تتسم قصائد هذا الشاعر المصري الجديد بمذاق فريد ولغة صافية وبنية بسيطة السطح ولكنها عميقة الغور ومتعددة الدلالات. وتوشك القصائد أن تتكامل في بنية أقرب إلى الديوان المتكامل.

قصائد

منتصر عبدالموجود

1 ـ هجائية للشوبنج
زوج خالتي الذي خرج منذ ثلاثة أو أربعة أسابيع لعمل شوبنج، بفقدانه السيطرة على الأمور صار منتميا لقبيلة من الهيبيين يتزعمهم متزوج كان ـ حتى وقت قريب ـ رهن الاعتقال إثر سلسلة من الاعتداءات على مطاعم الوجبات السريعة، لم يدعم قرار الإفراج عنه سوى ملاحظته المقلقة التي تضمنتها الأوراق الرسمية وعلى إثرها جندت الدولة جيشا من السيميائيين انقسموا بعد بحث علمي مرير وجهود استخباراتية مكثفة إلى ثلاث فرق:

الأولى أعلنت أن السيد كنتاكي ذلك الشيخ المتصابي يستقبل العملاء بابتسامة مفادها: أعدكم بمجرد الانتهاء من وجباتكم أكون قد انتهيت من زوجاتكم.

بينما الفريق الثاني أكد أن المهرج الودود الذي يحبه الأطفال والمدعو ماكدونالدز امرأة سحاقية تخدعنا بالمساحيق الكثيرة التي تغطي وجهها وشعرها وتخطط بها ملابسها لصرف أنظارنا عن القوام ومكمن الشهوة اللذين يقودان بسهولة إلى فضحه أقصد فضحها وهو الآخر ـ السيد ماكدونالدز ـ يستقبل العملاء بنفس الابتسامة التي يستقبلهم بها السيد كنتاكي.

الفريق الثالث رغم أنه بدا كقاطع لشوط أبعد من سابقيه بتوسيع نطاق دراسته الميدانية ليشمل أفراد قبيلة الهيبيين وخلفياتهم الثقافية والاجتماعية لم يضف جديدا لإنجاز الفريق الأول وبدا أعضاؤه من خلال تقاريرهم ضحايا لأفكار خالتي الحادة الطبع معلنين أن الابتسامة المشتركة لا تقول سوى (استمتعوا بوقتكم فأنتم بعيدا عن زوجاتكم) الأمر الذي أنذر باتساع دائرة الصراع وتدخل أطراف جديدة ابرزها الجمعيات النسائية التي أسقط قضاؤنا النزيه دعواها حول إغلاق تلك المطاعم مشددا في الحيثيات أن الحكم صدر بعد عمل مسح لعدد الأزواج الذين يصحبون زوجاتهم إلى تلك المطاعم بقصد أو بدون قصد مما أضعف موقف خالتي وأظهر تقصيرها القاتل حيال كوابيس ظلت طوال سنوات تهاجم زوجها الذي صادفته البارحة على الرصيف المبتهج ـ دون مناسبة ـ لأحد المولات، يدخن الماريجوانا وفي عينيه بريق من عثر أخيرا على يقينه الخاص بينما يغط الداخل في جلبة المتسوقين الباحثين دون جدوى. 

2 ـ اعتداءات متكررة
كان رجال الدين في القاعة المغلقة يضعون نقاطا فوق حروف تقرأ هكذا: الرب جانبه الصواب بالتوسع في توزيع القمصان البيضاء.

فقضى المنبوذون الليلة المقدسة بين كتب وموسيقى تحلقان بعيدا عن عالم اللون الواحد واثقين أن الصباح سيدركهم بنوم ثقيل يحول بينهم وبين الصلاة الكبيرة حيث رجال الدين يختالون بقمصان بيضاء ذات تاريخ مشبوه ليس أخر حلقاته بائع أغلق على نفسه أبواب الندم عقب ثراء جاءه كخراج أرض حرثت باعتداءات متكررة على ملكوت الرب المتجول كل ليلة بين صناديق الموسيقى كمشرد يتحاشاه المارة حرصا على بياض ملابسهم الشاغل أبصارهم عما في عينيه من مساحات شاسعة للحنان يحكم بها ـ ضمن أعمال أخرى أكثر سرية ـ غطاء الحلم على النائمين حتى ساعة متأخرة من النهار. 

