غادرنا تزيفتان تودوروف (1939-2017) إلى الأبديّة منذ أيام دون أن يكتب سيرته الذاتيّة أو يخصّص للحديث عن حياته وتفاصيلها وأطوارها أيّ كتاب من كتبه التي تجاوزت الأربعين. ولكنّ من يقرأ أعماله (ولا سيّما تلك التي شرع في نشرها بداية من سنوات الثمانين) سرعان ما يظفر بمعلومات أساسيّة حول نشأته الأولى في بلغاريا وظروف "فراره الشرعيّ" سنة 1963 ممّا كان يسمّيه "جحيم الكتلة الشيوعيّة" وانتقاله إلى ما ظنّ أنّه "جنّة الحريّة" في باريس وما صاحب ذلك كلّه من مشاعر التمزّق الوجدانيّ والتعلّق بالأهل العالقين وراء "الستار الحديديّ" والبحث عن توازن ذاتيّ مفقود لم يجده حتّى بعد حصوله على الجنسية الفرنسية سنة 1973، ولن يجده إلّا بعد أن رُزق بابنه الأوّل.
-2-
الآن، وبعدما وضع الموت بحبره الأسود القاتم نقطة النهاية في حياة تودوروف، بإمكان الدارسين والنقّاد أن يعودوا إلى مجمل آثاره لاستجلاء ملامح لا تتعلّق بسيرته الشخصيّة، فقط، (وهي سيرة لا تخلو –دون أدنى شكّ- من دلالات في منتهى العمق والأهميّة) بل أيضا من أجل اكتناه مسيرته الفكريّة (وهي -في اعتقادنا- الأهمّ والأبقى والأجدر بالتأمّل والتأويل والمجادلة).
-3-
من خلال متابعتي لأغلب ما نُشر على هامش غيابه، سواء في الجرائد والمجلّات الفرنسيّة أو في المواقع والصحف العربيّة، لفت انتباهي تفطّن كثير من المحرّرين إلى المنعرج الذي وسم مسيرة تودوروف في مطلع الثمانينات وتحديدا سنة 1982 التي أصدر فيها كتابه "غزو أميركا- مسألة الآخر". فقد كان هذا العمل لحظة مفصليّة في مسيرة صاحبه، ابتعد بعدها -شيئا فشيئا- عن مجال تخصّصه الأوّل الذي اشتهر به طيلة ستة عشر عاماً (من سنة 1965 التي أصدر فيها كتابه "نظريّة الأدب - نصوص الشكلانيّين الروس"، إلى سنة 1981 التي نشر فيها عمله "ميخائيل باختين: المبدأ الحواري") حتّى بدت أعمال هذه الفترة مجرّد خلفيّة باهتة أو ذكرى غائمة أو واجب مدرسي ثقيل. وذلك ما دفع عديد الصحف الأوروبيّة التي أعلنت عن خبر وفاته إلى تقديمه على أساس كونه مفكّرا ومؤرّخا وفيلسوفا، متغاضية –إلى حدّ كبير- عن صفته الأولى، صفة الباحث صاحب السبق في مجال اللّسانيّات البنيويّة والدراسات الإنشائية والدلاليّة والسرديّة وما جرى مجراها من المباحث التي يغلب عليها الطابع التقني.
-4-
ليس بإمكاننا اليوم أن نسأل تودوروف عن أحبّ الصفات إليه، وعن أقربها إلى قلبه، وعن أكثرها تجسيدا لمسيرته؛ فهو الآن في الضفّة الأخرى، ضفّة الصمت التي لم يعد منها أحد. ولكنّ من واجبنا -في غيابه الغامر بالحضور- أن نتدبّر الأسئلة الأكثر مدعاة إلى الحيرة والقلق:
لماذا تخلّى تودوروف عن "أمجاده الأولى" التي ظلّ يبنيها على امتداد ما يناهز العشريّتين؟
لِـمَ لم يحافظ على هذه "الأمجاد"، والحال أنّها جعلت منه عَلَماً ومرجعا يُعْتَدّ به ويُحْتَكَمُ إليه، لا في فرنسا وحدها، بل في العالم بأسره؟
ما الذي دفعه إلى تحويل وجهته من نظريّات "جوهرانيّة" في عمقها، تزعم -في ما تزعم- أنّ النصوص تنسل من ذاتها وتحتكم إلى قوانينها الداخليّة المحض، إلى نظريّات أخرى -أو بالأحرى إلى "وجهة نظر" أخرى- قوامها القول بأنّ الإنسان -لا النصّ وحده- هو ثمرة التاريخ وحصيلة العلاقة المربكة مع الآخر؟
-5-
لن يجد القارئ الذي يكتفي بمطالعة أعمال تودوروف –رغم كثرتها- أي جواب شافٍ على مثل هذه الأسئلة، أسئلة القطيعة والانفصال والتحوّل. فقد أتقن الرجل مداراة أسراره، وعرف أين يودع المفتاح الذي يتيح لنا أن نفكّ أحجية ابتعاده عن العلوم "الجوهرانيّة" واختار لذلك شخصا لا يخطر للكثيرين منّا على بال، شخص المفكّر فلسطيني الأصل أميركي الجنسيّة إدوارد سعيد (1935-2003) هذا الذي هزّ العالم الأنكلوسكسوني بكتابه الشهير "الاستشراق" (1978).
