عندما يقارن المرء تصور هولدرين لتاريخ الفلسفة في أشعاره المتأخرة، فإنه يلمس أوجه الشبه بينه وبين هيدجر. يدعوان معا إلى النظر العميق في الجوهر. وبما أن هذا الأخير يحيل إلى تراجع الغرب ويعبر عن ضمور/ اختفاء المهارة Geschick المضيئة للكينونة، فإن كلاهما يتطرق إلى هذا الأمر بالنظر إلى الإهتمام والنفور بما سماه هيدجر "الآلهة die Götter"، كما نجد ذلك في أنشودة "الخبز والخمر Brot und Wein" عند هولدرلين.
لا يجب فهم ضمور/ اختفاء الكينونة كوضع يجب تجاوزه عند الإنسان، بل إنه حدث Ereignis ومصير للسلطة الأصلية (الكينونة). ففي أوقات الحاجة والأزمات، لا يقوم الشعور بأزمة هَجْرِ الإنسان القوي، بل ما يحدث هو عدم احترام الآلهة، وإلحاح الإنسان على "قوته" وتشبثه بها؛ وهذا ما يقوده إلى الضياع. وفي هذا الأخير بالضبط يكمن سر الآلهة الهاربة، أو الكينونة المختفية، التي لا تصرح عن نفسها إلا لقلة من الناس/ العارفين، الثابتين في أزمة "ظلام العالم Weltnacht"، في انتظار بداية جديدة قريبة في بُعدها. يَكْمُن رجوع الآلهة (هولدرلين)/ الكينونة (هيدجر) في اختفائها. ولهذا السبب من الضروري التفكير في تهييئ ظروف وصول الكينونة عن طريق الدازاين Dasein. وقد حاول هيدجر القيام بهذا بمحاولة "الرجوع Rückgang" إلى الأساس غير المفكر فيه للميتافيزيقا. ولا يتأتى ذلك إلا عن طريق "هدم Destruktion" التقليد الميتافيزيقي بالرجوع إلى بداية قبل ميتافيزيقية للفلسفة. وبالنظر إلى ضرورة تجاوز نسيان الكينونة الغربي أو "الإلتواء Verwindung" من حولها، نلمس إذن أهمية العلاقة بين التفكير والشعر واللغة. نعثر في "رسالة حول النزعة الإنسانية Brief über den Humanismus" على المقولة الشهيرة لهيدجر: "إن اللغة هي منزل/ مأوى الكينونة. ويعتبر المفكرون والشعراء حراس هذا المبنى" (WM, 145). تصبح للغة أهمية قصوى عند هيدجر في إطار العلاقة الوطيدة للإنسان بالكينونة. وبما أنها هي التي تحث الكينونة على الكلام، فإنها تحقق إذن أفق العالم، الذي يفتح لها إشراقها/ إضاءتها. وبهذا فإن تاريخ الميتافيزيقا هو كذلك تاريخ الحديث/ الكلام عن الكينونة والوجود. للإشارة، لا يجب خلط ما يعنيه هيدجر بـ "التفكير Denken" بالفلسفة أو الميتافيزيقا، لأن هذه الأخيرة لم تفكر في الكينونة، بل لم تتحدث عنها حتى. فالتفكير Denken عنده هو "تفكر/ تذكر/ تذكار Andenken"، بمعنى اقتراب من الكينونة، ليس بهدف جعلها شيئا موضوعيا عن طريق لغة ما، بل عن طريق اختيار لغة تسمح بالوصول إلى هذا الإقتراب. وتوجد لغة الشعر ما وراء الميتافيزيقا، وفيها –وبالخصوص عند هولدرلين- يجد هيدجر سبقا وتأكيدا لبداية التفكير في الكينونة. لا توجد الكلمة في الشعر كحرف في مضمون وظيفي، لكنها حدثا Ereignis لوصول الوجود إلى الوضوح. لا تستنفذ الكلمة الشعرية قواها في تدوين/ تسجيل وانعكاس الأشياء والوقائع، لكنها تعني في تركيزها Verdichtung التحرر من تحديد الموضوع، ومن تم التحرر من الوجود. طبقا لهيدجر، فالمتكلم/ المتحدث في الشعر ليست هي الذات –الشخص، الشاعر، لكن اللغة ذاتها هي التي تتكلم بإحالتها على الكينونة. ولهذا السبب بالضبط، يجب على التفكير أن يصبح شاعريا؛ ويبتعد عن ارتباطه الميتافيزيقي بالمنطق. عليه إذن أن يصل إلى "الأناقة Schicklichkeit" الذاتية للكلام/ القول.