3 ـ هكذا يكتب التاريخ
في حياة أخرى كنت ابنا لعائلة أندلسية، أبي كان تاجرا وأمي من نبيلات الطبقة الثانية. بعلو كلمة الملك فردريك رحلا وتركاني ثم أخذني قس إلى الكنيسة وقال: صل للرب يسوع. بنفاد حيلته على ما تعلمته من شيخ الجامع الكبير: (صل بجسدك لمن شئت واحفظ لروحك صلاة واحدة) أقام احتفالا لمراسم تعميدي الكاذب ممتنا لصمتي الأقرب إلى التواطؤ على دموع طالما غالبته أمام قصر الحمراء.

قبل موته أعطاني كتابين وقال: احذر أن يراهما أحد من أهل هذه البلاد، اهرب بهما إلى مصر.

أثناء هروبي قرأت الكتاب الأول كان ترجمات من الإغريقية لوثنيين يمتلكون نفاذ بصيرة إيمانية، وأجبرني الجوع على أكل الكتاب الثاني. بدخولي مصر كنت قد أتيت على أخر ورقة، فدفنت الغلاف في المقطم متذكرا كلمات القس:... جلد غزال جيء به من صحراء العرب ولم يحل ثراء المرعى بينه وبين قراره بالموت سوى أسبوعين.

في الأزهر استقبلني شيخ مسح على الكتاب وقلب صفحاته ثم وضعه في خزانة الكتب. حزنه على القس لم يكسر نظرة مؤنبة: صليت ليسوع؟؟
فقلت: (صل بجسدك لمن شئت واحفظ لروحك صلاة واحدة)
فاعتدل في جلسته سائلا عن شيخ الجامع الكبير وبإدراك أنه معلمي أجلني بيد أن إجلاله لي وخزانة الكتب ما حالا بيني وبين الموت سوى أسبوعين قضيتهما في نسخ مخطوطتين. كانت الأولى لابن زيدون، والثانية لابن سناء الملك مأخوذا بقدرة الكلمات على حمل رائحة والدي وشيخ الجامع الكبير والقس الطيب.
بموتي أم الشيخ حشدا من الناس في صلاة الجنازة ثم همس بالقرب من جثماني مداعبا: (صل بجسدك لمن شئت واحفظ لروحك صلاة واحدة). آه يا بن الأبالسة!!
تلك المداعبة قادت تخميني إلى: لا يتجاسر على مداعبة الموتى سوى من أدرك بطريقة خفية أمر بعثي مرة أخرى ابنا لأب يعمل بالطباعة، وأم من صعيد مصر تغالب الحنين بمتعة الحكي. 

4 ـ بحث
(في الهزيع الأخير من الليل
ألم وشغف
يخلفهما
انسحاب ملايين الحيوات
قبل الوصول إلى عتبة الصحو) 
قيام القديسين برعاية البشر مع احترام مبدأ التخصص شجعني على البحث عن اثنين:
بمجرد ذكر الأول ملايين النفوس المتعبة أشارت إليه بسبابة العزاء الناجم عن استثمار كل إنسان جدارته بعطف القديس راعي القضايا الخاسرة.

أما الثاني فكانت شبكة المعلومات ومكتبات الأديرة ومراسلات أكاديميات لاهوتية مسرحا لمطاردات أفضت إلى يأس تعهدته بتقليب دفاتري القديمة حتى طالعني أحدها بوجه زميل دراسة كان لقبه العاشق لعقيدته.

