(لا أومن بوجود أناس تتشابه ظروفهم الداخلية مع ظروفي، وفي كل الأحوال فإنني أتخيل هؤلاء الناس. لكن أن يحوم حول رؤوسهم غراب خفي مثلما يحدث دوما معي، فهذا ما لم أتخيله في أي مرة)
من يوميات كافكا ( 1910 – 1923) ت علاء عزمي
(في ظروف مثل هذه التي أصبحت فيها محروما منذ أسابيع من نعمة الحرية، يكتشف المريض، الذي يفترض أن أكون، أنه يواجه نفسه وفي نفس الوقت يجابه الحدود التي فرضتها السلطة الطبية، وهو ما يدفعه إلى تقليب رماد الماضي بحثا عن أجوبة أو إيضاحات بخصوص الأسئلة التي يطرحها على نفسه، دون انتظار مساعدة من أحد)
خوان غويتيصولو: حصار الحصارات. ص 129 ت إبراهيم الخطيب.
القسم الأول
الدخول من البوابة
أستعيد في هذه اللحظة الحاسمة حكمة المعالج النفسي القصير القامة وهو يحاول أن يفلسف عجزه اللامتناهي عن علاج المقيمين في مستشفى الأمراض العقلية، يقول ونظارته السميكة تكاد تسقط من فوق أنفه أن الركض أفضل وسيلة للدفاع... وهو يقصد العلاج وهو بذلك كان يلمح إلى ضرورة الهرب من جحيم الكهرباء والماء البارد والحبوب الحمراء المهلوسة. لكن ثورته انتهت بأن لفقت له الادارة الفاسدة تهمة اغتصاب إحدى الممرضات.
وعندما عدت إلى وصايا كونفشيوس الذي كان يقطع مسافات يستحيل عدها وجدته يقول:
)أقولها بلا تردد، يمكنك أن تركض في الاتجاه الذي تريد، وفي المكان الذي تريد. لن يمنعك أحد ولن يلاحقك أحد. خاصة إذا كنت تركض والعالم وراءك ينهار كجبل من البيض الفاسد... ستتركه وراءك يتداعى، ولكي تفلت بجلدك من السقوط، لا يمكنك أبدا أن تغش أو تكذب أو تسرق، مصيرك كله مرتهن بساقيك وطاقتك وطريقة تدبيرك لها وفق السرعة / المسافة/ طاقة التحمل.
ولكن ألا يعتبر الركض بلا اتجاه نوعا من الهروب من المسؤوليات؟ ولم لا تكون المواجهة أجمل ما في الحياة؟ ولم لا يتحول الركض من الهروب من... إلى نوع من المواجهة مع...؟ )
لا أستطيع مواصلة التفكير بهذه الطريقة وأنا وحدي من يحس أن هذا الواقع التراجيدي المتهاوي فوق رؤوسنا كناطحات سحاب لن يتوقف وكأني ضحية لقطة سينمائية بطيئة عن الأبوكاليبس الأخير، تعرض أمامكم إلى ما لا نهاية.
اسمحوا لي أن أتوقف للحظة، لأبدأ من البداية، لم تكن لدي خيارات عديدة لكن الشيء الذي أتذكره ويمكن أن أشد به رأس الخيط لتكون لهذه الحكاية بداية تستحق أن تكون بداية للتدهور الذي صاحب سكان مدينتي وانتهى بأغلبهم إلى مستشفى الحمقى والمخبولين. أنتم تعرفون وأنا أعرف والله يعرف أن الضرورات تبيح المحظورات. لهذا سأبدأ بالهرش، فها هي جلدة رأسي تأكلني من جديد، سأدس أصابعي تحت القبعة لأحكها جيدا، ستزداد لسعا. سأهرش وأهرش غير عابئ بنظرات الجالسين إلى جانبي في قاعة الانتظار. سأتناول بعشوائية مجلة موضوعة فوق طاولة زجاجية تتوسط القاعة. سأدس عيني داخلها لأتفادى نظراتهم الخائرة المتهالكة.
(في إطار وضع خطة جديدة لوضع قوات أمريكية أكثر في البحار. ستدعم السفن الجديدة سياسات جديدة ذات نزعة حربية يمكن في إطارها أن تشن الولايات المتحدة هجمات على مناطق برية من سفن في البحر بدون الحاجة إلى أن تكون قريبة من الشاطئ. وتعكس هذه الخطط لإقامة قواعد عسكرية في عرض البحر مفهوم مخططي الحرب الأمريكيين الذين يرون أن القواعد العسكرية البرية الثابتة ستكون في المستقبل أكثر عرضة لصواريخ العدو. وان قدرة الولايات المتحدة على تدبير قواعد برية ستكون محدودة للغاية. وتعقدت خطط الولايات المتحدة لغزو العراق في العام الماضي عندما امتنعت في البداية تركيا ودول أخرى عن منح الولايات المتحدة قواعد برية لشن هجمات على أفغانستان والعراق.
وقال المسؤول الذي طلب عدم نشر اسمه أن السفن الجديدة ستتيح لمشاة البحرية مخزونا طويل الأمد من العتاد والإمدادات التي يمكن نقلها قرب بؤر التوتر المحتملة كما أنها ستعمل كمنصة للجيل الجديد من المقاتلات. وستحمل هذه السفن طائفة متنوعة من مقاتلات سترايك التي تنتجها شركة لوكهيد بطرازات مختلفة تحتاج لمسافات قصيرة للإقلاع وتهبط عموديا. وسيمكن للطائرات التي ستصل حمولات كل سفينة منها إلى ما بين 20 و25 طائرة لضرب أهداف على بعد مئات الكيلومترات في البر. وقال المسئول: سنتمكن من القيام بما نحتاج إلى إنجازه بدون مواجهة مشكلات السيادة..وسيكون ذلك قوة قتال مختلفة كلية عما هو قائم الآن. وتتجه خطط البحرية الأمريكية في هذا الشأن إلى تشكيل أسطولين كل منهما مؤلف من ستة أو أكثر من السفن الجديدة.
وقال المسؤول في مؤتمر صحفي نظمته البحرية الأمريكية إن البحرية ستسعى إلى تدبير تمويل في أقرب وقت ممكن عام 2007 للبدء في تشييد السفن التي ستكلف مليارات الدولارات. وأضاف المسؤول أن السفن الجديدة الجاري دراسة تصميماتها ستكون في حجم حاملات الطائرات إلا أنها ستكون قادرة على عبور قناة بنما. وستصمم السفن الجديدة للخدمة في قوات الانتشار السريع المخصصة للعمل في المواقع المتقدمة في زمن الحرب. وحاليا تنشر البحرية الأمريكية ما بين 14 و15 سفينة في ثلاث أساطيل.
دخل مريض جديد يضع طاقية مثلي ويبدو منكسرا مثلي.
جلس بجانبي، تنفس الصعداء، وسألني:
ـ ما فائدة الاستشفاء ونحن نعرف أن الأسباب ستبقى نفسها؟
ـ الأخ يعرف أن الظروف أصبحت صعبة ومع ذلك نحن نصر على الشفاء.
ـ الروح عزيزة عند الله.
أجابته عجوز تجلس قبالتي ويبدو أنها تلمح الآخرة كل صباح.
لن أستجيب لهذه المحاورة القدرية، سلاحي كان دائما هو الصمت، ولن أدخل في مهاترات مجانية.
ـ منذ ستة أشهر وأنا أجرب الأطباء والأدوية.
ردت عليه المرأة:
ـ وأنا، بسبب وصفة خاطئة، كدت أموت.
دسست رأسي من جديد بين غلافي المجلة التي أنجزت ملفا عما تعده الولايات المتحدة للعالم وأجيال المستقبل.
أعلن متحدث عسكري أمريكي أول أمس أن أحد المعتقلين في القاعدة الأمريكية في غوانتانامو (جزيرة توجد في عرض السواحل الكوبية) حاول أخيرا الانتحار في زنزانته وقد نقل إلى المستشفى وقال كريستوفر شيرهود إن مقاتلا معاديا حاول الانتحار في 16 يناير الماضي وأصيب بجروح خطيرة وأضاف أن الأسير وهو في العشرين من العمر نقل إلى مستوصف السجن حيث عالجه الطاقم العسكري الأمريكي. وكانت الولايات المتحدة قد نقلت إلى غوانتانامو حوالي 625 شخصا متهمين بالإرهاب وكانت قد أسرتهم في أفغانستان بعدما دكت البنيان والجبال ولم تعثر على زعيم القاعدة أسامة بن لادن. وقال أيضا أنهم يعدون سجونا في جميع أنحاء العالم لتسريع وتقريب العقاب من الإرهابيين الجدد.
أمريكا تنشئ محطة بالعربية بمبلغ 30 مليون دولار لتجميل صورتها. أما مناهضو الحرب على العراق بإيرلندا وهم ليسوا عربا فتحوا فتحة في السياج المحيط بمطار شانون في وقت مبكر وألحقوا دمارا بالطائرة التي كانت معدة لإلقاء عشرات القنابل الضخمة على العراق وقد ألقي القبض عليهم جميعا.
وفي الصفحة ما قبل الأخيرة ثم وضع إعلان عن الطريق إلى المستقبل بصيغة ملتبسة وكأنه إعلان عن منتجع سياحي أوفندق أو مطعم: (انضموا إلى المستقبل شعارنا الحرية والديمقراطية).
هذه الشحنات من الهراء الإعلامي أفقدتني تركيزي.وإذا سألوني أين هي الأدلة؟ بماذا سأجيب قل بماذا ستجيب؟ ينبغي أن تكون الخطة محكمة وغير معرضة للخطأ أو الكشف. في الأرشيف يوجد كل شيء، به سأبدأ لكن ينبغي ألا أترك دليلا ورائي ولا ينبغي أن أظهر في موقع الحدث. بعد ذلك.
عبد الرزاق المتوكل
عندما سمعت إسمي ممططا أفزعني مد صيغة المبالغة وتضعيف صيغة إسم الفاعل.
نطقته الممرضة مــمــطــطــا وكأنها تخرجه من سرّتها الجميلة. ألقيت المجلة فوق طاولة الاستقبال، ورفعت بصعوبة جسدي المنهد.
طلب مني الطبيب أن أفتح فمي ثم طلب مني أن أزيل سروالي ليفحص شيئي ثم بعد ذلك قال:
ـ هذا نتيجة توتر نفسي.
ـ ما علاقة التوتر النفسي بالصلع المفاجئ.
تأملني بعينيه الصغيرتين الماكرتين وقال:
ـ أما زلت تتناول المهدءات؟
ـ لا، توقفت عن تناولها.
ـ علاجك سهل لكنه يحتاج وقتاوصبرا طويلا، هل أنت مستعد؟
ـ مستعد لكن ألا يحتاج الأمر إلى بعض الراحة.
ـ لا داعي لها، الأفضل أن تشغل نفسك بالعمل وتمارس الرياضة.
ـ لكني أريد شهادة طبية لأرتاح قليلا.
ـ إذا رغبت في ذلك،فثلاثة أيام تكفي، لكن حاول أن تمارس الرياضة.
ـ أريد أسبوعا.
وأمام إلحاحي الشبيه بالتوسل، ملأ المطبوع وختمه ثم سلمني وصفة الدواء.
عندما غادرت العيادة فكرت أن جل الأطباء يستغلون يأس مرضاهم أحسن استغلال. اشتريت الدواء وسألت صاحبة الصيدلية:
ـ هل سمعت بالاعلان عن طريق المستقبل؟
نظرت إلى الدواء وأعادت قراءة أسماء أنواعه، وكأنها تتأكد من أمر ما. أعادت إلي الدراهم المتبقية، وقالت بسخرية:
ـ نحن صيدلية محترمة لا نسمح بتعليق مثل هذه الإعلانات.
انصرفت ناقما من تلميحها الوقح مع أنني لا أبحث عن تلك الأشياء. ما يهمني في الأمر أن أتأكد من صحة الإعلان، ففرصي تضيع في غالب الأحيان بانشغالي بأشياء أخرى غير مهمة عن أشياء أخرى أهم وبذلك تضيع الفرص الهامة حين تتاح.
بيلدوزر عملاقة تلكم العمارة والسكان يصرخون أمام الاجتياح الغادر لدكاكات العمالة. دسست نفسي بين الحشد وسألت شخصا ذاهلا أمام الحيطان التي تتحطم وتسقط من الشرفات:
ـ ماذا يحدث؟
ـ البلدية أمرت بإزالة جميع الزيادات التي أضافها السكان في الشرفات، بالأمس سقطت امرأة حامل ووالدها من شرفة الطابق الثالث.
ـ إذن السبب هو البناء المغشوش!
ـ لا الجزء المضاف هو السبب لهذا قررت البلدية إزالة جميع الإضافات العشوائية.
