ولازالت فترة حكم المماليك لمصر- والتي استمرت نحو القرنين ونصف من الزمان، والذين أخذوا في التحول من عبيد إلي أمراء، أصبحوا فيها يسودون البلاد– أقول لازالت منبع إلهام للعديد من الأعمال الإبداعية، نظرا لثراء الأحداث والوقائع العديدة التي تتابعت وتسارعت علي أرض الواقع. حيث صدر في الفترة الأخيرة فقط رواية "بيت السناري" لعمار علي حسن، "نفيسة البيضة" لمصطفي البكلي، و "الأزبكية" لناصر عراق. وقد نظر كل منهم إلي تلك الفترة بوجهة نظر محددة، وإن اختلفت في التناول، والزاوية، إلا أنها اشتركت جميعها في انتشار الظلم بين المصريين بفرض الكثير والكثير من الضرائب، واستخدام المصريين، اصحاب الأرض كعبيد، فعاني المصري الكثير من ويلاتهم، في الوقت الذي تداعت علي مصر الأمم طمعا في خيراتها، رغم وجودهم، خاصة الحملة الفرنسية التي تعتبر من أقصر فترات الغزو، إلا أنها الأكثر تأثيرا، والأكثر أثرا فيما تركته بعد خروجها.
فإذا ما تأملنا رواية "الأزبكية"التي انتهجت نفس النهج، في تناول الفترة، وتجربة تلك الحملة، سنجد ناصر عراق يضع علي لسان الرسام الفرنسي "شارل" مخاطبا صديقة المصري الناسخ "أيوب" تلك العبارة :
{ ثقافتنا غير ثقافتكم يا أيوب، ونحن نتعامل مع المرأة بوصفها ند للرجل، وليست كائنا من الدرجة الثانية.. إن قلبها ومشاعرها وجسدها ملك لها وليس لي.. أي أن لها الحرية الكاملة في أن تفعل ما تشاء .. شريطة أن تتحمل مسئولية اختياراتها وقراراتها.. هكذا تعلمنا من مفكرينا ومبدعينا الذين مهدوا لنا الطريق أمام النور والثورة}ص301. التي يمكن أن نعتبرها بؤرة الرواية، القادمة من نهايات القرن السابع عشر إلي بدايات القرن الواحد والعشرين، لتفترش المسافة بينهما، وكأننا علي نفس الدرب لازلنا سائرين. حيث لابد أن ينظر القارئ – والذي بالضرورة يأتي بعد العام 2015، سوف ينظر حوله وهو يمارس عملية القراءة، أو بعدها بالطبع، ويتأمل ما يجري علي الأرض المصرية، ليبحث عن وقائع "الأزبكية"، فسوف يجد نفسه لم يغادر الزمن، وكأنه يعيش نفس التاريخ. وكأن ناصر عراق، ما أراد بالجملة الأخيرة في المقتطف {هكذا تعلمنا من مفكرينا ومبدعينا الذين مهدوا لنا الطريق أمام النور والثورة}أن يوجهها "شارل" ل"أيوب" فقط، وإنما اتخذها هو نفسه شعارا ونبراسا، يسعي به بيننا، فقدم روايته، ساعيا لأن يمهد بها الطريق للنور والثورة. الثورة علي ما يجري علي الأرض المعاصرة، من محاولة الرجوع بنا إلي تلك الفترة التي اتخذها مسرحا لأحداث روايته.
يعود بنا الكاتب إلي قبيل الحملة الفرنسية علي مصر في العام 1798، لنعيش أجواءها، وندرس نتائجها. حيث نتعرف علي شخصيتين رئيسيتين فيها. "أيوب السبع" المصري، والذي لايمكن إغفال دلالته، حيث يصبح اسما وصفة في ذات الآن، و "شارل" الفرنسي" الذي أتي قبل الحملة بعامين، وكأنه يريد أن يفصله عن الحملة، وليؤكد أن الهدف من مجيئه يختلف عن تلك التي جاءت من أجلها الحملة، حتي وإن كان قد فعل جزءا مما فعلته الحملة بالفعل، وهو أنه رسام، فراح يرسم كل ما ومن يقع تحت بصره، من بشر وحجر، وكأنه يسجل وقائع الحياة المصرية، والتي سجلتها الحملة بالفعل في كتابها "وصف مصر". وعلي الجانب الآخر، ياتي "أيوب" ناسخ للكتب، وأخذ بنصيحة "شارل" له بأن يدون ما يمر بحياته. وكأننا أمام حالة تسجيل للحياة المصرية بالكلمة ويالصورة، سعيا نحو الكمال، أو الاكتمال، والذي يمكن أن نستخلصه كسعي للرواية في النهاية.