بسؤاله نظر طويلا ثم قال:
لرتبة القديس الراعي ضوابط صارمة، فراعي القضايا الخاسرة ـ مثلا ـ حفلت حياته الدنيوية بخسائر كانت معراج ترقيه، وقبل أن تبتئس لحقيقة أن القديس موضوع بحثك قديس منسي، اعلم أن هذا النسيان حجر الزاوية لإيمان بدونه لن تنال مساعداته الغامضة، ولأثبت لك.. هب تجليه بيننا الآن، ماذا ستطلب منه؟

انفتح فمي ليحلق في سموات العطايا بيد أنه بقي مفتوحا على خواء مربك.. حقا ما الذي يرجوه المرء من قديس يرعى الأحلام المنسية؟! 

5 ـ عطش
بينما رجل يمشي بطريق اشتد عليه العطش، فإذا بقوم يعرفهم، مستجمعا كل طاقاته التعبيرية حدثهم عن العطش وكيف خلقه الله عقابا للجسد والروح معا... بوصولهم إلى درجة مشجعة من التأثر طلب الماء... فسددوا نحوه نظرة قاسية. كان لانتقالهم إلى الضحك المؤلم ابتهاج غير متوقع ولتحقيق المزيد عمدوا إلى سكب الكثير من الماء على الأرض.

مضى الرجل وقد استبد به العطش، فإذا بقوم لا يعرفهم، أخبرهم مباشرة بما يريد، تجاهلوه، كرر السؤال دون جدوى... فأرغمته المهانة على المضي في طريقه حتى وجد بئرا، لم يعطل العطش حاسة قديمة جعلته ينظر طويلا حول البئر قبل الاندفاع إليها.. شرب حتى ارتوى وإذا بكلب يلهث يأكل الثرى من شدة العطش فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثلما بلغ مني. ملأ فردة حذائه اليسرى وبالنظر في عيني الكلب تذكر القوم الذين يعرفهم والقوم الذين لا يعرفهم.. ابتأس لجهل الكلب أن غدا وبعد غد لن يكون أمامه إلا أن: يلقى قوما يعرفهم يسخرون منه بعد استجماعه كل طاقاته التعبيرية للحديث عن العطش وكيف خلقه الله عقابا للجسد والروح معا.
أو قوما لا يعرفهم يتجاهلونه كلية لتتفاقم معاناته بين المهانة والعطش.
أو يعود إلى هنا يلهث ويأكل الثرى من شدة العطش.
حين تأمل الاحتمالات الثلاثة ارتجف قلبه ارتجافة تدلت لها اليد الممسكة بفردة الحذاء، نهض الكلب ليقابل اليد في منتصف المسافة فعاجلته القدم اليمنى بركلة أسقطته في البئر.

ومضى الرجل سعيدا بما قدمه للكائن البائس من مساعدة لن يعطش بعدها ما تبقى من حياته، واثقا من إصرار الكلب على رد المعروف باكتشاف مداخل ومخارج الشبكة الخفية لكل آبار العالم. وبكل ما للكلاب من دأب وإخلاص سيوزع حمولة جثته من عفونة وديدان وسموم بنسب كافية لحرمان القوم الذين يعرفهم والذين لا يعرفهم من الحصول على ماء نظيف... وهكذا تنقضي حيواتهم بالتشتت في طرق تبدد كل طاقاتهم التعبيرية في الحديث عن العطش وكيف خلقه الله عقابا للجسد والروح معا. 

6 ـ خطوط متقاطعة
كلما خرج من المسجد تتقاطع خطوط على جسده طولا وعرضا.
حذرته زوجته بعنف: جُعِلت المساجد للصلاة.
لم يفهم وهي لم تتمكن من التوضيح.
مع الوقت كانت الخطوط تزداد ثباتا حتى توقف عن ممارسة السباحة وكلما ضم طفلته إلى صدره كانت تجفل منه.
راقبته الزوجة حتى المسجد مخاطرة بالدخول إلى أماكن الرجال... وضع نعليه.. توضأ مثل الجميع ودخل في الصف... عند بداية الصلاة غادره كيان أثيري.. راح يدخل ويخرج عبر النوافذ الموشاة بالأرابيسك.
في تلك الليلة تظاهر بالنوم تاركا أناملها تتحسس صدره وكتفيه، مقتفية الخطوط التي صارت قنوات راحت تملؤها بالدموع. 