ـ والناس معهم حق أيضا أن يضيفوا الزيادات فالمنازل أقفاص وبمبالغ مهولة.
ـ معك حق أنا بدوري أفكر في حفر منزلي بالطابق السفلي. بيني وبينك سأبني دهليزا وإن استطعت سأضيف غرفة لإبني الذي ينوي أن يتزوج.
وما كاد ينتهي من كلامه حتى انهارت واجهة عمارة بكاملها، فبدت محتويات الغرف معلقة كديكور مسرحية من عدة طوابق ليوجين يونسكو. أصحاب الشقق في الأسفل بدأوا يصرخون، وبعد تردد قليل هاجموا قائد المقاطعة الحضرية والعمال. أما سائق البيلدوزر فرأيته يجرجر كخروف مذبوح. كان اللكم والركل خبط عشواء وعلى أشده. أدركني السيل العرمرم، فانسحبت هاربا إلى عمارتي القريبة جدا من مكان الحادث.
* * *
في تلك الظهيرة الملعونة زارني المدير الجديد في مكتبي. جلس وطلب من البواب أن يحضر لي شايا بالنعناع وله قهوة سوداء ثم بادرني قائلا:
ـ أنت لا تعرفني جيدا، لهذا أنصحك أن تتعاون معي. اللجنة التي كنت ترأسها ستبقى على رأسها، سأعيدك إليها، يكفيك ما نلته من تهميش في العهد السابق، وحصتك ستصلك.
صحت:
ـ أنا لا آخذ حصصا لا في عهدك ولا في العهد السابق وأنت لا تعرفني جيدا ربما..
ـ هدئ من روعك، هل تريد أن تبقى في الأرشيف طوال حياتك. إذا كانت لاتهمك الفلوس فاهتم بصحتك على الأقل.
ـ صحتي جيدة وسأعود إلى منصبي حين يعلو الحق ويزهق الباطل.
بقي صامتا ينظر إلى انفعالي، ثم قال مبتسما:
ـ إعتن بصحتك، ستعود الأمور كما كانت، بك أو بدون.
خرجت بعده إلى الهواء والشارع والضجيج. سرت في الشارع على غير هدى، صوت صفارة يطن في أذني. تلفحني شمس العصر الحارقة. استعذبت سخونتها اللذيذة. وفجأة صحوت كليا وكأن حواسي كلها استنفرت لحالة طوارئ. عدت القهقرى، دخلت من الباب الخلفي للإدارة المؤدي مباشرة إلى الطابق الأرضي حيث الأرشيف. دفعت الباب الرمادي، ارتطم بالحائط الخلفي. ثلاثة مكاتب فارغة، دهاليز رفوف معتمة وملفات لا تحصى تتكدس منذ سنين. ذبابة وحيدة تطن كصداع الرأس النصفي. اشعة شمس مضغوطة تنفلت من السياج الحديدي الشبكي للكوة الوحيدة لهذا القبر الأرشيفي. هنا المدير السابق حكم عليّ بالنزول إلى الجحيم السفلي. هنا قضيت أربع سنوات أراقب نقطا سوداء تغزو السقف يوما بعد يوم يمكنني أن أقدر عددها السابق واللاحق وفي أي الفصول تقل وفي أيها تتكاثر.
جاء زميلي السمين الذي فتح مؤخرا محلا للسندويتشات الخفيفة. ألقى التحية الواجبة وانهد فوق الكرسي يمسح عرقه.
ـ سأل عني أحد؟
ـ فقط المدير كان هنا.
ـ المدير، ومن بللني بالعرق غيره.
ـ لماذا؟
ـ كنت في مهمة.
ـ آه وما هي هذه المهمة؟
ـ مهمة مهمة أنت تعرف كل شيء.
عندما حانت الخامسة، قلت لزميلي أني سأنصرف. تسللت إلى المراحيض وكمنت وراء باب من أبوابه الستة. جلست فوق دائرة المرحاض متحملا بصعوبة نتانة المكان. شحذت ذهني وانتظرت ساعة الحسم.
عدت إلى الأرشيف فوجدت زميلي انصرف بدوره تاركا قنينة ماء معدني فوق مكتبه، طبعا تركها للتمويه، على أنه لم يغادر بعد. قصدت الرف B / 18ـ 2001 وسحبت منه ملفا بعينه ثم الرف A 16/2004 وسحبت منه ملفا آخر. بعض الأدلة معي الآن. دسستها تحت ملابسي وخرجت ومواقف الرعب السينمائية التي شاهدتها تهاوت فوق جمجمتي وهجمت على أعصابي. مررت بمكتب الضبط سلمت للبواب شهادتي الطبية وانصرفت.
في طريق عودتي، مررت بصيدلية الحي وصفت حالتي للصيدلي القادم منذ سنة من فرنسا. أعطيته وصفة الطبيب، قرأها وابتسم:
ـ من أين اشتريت الدواء؟
ـ من صيدلية الرجاء، الطبيب من دلني عليها.
وسع ابتسامته إلى أن تحولت إلى سخرية:
ـ لأني أعرفك، فسأنصحك لوجه الله. هذا الدواء وهذا الدواء لا تتناولهما. أما هذا وهذا فاستمر في تناولهما.
منذ الصباح ورأسي منفلق إلى نصفين كما أن بقع الصلع أخذت تتطاير من مكان إلى آخر.
ـ مؤكد لأن مفعول دواء يلغيه دواء آخر. هذا خطأ مهني، لكن ماذا ستفعل أمام مهنة دخلها المحتالون، نصف الصيادلة الجدد يشترون شهاداتهم من جامعات المعسكر الشرقي السابق.
شكرته وعند انسحابي من الصيدلية دفعت البوابة الزجاجية فرأيت الإعلان الذي قرأت عنه، وطالما بحثت عنه معلقا يحتوي صورة زاهية الألوان تصور أرضا خضراء كأنها جزيرة الكنز.في مقدمة الصورة طريق ملتوية تسيّجها الأزهار، وفي أسفل الصورة كتب بلغات كثيرة الجملة التالية: الطريق إلى المستقبل.
قرأت الإعلان ويدي على المقبض النحاسي. تخيلت دخولي فضاء الصورة وعبوري الطريق وتمددي السعيد فوق العشب الأخضر والشمس والسكينة.جدب أحدهم الباب من الخارج فرجّني بعنف من الحلم اللذيذ.سجلت العنوان بسرعة وسألت الصيدلي:
ـ هذا الإعلان قديم أم جديد؟
ـ هراء جديد جاءنا البارحة.
تبادلنا ابتسامة متواطئة وانصرفت.
منزلي يوجد في الضاحية الجنوبية لمدينة الدارالبيضاء حيث انتشرت المساكن الإقتصادية التي لا تحمل سوى الإسم من مشاريعها لأن الفوائد التي تجنيها البنوك من السلف المتحول أو الثابت خيالية والعقاريون يغشون في كل شيء ويتهافتون على جمع المليارات واصطياد البقع الأرضية بأبخس الأثمنة وبصفقات مشبوهة.
كان أبي يعمل في الميناء ومدمنا على الخمر يتعمد باستمرار التأرجح في الشوارع على أمل أن تصدمه وسيلة نقل وفي اعتقاده أنه بذلك سيقدم لأمي وأختي خدمة لن ننساها ما حيينا.يعتقد أن حياته كانت كلها فيلقا من الخسارات ما زالت رواسبها تهاجمه في اليقظة والنوم ومع ذلك لا تراه إلا ساخرا مقهقها مازحا وسورياليا في كثير من الأحيان.رفضت أمي أن تأخذ فلسا واحدا من مبلغ التعويض وأقسمت أنها لن تأخذ مالا حراما أما أختي صفية فقالت:
ـ اشتر لي ماكينة سنجير للنسج وأخرى للخياطة والباقي حلال عليك.
دفعت الباقي كتسبيق لشركة عقارية أرتني النجوم في عز الظهر: الذهاب والإياب والإمضاءات وتصحيح الإمضاءات والطوابع المخزنية والانتظارات أمام المصالح العمومية وغير العمومية.
بيتي الآن يوجد في الطابق الرابع، يتكون من بهو صغير وغرفتين ومطبخ ومرحاض ويحمل الرقم 26.أثثه على ذوق زوجتي ولما هربت أصبحت أنظر إليه كأثاث منزل مسكون بالأشباح.
ضاقت نفسي واشتد علي الخناق، فما أن انتقل المدير السابق بأوزاره الكثيرة حتى جاء آخر يدفع بطنه أمامه وبدأت ألاحظ حركة مريبة تنتشر من مكتب إلى مكتب ومن موظف إلى موظف.في الأسبوع المنصرم طلبني في مكتبه ودعاني بنفسه إلى عيد ميلاد ابنته في فندق الساحل بعين الذئاب. طلب من أحد الجالسين إلى جانبي على مائدة الوليمة الانصراف وأفهمني أنه يهتم لأمري ويتنبأ لي بمستقبل واعد، وأن الفرصة ما زالت أمامي.
في الطريق إلى العمارة رأيت الخيام المنصوبة حديثا يقطنها سكان العمارة المتهدمة. أما عمارتي فوجدت أمامها أزبالا مكومة كتلا تتصاعد منها رائحة العطن التي تجرح العين وتذبح الصدر.سألت حارس العمارة بانفعال عن سبب إهماله، فأجابني بنفس الانفعال أنه ليس مسؤولا عن الشارع بل عمال النظافة المضربين منذ أسبوع بسبب أجورهم الهزيلة ومخاطر الشغل وانعدام التغطية الصحية، سألته:
ـ وما العمل؟
فأجاب متأففا:
ـ الهم إذا عمّ...
أعطيته ظهري وصعدت وأنا أحدث نفسي:
(يظهر أن هذا الهم لا يطال سوانا)
صعدت إلى البيت. فتح باب ضابط الشرطة وخرجت منه فتاة مصبوغة بالمساحيق ومغطوسة في العطر الرخيص، طرطقت في أذني علكتها وتلوت بمؤخرتها المكورة. كانت زوجته في العمل.
شعرت بثقل العالم يجثم فوق صدري. عالم موارب وبأقنعة مشبوهة ومتعددة. ما درسته في المدرسة وآمنت به طوال سن الطفولة والمراهقة والشباب. وما أراه على شاشة التلفزيون وحشوت به رأسي الصغير وما كان يقوله أبي وعبد الستار وأصدقائي وصديقاتي وما تقوله أمي وما يقوله الناس من تفسيرات وادعاءات وما أفكر فيه أنا حين أستعيد الأمور وما أريد أن أفعله ولا أفعله فأفعل شيئا مغايرا تماما لما فكرت ورغبت فيه…
أجدني الآن وسط كل هذا كأعمى يبصر فجأة ظلمة الحياة.
عالجت الباب فانفتح بصعوبة. تسربت إلى صدري رائحة الرطوبة المعتادة الآتية من الغرفة الداخلية التي لا تصلها أشعة الشمس.أسرعت إلى فتح النوافذ.رأيت مشهد الأزبال المنتشرة ببشاعة على جنبات الشارع.فتحت المذياع وتركت المذيع يتحدث عن خطط السلام واغتيالات في صفوف الفلسطينيين واستثمارات جديدة وخوصصة جديدة وكوارث طبيعية.أخذت بيضا وجبنا وخلطتهما ثم دفقتهما فوق المقلاة المذهونة بالزبدة. انتظرت بضع دقائق ثم سحبته. تذكرت مهارة زوجتي في الطبخ. جمعت الفضلات في كيس. ووضعت الطعام فوق المائدة بالهول وشردت أثناء الأكل.
قال والدها الحاج محمد:
ـ لا نعرف ما حدث بينكما ولا نريد أن نعرف. البيوت أسرار. ما نريده منك أن نفترق بالمعروف كما التقينا بالمعروف.لا تخش شيئا لن نكلفك شيئا.
تدخلت أمها بصوتها الرجولي:
ـ لا نريد فضائح، أحسن بالخاطر وإذا رفضت فالمحاكم بيننا.
كانت تنظر إلي نظرة شماتة وتقول في خاطرها ما لم تقله بلسانها. نظراتها تلك ما زالت تقهرني، لم أع ما قمت به إلا بعد استيقاظي في اليوم الموالي. كنت لحظة الطلاق مبلد الحواس وكأني ثمل أو مسرنم. جاءت أمها بعد ذلك تسوق أمامها ابنها الأكبر والأضخم. جلسا في الهول وقالت:
ـ جئنا لنأخذ حاجيات نزهة، على الأقل نشم فيها رائحتها.
بقيت صامتا أنظر إلى وجهها المنتفخ بالربو والأرق.أضاف ابنها بنبرة فيها شيء من التهديد.
