدلنا على أن شعرية الحالة تفرض نفسها على الشاعرة لإثارة القارئ، بمضمونها ومحتواها الجمالي، لذلك كثفت الرؤى والمداليل الفاعلة التي تحرك الشعرية، وتستثير قيمها الجمالية البليغة، وهذا ينم على شعرية بليغة وحساسية جمالية عالية المستوى تلتقط ما هو مثير، وتخلق منه رؤية فعالة في نسقها الشعري، وهذا ما يحسب لها على الصعيد الإبداعي.
7. الهدف الجمالي:
ما من شك في أن الهدف الجمالي من فواعل الرؤيا الجمالية الخلاقة التي ترتكز على الوعي الجمالي، ومثيرات الموقف والحدث الشعري، وبتقديرنا: يخطئ من يظن أن المنتج الفني الإبداعي المؤثر عشوائي الرؤيا، أو اعتباطي الشكل، أو المنظور؛ ويخطئ من يظن كذلك أن الهدف الجمالي يأتي متأخراً في العملية الإبداعية، أو سابقاً لها، وإنما يأتي وليداً معها، ينبعث لحظة الإبداع، والتشكيل الجمالي، وهذا ما لا يعيه الكثير من النقاد والمبدعين أنفسهم؛ فالإبداع وليد لحظة شعورية مكثفة، وهاجس داخلي سرعان ما يفور ليهدر كالبركان الدافق في حناياهم؛ لينفجر بالحمم الشعورية تارة، والينبوع الهادئ تارة أخرى؛ وتبعاً، لكل شكل، أو هيئة يتخذ الفن هدفه الجمالي، وقيمه الجمالية لحظة تشكل المنتج، وتحققه الإبداعي؛ولهذا أولى الشاعر علي جعفر العلاق الشكل أهمية خاصة في الفن الشعري قائلاً:" إن ما أريد الوصول إليه هو أن الشعر مهما تنوعت وسائله، واجتهد الشاعر في الارتقاء بتقنياته، لا بد من ماء يدب في أوصاله، فيشيع فيها حرارة الدم، وخضرة الشجر . بعبارة أخرى، لا بد لهذا الشعر من حياة فياضة بالانفعالات، والتأمل، واللهو، والحنين. وهنا، لا بد من الإشارة إلى موضوع آخر. هل من الممكن أن يحفل الشعر بهذه الخصائص كلها، ومع ذلك لا نجد فيه تجديداً في أساليب الأداء، لا نجد فيه بكلمة ثانية، ثراء في الصياغة، وبهاء لغوياً وإثارة في الأشكال؟! لا يمكن أن يكون الأمر كذلك، طالما أن اللغة معجونة بدم المعنى، وأن المعنى ينضح من لغة الشاعر، وبهذه الطريقة تبتعد القصيدة عن سطوة الافتعال والتجريد، وبهذا الشكل تقترب القصيدة من أبهة الغناء الصاعد من أقصى الينابيع، وهكذا، يتحول التراب دائماً إلى ذهب"(86).
وبهذا التصور؛ فإن الهدف الجمالي يأتي متدفقاً مع لحظة الإحساس، والشعور، وبداعة التشكيل الفني؛ وقد قرنه الناقد المبدع علي جعفر العلاق بالتأمل، والانفعال، والهاجس، والرغبة والحنين، للتحقق التام في نسيج فني متماسك، يفيض بدم المعنى، وحرقة الشعور؛ وما ينبغي التأكيد عليه أن الهدف الجمالي في كل عمل فني هو خلق لذة، أو إثارة في المتلقي، إثر تلقيه للمنتج الفني؛ أياً كان جنسه، أو نوعه، أو موضوعه، وهنا، تتعدد سبل الفن، تبعاً للتقنيات، والمؤثرات الجمالية التي يحددها المنتج الفني ذاته في هدفه الفني ورؤيته الإبداعية كما حددها المبدع لحظة البدء، أو لحظة التشكيل الفني للمنتج الإبداعي.
ولهذا يأتي تفنن المبدع بالمادة الأولية بين يديه، ليشكلها تبعاً لزفراته، ومشاعره التي تدفعه لا شعورياً إلى اختيار الشكل المناسب للدفقة الشعورية الصاعدة الملتهبة في حناياه؛ بمنحاها الجمالي وتركيزها الإيحائي المكثف، يقول الشاعر حميد سعيد:" ليس من كتابة إبداعية من دون لغة مبدعة، وليس من مبدع حقيقي إلا وكان له ما يميزه في لغته، إن معجم أية لغة من اللغات الحية هو معجم واحد، حتى في تطوره وما ينضاف إليه، ولكن معاجم المبدعين في اللغة الواحدة، والمرحلة الزمنية الواحدة ليست واحدة، فمعجم صلاح عبد الصبور مثلاً هو غير معجم خليل حاوي، ومعجم يوسف إدريس هو غير معجم عبد السلام العجيلي. وما يصح على المعجم واللغة يصح على البنى اللغوية والإيقاعية. "أما أنا، فلا أتمرد على اللغة، بل أحاول أن أفيد من ثمارها العظيمة، وما تختزن من طاقات للوصول إلى جغرافية القول وقدرته على استيعاب الوعي. إن اللغة تتشكل من خلال الوعي، وحين تتشكل بعيداً عنه، تتحول إلى نوع من اللعب الساذج، والاندياحات الفارغة، وهذا ما تعاني منه كتابات كثيرة شعرية وسردية، مما لم تعد تشكل وعياً، ولا تثير أسئلة، ولا تلقي قراءً، أو نقاداً"(87).