بدأ اهتمام هيدجر بالأعمال الشعرية لهولدرلين في الموسم الجامعي 1934/35، في محاضرته "حول أناشيد الجرمانيين والراينÜber die Hymnen Germanien und Der Rhein و "حول أصل العمل الفنيDer Ursprung des Kunstwerkes " (1935) و"هولدرلين وجوهر الشعر Hölderlin und das Wesen der Dichtung" (1936). قد يعتبر المرء المحاضرات الأولى كأساس إستيطيقا هيدجر، أما الثانية، وعلى الرغم من أنه لم ينهِها كليا، فإنها تأويل لشعر هولدرلين. فقد كان هولدرلين بالنسبة لهيدجر "شاعر الشعراء Dichter des Dichters"؛ ذلك أن التفكير أو اللحظة الميتا-شعرية تتمظهر عندما تفشل الكلمة عن التعبير في الوقت الذي تبتعد فيه الآلهة. ذلك أن تجربة "عدم الخلاص Heil-losigkeit" تقود إلى التأمل، ومن تم قد نفترض بأن هيدجر اعتبر نفسه "مفكر المفكرين Denker des Denkers". والواقع أن محاضرة: "حول أصل العمل الفني" هي التي أدت إلى تطوير اهتمامه بشعر هولدرلين. يستعمل هيدجر في هذه المحاضرة المعنى المزدوج لـ "التموضع في العمل Sich-ins-Werk-Setzen" فيما يخص الحقيقة. يحيل "العمل" إلى "العمل الفني"، ويعتبر عنده أمثل مكان للحقيقة. كما أن هذا التموضع في العمل هو نشاط قبل كل شيئ. فالعمل هو انفتاح "عالم" يعتبر بمثابة فضاء، حيث يتحقق التاريخ، أما الجمال فإنه الطريقة التي تترك بها الحقيقة جوهرها يتحقق. وفن اللغة Sprachkunst هو الذي يسمح للغة بإيصال الموجود إلى الإنفتاح. ولهذا السبب يمكن أن نفهم لماذا أكد هيدجر بأن الشعر، وأكثر من أي فن آخر، هو الذي يؤسس الحقيقة. ونلمس تتمة لهذه الفكرة في محاضرة 1936، حيث أكد بأنه دون لغة لن يكون هناك عالم، وبالتالي لن يكون هناك تاريخ. ولكي يتمظهر الموجود في كل تجليه، من اللازم أن تنفتح الكينونة في الكلمة: "إن الشعر هو في المعنى الحرفي للكلمة أساس الكينونة"(1). وهذا الأساس هو في نفس الوقت "منحة/ هدية"، تتجلى في المرور من الفهم الشعري/ الشاعري للفضاء إلى "إنسانية" تاريخية. بمعنى أن وجود/ سكنى الإنسان في الأرض يتأكد كاستعارة شعرية. فالشعر بهذا المعنى هو فتح الأصل (الكينونة). إنه ما يسمح بالمحادثة بين الآلهة والإنسان ويجمعهما في منطقة تاريخية (فضاء تاريخي). ويتموضع الشاعر بين الآلهة والبشر أي في التمييز/ الفرق الأنطولوجي للكينونة والوجود. بالنسبة لهيدجر فإن هولدرلين هو الشاعر الذي يقرض شعره في الكينونة، أي في زمن دون آلهة. ولهذا السبب فإن كل تفكير ما هو في نظر هيدجر إلا تهييئ لمرحة انتقالية جد كبيرة: المرور من اليأس (انعدام الخلاص) إلى الخلاص.