ـ لا أدري ما فعلته بأختي، لكن الحقيقة ستظهر، وإذا ما أصابها مكروه، فسآكل كبدك. هل سمعتني!
أومأت برأسي موافقا فأنا لا أريد مخبرا بغلا أن يجرني إلى مخافر الشرطة في هذا اليوم الملعون.
نهضت أمها وفتحت الباب ونادت بصوتها المقصوف وفي لمح البصر ظهر ماردان مستعدان لرفع العمارة نفسها. وقفا أمامها وأشارت لهما أن يتبعاها:
ـ ارفعا هذه وهذا وتلك.. هيا.. بحذر..هيا أسرعا..
وفي رفة عين أخذوا أثاث الصالون وبعض محتويات المطبخ وغرفة النوم والتلفاز وجهاز الاستقبال وزربية غرفة النوم وآلة التصبين وغادروا البيت. عدت من شرفة المطبخ عند سماعي صوت ارتطام الباب خلفهم. وجدت نفسي أمام الفراغ وداخل الفراغ. بقيت مدة طويلة واقفا أنظر إلى البقعة الداكنة التي خلفتها الصورة. أفضل شيء فعلاه أنهما خلصاني من صورتها التي حاولت مرارا التخلص منها لكن ابتسامتها الملغزة تجمدني وتشقيني وتدفعني إلى هدير من الذكريات.
أتممت غذائي وأعددت شايا ثم جلست وراء زجاج الشرفة. في تلك اللحظة بدأت أفكر بجدية في الالتحاق ب (الطريق إلى المستقبل ).
* * *
دس جسده وارتمى فوق جسدي، فأصبحت معصورا تحته، شممت رائحة عرقه الممزوجة بعطر الإبطين. نظر إلي من فوق، وقال:
ـ أعتذر، المرأة الرابعة هي السبب.
اقترب من أذني أكثر وهمس:
ـ إنها أسمن من بقرة.
قهقه في وجهي وهو يحاول إسكات صوته الأنثوي. أشحت برأسي إلى الجهة الأخرى حيث زجاج النافذة المضبب بصهد الأجساد السبعة.
توقف التاكسي عند ساحة فردان. اخترقت الحديقة الجديدة التي حلت محل محطة الحافلات القاتلة أحسن ما أنجز في هذه المدينة الأخطبوطية. ستتحول بعد أيام إلى ملجإ لأطفال الشوارع والسكارى والمتسولين وقطاع الطرق.
في سوق البحيرة وجدت بائعي الفواكه يتلاغطون ويتشاتمون وحين يخفض أحدهم الثمن يتلاكمون، لكن تدخلات شخص أسود، وفي الوقت المناسب تطفئ نار الفتنة. منعني البائع من أن أزن بيدي الموز والتفاح، فرضيت بذلك، لا وقت لدي للدخول إلى باب مراكش:
ـ من هو ذلك الشخص؟
ـ هذاك مخزني متنكر، هو هنا لجمع ضريبة الرصيف.
ـ هل هي ضريبة جديدة؟
ضحك وناولني الكيس البلاستيكي الأسود، وهو يقول:
ـ ليست للعموم، للباعة على الرصيف وتذهب مباشرة إلى جيوب المكلفين بالأمن.
قلما دخلت زقاقا إلا ووجدت أشغال حفر، وكأنهم يبحثون عن شيء ما لم يعثروا عليه بعد، ما زالوا يبحثون عن الكنز.كان يقول أبي ساخرا.كان لا يفوت فرصة دون أن يمنحها صورة كاريكاتورية، تتوهج ملكة السخرية لديه كلما زارنا ضيوف أو عاد سكرانا. كنت أجتهد بطريقة مرضية لأرضي مدرسيّ وأمي على الخصوص أما أبي فكان لا يهتم بالأمر.
وفي الحمام حين يصب الماء فوق جسدي، يصرخ ضاحكا:
ـ شد نفسك جيدا كي لا يجرفك الماء معه إلى البالوعة.
مؤكدا بذلك على نحافتي الشديدة، التي حاربها وأمي بهستيريا وضرب أحيانا لكن جهودهم كانت تصطدم بجبل من العناد والتمرد. آكل ما أريد لا ما يفرض عليّ.
انسحبت من ذاكرتي إلى الدرب رقم 20.دفعت الباب الخارجي وعبرت الممر الطويل.
ظهرت إحدى حفيدات القطة مينوشة أمامي راوغتني بخفة وصعدت درج السطح. تابعتها بعيني، كان ذيلها مقطوعا، أمر غريب حقا، فسلالة القطط لم تحدث فيها طفرات جينية تخص الذيل وإنما طالت الحجم فقط الذي تقلص منذ ملايين السنين.. في أحيان كثيرة كانت مينوشة تتمدد بجوار قدمي وتغط في النوم من تعب لياليها وويلاتها العنيفة فقد كانت قطط المنطقة كلها تعشق مينوشة وتتعارك في الليل من أجلها حتى غدت متدلية البطن باستمرار.
فتحت الباب الداخلي، ودخلت كانت رائحة السمك المقلي تملأ البيت. توجهت إلى غرفة أمي وأثناء عبوري لمحت عبد الله السماك وهو يجلس القرفصاء أمام المقلاة الموضوعة فوق البوطاغاز الصغيرة.وجدت أمي راقدة فوق الفراش تداعب سبحتها وتنظر إلى السقف.انتبهت إلى حضوري فحاولت النهوض.أسرعت إليها وشددت يدها وساعدتها على الجلوس، كانت متعبة وشاحبة. قبلت رأسها وكفها وجلست إلى جانبها.بادرتني معاتبة:
ـ منذ دفناه ما زرناه.
وسكتت، حاولت إقناعها أن الحياة أصبحت قاسية ومدوخة لكن مع ذلك فها أنا أزورها.
ـ أين هي صفية؟
ـ ذهبت لدرب عمر لشراء الصوف. سأعد الشاي.
ـ لا داعي، ننتظر صفية حتى تعود.
ـ قد تتأخر، أعطني يدك.
ساعدتها على الوقوف، وهي تقول:
ـ الروماتيزم ما زال يعيق حركتي.
ـ رطوبة البيت القديم والبحر القريب هما السبب.
ـ قلت لكما أن تسكنا عندي لكن صفية ترفض وأنت تعلمين ما حدث بيني وبينها في المرة السابقة.
ـ أنا يا ولدي من لا يريد مغادرة البيت.هنا أعيش وهنا أموت أيضا.
ـ لا قدر الله، يا أمي.الأعمار بيد الله.
ـ ونعم بالله ولكن دوام الحال من المحال.
دخلت فجأة زوجة عبد الله، تحمل صحنا غاصا بأنواع السمك المقلي ودائما ترتدي ملابس خفيفة وشفافة وكأن صهد جهنم يأتيها من كل مكان. قالت مبتسمة:
ـ عبد الله يسلم عليك كثيرا ويقول لك بالصحة والعافية.
أخذت أمي الصحن من المرأة وهي تسلم عليها وتشكر زوجها. وضعت الصحن أمامي على المائدة وعادت تبحث في الصندوق عن الشاي والسكر.
بعدما مات أبي في حادثة سير، أوقفوا المعاش، وبقينا لعدة شهور نطلب من صاحب البيت أن يصبر علينا حتى نصرف المعاش أو نأخذ تعويض التأمين. خيرنا حمان الدكالي بين المحاكم والشارع أو إخلاء الغرف الاحتفاظ بغرفة واحدة.
شممت رائحة النعناع، فتذكرت الشهور التي قضيناها لا نتناول فيها غير الخبز والشاي وفي بعض الأحيان لحما ودجاجا إذا استطاع خالي عبد الغفور سرقته من دكاكين الجزارة في سوق باب مراكش خاصة يوم الجمعة حين يزدحم الجزارون وتكثر المبيعات للمسلمين واليهود.
عادت أمي تحمل صينية الشاي. وما أن جلست حتى قالت ما كانت تفكر فيه خلال فترة إعدادها للشاي:
ـ تلك الملعونة لم تظهر بعد؟
صبت الشاي وتركت السؤال يسري في أعصابي، قلت وأنا أنزل مرارة الذكرى برشفات الشاي:
ـ هذا موضوع مات وفات ولا أريد الحديث عنه، أرجوك أمي انسي الأمر كما نسيته.
تناولت قطعة سمك وأخذت تفرز الشوك عن لحمها الأبيض. وقالت:
ـ أنا لا أريد الحديث عنها ولكني سمعت أنها عادت، وأريد أن أتأكد منك فربما لديك بعض الأخبار.
ـ ليست لدي أخبار ولا أريد أن أعرفها.
ـ لا تهتم يا ولدي هي الخاسرة وأنت الرابح، كل السمك وفكر في مستقبلك.
دخلت حفيدة مينوشة تجري إلى أسفل المائدة، فسكتت أمي قليلا وقالت:
ـ ضع قليلا من السمك فوق كاغد وقدمه للقطة:
ـ من قطع ذيلها؟
ـ أحدهم أغلق عليها الباب. كادت تموت لولا الممرضة التي تكتري غرفة السطح.
جاءت صفية تحمل كيسا بلاستيكيا، نزعت جلبابها الفستقي وهي تبتسم. قبلنا بعضنا البعض وكدنا نتعانق وكنت أتمنى ذلك، على الأقل لإذابة جليد القطيعة بيننا. لكنها أبعدتني بلباقة وقبلت يد أمي ثم جلست بجانبها:
ـ وجدتِ اللون؟
ـ نعم وجدته لكن بصعوبة، ذهبت إلى درب عمر، واكتشفت محلا يبيع بالجملة والتقسيط وأثمانه جد معقولة.
نهضت إلى زاوية الغرفة وأزاحت منديلا أسود عن آلة النسج سنجير.أدخلت وراءها كيس الصوف.
خرجت من الغرفة لأغسل يدي وأتبول. رفعت رأسي وأنا وسط الفناء إلى السطح فرأيت على حافته المسيجة بالقضبان الحديدية. حبل غسيل تتدلى منه ثياب نسائية داخلية بيضاء ووردية، تداعبها رياح خفيفة. في المرحاض المشترك أحسست بإثارة قوية، خرج البول مصحوبا بلذة مدغدغة. سحبت الصابونة من فوق ورق جرائدي وأنا أدعك يدي وأصب عليهما الماء لتزول رائحة السمك.
مسحت بمنديل شفاف احتفظ به في جيبي، صببت الماء وخرجت.
وجدت أمامي عبد الله السماك جالسا فوق كرسي صغير مصنوع من الخشب والدوم وكأنه ينتظرني.
ـ غيبة طويلة يا عبد الرزاق، أين اختفيت يا رجل. خالد يأتي دائما للسؤال عنك.
ـ في دوامة الحياة. شكرا على وليمة السمك.
ـ هذا واجب، أمي فطومة في مقام أمي وأكثر.
ـ أعلم، أعلم ذلك.
تركته ورائي لأفسح له المجال كي يعد كالعادة سيجارة ما بعد الغداء المحشوة بالحشيش.
ودعت أمي وأنا أعطيها نسخة من مفتاح البيت. قلت لصفية:
ـ إذا أطلت الغيبة مرة أخر، فزوراني، لا تترددا.
وافقت صفية برأسها لتجبر خاطري فقط، أما أمي فقالت:
ـ مع السلامة، الله يعطينا الصحة لكي نذهب عندك.
ودعت أيضا عبد الله الذي وجدته سابحا في ملكوته يرفع رأسه في اتجاه السماء أو ملابس الممرضة وطلبت منه أن يوصل سلامي إلى خالد إذا ما صادفه مرة أخرى. مررت بعرصة الفتيحات التي أصبحت بدورها مأوى للكلاب المشردة والأطفال المتخلى عنهم والمتسولين. استعدت كلاما كنت قد قرأته، فقهقهت في خاطري. صنعت الرأسمالية والشيوعية ديكتاتوريات الدم والنار في العالم الثالث وهاهي اليوم تتخلى عنها وتطلب الإصلاح والديمقراطية وتسديد الديون في أسرع الأوقات. ماتت الديكتاتوريات السياسية والعسكرية وعاشت الديكتاتوريات الإقتصادية. رددت الجملة وترنمت بها على طول شارع إيفييت بوانيي وأنا أتأمل السياح أمام بازارات سيدي بليوط متوجسين ومترددين في كل شيء في كلامهم وعلاقاتهم واختياراتهم وكأنهم نادمين على القدوم.
* * *
مقهى الهلال، كنت فيها أقعد وأشرد فيها يبصق الحمام فوق رأسي أو فوق الجريدة أو داخل الفنجان أحيانا ترجمني عمارة الحبوس بزليجها الداكن فيها أصارع أفكارا تترنح كبندول أمامي شارع الجيش الملكي وبعض عاهرات شيراتون وهيكل فندق خرب وبعض المشردين والشمامين والمتسولين والبائعين المتجولين التي ترفض قانون الجاذبية تحت الحجر بين أوراق الخريف بين ظلال الحروب الصامتة. اخترت شارع الجيش الملكي، عبرته إلى الضفة الأخرى حيث السينما الغاصة بعشاق الأفلام الهندية.أخذت جريدة من الكشك المقابل لمقهى الزهور.