وبهذا التصور، فإن ثمة وعياً لدى المبدع في عملية تشكيل منتوجه الإبداعي؛ يقوده في ذلك الوقع الشعوري، الذي يتشكل بوعي جمالي، أو هدف جمالي يحول المنتج إلى طاقة إبداعية خلاقة، والشاعر- المتميز حسب (فاليري) هو الذي "يعي الهدف الجمالي من خطواته النصية"(88). وثمة نقاد جماليون فهموا الهدف الجمالي في المنتج الشعري هو اعتماد التجسيد كركيزة فنية في تقريب الأشياء، وتوحيد المدارك الحسية، بين الحواس، وذلك بالتراسل بين الحواس، يقول " ماكس جاكوب":"جسدوا. والتجسيد –هنا- معناه أن تضع صوتك في البطن، والفكرة في البطن، وأن تتحدث عن الجميل السامي بالصوت الصادر من البطن"(89).
وفهم بعضهم أن الهدف الجمالي من المنتج الشعري (القصيدة الشعرية) هو التوحيد بين الحسي والمعنوي" و" الروحي/ والجسدي" إذ يقول (كوديل): "إن جمال القصيدة يأتي بنسبة كبيرة من أن وزنها يتفق وأوزاننا الحيوية، أي أنه يتفق والشهيق والزفير وضربات القلب، ووقع الأقدام عند السير، والمعجزة الشعرية- من وجهة النظر هذه هي الاتحاد بين الروح والجسد، أي بين الفيزيولوجيا والتصوف"(90). وبهذا الوعي والإدراك التقني تحقق المقامرة الجمالية لدى المبدع قيمتها، حين تأتي في المنتج الجمالي ذات هدف فني دقيق تستثير القارئ، وتجذبه إلى دائرة إبداعه، ومكمن خصوبته الجمالية، لأن المنتج الفني الإبداعي المثير لا بد وأن ينطوي على هدف جمالي محدد، ورؤيا فاحصة في ماهية الكون والحياة، تدفعه إلى الوعي بالهدف المنشود، وطريقة التعبير عنه بشكل جمالي . وتبعاً لهذا، تتحدد قيمة المقامرة الجمالية بقيمة المنتج الجمالي؛ ومدى حيازته على كم وفير من المعايير والقيم الجمالية التي ترفع سوية المنتج الفني، وترتقي به فنياً.
ومن يدقق- في قصائد بشرى البستاني- يدرك أن الهدف الجمالي يعد محور ارتكازها الجمالي، ومركز ثقلها الفني، فهي تحتفي بالدلالات والرؤى الصوفية، والمثيرات الجمالية الأخرى، والتقنيات الجمالية التي تصب في خانة الرؤيا وفوعلها المؤثرة التي ترتبط مباشرة بالموقف والحالة الشعرية ولحظتها المحركة للقصيدة، رؤية ودلالة، ووفق هذا التصور، فإن ما يثير القشعريرة الجمالية في قصائدها الرؤيا الجمالية والهدف الجمالي الذي ترومه من هذا الشكل الفني، أو ذاك، وتبعاً لهذا تختلف مظاهر الخصوبة والإبداع في قصائدها باختلاف الشكل النصي لكل قصيدة، ومحفزات الرؤيا ومثيراتها ضمن الإطار النصي، وهذا يعني أن الهدف الجمالي هو نقطة بناء القصيدة ولب مسعاها الإبداعي، لاسيما عندما يتم التركيز على محور ثقل القصيدة، وهو إبراز عنصر الجمال في هذا الشكل الإبداعي، أو ذاك ؛وللتدليل على ذلك نأخذ قول الشاعرة:
"في هاتفك الصباحيِّ ينقشع الغمام عن بيتي
وتشرقُ في الجدران موجة.
في هاتفك الصباحيِّ تنهض اللحظة سربَ مُنى
وتقول، أمسكي أجنحتي
فما سواي باطل
تتبسم الأرائك حولي، ويعلو النغم"(91).
لابد من الإشارة- بداية – إلى أن محور الرؤيا الجمالية الهدف الجمالي الذي يرومه الشاعر من جراء اختيار شكل أسلوبي دون آخر، والهدف الجمالي هو- غالباً- مايصب في جوهر الرؤيا ومسارها التعبيري، وهاهنا اعتمدت الشاعرة بشرى البستاني الشكل الجمالي هدفاً في تكثيف الرؤيا الصوفية، وتعضيد شعرية الصور، وفاعليتها ضمن النسق، مما يدل على حرفنة في اختيار النسق الجمالي البليغ لإصابة الرؤيا في الصميم، وهذا ما أثارته الشاعرة في الأنساق التالية:[ تشرق في الجدران موجة= في هاتفك الصباحي تنهض اللحظة سرب منى= تبتسم الأرائك حولي = يعلو النغم]، أي أن شعرية الرؤيا جاءت نتيجة الهدف الجمالي الذي أثارته الشاعرة من جراء اختيار هذه الصور، لإبراز ملمحها الجمالي، ونبضها الصوفي، وحراكها الفاعل للتعبير عن توق الحالة الصوفية، واكتنازها بالرؤى والدلالات المفتوحة، مما يدل على شعرية بالغة الاستثارة والتأثير، تصب جلها في مسار الرؤيا الصوفية، لاسيما باعتماد التشخيص لتحريك الدلالات، وتبيان اعتمارها في نسق الصور، دلالة على ما يجول في نفس الشاعرة من دلالات وأحاسيس محمومة لم تجد إلا الصور الملتهبة صوفياً في التعبير عنها، على شاكلة قولها:
في صوتك أترقب انثيال الغيث
وأسمع همس غصون تلفُّ عمري
في صوتك أبصر شجر الأرجوان قادما نحوي
فترفعني متاهة الجمال وأضيع.