وبهما معا، أيوب وشارل، يؤسس الكاتب تلك الرؤية التي سعي إليها الكتاب العرب - فيما بعد – توفيق الحكيم ويحيي حقي "المصريين" وسهيل إدريس "اللبناني"، والطيب صالح "السوداني" وغيرهما. بعد تجربة كل منهم في احتكاك الثقافتين، المصرية العربية من جانب، والأوربية من جانب آخر، والتي يعبر عنها المقتطف الذي بدأنا به، عن جوهرها.
يفتتح الكاتب الرواية بعدد من الاقتباسات من مصادر متنوعة، وكأنه يضع الأساس الذي سينبني عليه المعمار الروائي، يقول في أحدها نابليون بونابرت، قائد الحملة الفرنسية، مخاطبا جنوده ومحفزا لهم {أيها الجنود.. ستقومون بغزوة سيكون لها أكبر الأثر علي الحضارة والتجارة في العالم}. ولم يكن ذكر "الحضارة" في هذه الكلمة مجانيا، حيث كانت الحملة بالفعل قد تجهزت بما ترك آثاره بالفعل علي حياة المصريين، والتي نسج خيوطها ناصر عراق، في شخصية المصري "أيوب" وما حدث به من تغير في الفكر.
فقد قاد أيوب السبع، الشاب الأزهري التعليم والفكر، بتكوين عصبة من الشباب، والذين يتفقون معه في ذات الرؤية، تكون مهمتها، هي مقاومة الفرنسيين الكفرة، بالقتل – وهنا لابد للقارئ المصري أن يستحضر ما حدث ويحدث علي أرض الواقع، من قتل وحرق للكنائس من قبل تلك الجماعات المتحدثة باسم الدين – حيث ينجحون في قتل البعض من أفراد الحملة. دافعهم الأول هو، ان الغزاة ليسوا علي دينهم الإسلامي، علي الرغم من إحتشاد البلد بجنود إنجليز وأرناؤوط وأكراد وهنود وفرس، علاوة علي المماليك. غير أن أحد عصبة أيوب يقول :{ الناس في مصر لايهمها سوي أن يكون حاكمهم من المسلمين}ص109. ثم بماذا يامرهم الإسلام؟ . ويوضح دياب ضاضو، أحد أفراد العصبة أيضا: {نحن رعايا السلطان وعلينا إطاعته فهو ولي الأمر كما هو معروف بين الناس}ص63. غير أن شارل في أحد حواراته مع أيوب، وكأنه يطرق الحديد الساخن تهيئة لتطويعه، وإحداث التغيير: { في ثورتنا في القرن الماضي كيف أن الشعب كله ينبغي أن يخرج ضد الحاكم الظالم ويطرده من عرين السلطة، حتي لو كان هذا الحاكم يعتنق الدين نفسه الذي يؤمن به غالبية الشعب, تحدث " أن الدين أمر خاص بين المرء وربه، فلا يجب أن يستثمره أحد لصالحه كما كان يفعل الرهبان والقساوسة عندنا في أوروبا، وكان الواحد منهم يتعامل مع البسطاء باعتباره المتحدث الرسمي باسم السماء فاكتشفنا خداعهم وانتزعنا حقوقنا}ص255.
وقد كان لعلاقة "أيوب" ب"شارل" كثير الأثر في تحول شخصيته، الأمر الذي يؤكد تلك العلاقة المنشودة من وراء العمل، حيث راينا "أيوب" في البداية مقتنع مثل الآخرين، بأن حرب الفرنساوية، ليس إلا حرب ضد الكفار (المسيحيين) فهم علي غير دين الإسلام. وبعد أن قُتلت "فرانسوا" التي هام بها حبا ، وكانت العلاقة بين "أيوب" وشقيقها قد توطدت، وتعلم منه الفرنسية، وتحدثا طويلا عن المفكرين الذي كانوا مشعل التغيير للثورة الفرنسية، جاءه أحد أصدقائه ليخبره أن ما يدور بين الناس عقاب إلهي { لأن أيوب عشق نصرانية، فعاقبه الله وحرمه منها، وعاقبها بالقضاء عليها} غير أن ايوب يصرخ في وجه محدثه { إنهم يكرهون حتي أنفسهم، والله زرع في صدورناالحب قبل أن يبعث إلينا المسيحية والإسلام}ص311.