كانت محاضرتي "ماهي الميتافيزيقا؟" (1928) و "حول جوهر الحقيقة Vom Wesen der Wahrheit " (1930) بمثابة الإعلان الرسمي للإنعطاف الهيديجري. ذلك أن الأولى حددت الخاصية المتعالية للدازاين، كما نجد ذلك في "الكينونة والزمن"، بالإعتماد في المقام الأول على طريقة التحليل الوجودي، وبتقديم التجربة الأصيلة للخوف كمثال على ذلك. فعندما يصاب الدازاين بالخوف من وجوده في العالم، فإن الوجود بكامله ينسحب منه، وفي استلاب هذا الإنسحاب بالضبط يتجلى "الوجود" الفعلي للوجود. وهذا ما يدفع بالإنسان إلى ربط علاقة بذاته ويسبب في تجربة "العدم Nichts". وعلى اعتبار أن الإنسان فاهما، فإنه يربط علاقة وجودية خاصة بهذا "العدم" في معنى انسحاب الوجود. في حين ركزت المحاضرة الثانية على الطريقة التي تتقدم بها الحقيقة للإنسان، التي (أي الطريقة) تسمح بفتح الأفق له، حيث يتمكن الوجود من الحصول على موقع له. يقول هيدجر بهذا الصدد: "كيفما أول المرء الوجود، سواء كروح في المعنى الروحاني، أو كمادة وقوة في المعنى المادي، أكان ذلك مستقبلا وحياة أو تمثل أو إرادة أو جوهر أو ذات أو طاقة أو رجوع أبدي لنفس الشيئ، فإن الوجود يتمظهر كل مرة كـوجود في ضوء الكينونة"(2)
يظهر انفتاح الدازاين في الوهلة الأولى كأساس ميتافيزيقي لمصطلح الحقيقة، الذي يعتبر بمثابة توافق الفهم intellectus والشيئ res. وبهذا المعنى فإن جوهر الحقيقة عند هيدجر هي "الحرية Freiheit"، لأنها هي "السلوك المنفتح" للدازاين اتجاه الوجود Seiende، وبهذا فإنها (أي الحرية) شرط صحة أي تقرير. ما يلاحظ هنا هو أن الحرية فُهمت كسلبية Passivität. بالرجوع إلى فينومينلوجية هوسرل، أي أن هيدجر يفهم "الوجود" كـ"كظاهرة-وجود". وإذا ركز الوعي بأفعاله على الظواهر فقط، فإن هذا الوعي يتمظهر كـ "الذي يتجلى في ذاته، المتمظهر". لكي يعطي هيدجر "للإنفتاح" خاصية محددة، فإنه ترجم المصطلح اللاتيني "الحقيقة alétheia" بـ "غير المخفي Unverborgenheit". من هذا المنطلق فإن الحرية تعني إذن "السماح بالوجود Sein-lassen" والاستعداد له، وبهذا فإنها بالنظر إلى Unverborgenheit السلوك المطابق، أي السلوك الذي يعري entbergende، والذي لا يجب فهمه في معنى التعسف Willkür أو القوة الخاصة للذاتية. وبما أن الحرية هي عنصر ضروري في أساس الدازاين، فإن هذا الأخير، والذي يوجد في البداية كغير محدد، هو الذي يعطيها جوهرا بمنحها علاقة مفتوحة مع الوجود Seiende. ويقول هيدجر هنا: "لا "يمتلك" الإنسان الحرية كخاصية له، فقد يكون العكس هو الصحيح: فالحرية، الوجود das ek-sistente، الوجود-هنا Da-sein المُعري هو الذي يملك الإنسان"