في صوتك ينفتح بابٌ سريٌّ أخاف اقتحامه
لكنك علمتني أن الحقيقة ليست هديةَ سماء
بل سراً نسعى لاصطياده
كلما وجدناه، انفلت وغاب بعيدا"(92).
بادئ ذي بدء، نقول: إن الهدف الجمالي قد لا يظهر للقارئ – بدقة- لاسيما عندما يغرق الشاعر في رؤيته، ويلفها بالغموض، أو التشظي الدلالي، مما يفقد الدلالات انسجامها والرؤيا الشعرية بلاغتها، ولذة تلقيها الجمالي الفاعل، أما الشاعرة فقد استطاعت أن ترفع سوية الأنساق جمالياً من خلال الوعي الجمالي في التشكيل، وإدراك الهدف الجمالي من جراء اختيار هذا النسق التصويري، أو ذاك، مما يدل على بلاغة في اصطياد المعاني المؤثرة، والأنساق المحمومة بدلالاتها عن الحالة الصوفية بكامل توترها واحتراقها وتنوع دلالاتها ضمن النسق الشعري، كما في الأنساق التالية: [في صوتك أترقب انثيال الغيث = في صوتك أبصر شجر الأرجوان قادماً نحوي = في صوتك ينفتح بابٌ سري]، فالشاعرة تدرك أن الهدف الجمالي المركب هو الذي يرتقي بالرؤيا الشعرية محققاً بلاغتها ومكمن إثارتها الجمالية.
واللافت أن الشاعرة تختار النسق المؤثر بلاغياً وجمالياً في إيصال الرؤيا ليكون الهدف الجمالي نقطة تمفصل الرؤيا الشعرية ومحرقها في بث مشاعرها الصاخبة بإحساس ووعي جمالي عالي الإثارة والتركيز، كما في قولها:
"قلت لك هذه اللحظات حريرٌ له بريق
فروٌأبيض فلنمسك برياشه
قلتُ لك ... هذه اللحظات ممهورة بالحرية،
بلا اسم ولا عنوان،
بحنوٍّ تفتح عُبابها..
بلا ابوابٍ ولا نوافذ
فلندحرج أمنياتنا عبر أقواس غوايتها
ولنمنحها مواعيد أعمارنا...لندخلَ آمنين"(93).
لاشك في أن الشعرية في لعبتها المعاصرة تضع الجمال أو الهدف الجمالي في أوج اهتماماتها، فلا قيمة لأي نسق لغوي لايؤدي وظيفة جمالية أو قيمة فنية في هذا النسق اللغوي أو ذاك، وهذا ما أدركته الشاعرة في هدفها الجمالي، لتنويع الدلالات، وإنتاجها ببلاغة وقوة تأثيرية عالية ترومها في اختيارها لشكل أسلوبي دون آخر، وهاهنا، لجأت الشاعرة إلى تكثيف الدلالات عبر الأنساق المراوغة التي ترمي من خلالها إبراز متغيرها الجمالي، والتعبير عن الحالة الصوفية بكامل احتراقها وإحساسها لمفعم حساسية ورقة ودلالة، على شاكلة قولها: ["قلت لك هذه اللحظات حريرٌ له بريق فروٌ أبيض فلنمسك برياشه/ قلتُ لك ... هذه اللحظات ممهورة بالحرية]؛ فالشاعرة تبحث عن ملاذها الروحي، عن عالمها الروحي الذي تنفي فيه جميع مظاهر السلب والقهر والاستلاب، فلم تجد إلا بوابة المطلق، للخروج من ضيق الواقع المأزوم المؤلم الذي تعيشه في عالمها المريع، وهذا البحث جعلها تغرق في توصيف الحالة بأبعادها الشعورية عبر النسق الجمالي الفاعل الذي أثارته في هذا الشكل أو ذاك، وهذا يعني أن بلاغة الرؤيا الصوفية، منتوج هدفها الجمالي الذي ترومه في اختيارها لنسق دون آخر بحرفنة جمالية عالية الإيحاء والفاعلية والتركيز.