غزت شوارع الدار البيضاء هذه السنوات الأخيرة ظاهرة الإعلانات الكبرى عن المواد الغذائية والهواتف النقالة وشركات السلف السريع ويمكن للإنسان أن يقضي اليوم كله يتنقل بينها دون أن ينتبه إلى أي شيء آخر. وضعت جسدي المتعب فوق كرسي من كراسي مقهى الهلال الكائنة بين عمارات الحبوس. تعجبني المقهى لأنها عبارة عن ممر في الهواء الطلق. طلبت كوكاكولا أحس عطشا بالغا يلهب بطني. فتحت الجريدة أمامي وأخذت أتصفح عناوينها التي تسيطر عليها حرب العراق وجرائم جنود الولايات المتحدة الأمريكية الساديين والشاذين في سجن أبو غريب. فما قام به صدام ومافيته في الشعب العراقي تنهي فصول مأساته قوات التحالف الأمريكي:
أثارتني مقالة تحت عنوان:
نادي الرؤساء المخلوعين والفاسدين يرحب بكم
حل الرئيس الأرجنتيني كارلوس منعم ضيفا جديدا على نادي الرؤساء المخلوعين الفاسدين، وبذلك ينضاف إلى لائحة الحكام الذين اغتنوا على حساب شعوبهم، وتطول قائمة العضوية بالنادي لتضم رئيس البيرو المخلوع فوجيموري، الذي نهب ملايير الدولارات من المال العام، ودكتاتور الفلبين السابق فرديناند ماركوس الذي فر بأزيد من خمس مليارات دولار، ورئيس أندونيسيا السابق سوهارتو الذي وجه أموال الدولة لمشروعات أسرته وأصدقائه. ودكتاتور نيجيريا ساني أباشا وأصدقاؤه الذين سرقوا آلاف الملايين من الدولارات من صناعة النفط. وفضائح أعضاء هذا النادي تتكلم عنها وسائل الإعلام، وتسجلها منظمات محاربة الفساد والرشوة في محاضرها. وإذا كان بعض أعضاء النادي قد استطاعوا الإفلات من المتابعة والعقاب أو إرجاع الأموال إلى أصحابها الحقيقيين،وهم أفراد الشعب، فإن البعض الآخر، لم يسلم من المتابعة والمساءلة، وفي هذه الآونة، يضيق الخناق على الرئيس الأرجنتيني السابق كارلوس منعم، الذي فر إلى الشيلي، وهرب أمواله إلى حساب سري بسويسرا، لكن العدالة الأرجنتينية مصرة على محاكمته، إذ أصدر القاضي الأرجنتيني خورخي أورسو مذكرة توقيف دولية منذ 20 أبريل لترحيل منعم من الشيلي إلى الأرجنتين، لأنه لم يستجب للمرة الرابعة لطلب مثوله أمام المحكمة. وحتى الآن كلما توفر منعم على فرصة حمل الميكروفون بين يديه، فإنه لا يضيعها لتوجيه نقد شديد اللهجة للعدالة الأرجنتينية، ويقدم نفسه ضحية لها، ويتشبث ببقائه في الشيلي خوفا من أن يقضي بقية عمره وراء القضبان. ويتابع منعم في قضية اختلاس أموال عامة، وقد يكون متورطا في النفخ في فاتورة بناء العديد من المؤسسات السجنية، وهذه العملية قد يكون اختلس فيها ما يصل إلى 60 مليون دولار. وأبلغ القاضي الأرجنتيني أمره للشرطة الدولية، وحدد لها عنوان كارلوس منعم الذي يعيش وزوجته الشيلية وابنه. كما دعا القاضي وزارة الخارجية أن تحمل هذا القرار على محمل الجد. ومن جهتها أكدت الوزارة بأنها سترسل الطلب للسلطات الشيلية في أقرب الآجال.
أخرجتني يد تطبطب فوق كتفي من نادي الرؤساء الفاسدين وأنا غير نادم على ذلك، فنتانتهم تشبه نتانة الفساد في العالم العربي. وقف أمامي شخص يبتسم ابتسامة فرحة ودهشة وقال:
ـ كيف حال هذا الرجل؟
عرفته فضحكت وقلت:
ـ وأنت أين اختفيت يا رجل؟
جلس خالد وساد صمت قصير بيننا تمكنا خلاله من تفحص بعضنا البعض. ترك شاربا كثيفا يبرز فوق وجهه الأبيض، خصلة من الشيب تتقدم شعره الخفيف الرطب، سمن قليلا وبرزت بطنه. قلت ضاحكا:
ـ سمنت وأطلقت الشارب، أصبحت مثل محارب مغولي.
ضحك بدوره وقال:
ـ وأنت هزلت حتى لم تعد ترى بالعين المجردة. ولولا قوة بصري لما لمحتك هنا.
ذكرني بفتوحاته البصرية التي ربما ساعدته للحصول على عمل مهم ضمن شركة الملاحة التجاريةCOMANAV. كان شبان الدرب ممن يريدون السفر سرا إلى أوروبا يصحبونه معهم إلى الميناء كي يحدد لهم بعض أسماء البواخر الراسية في الساحل تنتظر دورها للدخول. كان تركيزهم على السفن الإيطالية التي لن يتمكنوا من التعرف عليها عن بعد، إذا دخلت الميناء واختلطت بالسفن الأخرى. كان خالد كزرقاء اليمامة يجرد لهم الأسماء والعلامات والألوان أحيانا. حتى أنه قد يخبرهم ببعض مراكب المهربين السريعة التي تتاجر في كل شيء حتى العاهرات والمخدرات. في إحدى المناسبات عاد الغزواني من رحلة خائبة وأخذ يبحث عنه وهو يصيح: أنا يا ولد الكلبة، ترسلني في سفينة ذاهبة إلى السينغال.. وبمشقة الأنفس خلصناه منه مهددين الغزواني بالتبليغ عن سرقاته فوق السطوح.
ضحك خالد حتى دمعت عيناه. دعاني إلى ليلة حمراء، فوافقت. دخلنا حانة سيرنوس الصغيرة والضيقة ولولا رحابة الصدر وسعة الروح التي يمنحها الشرب لمن يريد الاستمتاع بالنبيذ لا غير أما من يريد النسيان فقد تتحول الحانة إلى علبة سردين خانقة وعليك عندها أن تسرف في الشرب وبسرعة للإفلات من خناقها الماحق وكلما ازددت شربا ازددت شرقا وانسحاقا. كانت الحانة غاصة بروادها المخلصين. وعلى رأسهم فريد الأطرش السرمدي بصوته الصاعد من المسجلة العتيقة الموضوعة جوار الحاج القابض وصاحب المحل … أخذت مكاني وما أن جلس أمامي حتى قال:
ـ قبل شهرين ماتت حليمة وابنتي سارة.
ثم صمت برهة وأضاف:
ـ دخلا إلى الحمام المنزلي فتسرب الغاز مع الماء الساخن، فاختنقا. لم أكن موجودا حينها كنا في ميناء مرسيليا.
اعترتني رجفة شديدة في ركبتيّ ولم أجد شيئا أقوله. فبقينا صامتين نشرب النبيذ الأحمر الكأس تلو الأخرى بسرعة وكأننا نتعجل السكر.
أخيرا نطقت:
ـ لم أكن أعلم بما حدث، في الظهيرة زرت أمي والتقيت عبد لله. قال لي فقط أنك سألت عني لكنه لم يخبرني بما حدث لأسرتك رحمها الله.
ـ لا أريدك أن تحس بالذنب. الموت سيان عندي سواء اليوم أو فيما بعد. اشرب يا رجل. فليس بمقدورنا أن نفعل شيئا أمام الموت. يأتي فجأة وينتهي كل شيء.
كانت كلماته باردة وقاسية، كطبيب يشخص مرضا قاتلا في كلمتين:
(توقف عن الدواء، لا فائدة من العلاج)
ـ ربما الأسى يتآكل بالتقادم وإذا حدث وتحدثنا عنه مرة أخرى فلكي نحاول التخلص منه نهائيا.
ـ لا أحد يحب أن تنفتح جراحه من جديد. أكيد أننا نكتسب القسوة من تجاربنا السابقة ونتعمد نقل هذا الشعور للآخرين كي نختبر فيهم تماسكنا.
ـ هذا مجرد كلام فارغ فالإنسان يزداد كبوة بعد كبوة هشاشة بعد هشاشة وقربا من الموت.
وقد تأكد لي ذلك جليا عندما صعدت ذات مساء إلى غرفة السطح فوجدت أبي يتكئ على بابها المقفل وهو يجهش ببكاء غامض وغير مفهوم. حينها تدارك الموقف ومسح دموعه، وقبل أن ينزل نظر إلي نظرة لن تفارق ذاكرتي وقال: في هذه البلاد الحزن يسكر والحسرة تنحر.
عندما نظرت إلى الساعة وجدتها الواحدة ليلا. صعودي إلى شقتي أصبح مستحيلا. حين رأى خالد توتري قال: ـ لا تهتم، سنقضي ليلة بيضاء.
وافقته مرغما فقد اعتدت منذ سنوات حياة عادية. من العمل إلى البيت ومن البيت إلى العمل. الخروج من البيت صباحا والوصول إلى العمل قبل حارس البوابة روتين صارم رسمته لحياتي. انتهى عهد التسكع والليالي الحمراء، طز أنا الآن في عطلة مرضية ولا يهمني ما قد يحدث.
حصلت على شهادة الهندسة بنضال مميت وظفرت بوظيفة في المحافظة العقارية بصعوبة وضربة حظ، والتقيت نزهة بصدفة جميلة. فأوقفت كل أنشطتي الترفيهية خلال ليلة كل أول الشهر، واقتصرت على نزهات أيام الآحاد في شوارع المدينة أو بجوار البحر. تشد نزهة يدي وأشد يدها ونجري فوق الرمال، نتعانق، نركل الماء، ونفكر في المستقبل. تقبلني وتفتتني خلسة وهي تمص لساني.
دخلنا عددا من الحانات، وكلما حاولت إحدى الليليات الاستفراد بأحدنا يصدها خالد بسيجارة أو زجاجة بيرة. بين كل هذه المشاهد كنت مشوش الذهن. أفكر في أشياء كثيرة دفعة واحدة وأحيانا أسبح في اللاشيء.أحاول العودة منه لكن دون فائدة فالضوء الخافت والماء الأصفر الزلال والأجساد الممغنطة تفقدني تركيزي فأستسلم.
أنهينا الليلة في مقهى فرنسا حيث طلبنا قهوة سوداء وجلسنا نتأمل المقهى المجددة حديثا والمليئة بالمتأهبين للسفر أو القادمين منه أو الفتيان المثليين المرهقين بالسهر وخيبة عدم الظفر بمغنم.
أخذت أضواء الشوارع تفقد سطوتها وتخفت وتمحي أضواؤها تحت هجمات النهار المشعشع بدفق جامح.
أحسست بإرهاق وصداع في رأسي، فنزعت القبعة عن رأسي الحليق، تفحصني جيدا وقال:
ـ إذا لم نلتق مرة أخرى، يا بوذا البيضاوي، فالذكرى ستجمعنا.
صعدت إلى الحافلة وكالعادة جلست في الخلف. آن الأوان للبدء من جديد. فتحت المحفظة وأخذت منها مفكرتي وسجلت:
الخطوة الأولى: زيارة التكنوبارك على الأقل يمكنني هناك من ضبط الأمور وتبين الموضوع. نهضت من مكاني وقصدت سائق الحافلة سألته عن الحافلة التي توصل إلى التكنوبارك. نظر إلي من المرآة وواصل مراقبة الطريق الغاصة بالشاحنات والسيارات والدراجات والضجيج والدخان وقال:
ـ خذ تاكسي أبيض توجد محطته قرب مستشفى ابن رشد.
ـ أرجوك قف بي هنا.
ـ لا يمكنني ذلك حنى نصل الموقف الاجباري.
توقفت الحافلة بجوار عمارة زجاجية، طلب مني شاب يود الصعود إلى الحافلة تذكرتي فسلمتها له، صعد بها إلى الحافلة وهو يشكرني قائلا:
ـ الله يعز الشباب الذي يساعد الشباب.