7 ـ سوء تقدير
في الكنيسة ترقص أضواء الشموع على البياض الخزفي لوجه العذراء المنحنية عطفا قبالة صفين من الدكك الخشبية، لا ينال الزمن بخطوه البطئ ولا خواء المكان من ابتسامتها التي ـ على غير المتوقع ـ تكتسب قوة بفعل ما تحمله من عتاب خفي لجندي الحراسة الواقف عند الباب يفرك يديه حالما بالعودة إلى الحقول البعيدة حيث انقطاع الكهرباء السبب الوحيد لإيقاد الشموع. 

8 ـ سمرقند
عن سمرقند أمين معلوف
بإغلاق الباب الأخير لفراديس طفولتي كان علي تدبر أمري؛ فرحت أدخر المال للسفر إلى نيسابور بيقين أن الخيام سيتجلى لي بهيئة ذاهلة، تلزمني الجلوس صامتا وهو يحكي عن الفلك والخمر والنساء، دون أن يمنعه مقام الموت متعة البكاء الذي يأتي هكذا دون سبب، وحين ينتهي سيكافئني بعمامته أو بردته أو حتى فردة حذائه... سأقبل منه أي شيء إلا تلك النسخة المذهبة من الرباعيات، التي بشأنها تصارع رغبة ُ التملك الشؤمَ فتصرعه... تلك النسخة التي أزهقت أرواح نظام الملك وحسن الصباح والمئات غيرهم قبل أن تبحر في متاهة الظن على خلفية من الكارثة التوراتية للسفينة تيتانيك.
تلك النسخة... من معدنها النفيس وقدرها المشؤم
جبلت طفولتي. 

9 ـ صفوة البهلوان 
مهما كلفه الأمر لن يفرط في بقعة ضوء يولد كل ليلة من مائها على هيئة سيده، بذات الصلعة والعود بين الذراعين، لن يخذله صوت يخرج من أعماق تتستر عليها العينان. وكمن احترف القتل صغيرا تخضع زمة الشفتين وجمود القسمات ودماثة الخلق لضوابط صارمة، يفزعه جهله لأي منها يعزي انتماءه لعامل الكواليس مقسما أنه ذات العامل في كل المسارح العامرة لياليها بميلاده، على هيئة سيده غير آخذة في الاعتبار، أن لا بقعة الضوء، ولا جموع المصفقين المغيبين عن عمليتي القتل والولادة، ولا براعة الآداء تجبر خاطرا كسرته خيارات خاسرة، كما يجبره إصرار عامل الكواليس كل ليلة، على استمناء يعمد في رائحته الابن البار لبقعة الضوء. 