8. القيمة أو المعيار الجمالي:
لاشك في أن القيمة أو المعيار الجمالي هي من المؤشرات الدالة على فاعلية الرؤيا الجمالية، هذه الرؤيا التي تتنوع بتنوع المعطيات الجمالية التي تنطوي عليها الفنون الجمالية، لاسيما فن الشعر، هذا الفن اللامتناهي بتقنياته ومؤثراته الجمالية التي تزداد إثارتها باختلاف النتاجات وتنوع الرؤى، والأساليب التشكيلية، ووفق هذا التصور، فإن يؤكد أهمية الرؤيا المعيار الجمالي الذي وصلت إليه والقيمة الجمالية التي استحوذت عليها، والمسار الرؤيوي والجمالي الذي استحوذته، وهذا يدلنا على أن المرجعية الجمالية هي التي ترتكز عليها التجربة الإبداعية في إيصال مقصودها ومؤثرها الجمالي. ولا نبالغ في قولنا: إن معيار نجاح أي عمل فني جمالي يقاس بمدى الجودة، أو الثمرة الإبداعية التي وصل إليها، ومن هذا المنطلق، تتحدد القيمة الجمالية، تبعاً لمستوى تحفيز هذه القيمة للمتلقي، ومدى استقطابها إليه، وتنميتها لخبراته، وقيمه، ومعارفه الجمالية. ولهذا، فإن الرائز الجمالي في الحكم على قيمة المنتج الفني يتمثل في القيمة التي حققتها المقامرة الجمالية، في المنتج الفني، وتتحدد بالمستوى الجمالي العام الذي وصلت إليه، ومدى الآفاق والقيم الجمالية المبتكرة التي تولدت في المنتج الإبداعي؛ وشكلت قيمته الفنية العليا، يقول جان برتليمي فيما أسماه بالرؤية الفنانة، أو المخيلة الفنانة:" المخيلة الفنانة لا توجد في الشوارع، بل هي في حاجة إلى روح جمالية، وعين مدربة. وكم من المرات يعتقد الإنسان أنه يحب الفن، وهو في الحقيقة يبحث عن شيء آخر غيره. إن أولئك الذين يفعلون هذا عميان بالنسبة لفن التصوير"(94). فالفن الإبداعي الحقيقي هو فن جمالي بامتياز، أما كيفية روزه جمالياً، فتقاس بدرجة العنصر، أو القيمة الجديدة المتولدة فيه، ومقدار فاعلية اللمسات الجمالية التي أضفت على المنتج الفني مصدر جاذبيته، ولقطته الجمالية المشعة؛ وهذا ما جعل (بودلير) يتحدث في المنتج الفني عن" اللمسة الروحية الشفافة أو البراقة التي يضفيها الفنان في موضعها المناسب؛ فلها وحدها القيمة الفخمة في تحفيز الفن"(95). وإن هذه اللمسة الفنية، أو الجمالية أحياناً هي التي ترفع من سوية القيمة الجمالية للمنتج، وترفع –من ثم – مستوى فاعلية مقامرته الجمالية بهذه النوسة الفنية، أو اللمسة الجديدة الفنانة التي ترفع سويته، وتزيده إتقاناً، واستثارة، وشاعرية؛ فالشاعر –أحياناً- يعمد إلى لعبة الأضداد، لاستثارة اللمسة الفنية الجذابة في القصيدة؛ لتفتيق الحراك الجدلي الشعوري في قرارة الذات الشاعرة، وعكسه على متنفسها الإبداعي عبر الجدل الذي تولده القصيدة، وبهذا المقترب يقول الشاعر حميد سعيد:" إن التنافر والتضاد وسيلة للوصول إلى عمق صورة الواقع، التي يشارك الإبداع في اكتشافها، ويشارك في رسم النقيض لها في آن. إن العزف على إيقاع التضاد يمنح النص طاقة جمالية على صعيد البنية الشعرية بكل مفرداتها، بل في كل مكوناتها"(96). وهذا الرأي لدليل أن للشاعر لمساته الفنية التي تقوم على عملية جذب، واستثارة للمتلقي بالقيمة الجمالية التي يرغبها، لتفجر مخزونه الانفعالي، ونبضه الجمالي؛ وسبق أن قلنا إن من واجب كل فن إبداعي أن يمتلك منزلقاته الفنية، أو لمساته الفنية التي تفاجئ القارئ، وتستثيره لتحثث هذه اللمسات؛ التي بها يتميز مبدع عن آخر؛ وفنان عن فنان آخر، وإني أؤكد مقولتي الآن: إن الشعور الجمالي فن لا يقل فناً عن فن صناعة المنتج ذاته، ما دام لديك القدرة على ترجمة هذا المخزون الجمالي، وإدراك أبعاده، ومسبباته، ومجموعة المؤثرات، والقيم الجمالية التي فجرته حتى آل إلى ما آل إليه من المهارة، والفاعلية، والإتقان. فالإحساس الجمالي والوعي الجمالي كلها قيم فنية لا غنى عنها في تحثث قيمة المنتج الفني، وكشف خباياه، وقيمه الجوهرية، والجمالية (الظاهرة/ والخفية) التي شكلت قيمته، ورفعت مستواه، ولهذا يرى الشاعر السوري نذير العظمة وهو من رواد الحداثة الشعرية، أن " القصيدة ليست وشماً في الهواء، إنها وشم ينبع من الداخل، ويأخذ شكله من دم القلب واختلاجات النفس الشاعرة التي تشرش في اللغة، وتأخذ مصدر جمالها من الخبرة الجمالية والوعي الجمالي، ولهذا فالشعر الغامض لايؤدي مصدر جماليته إذا كان طلسماً لا ينفذ، أما إذا كان شعراً فإنه يبحر كالسفينة في وجدان القارئ، والمفتعلون الإبهام الشعري، ليأسروا القارئ كصفة أحادية هم أشبه بكهان الجاهلية الذين كانوا يفتعلون الصور الغريبة والسجعات اللامعنى لها، ليأسروا الجمهور، لكن نتاجهم سقط أمام عبقرية الشعراء الأصليين. وهناك القصيدة الواضحة الغموض كما أن هناك القصيدة الغامضة الغموض لكنها قبل كل شيء قصيدة؛ حين يخسر الشعر هوية القصيدة؛ لا يعوضه عنها إبهام، ويرده غموض"(97).
ولهذا، فإن ما يبحث عنه المبدع في جوهر منتوجه الفني هو روح الجمال وجوهره البراق، ولا يمكن أن ننكر أن جميع الفنون على الإطلاق تتضمن قيماً جمالياً ومعايير جمالية إبداعية خاصة بها، لكن كل بالقدر الذي يضمن له أسه الفني، وقدراته الإبداعية الخاصة على التأصيل كمنتج إبداعي أو فني يملك خاصيته الفنية؛ وهنا يأتي السؤال المهم أو البارز : ما هو الرائز الجمالي في تمايز منتج فني عن آخر في فن من الفنون؟ وهل كثرة القيم الجمالية دليل تفاضل لاستعلاء الفن عن فن آخر؟!