تركت الحافلة وراءها سحابة من الدخان الأسود، قاومت الاختناق بصعوبة وحدت عن الطوار خوفا من السائقين المتهورين الذين يحصدون هذه الأيام أرواح البشر فوق ممرات الراجلين، أو حتى داخل المقاهي والدور السفلية. تغير وسط المدينة كثيرا عمارات متنوعة تمخر عباب السماء في بضعة أشهر أعرف أن أغلب هذه العمارات بناؤها مغشوش ومشبوه بعدة تجاوزات لكن ما العمل؟ الضرورات تبيح المحظورات تفاقم عدد سكان الدار البيضاء وتزايد عدد الموظفين والموظفات وأطلق العنان للمقاولين الجدد والبنوك لمص دماء المتزوجين الجدد. أين سيتناكحون إذن؟ في التاكسيات والحافلات أم في المقاهي والحدائق وشواطئ البحر. فبدل أن تذهب الفلوس إلى شرطة الآداب فلتذهب إذن إلى جيوب السماسرة والبنوك والمقاولين. تذكرت حكم البواب الكثيرة منها انه قال ذات يوم في اجتماع سكان العمارة بعدما استفحلت المشاكل وظهرت الشقوق التي تنز بالماء: أنا أقول وأنتم قولوا والله أعلم. إذا جاءكم زلزال مثل زلزال مدينة الحسيمة ستمسح مدينتكم من الوجود.
لوحات الإشهار تنتصب كالفطر في كل مكان.
رأيت وجهي معلقا بإحدى اللوحات الإشهارية التي تعلن عن (قروض سلفين) كان مهموما بل في أشد حالات الغم يرفع عينيه نحو الأعلى حيث كتبت عبارة: (سلف سريع ومريح). هذا الوجه الغائم الحالم يعبر عن وجوه شريحة عريضة من المجتمع المغربي الذي كان يدغدغ بلقب البورجوازية الصغيرة والذي تحول بفعل النهب العام والفوضى الإدارية والصناديق السوداء والبنوك المحلية والدولية والشركات المتخصصة في السلف إلى بورجوازية فقيرة لا تملك مما تملك شيئا: الملابس، السفر، الأثاث، الشقق، السيارات … كل شيء بالسلف المتوالد بجهنمية كخلايا السرطان وهم دائما مهددين في عملهم ومستعدين لفعل أي شيء مقابل الاستمرار في العمل وتجنب الإفلاس.
على طول شارع عبد المومن كنت أفكر في أشياء عديدة متزاحمة كما هذه الحياة. شعرت بغبن شديد. تذكرت أبي وأنا أرى رجلا عجوزا يركب دراجة نارية يراقب بتوجس سيارة بجانبه. رأيت أبي الملقى على الإسفلت تمر السيارات بجانبه ببطء يلقي السائقون نظرات لامبالية على جثته الهامدة، مجرد جثة تصارع الموت. تجمع الناس حوله فضاقت الدائرة حتى منع الهواء عنه. نظرات جامدة أو مندهشة. الشرطة لم تأت والإسعاف كذلك. ساعة ونصف من الانتظار ثم أسلم الروح كنت أئن وقدمي اليسرى مكسورة لا تتحرك وامتحان الولوج إلى كلية الطيران يطير مني، كما أن أبي كان يطير أيضا إلى حيث راحته الأبدية من عذاب حياة لم تسعفه في شيء.
بقعة الدم أمام عينيّ. اشتعل الضوء الأحمر فعبرت إلى جهة التاكسيات.
قلت للكورتي:
ـ التكنوبارك.
سأل بدوره سائق التاكسي:
ـ التكنوبارك !
تطلع إلي السائق وقال:
ـ التكنوبارك، اطلع.
ركبت الأول ثم لحقني ركاب آخرون. لم أدقق الملاحظة في فضاء التاكسي كنت متوحدا مع ذكرى الوالد الذي لم يعجبه شيء أكثر مما أعجبه تفوقي في الرياضيات كان يقول رحمه الله لأصدقاء المقهى: ابني يحسب مثل الماكينة … ويقصد الوالد ماكينة الصيادلة والمقاهي التي تحسب المبالغ وتطلق رنة جرسها ثم تتجشأ مبرزة بطنها الداخلي الذي يبتلع الأوراق المالية في جهة والدراهم والسنتيمات في جهة أخرى. وحين أساعده على عد أوراق الكارطة المستهلكة والمتبقية مما يساعده على ربح مشروبات إضافية. يغضب غريم الوالد مبارك البودالي من تواجدي فيصيح في الوالد: لا تحضر هذا الصبي مرة أخرى لا نريد من يفسد لنا اللعب. ويرد عليه الوالد بنبرته الساخرة من كل شيء: هذا ولدي وأنا أصحبه أينما أريد ومن لم يعجبه ذلك فليكشف لنا عن قنفوذه ويلد لنا مثله. يضحك الجميع باستثناء البودالي الذي يشعر بالمهانة لأنه عاقر.
قال سائق التاكسي:
ـ انزل، هنا البارك الذي تريده.
* * *
نقدته خمسة دراهم ونزلت وجدت أمامي ساحة كبيرة جزء منها فارغ والباقي أحواض مزروعة بأغراس حديثة. أمامها عمارة ضخمة ذات معمار متنافر توحي بالفراغ والرياح والعلو المدوخ والعشوائية المجانية في المعمار، مجرد صفقة الكل يغنم غنيمته وينفض المشروع.
صعدت الدرجات العريضة فأوقفني عند البوابة الزجاجية رجل أمن وسأل:
ـ ماذا تريد؟
قلت وقد بدا علي الارتباك:
ـ أريد البحث عن بعض المعلومات.
قال وهو يتأمل محفظتي وبدلتي:
ـ تدخل وعند يسارك تجد شباكا خاصا بالإرشادات لا تتجاوزه أرجوك.
تقدمت نحو البوابة الفخمة وهممت بدفعها فإذا بها تنفتح تلقائيا وجدت نفسي وسط هول فسيح ومظيفات أو موظفات يعبرن من مكان إلى آخر يرتدين الميني جيب أو الميكروجيب سيقانهن جميلة وتدل على عناية خاصة يتركن وراءهن عطورا مثل بيزنس ودون وشانيل وغيرها لم أستطع تمييزه. وقفت أمام الشباك الزجاجي فتطلع إلي شاب يرتدي بدلة رمادية أنيقة وسأل:
ـ ماذا تريد؟
ترددت قليلا ثم قلت:
ـ أريد بعض المعلومات الخاصة.
ـ أي نوع من المعلومات؟
ـ معلومات عن.. عن موضوع أبحث فيه.
ستصعد إلى الطابق الأول، هناك ستجد مصلحة المعلوميات.
لا أحب المصاعد الكهربائية لأنها تصيبني برهاب السقوط المفاجئ أو الانحباس، سأصعد الأدراج أفضل لذهني وتركيزي. وجدت في الطابق الأول ممرات ومكاتب أنيقة وجديدة التجهيز. في المرات السابقة كنت أدخل إدارة من الإدارات فتصيبني رعشة خوف غريب. دخلت القاعة المعنية فوجدت طاولات مجهزة بالكمبيوترات بعضها مشغل والآخر كراسيه فارغة. وقفت برهة أتأمل المشهد. وفجأة ظهرت سيدة، طلبت مني الجلوس ووضعت أمامي استمارة، وطلبت مني ملأها بعناية ودقة. وجدت أن المطبوع يطلب معلومات شخصية ومهنية ومعرفية وأنا لا أريد الإفصاح عن هويتي فكرت فجعلت اسمي سعدون الضحاك وأني أستاذ للمستقبليات وغيرها من المعلومات الملفقة.
قرأت السيدة المعلومات وقالت مبتسمة:
ـ تفضل معي جهازك هناك يحمل الرقم (26).
شكرتها وتقدمت نحو جهازي وبدأت أبحث عن الطريق إلى المستقبل. تدفقت المعلومات التي تتحدث عن المستقبل الصحي والغذائي والفضائي والافتراضي والفكري والفني والعلمي … الخ
كل البوابات التي انفتحت أمامي لم تشر إلى الإعلان لا من قريب أو بعيد. طلبت مساعدة السيدة، فجاءت متلكئة نحوي:
ـ نعم هل من مساعدة؟
قلت بصوت خافت:
ـ هل هناك شبكة معلومات غير هذه؟
سألت متعجبة:
ـ عن أي شبكة تتحدث؟
ـ أقصد شبكة غير هذه الشبكة الرئيسية.
ـ للأسف، هذه هي الشبكة الوحيدة المتوفرة.
سكتت لحظة، ثم استدركت:
ـ وهل هناك شبكة أخرى غير هذه؟
قلت مداريا عيني اللتين كانتا تدغدغان نهديها البارزين المنعشين:
ـ ربما هناك شبكات أخرى، من يدري؟
ذهبت السيدة إلى مكتبها ولاحظت أنها أعادت قراءة مطبوع المعلومات وهي في نفس الوقت تتطلع في اتجاهي. أحسست وخزا في أنفي فعطست عطساتي الثلاث المعتادة، بصوت ملون ومرتفع. رأيت السيدة تتناول الهاتف وهي تشير إليّ بحاجبيها المقوسين أن أكف عن العطس.
خرجت مرتبكا وكأن عيون الحراس تلاحقني بأسئلتها الصامتة. وعند الدرجات الخارجية اصطدمت بامرأة قادمة. أوقعت محفظتها، فاعتذرت وعندما تأملت وجهها اكتشفت أني أعرفها وهي تعرفني كانت صديقة نزهة، كنت أضحك وهي كذلك وكأن مشهدنا مقتطف من أحد الأفلام الرومانسية. تصافحنا بانشراح من حلاوة الصدفة. سألتني عن الغيبة وسألتها نفس السؤال. أردت أن أنصرف وهي أرادت نفس الشيء لكن شيئا ما جعلنا نتردد ونتلكأ، فقلت:
ـ إذا لم يكن لديك مانع، نجلس نشرب شيئا ونتحدث قليلا.
قالت خنساء ضاحكة:
ـ على العكس يسرني ذلك، لكن ليس الآن.
ـ سأنزل إلى المدينة، إذا أردت أنتظرك في مقهى رمسيس.
ـ أنهي عملي على الساعة الرابعة والنصف ثم ألتحق بك.
انصرفت ضاحكة وهي تضيف:
حتى وإن تأخرت، فانتظرني.
جلست قريبا من مدخل مقهى رمسيس وغرقت في مراقبة الجالسين والجالسات، أغلبهم فتيان وفتيات، ألبستهم على موضة المجلات والإشهار والسينما. يدخنون بشراهة ويتحدثون بطلاقة عامية مغربية مهجنة بالفرنسية. المارة يعبرون أمام المقهى جلهم يحاول ضبط سلوكه حسب نوعية لباسه وحين يتعبون من الذهاب والإياب وعرض الأزياء يختفون داخل المقاهي أو قاعات السينما إلى أن تغيب الشمس ليخرجوا لقضاء مآرب الليل. فتيات المقهى بين الفينة والأخرى ينسحبن إلى المراحيض لتعديل وجوههن بالمساحيق استعدادا للسهر وعمل الليل تماما كالكثير من فتيات النهار اللواتي يدفن أجسادهن داخل المعامل والشركات ولا يجنين منها سوى البؤس والأمراض النفسية والعضوية.
رأيت خنساء تخرج من التاكسي وهي تتطلع إلى بوابة المقهى. تأملت جسدها المتناسق وهي تأتي في اتجاه المقهى فاشتهيت لمسه بأصابعي النحيفة المرتعشة، تذكرت نزهة وقامتها الأطول مني. كانت تلجأ إلى طريقة عجيبة للإثارة: تفتح ضوء الأباجورة الخافت، تنزع ملابسها ببطء، وهي تأمرني أن أخفي وجهي تحت الغطاء، فلا أستطيع الصبر، أقفز منقضا عليها وهي تفر مرتعبة من الوحش الذي استيقظ في أحشائي، تصدر تأوهات استغاثة، فأزداد إثارة. كنت أنتشي بالوحش السحيق المستيقظ داخلي وهو يلقيها أرضا مفترسا قدميها وركبتيها وفخذيها تائها في أدغالها سابحا بين نهديها منتشيا بشفتيها ولسانها. ثم أسقط متهالكا في حضنها أطلب الصفح والغفران لدمي الملوّث ولأسلافي البرابرة وهم ينقضون على فرائسهم الأبدية.
وقفت لتحية خنساء، خلصتها من محفظتها التي ازدادت ثقلا، وضعتها فوق كرسي شاغر بيننا. تأملتني ثم قالت:
ـ أراك شاحبا هل أنت مرهق؟
ـ بعض الشيء.
ـ ماذا كنت تفعل في التكنوبارك؟
ـ كنت أبحث عن بعض المعلومات … ثم استدركت: المتعلقة بالعمل.
ـ أنا أيضا أبحث عن عمل جديد.