10 ـ ندم وأسف
ياللمعاجم كيف لم يلتفت أحد لخطأ الربط بين كلمتي ندم وأسف برباط الترادف؟ كيف يكون ندم الذي يحب الظلال، وينأى عن الأضواء والتجمعات، مرادف أسف الذي يجيد ألعاب الورق، ويحفظ كتاب الأمير، ويموت في الأماكن المنعزلة، ليس رعبا بل لفقدانه الجدوى؟ ربما كان الاثنان أخوين لكنهما ليسا شخصا واحدا، فندم أهلته طبيعته ككائن داخلي، إلى السكنى العميقة بسوداوية وخيال ساخن، يدمغان مخيلتنا بختم من يأكل أنامله، أو ختم غرفة تم لها إخلاء تأثيري، يقصي كل ما يعيق ترددات نشيج يدفع في بحار اللبن المسكوب موجات حالمة تحمل سفنا مثقلة بالتنهدات والحسرات، وأكداس ليت الصادقة والمكروهة من قبل أسف المرغم ـ بطبيعة عمله ـ على تزييف الكثير منها للاستعمال الخارجي. حيث يعرف كيف يتقدم بهيئة لا تخطئها عين: أنيق في بساطة، جميل في تواضع، صادق في هز الكتفين عند انطلاقه، لإبراز أحاسيسنا الملساء في قاعات الطعام والمراحيض العامة، أو لأداء دوره الإعجازي في تفادي صخور تعترضنا من قبل الآخرين. ورغم كثرة ما يكون المرء نادما وآسفا في آن واحد، لم تسجل حالة ٌ واحدة لاعتداء أحدهما على مناطق الآخر، فأسف ـ رغم كل مثالبه ـ يترفع عن أن يكون تعليلا، لترددنا على الحانات ملاجئ الندمان! كما يدرك ندم عاقبة خروجه على الملأ: ازدراء وسخرية ومهانة تسحق النفس البشرية، تلك الحضانة العتيقة منذ انبثاق الاثنين إلى الوجود إثر تناول الثمرة المحرمة، إذ أرضعت ندم مقارنات صامتة بين قبل وبعد، وأسف أرضعته حاجة غريزية إلى التمويه على ما يمور به الداخل، مما لا يحمد ظهوره أمام إبليس شامت، وملائكة متحاملين، ورب لم يكن آدم قد عرف بعد قدرته اللامتناهية على غفران سينظر به ضاحكا لما يقدمه آدم من أسف مقابل ما يكنه لتبدل حال ونعيم زائل وحواء مفقودة من ندم. 

11 ـ النسيان
بوجه شاحب ونظرة حائرة كانت تدخل الفصل، لتوزع علينا أوراقا بيضاء، وأقلام الرصاص. بعد أن تستريح في مقعدها تخرج إبرتين، محاولة بأقل أخطاء ممكنة، سحب خيط من كرة في قاع حقيبتها.
كنا نحن التلاميذ الصغار جنودها ضد عدو تجهله عقولنا المرتبكة، أمام غموض علاقة بين شغل الإبرة، وما يملى علينا من أحداث تافهة.
بالتفاف الإبرتين حول الهواء توقف الإملاء، لضبط الأمر مستغلة ذلك في التأكد من صحة التاريخ، وبانضباط مسار الإبرتين تخرج الأحداث دقيقة متتابعة من فمها إلى الأوراق:
مشاجراتها مع البقال خرب الذمة،
حماقات زوج عاش ومات دون الوعي بعشرات الأصابع تغتابه يوميا،
وكثيرا ما أبكتنا الحياة العاطفية المتوترة لابنتها الجميلة.
كانت تحفزنا بالحديث عن نقيصة بشرية من شأنها إشعال الكوارث وقصف الحيوات. وبخطوات مدروسة لقائد لا يلقى من جنوده إلا الطاعة العمياء، كانت تسأل أحدنا عن أحواله بابتسامة تزداد جمالا إذا جاءتها الإجابة مختصرة وسريعة، كما وزعت علينا ذات مرة قطع حلوى، ضاعف من سعادتنا عدم ورود أدنى إشارة لها في إملاءات اليوم التالي.

و حين سولت لنا نفوسنا إسقاط بعض الأحداث رحمة بأصابعنا طاردتنا صورتان لزوجها الساذج وابنتها الجميلة، وهما جثتان متفحمتان إثر الشروع في إعداد طعام سجلنا كل خطواته، عدا إغلاق الموقد بعد خمس وأربعين دقيقة؛ مما أعادنا إلى المعركة كمحاربين شجعان، قانعين منها بمتعة حكي ذكريات عجفاء، وتبرير إصرارها على شغل الإبرة الذي تعلمته من أمها، أو ربما جدتها الراحلة، دون ترك صورة واحدة، وحين تجرأ أحدنا على السؤال عن مستقبل قطعة الصوف التي تكبر يوما بعد يوم. غاصت في شحوب وجودها، وعادت إلينا بنظرة المتعرض لخيانة، تصلبت لها يداها الباردتان وهما تكيلان لنا الصفعات.  