أقول بدقة: إن المنتج الإبداعي يخلد لا بكثرة قيمه الجمالية، وإنما باستعلاء هذه القيم، وبكارتها وجدتها، عن غيرها من القيم الأخرى. ولا أجافي الحقيقة كثيراً إذا قلت: إن الكثير من القيم الجمالية تفقد جماليتها بتكرارها، وتقادمها بين النصوص، وبمقدار استفزازي إزاء فن من الفنون، باستعلاء قيمه الجمالية يستفزني النص إلى تتبع قيمه الجمالية، ومن ثم يغريني إلى محاكاته وتمثله إبداعياً، وهذا يعني بمقدار الدهشة التي يولدها في نفسي هذا الفن، أو ذاك، أتلقى المنتج الفني، وأتفاعل معه بحرص واهتمام، وهذا هو الرائز الجمالي في الحكم على قيمة أي منتج فني من الفنون، وقد وضع أدونيس معياره الفني أو مقياسه الجمالي كناقد الأدبي للكشف عن قيمة المبدع وقيمة إنتاجه، إذ يقول:" ينبغي على القارئ/ الناقد، إذن، أن يواجه في تقييم شاعرنا: ثلاث مستويات : مستوى النظرة، أو الرؤيا، مستوى بنية التعبير، مستوى اللغة الشعرية"(98). وعلى الرغم من أهمية إحساسه الإبداعي الرائز، لكن لا يمكن الاعتداد به كمعيار جمالي، للحكم على منتج الفنون جميعها فلكل فن رائزه الخاص، ومقياسه الجمالي؛ لأن الجمال ليس شكلاً، وإنما هو دفق من الإحساس والاحتراق الشعوري، والقلق الوجودي، وبمقدار كثافة المثير العاطفي تختلف القيم والمؤثرات الجمالية في التشكيل والخلق الإبداعي؛ وبهذا المقترب يقول الشاعر عبد الكريم الناعم:" الإبداع يمتاح مفرداته من محيطه، فيأخذ ما يتناسب معه، فيصقله، أو يختاره مصقولاً، أو قد يبقيه كما هو، لمناسبة نظرته. الإبداع يمتاح من تلك الفضاءات، ويعيد للواقع بعض ما أخذه شعراً، تتلقفه الآذان، أو العيون مصوغاً بفرادة طبيعته الخاصة، فهو بحكم روحانيته، ليس مغلقاً، ولا أنانياً، بل تكمن بهجته في ذلك التواصل الحميم بين أقمار الشعر، ونجوم التلقي الذي يثير الكثير من رقص غبار الطلع"(99).
وبهذا التصور الجمالي، تزداد القيمة الجمالية للمنتج الفني بما يثيره من حساسية في تلقيه، خاصة حين تلفحه روح المبدع الحساسة التي ترتقي بالواقعي إلى مستوى الخيالي، وتجسده بقالب جمالي محسوس، يستثير اللذة والبهجة والتواصل الحميم بين نبض الشاعر الداخلي، والشكل الجمالي الخاص الذي يتخذه المنتج في شكله النهائي أو تحققه الفني النهائي. وبتقديرنا: إن القيمة أو المعيار الجمالي- في قصائد بشرى البستاني- تظهر بجلاء في قصائدها الوجدية التي تظهر فواعل الرؤيا الشعرية بمؤثراتها، ومصادرها الجمالية كافة؛ مايدل على حرفنة بالغة الاستثارة والتحفيز الجمالي؛ لاسيما على مستوى الأنساق اللغوية المبتكرة، والصور المركبة المتداخلة، والتناصات المتفاعلة في نسيج قصائدها مع البنى اللغوية والدلالية، وكأنها جزءاً لا يتجزأ من صيرورتها الدلالية المكثفة؛ وهذا يعني أن مؤثراتها الدلالية حافلة بالرؤى، والمثيرات الجمالية، وهذا ما يضمن تفعيلها للأحداث الشعرية على اختلاف تمظهراتها النصية، ومستوى تعبيرها اللغوي، وحساسية الرؤيا الجمالية التي تظهر في هذا النسق اللغوي أو ذاك، مما يدل على بلاغة في المستوى الرؤيوي والجمالي لهذه القصائد. وأبرز ما ندلل على فاعلية الصورة كقيمة أو كمعيار جمالي قولها في هذا المقتطف الشعري التالي:
"لخيوط الضوء في عينيك كنت ارفع منديلي
وللأغاني الحزينة الملتفة بعباءة المحن..
للسرابات الغائمة في الصحارى المقفلة
وفي مقارعة موج الخطايا.
إذ كنا نتعلمُ.. أن الأمل في مغادرة هذه المكيدةْ.
وألا خلاصَ في مصالحة هذه اللغة الضيقة"(100).