ـ والشركة التي كنت تعملين بها؟
ـ أعلن صاحبها الإفلاس بعدما كدس الملايير في سويسرا وشرد معه عشرات الموظفين ومئات العمال هذا ما نسميه بالخوصصة الاقتصادية.
ـ هذه نتيجة بيع مؤسسات الدولة، ماذا تشربين؟
كان النادل واقفا فوق رأسينا. طلبت خنساء عصير تفاح وطلبت قهوة سوداء. انصرف النادل وتابعته بنظراتها التائهة. هكذا كنت أصفها لنزهة فقد كانت خنساء دائمة الشرود لدرجة الملل لكنها مع ذلك كانت ناجحة في عملها تحصل على مكافآت سريعة.
ـ أراك تضع قبعة؟
ـ حلقت رأسي منذ أيام. هل وجدت عملا جديدا؟
ـ أجريت بالأمس مقابلة مع رئيس فرع شركة أمريكية جديدة.
فتحت جيب معطفها الكشميري، فأخرجت علبة سجائر شقراء، أخذت سيجارة أشعلتها بخفة، أخذت نفسا عميقا وقالت:
ـ سيجارة…
ـ لا، شكرا.
ـ نسيت أنك لا تدخن.
ضحكت ثم أضافت:
ـ هذه الشركة لها مخططات مستقبلية عالمية، ففروعها في كل مكان.
بدت متوترة، أصابعها تنقر فوق الطاولة، حركات التدخين السريع، نظراتها التائهة في اللامكان. وقفت وبادرتني:
ـ سأذهب الآن وفي الثامنة مساء نلتقي إذا رغبت في ذلك، أعذرني لكني …
قلت وأنا مبلبل الفكر بما قالته عن الشركة المستقبلية:
ـ لا بأس، لا داعي للاعتذار، نلتقي في المساء، في نفس المكان، نتعشى معا، موافقة.
ـ نعم إلى اللقاء.
صعدت إلى شقتي على متن تاكسي أجرة وأنا أفكر في هذه الصدفة العجيبة. واجهت السائق بالصمت وحركات الاستعجال نظرت إلى الساعة عدة مرات بينما هو يثرثر عن الطريق المليئة بالحفر مما يتسبب في أعطاب عديدة للسيارات والكثير من حوادث السير. أدار السيارة يسارا منسحبا من شارع آنفا إلى شارع ابن سيناء. نبهته بحزم إلى أنه سلك طريقا طويلا، ليترك العداد يلتهم الدراهم. لم يرد واستمر في نفس الطريق. أوقفته عند العمارة سلمته المبلغ وعندما نزلت وأغلقت الباب ورائي، صاح من الداخل: اكسر الباب.. هذا ما نربحه منكم. وشيعني بنظرة حاقدة وانصرف.
دخلت بوابة العمارة فلم أجد البواب لا بد أنه يتسكع في مكان ما أو يلاحق خادمة تعجبه.
داخل الشقة نزعت ملابسي بسرعة ودخلت تحت الدش. أطلقت الماء البارد وتركت جسدي يرتجف لبرهة وحين تعوّد البرودة أحسست انتعاشة لم أشعر بها منذ سنوات فقد أدمنت الماء الساخن إلى أن أصبح جسمي مترهلا وحساسا لكل برودة. مددت يدي إلى شيئي فوجدته مرتخيا كمحارب عاد للتو من هزيمة نكراء. لففت جسدي بمنشفة وخرجت حافيا إلى غرفة النوم أخرجت سروالا وقميصا وجوارب نظيفة ارتديتها بسرعة وأنا أنظر إلى الساعة البلاستيكية فوق كرسي خشبي صغير بجانب السرير الملقى على الأرضية مباشرة. ترنمت بأغنية لجاك بريل:
لاتتركيني وحدي
دعيني أصبح ظلا لظلك
ظلا ليديك
ظلا لكلبك
لا تتركيني وحدي
وأنا أرش ملابسي بعطر إسباني من نوع كارلوس مويا تأملت صورته وهو يلوح بمضرب التنيس، يبدو هذا اللاعب أنه واثق من نفسه، متأكد من مستقبله.
الساعة السابعة إلا عشر دقائق. أغلقت الباب جيدا ونزلت الدرج أرشف من لحظة نشوة افتقدتها منذ سنين حين كانت لي علاقات كثيرة أنوّعها باستمرار رغبة في الجنس فقط. أتذكر مريم حين تماديت، وتركت الفأس يقع على الرأس. كانت تبكي بحرقة وكنت أطمئنها أن هذه المسائل عادية وأنها ستساعدها على الاستمتاع أكثر، وأن في الدول المتقدمة البنت تبحث بإلحاح عمن يفتضها، وإذا لم تجده تعش تعسة منبوذة بين صويحباتها. ربما هي عدوى انتقلت إلي من خالي الذي كانت غرفته لا تخلو من الفتيات.
أحسست أن جليدي العاطفي بعد النكبة إياها قد بدأ في الذوبان. وجدت عند بوابة العمارة عبد الرحمن البواب وهو يستوقفني لقول شيء ما، لكني قاطعته: حتى أعود وقل ما شئت الآن ليس لدي الوقت. انخرس في مكانه وعاد إلى الجلوس على كرسيه المقيد بسلسلة وقفل خوفا من سرقته يخيل إلي أن البشر كلهم يبحثون عن كراسي للجلوس عليها في السياسة في الثقافة في كل مكان وما أن يحسوا بقرب ضياعها حتى يتحولوا إلى حشرات أو حيوانات أو دينصورات أو دراكولات.
السابعة والنصف لفظني التاكسي وسط ساحة مارشال وقصدت بسرعة مخدعا هاتفيا، بجوار مقهى رمسيس. قلت لنفسي لا داعي للجلوس في المقهى مرة أخرى سأقف بجوار المخدع الهاتفي، لكن ما فكرت فيه فكرت فيه خنساء أيضا إذ وجدتها واقفة بجواره تتأمل لوحة إشهارية تتحدت عن سيارة جديدة اقتصادية ستخرج للأسواق قريبا وبسلف مجاني الفائدة. لم تغير خنساء ملابسها وكأنها لم تعد إلى المنزل.في يدها محفظتها وتحت إبطها جريدة فرنسية.
ـ كيف مر اليوم؟
ـ عادي.
ـ من هنا، المطعم في الشارع الآخر. ألم تعودي إلى البيت؟
سكتت ولم تجبني.
دفعت بوابة المطعم ذات المعمار الآسيوي. وقلت:
ـ تبدين غير متحمسة لهذه الوليمة.
ـ لا أبدا، لكني أحس بتعب شديد.
فضاء من العلامات الحمراء تتستر وراء أضواء بنفسجية وحمراء. تذكرت ماوتسي تونغ وثورته النسائية التي غرف منها زوجات وعشيقات كن يدخلن مغارته الحمراء ولا يخرجن منها أبدا إلا إلى القبر. ابتسمت وأنا أتلقى التحية من تشانغ عبد المالك. قدمته لخنساء وقلت لها ضاحكا:
ـ خمني هل هذا صيني أم مغربي؟
بادرنا تشانغ:
ـ لا داعي للتخمين أنا مغربي أمازيغي ومن أزيلال.
بقيت خنساء تتأمله صامتة وهي تومئ برأسها متعجبة.
أخذنا مكانا نائيا بقرب الشرفة وبعيدا عن ضجة الحانة المشتركة مع المطعم.
وما أن جلسنا حتى قالت:
ـ صيني يتقن العربية أليس كذلك؟
ـ لا أبدا مغربي، أمه فيتنامية وأبوه مغربي من قبيلة والدي بأيت عتاب بيني وبينه علاقات قرابة بعيدة. والده كان محاربا ضمن الجيش الفيتنامي. ولما عاد ترك زوجته هناك بصبيين، وما أن أتيحت له فرصة استقدامهم حتى أرسل في طلبهم. والده كان شيوعيا حتى النخاع. اليوم هو سكير لا يتوقف عن الشرب. أما أمه فمناضلة حقيقية عندما أيقنت أن زوجها عربيد وبائع كلام، خرجت للعمل في الفنادق معتمدة على خبرتها في الطبخ الفيتنامي، ثم ألحقت تشانغ بها وعملا معا على جمع المال بتقشف كبير. وعندما رحل اليهودي صاحب المحل الذي عملا فيه نهاية الثمانينيات عرضا عليه شراءه. لكن المبلغ الذي بحوزتهما لم يكن كافيا فدخلا شريكان معه وبقي اليهودي يتوصل بنصيبه من الأرباح، إلى أن قرر ذات يوم الاستغناء عن نصيبه مقابل سفر عائشة تشانغ إلى تل أبيب، حيث فتحا معا مطعما آسيويا ضخما هناك أطلقا عليه كازابلانكا.
انطلقت الموسيقى الفيتنامية. وتصاعدت من وراء الحيطان وكأنها تنبجس من مسامه الحمراء الحزينة. اخترت حساء وسمكا أما خنساء فاختارت دجاجا مقليا وحساء أيضا. وأضفت نبيذا بينما طلبت خنساء ماء معدنيا.
تأملت وجهها الشاحب بعينيه الواسعتين وأنفه الدقيق فبدت وسط الضوء الخافت كأنها مجرد غيمة صغيرة عابرة في الأفق لن تمطر ولن تستقر.
ـ خنساء تحتاجين إلى قرن من الراحة.
ـ معك حق، أنهكني الركض.
ـ سمعت أن نزهة عادت إلى المغرب.
ـ كنت أنتظر سؤالك منذ التقينا في التكنوبارك.
ـ لا تسيئي الظن فأنا لا أستدرجك لمعرفة أخبارها. لم أقصد هذا وأنت تعرفين طبعي فأنا لا أستعمل الأساليب الملتوية.
ـ أعرف، جاءت في عطلة الصيف الماضي أعدت بعض الوثائق.
ـ ألم تحدثك عن سبب هروبها من الفندق؟
ـ المسألة بسيطة فقد كانت تخطط للهروب منذ زمن.
ـ وكنت على علم بذلك؟
ـ لا.. لا .. أبدا .. كل ما أعرفه أنها كانت تفكر دائما في الذهاب إلى الخارج وقد حاولت المستحيل لأجل ذلك لكن عندما صادفتك بدأت تتغير فقد أحبتك. قالت أنها تتأسف على فراقك بتلك الطريقة المفاجئة والجارحة.
ـ هل اتصلت بأسرتها؟
ـ أكيد فقد كانت تحتاج والدها، رغم أنها لم تكن تطيقه، في إعداد بعض الوثائق المتعلقة بزواجها من شخص ألماني.
ـ لا تطيق نفسها فكيف ستطيق الآخرين.
انهمكت خنساء في الأكل بلذة وبين الفينة والأخرى كانت تعبر برأسها وعينيها عن إعجابها بطعم الأكل المتبل بالزنجبيل الطري المحلى والصوجا ومرق السمك والطحالب وفواكه البحر. توقفت عن الأكل رشفت من كأس الماء مسحت بمنديل شفاف ثم قالت:
ـ أزمة نزهة أنت لا تعرفها. لقد كانت ضحية والدها الذي كان يعتدي عليها جنسيا، وقد كبرت معها عقدتها إلى أن أصبحت لعبة انتقام من المجتمع والأخلاق والقيم. الأب نموذج هذه القيم، وعندما تفسخ النموذج غدت نزهة حيوانا جامحا يفعل ما يشاء دون حسيب أو رقيب، فعددت علاقاتها وتلذذت بتعذيب الأب عندما يريد ممارسة سلطته الرمزية، لكن عندما حج وعاد كفت عن مضايقته. اعترفت لي مرارا أنك حققت لها توازنا عاطفيا ونفسيا, لكنك لم تبدل مجهودا كبيرا لانتشالها من البئر السحيقة التي كانت تهوي إلى قرارها. كنت مشغولا بدورك بالعمل وقضية التأمين والشقة الجديدة.
لم يعد للأكل طعم ولا للمكان سحر ولا لأي شيء قيمة تذكر. دائما نعرف الحقيقة لكن بعد فوات الأوان. نظرت إلى خنساء وقلت:
ـ أكاد أختنق هلا انصرفنا؟
ـ هل أطفئ سيجارتي؟
ـ ليست السيجارة بل المكان … المكان نفسه.
من ممر الأمير إلى مارشي سنترال، بقيت ساكتا بينما خنساء اقتربت مني أكثر. أدخلت كفها تحت إبطي والتصقت بي.
ـ برد الليلة قارس جدا.
ـ معك حق الفصول اختلطت ولم نعد نميزها عن بعضها البعض.
ـ يجب أن تنس الماضي.
ـ مجرد كلام يا خنساء، الماضي يسري في عروقنا كما الدم الذي نرثه من أسلافنا.