وقد تجسد التحول في شخصية أيوب بعد أن رحلت عساكر الفرنساوية ، وعاد العلم العثماني يرفرف، قال أيوب فرحا وفخورا لصديقه الرسام شارلي:
{الحمد لله يا خواجة شارل.. أخيرا رفرف العلم العثماني مرة أخري فوق سور القاهرة}
فرد عليه شارل بحسرة:
{لا بأس .. لكنني كنت أتمني أن أري علما مصريا يرفر فوق سور القاهرة.. لا علما عثمانيا! قلبت هذه العبارة حياة أيوب السبع رأسا علي عقب، فالشاب الأزهري النابه الذي ولد في بيت أبيه في حارة المشهد الحسيني لم يكن يري أي فرق بين مصر والدولة العثمانية مثله مثل جميع سكان المحروسة، فمصر جزء من الأمة الإسلامية .............. كما يقول شيوخنا الأجلاءوتجارنا الأفاضل}ص185. وبعدها يستطيع "أيوب" أن يقنع زملاء الكفاح بالسعي لخلع الوالي الجديد محمد علي، حتي لو بقتله علي أمل أن يحكم مصر مصريا، وقد فكروا بالفعل لقتله، غير أنه قد استحال عليهم التنفيذ لكثرة الحراسة من حوله. ولينظر القارئ – أيضا – حوله ، ويري أن القتل الدائر في شوارع مصر، هو وسيلة تلك الجماعات التي لازالت تعيش بنفس الرؤية، مع كل المخالفين لهم.
وقد عرضت الرواية في إطار ذلك، وبإسلوبها السلس، العديد من صور المقابلة، بين عتاد وأسلحة المصريين ( المُعتَمِدة علي الخنجر والسكين) ومن والاهم من المماليك أو العثمانيين، وبين تلك الأسلحة التي حملتها الحملة فاستطاعت بها أن تنتصر في العديد من المقابلات.
الخط الثاني
إلي جانب ذلك الخط التاريخي، الذي امتد بطول الرواية، نتبين خطا آخر، يمكن أن نسميه الخط الإنساني، وقد سار الخطان معا من حيث الصعود والاسترجاع متداخلين، وكانهما خط واحد مضفور بحرفية عالية، ولأن ناصر عراق لايكتب تاريخ، وإنما يقدم عملا إبداعيا، فإلي جانب العديد من الأسماء الفعلية لأشخاص ووقائع تلك الفترة، والتواريخ الدقيقة، التي تجعل القارئ يعيشها بالفعل، واستخدام لغتها وتعبيراتها مثل بونابرته والفرنساوية، ونوع العملات المستخدمة، إلا أنه استطاع أن يضفر المزيد من الشخصيات والمواقف المتخيلة، التي سما بها عن مجرد حكاية التاريخ، ودلف بها إلي عمل يستطيع أن يقاوم مرور التاريخ، فكان العنصر الإنساني الأبدي، الذي يعتبر أحد عناصر الوجود، وهو العلاقة بين الرجل والمرأة، أو علاقة الحب، بأبعاده المادية والروحية، والتي عن طريقها وصل بالبنيان إلي نهايته التي لهث القارئ طويلا وراء الصفحات للوصول إليها، من جانب، ومن جانب آخر للتأكيد علي الرؤية الأساسية التي وصلنا إليها، وهي المقابلة بين الشرق والغرب، وأكرر، ما يدل عليه المقتطف الذي بدأنا به حديثنا.