لابد من الإشارة إلى أن القيمة الجمالية تتأتى في قصائد بشرى البستاني من فواعل الرؤيا المحفزة للقارئ، والمحركة للنسق الشعري؛ وهي مكثفة بالقيمة الجمالية التي ترفع وتيرة النسق الشعري، فالشاعرة تبدو في أوج إحساسها الجمالي عندما ترسم الحدث الجمالي، وتستثير الحساسية الجمالية في رفض الواقع، وتأسيس واقع جديد، وما إحساسها الوجدي إلا دليل رفض لهذا الواقع، ونفياً له؛ وما قصائدها المشتعلة هيماناً، ووجداً إلا دليل ثورة، ومحاولة تطهير هذا الواقع، بعاطفة الوجد، والوله الصوفي، والتمسك بالمطلق، ومن خلال هذه الشاعر تبرز الصور كمعادل وجودي لإحساسها الصوفي الملتهب على شاكلة الصور التالية: [لخيوط الضوء في عينيك كنت ارفع منديلي/ وللأغاني الحزينة الملتفة بعباءة المحن..]؛ وهذا يدلنا على أن الرؤيا الشعرية تزداد إثارتها بإدراك القيمة أو الجوهر الجمالي والرؤيوي الذي ترتكز عليه؛ مما يحقق لها التميز والتبئير الجمالي، على شاكلة قولها في هذا المقتطف الشعري:
"ارسمْ باللون الأصفر لأنه يطهرني من العتمة ْ،
وبالأخضر كي أتطهر من الموتْ،
وارسم بالرصاصي كذلك،
لأنه يؤمن بالمساواةْ"(101).
لابد من الإشارة إلى أن لكل قصيدة أو مقطع شعري معياره الجمالي الذي يستند إليه، وهذا المعيار الجمالي هو الذي يحفز القصيدة، ويرفع وتيرتها الجمالية؛ إذ إن الشاعرة ترتقي بالحدث والمشهد الشعري الذي يحقق الفاعلية والدهشة الجمالية؛ فالشعرية تظهر في النسق الجمالي الموارب الذي اعتمدته الشاعرة عبر تكثيف الرؤيا؛ وتحميلها من الرؤى والدلالات، ما لا تحتمل، فهي تحاول مواجهة السلب بالإيجاب، ومحاربة الموت بالحياة، لإبراز وجه الحياة، ووجه الإشراق في الوجود، كما في النسق التالي: [ارسمْ باللون الأصفر لأنه يطهرني من العتمة/ وبالأخضر كي أتطهر من الموتْ]؛ وهذا يدلنا على أن الشعرية الخلاقة التي ترتكز عليها بشرى البستاني هي اعتماد الوجه الموارب أو الوجه النقيض، في تعميق الرؤيا سواء بالإيجاب، أو السلب، وهذا ما يجعل من منتوج الرؤيا الجمالية ذات إشراق ووعي وخصوبة جمالية خلاقة في جل سياقات قصائدها إلا ماندر؛ بمعنى أن الركيزة الإبداعية التي تستند عليها ركيزة فنية، والمعيار الجمالي لديها معيار فني في تكثيف الرؤيا، وإبراز منتوجها الخلاق.
وما ينبغي الإشارة إليه أن شعرية الموقف، أو الحالة التي ترتكز عليها الشاعرة تتبدى في إثارتها الموقف العاطفي، وتعضيد الرؤيا بنقيضها ومؤثرها البليغ، وهذا ما يحسب لإيقاعها الجمالي، على شاكلة قولها:
"نعم.. هكذا.
دع خطوط اللوحة تراوغ عليْ...
ارسم شظايا الصواريخ في الليل براعم ْ،
وحوّل الطلقاتِ إلى عناقيد فرحْ...
احصد شجر الغواية ْ
وارسم في زوايا الليل أسرة آمنة ْ"(102).
لا بد من التأكيد على ملحوظة دقيقة في قصائد بشرى البستاني هي أن شعرية الرؤيا- في قصائدها – تعتمد الاحتدام والاصطراع بين جانبين متناقضين، أو بين جانبين مصطرعين، جانب يمثله الواقع بكل ظروفه المؤلمة من اغتراب وتشريد، وفقر، واحتلال، وجانب إيجابي يمثله وجه الحب، ومواجده في إثارة الصور المشرقة التي تفيض بدلالات جديدة، كالدلالة على الإشراق، والحياة، لإبراز الإصرار وعمق المواجهة التي تملكها بشرى البستاني، مما يدل على شعرية خلاقة في إثارة المتخيلات الجمالية التي تعزز الموقف أو الحالة الصوفية بالمعنى المضاد أو الدلالة النقيضة، كما في قولها: [ارسم شظايا الصواريخ في الليل براعم ْ، وحوّل الطلقاتِ إلى عناقيد فرحْ]؛ وهذا يدلنا على أن شعرية الموقف أو الحالة في قصائدها تعتمد الجدل والاختلاف بالرؤى والمواقف النقيضة التي تباغت القارئ، وترفع الوتيرة الجمالية، في سياقات قصائدها لترقى أعلى مستويات الاستثارة والتحفيز.
وتأسيساً على ما تقدم يمكن القول: إن فواعل الرؤيا الجمالية – في قصائد بشرى البستاني- ترتكز على الجوهر أكثر من السطح، وتصل إلى باطن الأشياء أكثر من ظواهرها، مما يعني أن شعريتها شعرية العمق، بكل ما تتضمنه من رؤى، ودلالات، ومؤثرات خلاقة في القصيدة، فالبنية اللغوية التي ترتكز عليها هذه القصائد بنية استعارية تفيض بالمؤثرات الجمالية وفواعلها النشطة؛ لاسيما في الاستعارات، والصور الصوفية المتنوعة التي تحتفي بأنساق جمالية في هذا الشكل الأسلوبي، أو ذاك، مما يدل على رؤيا جمالية خلاقة في الأساليب الشعرية المعتمدة في قصائدها كافة، ولهذا، تبقى قصائدها مغرية في استثارتها للقارئ، نظراً إلى ما تتضمنه من رؤى، ودلالات غير معهودة في مثل هذا المنحى الأسلوبي (الصوفي) الذي يعتمد دينامية (المحو)؛ [ محو السلب لإحلال الجمال]، أو تحويل القبح إلى جمال، لتبني وجودها الممانع، ضد وحشية الواقع، وسطوة آلاته المدمرة في العراق وما حوله .وهذا يعني أن لهذه القصائد رسالة تريد بثها للقارئ، وهي نفي السلب والموت والحداد لإعلان الفرح والحياة من جديد، وهذا ما يحسب لتجربة الشاعرة بشرى البستاني في مثل هذه القصائد.