12 ـ فوائد أخرى للأسفار
إلى: ياسر عبد اللطيف
سحر الأسفار في تسليم دفة الزمن لوسيلة المواصلات، حيث سكون الجالسين في انتظار الوصول، تمويه على داخل يجرف صاحبه عبر خيالات ومشاعر، كشعورك أنك هارب، وأن قدرك يقبع في استراحة حقيرة، تديرها امرأة ذات ملامح محايدة، وقلب نسيت أين ضاع منها.
بكسرك المدة المعتادة لبقاء أي مسافر، ستقترب منك مستمتعة بفتح كل الجراح القديمة. ستمنحك كوبا آخر من الشاي، مؤكدة أن أباها في الدور الأعلى ينام النهار كله، ويصحو مع الغروب الموشك، بعبوره إلى زجاجة الخمر ستمنحه الكأس الثالثة شجاعة الجلوس في ذات المقعد، حيث قلبت الابنة حياتها أمامك. فترى الشبه الوحيد بينهما نظرة موجعة حريص كلاهما على منحها للعربات المارقة.

سيحكي قصته كقاتل أجير أجبرته الشيخوخة على تقاعد أخرجه من حطام الدنيا بهذا المكان وابنة لا تكلمه. حديثه عن شرف المهنة ولا مبالاته بالأجر مقابل تفاصيل تجعل الضحية جديرة بنهايتها سيقوده إلى النظر في يديك معلقا: كيف يحتمل المرء الحياة بيدين لم تزهقا روحا واحدة؟ فيسقط بينكما صمت يضاعف من شعورك بألم النظرة الممنوحة للعربات وبحياتك الملأى بكثيرين تود يداك إزهاق أرواحهم...
بنبرة عميقة تليق بمعلم روحي سيخبرك أن نومه الثقيل إجبار على الوقوف أمام حائط ثبتت عليه اللقطة الأخيرة لوجوه ضحاياه مع تساؤل مر: أنى للموتى كل هذه القسوة؟
بيقين أنهم ينتظرونه وأن بقاءك إلى جواره سيؤمن له عبورا يحول بينه وبينهم سيسألك المكوث معه عشر سنوات يموت بعدها أو ـ يضيف ضاحكا ـ تموت أنت أو يموت العالم...
قبل إعلان موافقتك ينتهي سفرك فتغادر المقعد مثقلا بفكرة أن يديك لم تزهقا روحا واحدة، وأن زمنك الوحيد يمتد هناك في الفراغ القائم بين محطتين.. 

13 ـ عزلة
على الأرضية الخشبية يزاحم الصمتَ وقعُ خطوات متخيلة، فيبالغ المصباح في تدليه لاستحضار خيالات غمرها بنور ٍ ضيق به ذرعا من خزانة ملابس استدرجت المائدة والكوب الذي نسي طعم أخر شفتين إلى التربص بسرير انحرف بوجوده إلى مركبة موغلة في سهوب الأرق، فينأى الكرسي ـ بهيئته المثيرة للشجن ـ مشفقا على الجميع من أكذوبة الأمل الأخير المعلق بضلفتي شباك توشكان على الانفجار لمرأى خروج الرجل وقد اختلط صوت خطواته بقطرات من دمه تسترت عليها الألوان التي لن تغفر مطلقا انسحاب شعاع بصرك بفظاظة تجرح ذهب الإطار!! 