فقد قامت تلك العلاقة بين مصريين ومصريات، كما قامت أيضا بين مصريين وفرنسيات، كالعلاقة التي نشأت وتجذرت في أعماق "أيوب" و "فرانسوا" شقيقة الرسام الفرنسي، والتي تركت كبير الأثر في حياته وعلاقاته مع آخريات، رغم اغتيالها علي أيدي مجهولين، الأمر الذي هدد معه أيوب ليقتلن من فعل ذلك، وشكه في خيانته لها عندما قرر الزواج بعد قتلها بما يزيد عن العام . حيث جاءته في المنام وطلبت منه النزول معها إلي بحر الأسكندرية، ولما أخبرها بأنه لا يعرف العوم، قالت له:
{سأعلمك ما لم تكن تعلم من فنون العوم والغرام، ولكن لا تنسي أن تعلم أهل بلدك الذين قتلوني أصول الحب والتسامح}ص311 ، وكأنها تعلن عن الجانب المعني من تلك العلاقة. ليتوارد إلي الذهن دعوة رسول الإسلام في حديثه(علموا أولادكم الرماية والسباحة وركوب الخيل). وكأن الكاتب هنا أراد أن يؤكد أن الإسلام ليس هو القتل، وإنما الإسلام هو العمل بجوهر الدعوة.
وعلي الجانب الآخر، نجد "شارل" الرسام الفرنسي، الذي جاءته الزنجية (ياقوتة الحبشية) التي هامت به وعشقته، ورغم سواد لونها إلا انه استمتع بها خاصة و أنه{ لم يكن الرسام الفرنسي يعادي أو يتأفف من اللون الزنجي للبشر، إذ إن كتابات جان جاك روسو ومنتسكيو التي آمن بها تؤكد كلها أن البشر سواسية، وأن اللون لا ينبغي أن يتحكم في مشاعرنا تجاه الآخرين}ص234. ليؤكد، أيضا، دون تصريح أو مباشرة، دعوة رسول الإسلام بأن الناس كأسنان المشط، وليستدعي القارئ قول الشيخ محمد عبده بعد عودته من أوروبا (رأيت هناك إسلاما بلا مسلمين، ورأيت هنا مسلمين بلا إسلام.
ثم تلك العلاقة المادية الروحية المبتورة بين "شارل" ب"مسعدة حجاب" التي سعت إليه أيضا ، وكيف تحول إطفاء الرغبة إلي حب ومودة، حيث يناجي نفسه متسائلا: { ما هذا يا شارل؟ أبوادر حب حقيقي؟}ص 182 . وبعد الحمل تناجي أيضا هي نفسها {الأمومة جوهرة مختبئة في سرداب عميق تنشدها كل أنثي. حتي الحيوانات تستمتع بالأمومة، فَلِمَ تحرمني منها يا الله؟ ما أطيب أن يكون لي ابن جميل مثل أبيه شارل، وما أقسي القوانين التي تحول بين إمرأة وغريزتها، وما أبشع الزمن الذي يئد السعادة في مهدها}ص183. فقد حملت "مسعدة حجاب" منه، ولم تشأ إنزال الجنين، رغم استحالة زواجهما لما يرفضة كلا الطرفين (الإسلام والمسيحية) لذلك الزواج، إلي الحد الذي تباطأ فيه "شارل" في مغادرة البلاد، رغم إصرار القنصل الفرنسي، وتأكيده بخطورة بقائه بمصر. ذلك الجنين الذي تركه ناصر عراق في بطن أمه، مثلما ترك جنين "أيوب" أيضا في بطن أمه، بعد قتله، وكأنه يريد القول بأن علاقة التزاوج بين الشرق والغرب في انتظار المستقبل، أو الأمل في أن يأتي.. في المستقبل.