9. نتائج أخيرة:
1. إن فواعل الرؤيا الجمالية – في قصائد بشرى البستاني- تتمحرق على الصور الصوفية الملتهبة، التي تتأسس على المعنى المضاعف، أو الدلالات المزدوجة التي تزعزع الرؤية القارة لدى القارئ، وتكشف عن مراوغتها، وصعوبة التقاطها، لاسيما في السياقات الصوفية المحمومة بالدلالات والإيحاءات المتتابعة.
2. إن من أبرز فواعل الرؤيا الجمالية – في قصائد بشرى البستاني- الرشاقة الجمالية وإثارة الصدمات التشكيلية المراوغة التي تخفي دلالات كثيرة لا حصر لها، وهذا ما يمنحها التكثيف والفاعلية، والإيحاء.
3. إن الدهشة الجمالية التي تثيرها قصائدها تخلق متغيرها الجمالي من خلال تنوع الأنساق، والرشاقة في الانتقال من هذا النسق الجمالي إلى آخر، وهذا ما يشير إلى أن منتوج رؤيتها يعتمد الحراك، والكثافة في الصور الصوفية، ورموزها الكثيفة التي تتعدد وتتنوع بكثافة عالية في نصوصها الشعرية كلها دون استثناء.
4. إن فواعل الرؤيا الشعرية- في قصائد بشرى البستاني – تعتمد الحدث الشعري المكثف، وموحيات المشهد الصوفي المتنوع في حساسيته ورموزه، ورؤاه المختلفة، وهذا ما يجعل المشهد مؤثراً في إصابة المعنى، وتكثيف الدلالات البالغة الإيحاء، والشاعرية والتأثير.
5. تعتمد الشاعرة بشرى البستاني في تبئير الرؤيا الشعرية التركيب المزجي في النسق التصويري الواحد، للدلالة على الرؤيا الصوفية المركبة في قصائدها؛ وهذا يعني ولع الشاعرة في إنتاج الدلالات المضاعفة الجديدة، والمعنى المبطن.
6. تمتاز قصائد بشرى البستاني بالحدث العميق والرؤيا المكثفة للمشاهد والرؤى المتحركة أو المنزلقة في نسقها مما يدل على حرفنة جمالية بهذا الشكل أو ذاك، دلالة على الاستثارة والتركيب.
7. إن لقصائد بشرى البستاني قيمها المؤثرة في تحريك حساسية القارئ، من خلال دهشة الصور والاستعارات والفيوضات الوجدية التي تبثها في الأنساق بين الفينة والأخرى، مما يجعلها غاية في الرقة والحساسية والجمال.
8. إن من ركائز الرؤيا الشعرية – في قصائد بشرى البستاني- اعتمادها المواجهة، كشكل لغوي إبداعي يصب في مجرى الرؤيا، عبر محاربة السلب كوجه لنفي كل مظاهر السلب، في هذا العالم الوجودي المأزوم الذي يقود إلى هاوية الضياع، واليأس، والتشاؤم التي تنفر منه الشاعرة، وتؤثث لما هو جمالي دوماً، سواء على مستوى الشكل اللغوي، أم على مستوى الرؤيا، مما يدل على صخب، واصطراع داخلي على مستوى الرؤى، والدلالات، ومحفزاتها ضمن الصورة الواحدة، والنسق الشعري الواحد، دلالة على فاعلية جمالية في الصورة، ضمن طرفيها، فكيف ضمن أطرافها المتداخلة إذا كانت الصور مركبة من عدة صور، كما لاحظنا ذلك في سياقاتها الصوفية المحمومة بالرؤى الدلالات المتناقضة التي كنت خلا مواجهتها السلب بالإيجاب.
وبعد، فإن المثيرات الجمالية التي تؤسسها قصائد بشرى البستاني ترتكز على الصور اللاهبة بدلالاتها، وكثافتها، وحركتها الجمالية، مما يدل على شعرية بالغة التنوع، والمواربة، والاختلاف في رؤاها ومؤثراتها الجمالية، وهذا ما يحسب لها على الصعيد الإبداعي.
الحواشي:
(1) برتليمي، جان، 1970-بحث في علم الجمال، ص471.
(2) المرجع نفسه، ص473.
(3) المرجع نفسه، ص473-474.
(4) شرتح، عصام، 2012- ملفات حوارية في الحداثة الشعرية( حداثة السؤال أم سؤال الحداثة) ؟!، ص 437.
(5) برتليمي، جان، 1970- بحث في علم الجمال، ص 528.
(6) المرجع نفسه، ص531.
(7) المرجع نفسه، ص531.
(8) البستاني، بشرى، كتاب الوجد، ص15.
(9) المصدر نفسه، ص33.
(10) المصدر نفسه، ص73.
(11) المصدر نفسه، ص26.
(12) المصدر نفسه، ص17.
(13) المصدر نفسه، ص23.
(14) المصدر نفسه، ص12.
(15) المصدر نفسه، ص34.
(16) المصدر نفسه، ص36.
(17) المصدر نفسه، ص44.