-6-
في ظاهر الأمر، وللوهلة الأولى، تبدو العلاقة بين تودوروف وإدوارد سعيد غير متوقّعة بل مستحيلة لأنّ الآفاق المعرفيّة التي انحدر منها هذا وذاك تنبئ بكثير من التباين. ففي مستهلّ مسيرته الأكاديميّة في بلغاريا انشغل تودوروف بمسائل يغلب عليها الطابع "التقنيّ" حتى يجتنب الوقوع في ورطة "الدعاية الشيوعيّة" وفي أحبولة التمجيد الإيديولوجي للواقعيّة الاشتراكيّة. ورغم انتقاله إلى فرنسا وتنشّقه نسائم الحريّة فيها، فإنّه واصل على النهج نفسه بل انغمس في التنظير للرؤى والمقولات "الجوهرانيّة" التي تعالج النصوص كما لو كانت منفصلة تمام الانفصال عن سياقاتها الخارجيّة. وفي المقابل، اختطّ إدوارد سعيد لنفسه طريقا مغايرة أكثر انفتاحا من خلال اعتنائه بالآداب الإنكليزيّة والأدب المقارن ثمّ من خلال قراءته لمجمل ما أنتجه المستشرقون على أساس كونه ثمرة من ثمار تاريخ معقّد وواقع متشابك العناصر تحكمه –في العمق- قوانين الغلبة والتسلّط حتّى وإن بدا –في السطح- مجرّد "معرفة" وضعيّة موضوعيّة نزيهة بريئة محايدة لا تشوبها شوائب الإيديولوجيا.
لم يكن ثمّة –في الأصل- ما يمكن أن يجمع تزيفتان تودوروف وإدوارد سعيد باستثناء حدث فريد هو أقرب إلى الصدفة. فقد كانت سنة 1963 بالنسبة إلى كليهما سنة الشرخ التي انتقل فيها الأول من بلغاريا إلى فرنسا والثاني من الشرق إلى أميركا. ومع ذلك، ولسبب لا بدّ من الاعتراف بأنّه ما زال لدينا مجهولا غامضا، اختارت دار "سوي" الباريسيّة تزيفتان تودوروف دون سواه وكلّفته بوضع مقدّمة للترجمة الفرنسيّة الأولى لكتاب إدوارد سعيد (1980). ورغم قصر هذه المقدّمة التي لم تتجاوز ثلاث صفحات وسبعة أسطر، فإنّ من الواضح -لمن يقرأها ولمن يتدبّر ما بين سطورها- أنّها مثّلت "زلزالا منهجيّا" هزّ ثوابت تفكير تودوروف وزعزع أركانه، وكانت له ارتداداته التي ستظهر لاحقا في الكثير من أعماله.
-7-
لسنا في وارد ترجمة مقدّمة تودوروف على الطبعة الفرنسيّة الأولى لكتاب إدوارد سعيد عن "الاستشراق"، فالمقام لا يسمح. ولكن يكفينا أن نتوقّف عند أهمّ الأفكار/المواقف التي جاءت فيها، وهي تتلخّص في ثلاث نقاط أساسيّة:
أولاها: أنّ تاريخ الاستشراق في شتّى تجلّياته (عبر الحقول المعرفيّة والفنيّة الإبداعيّة المختلفة) تاريخ "لا يُحتمل" لأنّه صادر عن نظرة متعالية تحتقر الآخر وتزدريه وترميه بما لا يُحصى من العيوب والمساوئ والعاهات. فمن الضروريّ أن تتحلّى الحضارة الغربيّة بالشجاعة الكافية لكي تراجع هذه النظرة وتتخطّاها.
ثانيها: أنّ خطاب الاستشراق، بما انطوى عليه من تبريرات وما تضمّنه من إرادات الهيمنة الواعية واللاواعية، سرعان ما انقلب –في أغلب عناصره ومكوّناته- إلى مجموعة من المواقف الإيديولوجيّة التي أحكم أصحابها إسدال الستائر على أنفسهم في نطاق الجمعيّات العلميّة والمؤتمرات السنويّة وأغفلوا "الشرق الحقيقي" الذي ادّعوا أنّهم ينكبّون على درسه وفهمه.
ثالثتها: أنّ المهمّة المعرفيّة والمنهجيّة الأكثر تأكّدا، في هذا السياق، تستدعي الخروج من دائرة النصّ الضيّقة واستيعاب التاريخ في حركته وآفاقه الأوسع التي ينبغي أن تضمّ الآخر وأن تعترف به وأن تفسح له المجال للتعبير عن ذاته تأسيسا لحوار مشترك قائم على الاعتراف المتبادل.