ـ لا تفلسف الأمور، أنا بدوري عانيت تجربة قاسية، تتذكر مراد؟
ـ مراد خطيبك.
ـ أجل، هاجر إلى إيطاليا، بعد محنة التوقف عن العمل، توقف بدوره عن مشروع الزواج، التقى في أحد المؤتمرات النقابية بمؤتمرة إيطالية. وبعد مدة أرسلت له دعوة لحضور مؤتمر بنابولي. فسافر ولم يعد. جلست في مقهى شانزيليزي قبل أن نلتقي، قرأت رسالة منه وصلتني البارحة فجأة وبعد غياب ثلاث سنوات يطلب مني أن استعد ليأخذني معه خلال عطلة الصيف. فقد تمكن بفضل زواجه بالايطالية من الحصول على بطاقة الإقامة. ما رأيك في هذا؟
ـ لا أجد الكلمات، أعذريني، فذهني مشتت.
وصلنا إلى موقف التاكسيات البيضاء المؤدية إلى حي البرنوصي. دخلت هي واحدا وقالت:
ـ خذ هذا هاتفي، اتصل بي.
لاحقت ضوء التاكسي الخافت وهو يخترق شارع محمد الخامس المعتم يوما بعد يوم والمتدهور عمرانيا. لا ريب سيغدو وكرا وخربة في السنين القادمة كما فندق لينكولن العريق المتداعي اليوم فوق رؤوس المارة.
* * *
في الصباح الباكر استيقظت مصدع الرأس. الدواء الذي أتناوله يساعدني على النوم العميق لكنه ينسيني إسمي. تداخلت في ذهني صور عديدة كأنها مضببة أو مرتجة. رفعت رأسي عن المخدة بصعوبة. نظرت إلى ضوء النهار المتسلل من الممر.
من النافذة رأيت عمال النظافة يستأنفون حمل الأزبال هل انتصرت البروليتاريا؟ لاخير اليوم يرجى لا من العمال ولا من الفلاحين ولا حتى من الطلبة! فعلا طرقات قوية على الباب. هرولت في اتجاه الباب وكأني أجر أثقالا ورائي. فتحته فوجدت البواب أمامي ينظر إليّ بعينين جاحظتين.
ـ منذ نصف ساعة وأنا أطرق الباب، حسبتك لم تعد ليلة البارحة.
ـ حسنا ماذا تريد؟
ـ قلت لك أريد أن أتحدث معك.
ـ حول ماذا؟
ـ رجل جاء يسأل عنك أسئلة غريبة.
ـ مثل ماذا؟
ـ سأل عن رقم شقتك وعملك؟ وهل تعيش وحدك؟ وهل تـُدخل الفتيات وتُخرجهن كما العزاب؟ أم تقضي متعتك في الخارج؟ ومن هم أصدقاؤك؟ وهل تنتمي إلى أي حزب؟ وهل تصلي يوم الجمعة؟ وهل تقضي عطلك في البيت؟ أم تسافر إلى مكان ما؟ وأسئلة أخرى لا أتذكرها.
ـ وهل أجبته عنها؟
ـ طبعا لا، أسرار العمارة أمانة في عنقي.
ـ أحسنت. خذ أحضر حليبا وخبزا والباقي احتفظ يه.
انصرف البواب، وبقيت في البيت جالسا في الهول تتقاذفني الهواجس حول هوية الزائر. ازدادت وساوسي حاولت تناسي الأمر بتنظيف البيت وإعداد قهوة. ثم تذكرت الملفات التي أحضرتها وتناسيتها. أسرعت إليها وأخرجتها وضعتها داخل كيس بلاستيكي أسود وارتديت ملابسي ونزلت. استنسختها عند الحاج في نهاية الشارع بعدما دفعته بإلحاح للإسراع بدعوى أني سأذهب إلى الحمام. فمررها تحت الضوء بسرعة وناولني إياها.
عدت من طريق مختلف، وأنا متوجس توجسا حقيقيا.
وجدت البواب يحمل كيسا بلاستيكيا أسود وهو ينظر إلي بدهشة
ـ أين كنت؟
ـ ليس شأنك، أعطني الكيس.
وأراد أن ينزل الدرج، فأمرته بصوت غاضب:
ـ أين الباقي؟
ـ هاهو
أخذت الدراهم المتبقية بينما بقي هو مسمرا في مكانه يحاول استيعاب الأمر.
في البيت أطفأت الأضواء ودخلت فراشي تاركا شريط موسيقى بوليفية يبحر بي إلى أعماقي. تمنيت لو كانت خنساء بجانبي، وبدأت أتخيل أناملها تدغدغ عنقي وشعري. استسلمت للذة هي خليط بين الرغبة وموانعها. كانت الموسيقى بين الفينة والأخرى تبرز صورة نزهة بكل إشراقها وفي لحظات استسلامها للذة كانت لا تحرك ساكنا وكأنها ميتة. لحظة موت حقيقي تسيطر على كافة جسدها. أحيانا أحس أني وحدي أستلذ الخواء اللزج غائصا بكل جوارحي في العدم. مجرد زاهد يباشر لعنة الإحساس بالملذات من جديد. عقاب من آلهة لا ترى ولا تسأل. جميع صورها وفي مواقف متعددة ومتباينة تمر كلقطات شريط صامت: حياة باردة وخرساء. توقفت المسجلة وبقي الصمت يرن في فضاء الغرفة. تركت فكري يسيح في خطط عديدة للانتقام من الإدارة وفسادها. وضعت النسخ داخل أظرفة وكتبت عليها عنوان الوزارة المعنية، وآخر عنوان صحيفة معارضة، وآخر إلى مدير الديوان، أما الأصلي فوضعت عليه عنوان بيت أمي، مع إضافة جملة في أسفل الأوراق:
(إذا حدث لي مكروه فهذه الوثائق هي السبب)
* * *
في اليوم التالي. كما العادة إذا غصت في ذكريات لذيذة وجدت سروال منامتي مبللا بلزوجة باردة. سمعت طرقا على الباب فتلكأت في الفتح إلى أن اغتسلت.
فتحت الباب بعدما ارتديت بدلة رياضية. وجدت البواب يخاطب شخصا لا أعرفه.
ـ قلت لك أنه موجود.
ثم أضاف باستعجال وهو ينظر إليّ:
ـ ها هو (وإلى الشخص الزائر) ها هو.
وانصرف وكأنه يريد أن يتخلص من ورطة.
قال الزائر:
ـ أنت المدعو عبد الرزاق المتوكل.
ـ أجل أنا هو؟
ـ أنا ممثل منظمة الطريق إلى المستقبل.
لم أستطع السيطرة على فرحي، فدعوته للدخول والجلوس واقترحت عليه تناول الفطور معي. بقي صامتا محايدا ينظر إلى غبطتي الزائدة كطفل يتلقى هديته الأولى.
ـ إذا تفضلت، أريد قهوة بدون سكر.
ـ حاضر سأحضرها في الحال.
ذهبت إلى المطبخ، بعدما دعوته أن يعتبر البيت بيته. وما أن وضعت القهوة في القطارة حتى انقض عليّ الخوف من أن يكون جاسوسا للمدير الجديد ويريد بالتالي سرقة الأظرفة. أسرعت إلى غرفة النوم، جمعتها ووضعتها تحت السرير، ثم عدت إلى الهول حيث وجدت الزائر يضع فوق الطاولة مجموعة من الوثائق يستعد ذهنيا لتقديمها حسب المطلوب.
وضعت القهوة وأنا أتطلع إلى الأوراق الموضوعة أمامه. أزاحها جانبا وشرب قهوته دفعة واحدة وقال:
ـ قهوة جيدة.
ـ الشيء الوحيد الذي أحسن صنعه.
ابتسم وفرك شاربه الكث وقال:
ـ لا تقل هذا نحن نريدك أن تحسن أشياء كثيرة.
فندمت في الحال على تواضعي الساذج وقلت:
ـ أقصد أجيد إعدادها بشكل جيد، فبعض الأصدقاء تعجبهم والبعض الآخر يجدها قوية جدا.
ـ لك أصدقاء إذن؟
ـ بعض الأصدقاء.
ـ مازلت تلاقيهم؟
ـ بعضهم، مشاغل الحياة لا تترك الوقت لزيارة أحد.
ـ الأصدقاء مهمين في الحياة.
ـ أجل، لكنهم تشتتوا.
ـ أين تشتتوا؟
ـ بعضهم هنا والبعض الآخر هناك.
ـ تعني في الداخل أم في الخارج.
ـ بعضهم مازال هنا والبعض الآخر هاجر هناك. خلال الصيف قد أرى أحدهم، وأحيانا نلتقي صدفة.
ـ فهمتك، لا تجد الوقت، والحياة قد تشغلك عن نفسك.
ـ أجل، هذه هي الجملة التي كنت أود قولها.
ـ اسمع ! نحن تقريبا نعرف عنك كل شيء، لكن الإجراءات لا بد منها.
ـ تعرفون عني كل شيء، ما معنى هذا؟
ـ لا تشغل بالك، الأهم أن تملأ هذه الاستمارات بطريقة دقيقة وصحيحة ثم تحضرها إلى العنوان المسجل أسفلها. والآن إلى اللقاء. الوقت لا يرحم.
أسرعت الخطو، لا أبالي بالعابرين، أراوغ القادمين رافعا من سرعتي حسب الفسحة الممكنة متفاديا الاصطدام بأي شخص، أحمل داخل الجريدة المطوية الأظرفة المعنية. دخلت بوابة البريد المركزي ووقفت أمام الموظفة المكلفة بالإرساليات. طلبت منها مراسلات مضمونة فسلمتني أوراقا صغيرة في حجم الكف وبناء عليه فما سأكتبه عليها ينبغي أن يكون مجهريا. كتبت عناوين المرسَل إليهم والمرسِل. ثم سلمتها مبلغ الإرسال فسلمتني الإيصالات.وانصرفت أحاذر أن تسقط فوق رأسي بعض ألواح الدعم التي يستعملها العمال المنهمكين في ترميم مركز البريد. تكاثرت أوراش الترميم في الدار البيضاء وكأنها ستتحطم فوق رؤوس السكان.
جرائد مكومة عند كشك الصحف. حاولت اختصار الطريق عبر الممر الأرضي فوجدته يرمم أيضا.
* * *
مقهى رمسيس، خنساء هناك تشير بكفها لتعلم عن مكان جلوسها. بدت لي مختلفة شيئا ما عن اللقاء السابق. غيرت من تسريحة شعرها، جمعته إلى الخلف فبرز وجهها المستدير واتضحت مكامن الجمال فيه. خالية من إغراءات المساحيق. بساطة في التأنق ترعش القلب وتخرس اللسان.
ـ صدفة أخرى جميلة !
قلت وجلست أمامها.
ـ لم لم تتصل؟
ـ كنت سأفعل هذا المساء.
وضعت الجريدة فوق الطاولة.
ـ أرأيت لقد وجدوا سفاح المعارف منتحرا في نفس العمارة التي كان يشتغل فيها بوابا.
وأشارت إلى صورته المتصدرة للصفحة الأولى.
ـ نعم سمعت بهذه الجريمة، الأمور تزداد تفاقما.
كنت أرغب في البوح بما يجول في خاطري من هواجس تتعلق بالعمل ومنظمة الطريق إلى المستقبل لكني فضلت بأنانية الاحتفاظ بالأمر لنفسي.
ـ نذهب إلى البيت، نتغذى معا.
وافقت بلا تحفظ، أشرنا إلى سيارة أجرة، جلسنا في الخلف. طوال الطريق كنت أفكر في هاجس واحد. كيف سأتحمل رغبتي الجامحة في لمس أصابعها. ترددت كثيرا، لكني لم أستطع تحريك كفي في اتجاه كفها.
دخلنا البيت. جلست خنساء فوق أحد كراسي طاولة الأكل، فأسرعت إلى الحمام، رششت معطر هواء لاخفاء رائحة الغمولة والنوم. لاحقت بعض الذبابات فأخرجتها من نافذة المطبخ وعدت إلى الهول وجدت خنساء شاردة تفكر دون شك في كيفية وصولها معي إلى البيت، رغم أننا لم نشرع بعد في علاقة حميمة. في تلك اللحظة أحسست بالندم يفترسني خوفا من إفساد هذه العلاقة الجميلة التي نسجناها بخيوط رهيفة من الألم والبوح والأمل في الخروج من سجن الماضي.
تخلصت من شرودها بطريقة مسرحية نهضت وهي تسأل:
ـ أين المطبخ؟
ـ من هنا… الممر ثم المطبخ.
سحبتني من يدي وهي تقول:
ـ نعد غذاءنا، هل في الثلاجة ما يؤكل؟
ـ نعم هناك شرائح سمك.