(18) المصدر نفسه، ص47.
(19)المصدر نفسه، ص57.
(20) برتليمي، جان، 1970- بحث في علم الجمال، ص 240.
(21) المرجع نفسه، ص 584-585.
(22) المرجع نفسه، ص 385.
(23) المرجع نفسه، ص 385.
(24) المرجع نفسه، ص 384.
(25) المرجع نفسه، ص 387.
(26)البستاني، بشرى، 2014- البسي شالك الأخضر وتعالي، دار فضاءات، ط1، الأردن، ص45.
(26) المصدر نفسه، ص35.
(27) المصدر نفسه، ص46.
(28) المصدر نفسه، ص18-19.
(29) المصدر نفسه، ص 166.
(30) برتليمي، جان، 1970 –بحث في علم الجمال، ص165.
(31) المرجع نفسه، ص 167.
(32) المرجع نفسه، ص 167.
(33) المرجع نفسه، ص167.
(34) المرجع نفسه، ص 167-168.
(35) المرجع نفسه، ص 168.
(36) المرجع نفسه، ص 168.
(37) البستاني، بشرى، 2014- البسي شالك الأخضر وتعالي، ص88.
(38) المصدر نفسه، ص75.
(39) المصدر نفسه، ص101
(40) المصدر نفسه، ص105-106
(41) المصدر نفسه، ص 106-107.
(42) المرجع نفسه، ص531.
(43) المرجع نفسه، ص531.
(44) المرجع نفسه، ص537.
(45) المرجع نفسه، ص 543.
(46) المرجع نفسه، ص 545.
(47) المرجع نفسه، ص 547.
(48) المرجع نفسه، ص548.
(49) المرجع نفسه، ص546.
(50) المرجع نفسه، ص547.
(51) البستاني، بشرى- البسي شالك الأخضر وتعالي، ص66.
(52) البستاني، بشرى، كتاب الوجد، ص25.
(53) البستاني، بشرى/2014- البسي شالك الأخضر وتعالي، ص35.
(54) برتليمي، جان، 1970- بحث في علم الجمال، ص 382.
(55) المرجع نفسه، ص382.
(56) شرتح، عصام، 2012- ملفات حوارية في الحداثة الشعرية( حداثة السؤال أم سؤال الحداثة) ؟!، ص144.
(57) برتليمي، جان، 1970- بحث في علم الجمال، ص 363.
(58) شرتح، عصام، 2012- ملفات حوارية في الحداثة الشعرية( حداثة السؤال أم سؤال الحداثة) ؟!، ص 345.
(59) المصدر نفسه، ص345.
(60) برتليمي، جان، 1970- بحث في علم الجمال، ص 211.
(61) المرجع نفسه، ص210.
(62)البستاني، بشرى، 2014- البسي شالك الأخضر وتعالي، ص66.
(63) المصدر نفسه، ص164.
(64) برتليمي، جان، 1970- بحث في علم الجمال ص562.
(65) شرتح، عصام، 2012- ملفات حوارية في الحداثة الشعرية( حداثة السؤال أم سؤال الحداثة) ؟!، ص225.
(66) برتليمي، جان، 1970- بحث في علم الجمال، ص 619.
(67) المرجع نفسه، ص619.
(68) المرجع نفسه، ص618.
(69) المرجع نفسه، ص618.
(70) المرجع نفسه، ص618.
(71) المرجع نفسه، ص616.
(72)البستاني، بشرى، 2014- البسي شالك الأخضر وتعالي، ص292.
(73) المصدر نفسه، ص293.
(74) المرجع نفسه، ص414.
(75) المرجع نفسه، ص415.
(76) المرجع نفسه، ص417.
(77) المرجع نفسه، ص418.
(78) المرجع نفسه، ص420.
(79) المرجع نفسه، ص422.
(80) المرجع نفسه، ص505.
(81) شرتح، عصام، 2012- ملفات حوارية في الحداثة الشعرية( حداثة السؤال أم سؤال الحداثة) ؟!، ص 375.
(82)البستاني، بشرى، 2014- البسي شالك الأخضر، وتعالي، ص278.
(83) المصدر نفسه، ص279.
(84) المصدر نفسه، ص274.
(85) المصدر نفسه، ص274-275.
(86) شرتح، عصام، 2012- ملفات حوارية في الحداثة الشعرية، ص 377.
(87) المصدر نفسه، ص 298.
(88) برتليمي، جان، 1970- بحث في علم الجمال، ص 285.
(89) المرجع نفسه، ص287.
(90) المرجع نفسه، ص287.
(91) البستاني، بشرى، 2014- البسي شالك الأخضر وتعالي، ص301.
(92) المصدر نفسه، ص301-302.
(93) المصدر نفسه، ص255-256.
(94) المرجع نفسه، ص243.
(95) المرجع نفسه، ص246.
(96) شرتح، عصام، 2012- ملفات حوارية في الحداثة الشعرية( حداثة السؤال أم سؤال الحداثة) ؟!، ص 299.
(97) المصدر نفسه، ص82.
(98) أدونيس، 1980- مجلة مواقف، ع36، بيروت، ص 139. نقلاً من الحسين، قصي، 1998- تشظي السكون في العمل الفني، ص 201.
(99) شرتح، عصام، 2012- ملفات حوارية في الحداثة الشعرية( حداثة السؤال أم سؤال الحداثة) ؟!، ص 109.
(100) البستاني، بشرى، 2014- البسي شالك الأخضر، وتعالي، ص228.
(101) المصدر نفسه، ص229
(102)المصدر نفسه، ص229.