-8-
وفي ما نُقدّر ونزعم، فإنّ هذه الأفكار/المواقف التي طرحها تودوروف في مقدّمة الترجمة الفرنسيّة لكتاب إدوارد سعيد عن "الاستشراق" هي السبب الرئيسي الذي حمله شيئا فشيئا على تطليق النظريّات "الجوهرانيّة" التي ظلّ مؤمنا بها طيلة ما يناهز العشرين عاما. ولعلّ من أبرز نتائجها واستتباعاتها على صعيد مسيرته الفكريّة أنّها أخرجته من "قوقعة الشكل" إلى رحابة التاريخ، ومن أسر "المونولوغ" (أو الحوار الذاتي الباطني) إلى "الديالوغ" ذي الأصوات المتعدّدة التي لا حصر لها. وفي صميم حوار كهذا، ظلّ إدوارد سعيد يسكن كتابات تزيفتان تودوروف إلى درجة نجيز فيها لأنفسنا التلاعب باسميهما ولقبيهما لأنّنا صرنا نجد أنفسنا، مرّة بعد أخرى، إزاء إدوارد تودوروف وتزيفتان سعيد!
-9-
هل يتعلّق الأمر –حقّاً- بمجرّد "تلاعب"، لا غير؟ هل هي "مزحة" خفيفة، أو ربّما ثقيلة؟ هل هو إغواء البحث عن عنوان جذّاب لمقال جديد؟
ليس الأمر كذلك، إطلاقا! فالحوار بين الرجلَيْن سرعان ما أضحى حقيقة واقعة تشهد عليها النصوص، من ناحية، ويؤكّدها وعي عميق بالمنزلة وبالمصير المشترك، من ناحية أخرى؛ فضلا عن الزمالة الأكاديميّة التي قرّبت بينهما في رحاب الجامعات الأميركية.
لم يُبطئ تودوروف كثيرا في تدشين الحوار. ففي خاتمة كتابه المفصليّ الأوّل الذي أعلن من خلاله بدايةَ الابتعاد عن اهتماماته "الجوهرانيّة" السابقة، كتاب "غزو أميركا- مسألة الآخر"(1982)، أشار إلى إدوارد سعيد ونبّه إلى أنّه يشترك معه في ما سمّاه "وضعيّة المنفى" التي حكمت على أحدهما بأن يكون "بلغاريا يعيش في فرنسا" وعلى الآخر أن يكون "فلسطينيا يعيش في أميركا". وانطلاقا من هذه الملاحظة، سيواصل تودوروف التأسيس للمنفى لا باعتباره "مكانا" منقطعا عن زمن الذاكرة مشدودا إلى آلام الفقد، بل باعتباره "إمكان وجود فريد" يتيح لمن يخوض تجربته (رغم قسوتها ومرارتها) أن ينظر إلى ذاته وإلى الآخرين من خارج أسوار الهويّة الضيّقة.
وعبر أعماله اللاحقة، عمّق تودوروف هذه الفكرة واتّخذها أرضيّة عمل مفتوح ومجال بحث متجدّد عرّى من خلاله مآزق الحضارة الغربيّة في علاقتها بالآخر (في أوروبا وفي الولايات المتحدة الأميركية، على وجه الخصوص). ولم ينفكّ في سياق ذلك كلّه عن الإشارة إلى إدوارد سعيد وعن التفاعل مع منجزه الفكري.
ومن جهته، انخرط هذا الأخير في "مسألة المنفى" فكتب عنها وعن دلالاتها وعن أبعادها عديد المقالات التي جمعها ثلاث سنوات قبل وفاته في كتاب تحت عنوان "تأمّلات حول المنفى" (2000)، بالإضافة إلى نشره لسيرته الذاتية "خارج المكان" (1999) وقد صاغها ضمن نفس المنظور، منظور المنفى وقضاياه.
وتتويجا لهذه العلاقة التي ظلّت فيها أعمال الرجلَيْن يُـرجع بعضها أصداء بعض ضمن حواريّة لم تنقطع حتى بعد وفاة إدوارد سعيد سنة 2003، أهدى تودوروف إلى "رفيق المنفى" أحد أهمّ الأعمال التي كتبها في غيابه، ونعني بذلك كتابه "الخوف من البرابرة: ما وراء صدام الحضارات"(2008). ولعلّ أهمّ ما يلفت الانتباه في الإهداء أنّ صاحبه لم يصغه الصياغة المنتظرة كأن يقول مثلا: "إلى روح إدوارد سعيد"، أو "إلى الفقيد إدوارد سعيد"، بل تركه هكذا "عاريا" من الموت ومن وجع الذكرى، فقال بكل بساطة: "إلى إدوارد سعيد"، اعترافا منه بأنّ أحكام الموت لم تَسْرِ إلاّ على الأجساد وأنّ الأفكار ستظلّ باقية بعيدا عن كلّ المنافي.
-10-
كم أنت إدوارد يا تزيفتان..
كم أنت تودوروف يا سعيد..
وكم نحن سعداء بأن نقرأ لكما وأنتما هناك في ما وراء المنفى.
عن (ضفة ثالثة)