بعد هذا قام هيدجر بالخطوة الحاسمة في تفكيره الفلسفي المتعلق بالكينونة. فالـ Unverborgenheit كتمظهر للظواهر يُحيل إلى "الداس" "Daß" غير ذي موضوع وسابق، لكنه يختفي/ يُضمر عند تمظهر الظواهر. ويعتبر هذا الضمور Verbergung الأصلي سرا بالنسبة لهيدجر، لم يفكر فيه الفلاسفة من قبل"(3). فالحقيقة كـ alétheia التي تحققت وقُدمت في الحرية، والتي تجد فهمها المنطوق و"الجوهري" في هذه الحرية، لابد أن يُفكر فيها انطلاقا من الكينونة. إنها إذن وقوع Geschehen الكينونة ولها علاقة مفتوحة معها. وما يسمى بعدم الضمور Unverborgenheit هي الطريقة التي "يضيئ lichtet" بها الإنسان الكينونة. من هذا المنطلق فإن الدازاين Dasein هو: "مكان/ موطن/ مدينة حقيقة الكينونة". منذ هذه اللحظة أصبح "الدا Da " الدا-زاين Da-sein" يُفهم بطريقة تأويلية.
من هنا فإن التاريخ يصبح جوهريا تاريخ الكينونة، لا يتمظهر، في نظر هيدجر في الأحداث السياسية، بل تمتد جذوره العميقة إلى أعمق من هذا في الكتابات الفلسفية الغربية، التي يجب إزاحة الغطاء عنها. وفي عملية إزاحة هذا الغطاء يتضح بأن تاريخ الكينونة هو قبل كل شيئ تاريخ نسيانها وبالتالي ضمورها/ اختفاءها. وهنا نلمس الفهم الذي كان لهيدجر للفلسفة، وهو فهم من اللازم تأطيره في التقليد الأرسطي كميتافيزيقا؛ بمعنى كعلم يهتم بدراسة "الوجود" في كليته وبالخصوص كينونة الوجود. وطبقا لهيدجر فإن هذا التمييز بين الكينونة والوجود هو ما لم تفكر فيه الميتافيزيقا. وبما أن الكينونة هي ببساطة ليست الوجود، فإن ميتافيزيقا "نسيان الكينونة" قد اعتبرتها لا شيئا Nichts. ولهذا السبب فإن العدمية/ النيهيلية، كما حللها وأعلن عنها نيتشه، ليست ظاهرة الحداثة وحدها في نظر هيدجر. فنيتشه، حسب هيدجر، لا يمثل إلا النقطة النهائية لتطور الميتافيزيقا، بجعله الإرادة محرك كل الموجودات. وتتمظهر "إرادة القوة"، المؤسسة على اللاشيئ Nichts في التشييئ (جعل كل شيئ شيئا) العلمي وإخضاع الوجود بكامله إلى حاجيات الإنسان. وبهذا فإن آخر شكل للميتافيزيقا هي التقنية، التي تقضي على معنى الدازاين التي تعطيه الكينونة للوجود. وعلى الرغم من ذلك فإن العالم النيهيلي المظلم هو بالنسبة لهيدجر: "إحالة إلى الخلاص". تُكتشف العلاقة الحقيقية بالخلاص والمخلص أساسا في تجربة انسحابه الكبير ويمكن قراءة هذه التجربة في الإعلان عن وصول مستقبلي. ويتم هذا الإعلان من طرف الشاعر، بلغة لا يفهمها إلا الفيلسوف الذي يحسن الإصغاء إلى ضوضاء الوجود الظاهر وصمت الكينونة.
النمسا
هوامش:
(1) Erläuterungen zu Hölderlins Dichtung. 4. erw. Aufl. Frankf./M. 1971.S. 41.
(2) مدخل لـ "ما هي الميتافيزيقا 'Was ist Metaphysik?' "، ص 195.
(3) نفس المرجع، ص. 85.