14 ـ خوف
كان الطريق إلى بيت العائلة مفروشا بالنوايا السيئة، والبستاني المسئول عن تشذيب الأشجار غررت به الرائحة المنبعثة من المقهى المتقشف حيث المالك هو ذاته العامل الوحيد الحريص على ما لفوطته من بياض يعكس جمود تعبيراته المستمد من غيمة ثقيلة تنبعث من دخول البن إلى النار مجنبة إياه الآثار المدمرة لتيار يمر أسفل العتبة محملا بدماء طيور مذبوحة وبذاءات صبية المحال المدفوعين ـ تحت الوطأة الاستفزازية لبياض الفوطة ـ إلى جانبي المقهى يكدسون أقفاصا صفراء أضمر لها امتنانا إذ تمنح طيورا بائسة فرصة تشييع ذويها موحية له باحترام الدموع الصامتة للبستاني الجالس في الركن الأكثر عتمة يرثي ذاتا اختلطت عليها نوايا التدخل في عمل الطبيعة التي بمنتهى الرحمة الزائفة أخفت عن الرجلين دورا تحذيريا تلعبه الأقفاص الصفراء كلما اقتربتُ من البيت. 

15ـ الحنين سلة المفقودات
إنه ماجريت:
في منتصف عبورك جسرا دون رغبة منك. تتوقف شاعرا بالأسى، ليس لأنك وحيد والوقت ليلا، والفصل شتاء وضوء المصباح يسقط فوقك لزجا. بل لأن الأسد القابع خلفك ـ في هدوء تعبيري لسطوة آلاف الأشياء الصغيرة التي تمرر كل يوم نصلها الحاد على رقبتك دون أن تملك حيالها دفعا ـ سيرغمك على النظر بعيدا بما منحتك المواجع من رهافة تكسر الأقفال الملغزة لذاكرة الكون حيث كل الأشياء التي عبرتك تقبع ساكنة وقد برأت من الأعراض الناجمة عن المرور من مستقبل إلى حاضر إلى ماض يخدعنا بسراب قدرات لم تستغل في الحفاظ على مياه تسربت بين أصابعنا لتفعم قنوات الري في حديقة ذات بستاني وحيد دائما ما يتصدر المشهد بأدوات حفر وقطع وغرس وعينين مهووستين بمعجزة تحشد لها الأرض كل طاقات ألم يربكك التعامل معه بعد أن فارقتك عند أول الجسر حكمة طفل منغمس في ألم نمو أسنانه، فتأسى ـ بمنتصف الجسر ـ لعجزك عن الانغماس في ألم مشابه بالظهر لا دخل فيه للأسد الممسوس بكل ما تنوء بحمله:
حصتك من ذاكرة الكون،
رحيل الحكمة القسري،
انفلاق سترتك السوداء عن جناحين أسودين ربما يعودان بك إلى بداية الجسر. 

صهيل آخر (بين ابن السائب وبورخيس): 
«مرض أبو أحيحة وهو سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف مرضه الذي مات فيه، فدخل عليه أبو لهب يعوده، فوجده يبكي، فقال: ما يبكيك يا أبا أحيحة؟ أمن الموت تبكي ولابد منه؟ قال: لا! ولكني أخاف ألا تعبد العزى بعدي. فقال أبو لهب: والله ما عبدت حياتك لأجلك، ولا تترك عبادتها بعدك لموتك! فقال: الآن علمت أن لي خليفة! وأعجبه شدة نصبه في عبادتها.»

من كتاب الأصنام 

ربما كان اسمه ابن السائب، لانفلات ما يمور داخله، قائدا إياه عكس خطوات العالم، فيسوي حسابه مع ألم مصدره حمحمة الخيل، بتقصي أنسابها دون التصريح بأن الصهيل محاولة لقطع وحشة الفراغ، وتراتبية الزمن وقدر الإقصاء للوصول إلى ما كان، ولن يعود إلا برؤيا يقطع فيها ابن السائب المسكون بالتاريخ، طرقات مكة، متأملا مسيرة الشمس وجدل الضوء والظلال، على خلاء ذي يقين بأن ثمة صهيلاً آخر سيتكفل بألم مصدره آلهة منكرة وصلوات مهجورة وقرابين بشرية ورجاءات مؤجلة ما ملت التماس النصح بالفعل أو عدمه.