ومقابلة أخري نستطيع استخلاصها من مقولة "شارل" { ثقافتنا غير ثقافتكم يا أيوب، ونحن نتعامل مع المرأة بوصفها ند للرجل، وليست كائنا من الدرجة الثانية}، وبين تلك المعاملة التي شاهدها "أيوب" و "شارل" معا، عندما سمعا جلبة {وصراخ امرأة منبعثا من بيت مقابل لجامع المؤيد، ثم فُتح باب البيت بقوة وانسلت منه المرأة المستصرخة تمسح الدم النازف من فمها وتلعن وتشتم، يتعقبها رجل بدين بشارب كث وشعر أشعث رافعا عصا غليظة يتوعد وينذر}ص165 ، لنتبين بعد ذلك أن الرجل يستولي علي أموال زوجته، ويسكر بها، فضلا عن أنه لا يعطيها حقها الشرعي. وهنا يلفت نظرنا الكاتب ما سبق أن أكده في أكثر من موضع بأهمية تلك العملية (الحق الشرعي) في الاستقرار النفسي، وأهميته في القدرة علي العمل أو القرار، للحد الذي يسأل فيه "شارل" أيوب" بعد موت شقيقتة ، عما إذا كان قد قَبًَلََها، فيخجل "أيوب" ويعجز عن الرد {توقف الرسام عن السير، وتفرس في ملامحه للحظات وربت كتفه، ثم احتضنه وهمس في إذنه:" حسنا... دموعك تؤكد أنك قبًلتها.. فشكرا لك، لأنك منحتها قدرا من السعادة قبل أن يقتلها المجرمون}ص312.
المقابلة الصامتة
إذا كان ما سقناه من قبل، يمثل المقابلة بين حضارتين مختلفتين، فإن مقابلة أخري نبتت من داخل الحضارة الواحدة، أو ما يمكن أن نقول أنها بين حضارة متمسكة بالماضي، وحضارة مطعمة بالحداثة، وهي تلك التي نشأت بين ما يمثله أيوب (الجديد) وجماعته، وبين رجال الدين وأصحاب المصالح. وهو ما يزيد من حركية الفعل في الرواية، ويسارع في إيقاعها.
فكما ذكرنا، وضح تأثير "شارل" او ما يمثله من فكر، في تغيير رؤي "أيوب"، خاصة بعد طرد الفرنسيين، وأصبح همه الأول، وما أقنع به عصبته التي انضم إليها الكثيرون من الشباب، هو خلع محمد علي، وتولية وال مصري علي البلاد، وبدأ في حشد الناس وإقناعهم بتلك الرؤية.
غير أنه علي الطرف الآخر كان يقف رجال الأزهر وكبار التجار، بزهو المنتصر، وكأنهم أصحاب الانتصار. حيث اعتلي شيخ الأزهر الشيخ عبد الله الشرقاوي {شكر الله عز وجل لأنه أنقذ البلاد والعباد من الفرنساوية الكفار وغدرهم وخستهم، وأعز الإسلام ودار الخلافة العثمانية بانتصاره عليهم، ومنح شعب مصر رعايا السلطان حريته وكرامته بعد أن أذلها بونابرته وجنوده}ص210. وعلينا هنا تأمل كلمة (رعايا) وما تحمله من فكر ذلك الفريق.
ومن بعده صعد السيد عمر مكرم، العائد من بلاد الشام برفقة الجيش العثماني بعد محق الفرنساوية و{تحدث السيد عمر مكرم عن ضرورة العودة السريعة إلي حضن الآستانة، فدار الخلافة هناك، والسلطان العثماني هو خليفة المسلمين، وله علينا حق الطاعة}. وعلينا هنا أيضا أن نتأمل (بعد محق) والتي تصور أن المتحدث خاض المعارك، وسحق العدو، أي أنه ينسب لنفسه، أو لمجموعته ما لم يفعل.
حيث تصور شيوخ الجامع الأزهر أن النصر ما جاء إلا من عند الله، وبما أنهم هم المتحدثون باسم الله، فكأنهم هم المنتصرون.
في الوقت الذي كان فيه "دياب" ومجموعته قد اقتنعوا برؤية "شارل" والتي يقول بها العقل والمنطق، حين قال لدياب :
{لا تظن أن المصريين فقط هم الذين طردوا جيش الفرنساوية بمقاومتهم وبسالتهم، ومع كامل إحترامي لجهودكم، وإنما التحالف بين الإنجليز والعثمانيين كان بمثابة السيف البتار الذي قضم ظهر جيش بونابرت وأجبره علي مغادرة بلدكم، فمصر قلب الدولة العثمانية ولا يمكن أن تجعل أي دولة صغري أو كبري تخطف هذا القلب ، والاتفاقيات والمعاهدات كلها التي قضت بانسحاب جيشنا تمت بين الفرنساوية والعثمانيين برعاية بريطانيا، ولم يوقع عليها رجل مصري واحد من الحكام، أو المحكومين أو الثوريين}ص254. ويتبادر للذهن هنا – أيضا – ما حدث بعد العدوان الثلاثي علي مصر أيضا في 1956. حيث يتضح أن الرواية، رغم بساطة الشكل، إلا أنها توحي بما هو أبعد، الأمر الذي يوسع من فضائها كثيرا.
فإذا ما أضفنا إلي ذلك ما أورده الكاتب من مقتطفات في مفتتح الرواية، وهي تلك الوثيقة الواردة في كتاب الفرعون الأخير للفرنسي جيلبرت سنويه، والموقعة من شيوخ الأزهر وكبار التجارموجهينها إلي محمد علي لتأييد تنصيبه واليا علي البلاد:
{بالنظر إلي الكرم والعدل اللذين أظهرتهما أعمالكم نحو الشعب، فإننا لا نفكر في غيركم. ستكونون الحاكم، وسنخضع لشروطكم} ( ليلة 12 مايو 1805).
لتبين لنا ذلك الصراع الداخلي المكتوم، بين رجال الدين وكبار التجار(أصحاب المصلحة)من جانب، وعامة الشعب من جانب آخر. وما أراد بها الكاتب من قارئه إلا النظر فيما حوله، علي أرض الواقع، وما جري من جانب الشيوخ ( ويتوارد إلي ذهن المتابع لأحداث 25 يناير، موقف السيد عمر مكرم فيما سبق (عودته من الشام)، وبين عودة الشيح القرضاوي من الخليج بعد تنحي مبارك) فيما لحق.
وقد يؤكد ذلك عنونة الجزء الثاني من الرواية. حيث عنونه :
القســــــــــــم الثاني
القاهرة يوليو 1801 م نوفمبر 1805
الأزهر 11 نوفمبر / إلي 16 نوفمبر 1805 .
علي خلاف ما تم في القسم الأول، فهو هنا أراد التخصيص لدور الأزهر، وقد أفرد لها الفترة المقصودة، متضَمنة’ً في الفترة المعنية، وكأنه أراد أن ينبه القارئ لأهمية هذا الدور، في تلك الفترة الممتدة من حينها، وللآن.
بناء الشخصية
بينما نستطيع أن نلمس فيما سبق، كيف أن كلا من شخصية "أيوب" و "شارل" كانتا شخصيتين إنسانيتين، تعيشان الحياة، بأبعادها المتنوعة، والتي تساهم في تقبلهما، وبالتالي تقبل ما ورد علي لسانهما. إلا أن الكاتب أراد لنا ألا نقع في تصور أنهما نموذجين مثاليين، فعبر عن الكثير من المعارضات، أو الضغوط التي وقعا تحتها، لتخرج أفكارهما من واقع القناعة، والإيمان برؤيتهما، خاصة "شارل" الذي قد يتصور القارئ في لحظة أن الكاتب يقف في صف الحملة الفرنسية. إلا ان حوارات عديدة كانت تدور، وتصل للحدة بين "شارل" وبعض الضباط من الحملة، إلي الحد الذي وصل بأحدهما أن يصرخ في وجهه قائلا:
{من فضلك شارل .. لا تصف جرائم المصريين ضدنا في أكتوبر الماضي بأنها ثورة.. أرجوك.. لا تبتذل كلمة ثورة يا صديقي.. فنحن الفرنسيين فقط من قمنا بثورة.. طردنا ملكا وأسقطنا نظاما كهنوتيا متخلفا، وقضينا علي حفنة إقطاعيين يخاصمون العصر والتطور، وأقمنا نظاما جمهوريا}ص84.... ثم يستكمل { المصريون كالقطيع الهائج ، لا يملكون فكرا ولا تصورا عن المستقبل، ولا يحلمون بمجتمع أفضل، وجل ما يشغلهم هو مستقبلهم بعد الموت، أي الجنة والنار والدار الآخرة، لقد هاجو ليقتلونا لأننا نختلف عنهم في الدين فقط}ص85.