صهيل آخر ربما سيكلف ابن السائب رقبته التي ستدين بسلامتها لبرودة حبر التأريخ وحجة تعاقب السنوات وزيف الشخوص في متاهة الرواية الصانعة مادة كتاب يعج بالأسماء والنشأة والكهان ومظاهر الاحتفاء وحوارات التقديس والنهايات المخزية... ليسري عبر كل ذلك تيار يجرفنا خلف ما يذهب به الزمن تاركا الأبواب على مواربة تراها النفس تذكرا وتحسبها المادة فراغا وتدفعها الخيول بالصهيل بينما يجابهها ابن السائب بالسير عكس خطوات العالم منعشا ذاكرة الكون بشعلة الاستقصاء وقد تسرب نورها إلى طرق أخرى غير مأهولة ليس أكثرها غرابة ظهور الآخر المسكون بآلام أسلافه يسوي حسابه مع الزمن بالكتابة عن الشاهد زري الطلعة ينشد الموت كما ينشد المرء نوما، يعاين جدل الضوء والظلال على جدار الكنيسة الصخرية من مكانه بالأصطبل محاطا بالحقول المحروثة والقناة العميقة المسدودة بالأوراق الميتة وأطراف غابة تظهر عليها بين الحين والآخر آثارُ ذئب أوفرُ حظا من حياة الشاهد التي ستنتهي عند الفجر؛ ليصبح العالم أكثر فقرا بانطفاء نور أخر عينين شهدتا طقوس عقيدة وثنية، كما أنطفأ نور أخر عينين أبصرتا المسيح... ألم فادح يتجسد في: كل عينين تموتان تنطفئ معهما ذكرى ما. لينتهي الأمر بتساؤل يحمل سخرية مرة: أي ذكرى حقيرة ستموت بموتي؟ أي حنين مهلك ورثه لنا الأسلاف؟ سؤال ربما يجبرنا على السير عكس خطوات العالم... 

على المستوى الشخصي:
متى تلقت روحك أول ضربة من جناحي الطائر؟
دائما ما يقيد الله للبدايات قدرا غائما كجيب مثقوب نحتفظ فيه بعملة فضية فلا يبقى لنا سوى رنين مكتوم وترددات حلمية لسقوط على أرض صلبة ينتهي بفرار للبعيد، وحين تتسلل أصابعنا في وهم البحث يرتكب الثقبُ عضة َ المفاجأةِ عندها تتوارى أهمية ُ العملة أمام تشبث خائب بمؤثرات صاحبت الفقدان المباغت: رنين مكتوم وترددات حلمية وأرض صلبة نرتكز عليها في مجابهة حقيقة أن الله يطلق آلاف الطيور على أرواحنا ليجرف سيل الضربات تلك الضربة الأولى فلا سبيل إليها إلا بالسير عكس خطوات العالم على هدى مشاعر مدربة ـ كأصابع الصيرفي ـ على التمييز بين ضرباتٍ العميقُ منها كالعملة الجيدة له رصيد في الذاكرة التي كلما عاينتها تقودني عبر آلاف الضربات والرنات المكتومة والترددات الحلمية إلى أصيل يوم مطير حيث طفل يطل عبر نافذة على حقل برسيم ترتاده شمس خجلى فينعكس نورها على ابتلال الأوراق الخضراء ملقيا في وعي الطفل ـ لم يدرك بعد الحنين كضربة من جناحي الطائر ـ أنه أمام عزيز سيفقده كالعملة التي وضعها في جيبه المثقوب وهو يعبر طريقا تأكل الكثير من العملات والسنوات والضربات... دون أن تقوى على هضم شعور مقبض تسلل في حسية خائبة عبر أصابع صغيرة تتحسس جيبا مثقوبا لا يفارق مخيلتي كلما أطللت عبر النافذة على أرض بور أقيم فوقها عدة مبان بينها فراغات تشبه ثقوبا خرجت منها في حركة معاكسة لخطو العالم أعشابٌ بائسة لم تعد تستوقف طائرًا راح يضرب بجناحيه في البعيد... 


شاعر من مصر