لكن الرجل الذي عاش بمصر قبل الحملة بعامين، ومارس إنسانيته فيها، وشعر بالحب فيها، ما أنساه حبه الذي ظن أنه لن يموت في فرنسا، ينبري للدفاع عن مصر، وكأنه يدافع عن نفسه، كإنسان:
{ يجب أن يعرف الكابتن مواريه.. أننا نحن الفرنسيين أسهمنا مع المماليك في إشاعة البؤس في هذه المدينة، فقد قتلنا منهم الكثير، وفرضنا ضرائب باهظة علي التجار الكبار والصغار فاكتوي بنارها الفقراء وما أكثرهم، برغم أن المصريين شعب بسيط ... طيب ورحيم ويحب الحياة ، لكنه ضحية جهل مزمن وفقر دائم بسبب أطماع المماليك الذين ينهبونهم بانتظام بكل أسف، ثم جئنا نحن بجيوشنا لنفاقم من تعاستهم...}ص40.
الخصائص الإسلوبية
علي الرغم من الموضوع التاريخي، وما دعي البعض بإدراج الرواية ضمن تصنيف "الرواية التاريخية" وما أختلف عليه، متصورا أن الرواية يمكن تصنيفها ب"الواقعية" إذا ما عدًلنا المفاهيم الجامدة للمصطلح، حيث أن القارئ لا يقرأ العمل علي أنه يسترجع فترة زمنية ماضية، وإنما سيظل راسخا في ذهنه طوال القراءة، ما يدور حوله علي أرض الواقع. أقول أنه علي الرغم من كثرة التواريخ في الرواية، وما يمكن ألا يكون محببا للقارئ الباحث عن المتعة، إلا أن الكاتب استطاع أن يمسك بقارئه، ويجعله لا يغادر إلا بعد الكلمة الأخيرة، بأكثر من وسيلة.
أولا الإسلوب السلس الاقرب للحكي المحبب لدي القارئ، في حين استطاع أن يقدم التواريخ والحقائق التاريخية، منسوجة في سياقها، مؤكدا مسايرة الرواية لما دخل علي الرواية حديثا وما يمكن تسميته بالمعلوماتية، حيث خرجت الرواية عن نطاق التسلية، وتزجية الفراغ، إلي حيز الدرس العلمي، الذي يخاطب العقل، منسوجا بخيوط الخيال والمتعة.
ثانيا : تنوع الضمائر. حيث جاء السرد بضمير الغائب الملم بتفاصيل الموضوع والأبعاد، ويكشف له ما علي السطح. ثم السرد بضمير المتكلم في كثير من الأحيان، وتحديدا لدي كل من الشخصيتين الرئيسيتين، "أيوب" و "شارل" ليكشف ما أضمره كل من الشخصيتين. لذا كان هذا الضمير يستخدم بصفة خاصة في المسائل الداخلية، التي يأبي السارد عن الإفصاح بها للغير.
ثالثا: استخدام تقنية الاستباق التي ترمي للقارئ بالطعم، وتجعله يجري للبحث عن السمكة، التي غاليا مالا يجدها إلا بعد الكثير من الصفحات، ويكون الكاتب قد نجح في إجباره علي السير في القراءة لمسافة أطول، حين يكون قد ألفي إليه بغيرها. وعلي سبيل المثال. تبدأ الرواية بفصلها الأول {أيوب – ليلة زفافي 12 مايو 1805) ويبدأ بما يمكن أن يجذب القارئ متوقعا قراءة تفاصيل يوم الزفاف، كما يبدأ ب12 مايو 1805. في الوقت الذي يعود بعده لما قبل هذا التاريخ، فضلا عن أنه لا يخبرنا بما سبق ليلة الزفاف إلا بعد ذلك بصفحات عديدة، وعلي مراحل، وكأنه يقدم لنا المعلومة علي حلقات.
لتظل "الأزبكية" علي أرض الواقع رمزا لزمن كانت فيه مقر الظلم والاستبداد والاستغلال، وفي ذات الوقت، عمل إبداعي ممتع، ودعوة ليقظة لما يدور في الحاضر علي أرض الواقع، مستندا علي عبرة التاريخ، الذي ساقه ناصر عراق كوثيقة لأجيال كثيرة تأتي من بعده. وكأنه يدعونا لاستحضار الثورة الفرنسية، بمبادئها التي أرست قواعد الحرية في العالم.
Em:shyehia48@gmail.cim
- ناصر عراق – الأزبكية – رواية – الدار المصرية اللبنانية – ط1 – 2015.