ـ رائع سنحشوها بالثوم والكرافس والبهارات.
ـ افعلي ما تريدين، كل شيء أمامك.
أعدت كل شيء بسرعة. وضعت الأطباق فوق المائدة وهي تترنم بأغنية "أيظن" لنجاة الصغيرة.
أكلنا باستلذاذ صامتين. كنت أراقب فمها الصغير وهو يلتهم قطع السمك. أحسست بالاطمئنان وأنا المغتصب بالعزلة منذ ثلاث سنوات. أشعلت في فؤادي رغبة عارمة في أن أمد يدي إلى جسدها لأطوقه وأضمه إلى وجهي، سأضغط وجهي ببطنها وأرتشف رائحته. كأن خنساء شعرت بغلياني الداخلي، فقالت:
ـ ما رأيك في الأكل؟
ـ لذيذ ورائع.
ـ هل تدري؟ أنهم عثروا على جثة امرأة ممزقة داخل كيس بلاستيكي أسود بالقرب من عمارتك منذ أسبوع.
ـ لا أعلم عن ذلك، لكن جرائم القتل أصبحت كثيرة هذه الأيام.
ـ وكأن الأمن غير موجود، أصبحت أخشى السير على قدمي بعد الثامنة.
ـ لا ندري إلى أين تسير الأمور. بطالة، نهب للأموال العامة، شباب بالآلاف ينتحر أمام شواطئ أسبانيا وفتياتنا يملأن مراقص أوروبا وبعض الدول العربية.
راقبت حركة قدمها اليسرى وهي تضرب قائمة الكرسي. فقلت:
ـ تحبين سماع بعض الموسيقى.
ـ أجل، نجاة الصغيرة.
ـ لا أملك أشرطة لها، عندي موسيقى صامتة.
ـ ضع ما شئت.
ذهبت إلى غرفة النوم وضعت شريط الموسيقى البوليفية دون وعي مني شردت أمام المسجلة أفكر في بريق عيني نزهة واستمتاعها العميق بالإبحار الروحي لآلة الناي التقليدية. كانت تغرق في صمتها المطلق وكأنها تعيش في عوالم أخرى.
صحوت على صوت خنساء:
ـ غرفة معتمة، أين أثاث غرفة النوم؟.
ـ أخذته أم نزهة، كانت تريد شيئا من رائحة ابنتها، غير أنها غيرت رأيها وأخذت تقريبا كل شيء.
ـ عليك أن تحذر فصل الشتاء، فالمرتبة موضوعة مباشرة على الأرضية.
ـ لم أعد أهتم بالفصول فهي عندي فصل واحد وهو غير مصنف على الإطلاق.
ـ رائعة هذه الموسيقى كأنها آتية من عوالم سحرية.
ـ صحيح، لأنها موسيقى الطبيعة وأحلام الإنسان المتوحد مع الطبيعة المهددة بالحروب والتلوث.
ـ تعالي معي، سأغسل الصحون وأعد قهوة، تشربين قهوة أليس كذلك؟
ـ خفيفة.
ـ يمكنني التدخين.
ـ أجل، البيت بيتك.
سحبت كرسيا من طاولة الأكل ووضعته في المطبخ خلف ظهري. وجلست تراقب غسلي السريع للصحون وهي تنفث دخان السيجارة. وصلت العصارة بالكهرباء وراقبنا معا قطراتها الساخنة وهي تتجمع داخل الإناء الزجاجي الشفاف صانعة حوله هالة من الضباب.
تناولت فنجانها وانسحبت إلى طاولة الأكل بهدوء بينما أنا فكرت في صمتها الكثير وكأنها تفكر في مليون شيء دفعة واحدة. دخنت سيجارتها وقالت:
ـ ألا تفكر في الزواج؟
ـ أعوذ بالله، بعد التجربة إياها. لن أغامر مرة أخرى.
ـ أحسن الزواج مثل الماء الذي وضعته في العصارة يكون أبيض شفافا خفيفا في البداية ثم ما يلبث أن يسودّ في الختام.
ابتسمت من تشبيهها الطريف وأضفت:
ـ كالقهوة تماما ندمن مذاقها المر، فنتعود عليه.
* * *
تمددنا فوق السرير جنبا إلى جنب يدي في يدها، ننظر معا إلى السقف. أحسست نشوة عارمة وخدر لذيذ أخذ يتغلغل إلى مسامي كأنه شعور بالطمأنينة أو الانتصار. أزلت القبعة عن رأسي فمدت يدها إلى صلعتي وقالت:
ـ أصبحت كدايلي لاما مغربي.
لم يكن بمقدوري الإجابة فقد تفكك جسدي عضوا عضوا ودخلت في غفوة دافئة وتمنيت في خاطري لو الأبد يتمدد هكذا. هكذا أفنى أو هكذا أخلد. لقطة واحدة وإحساس واحد يكفينا فيما تبقى لنا من عمر. استيقظت بعدها فوجدتها غارقة في سبات عميق، هذا ما اعتقدته في البداية، لكني عندما حاولت تقبيلها وجدت حضنها ينتظرني ويداها تطوقاني. التحمنا، نزعت ملابسها ونزعت ملابسي، ثم درنا حول بعضنا البعض والتففنا وكأننا ننحدر من علو تيه إلى شاطئ خلاص. همست في أذنها:
ـ هل يمكنني؟
ـ نعم.
ـ انتظري قليلا سأعود في الحال.
ذهبت إلى الحمام وأنا عار بحثت في خزانة الأدوية البلاستيكية عن أحد العوازل فوجدت إثنين. عدت إلى غرفة النوم فرحا فالحرج سيزول. دسست نفسي إلى جوارها وفي نفس اللحظة أدخلت العازلين تحت الوسادة. بحثت عن كفها فوجدتها تبحث عن كفي. دغدغت باطن كفها فضحكت ودغدغت عنقي فضحكت. مررت أنامل أصابعي فوق كل جزء من جسدها وكلما تأوهت ازددت انتشاء.
بعد استرخاء وغفوة، ذهبت إلى المرحاض ثم لحقت بي، فالتحمنا مرة أخرى واقفين لم نستطع الانفصال عن بعضنا البعض إلا بصعوبة. أطلقت ماء الدش الساخن واستحممنا معا وكلانا يضحك لأبسط الأسباب.
قلت لها:
ـ قد لا نلتق بعد اليوم، فأنا أفكر في الالتحاق بالطريق إلى المستقبل. اتصلوا بي.
ـ خسارة، وعملك؟
ـ سأقدم استقالتي.
ـ صدفة أخرى عجيبة أنا بدوري سألتحق بهذه المنظمة. قالوا لي أنهم يحتاجون إلى مترجمين وربما سيتم اختياري ضمن المترشحين.
ـ أتمنى أن نلتقي هناك.
ـ أتمنى ذلك من كل قلبي.
غادرت خنساء وبقيت وحدي أطوف البيت من مكان إلى مكان مبلبل الذهن. تناولت الدواء وقعدت إلى الطاولة أفكر فيما سأفعله. وضعت الاستمارات أمامي وبدأت تعبئة الفراغات، كنت أعتقد أن العملية لن تستغرق إلا وقتا وجيزا لكن ها أنا أتجاوز منتصف الليل ومازلت في الصفحة الأولى وهم يسألون عن الماضي والحاضر والمستقبل وأنا لا يهمني من كل هذا سوى مستقبلي أنا أنا وحدي، تذكرت أيام الاختبارات خاصة منها ليلة اليوم الأول حين تبقى عيني ترفرفان كمحرك طائرة نفاثة أترقب الصباح وأترصد منبه الساعة. أستعرض شريط وساوسي من التأخر في الاستيقاظ أو الوصول إلى مركز الامتحان بعد فوات الأوان. مئات الامتحانات وآلاف الأحاسيس المدمرة للأعصاب. فكرت وأنا أسمع آذان الفجر أن تمددي وانتظار النوم لن يجدي، فانشغالي بعدة مواضيع دفعة واحدة غلب رغبة جسدي في طلب الراحة والنوم. الدماغ من يطلب الراحة وأنا دماغي لا يريد راحة. ارتديت بذلتي وحذائي الرياضيين ثم جهزت نفسي للركض. أخذت المفاتيح وأغلقت الباب. نزلت الدرج المبقع بقطرات أكياس الأزبال. فتحت البوابة وقفزت الدرجات الثلاث دفعة واحدة. الشارع فارغ. بعض الكلاب المشردة تلتهم أكياس الأزبال المكومة عند طرف الشارع. الليل بدأ يزرق ويتلاشى. نزلت غربا في اتجاه الغابة والبحر وأنا أفكر في العمل والمستقبل ونزهة وخنساء. قطعت مسافات وإحساس بالخفة يصحبني، تخلصت من القبعة وألقيتها على قارعة الطريق. وكلما تبللت بالعرق إلا وازددت إحساسا باختراقي واختراق الهواء البارد، للأشياء الهامدة، للأفكار الخامدة. تنبهت فجأة إلى أني أعدو إلى جانب شخص وجهه ليس غريبا عني. ابتسم وبدأ يشجعني برأسه كلما رفعت الإيقاع وواصلت الركض. بعد مسافة لم أستطع تحديدها بالضبط قال:
ـ الطريق ...
فقلت:
ـ الطريق إلى المستقبل.
شدني من كفي وقال:
ـ الطريق من هنا، عندما تصل إلى حديقة الجامعة العربية. توقف
* * *
القسم الثاني
وصلت أخيرا. كنت ألهث ولباسي الرياضي يكاد يتبلل عرقا. مرافقي اختفى. ووجدت نفسي أدس دسا بين صف طويل من البشر.
الطابور، يمتد كلسان طويل.
رجال ونساء وأطفال يقفون في صف لا متناهي.
يتحركون بصعوبة في اتجاه أفق داكن.
يبدو الأمر وكأن كل ما يحدث مجرد لوحة باروكية عن القيامة.
التفتت المرأة وبدأت تعاتبني على الانتظار أو على الفضاء المكفهر أو على احتكاكي غير المتعمد بمؤخرتها.
أما الرجل المسن فيدفعني بحقد وكأنه يتعمد ذلك، لإثارة القلاقل طبعا، يتكئ فوق ظهري كأنه يستريح أو يغفو.
أتخلص منه بانفعال، فيطبطب على كتفي معتذرا، أحس به يتهكم فوق رقبتي.
يخرج طفل صغير من الطابور ويتيه في الأفق لاحقته أمه وتاهت معه وكأن وحشا ضخما يبتلعهما.
أسمع العجوز يقول أن ما حدث في المرة السابقة، سيحدث لهما أيضا. تمر سيارة عسكرية تحمل علامة غريبة، أحاول تفسيرها لكنني لم أتمكن من ذلك.
يرتفع صوت من مكبر غير بعيد.
ـ بعد قليل ستنزل من السماء مساعدات ومئونة، من يريد نصيبه فليفعل ذلك بهدوء ومسؤولية.
أحس بفرح عارم، وبطرب زائد، حتى أنني غنيت أغنية في نفسي. وإن لم تخني الذاكرة يمكن أن أقول ربما نشيدا وطنيا. وفيما أنا أنتشي وأتخيل أنواع الطعام، نبهني العجوز بعكازه وعندما التفت رأيت هذه المرة صورته بوضوح. تشبه لوحة مشهورة لعجوز له ذقن بارز وسن واحدة لا أتذكر أين رأيتها ولا من رسمها.
ـ لا تذهب، فهذه خدعة اسألني أنا من يعرفهم جيدا. الآن فقط بدأ اللعب الحقيقي.
لم أفهم وأردت أن أصدقه لكن الجوع يمزق أحشائي، تناسيت الأمر. أحسست بألم آخر في قدمي اليسرى كأن بها جرحا أو دملا. ثم نسيت كل الآلام حين بدأت تظهر في السماء مظلات رمادية، توقعت نزول عساكر لكن ما أن زال الغبار واقتربت المسافة، حتى ظهرت صناديق وأكياس كاكية تتهادى في الهواء وتستقر فوق الحقول الجرداء. تهافت الناس وخرجوا من الطابور وهرولوا جهتها، تسابقوا وتعاركوا وتراكموا. انشغلت بألم حاد في قدمي اليسرى، ظننته في البداية مجرد وهم، أو تشنج عصبي. رفعت قدمي بصعوبة وعندما تأملت قدمي وجدتهما حافيتين، فصحت دون وعي مني:
ـ أين حذائي الرياضي؟
رد العجوز وهو يحاول تهدئتي:
ـ نزع منك، منذ البداية، ألا تتذكر؟
انخرست وأنا أنتبه إلى أقدام الطابوريين، فوجدتها حافية كذلك، فاعتبرت الأمر سهوا مني.
الجوع كافر، نعم الجوع يبوّس الأقدام ويستعبد الآنام.
الذين يعودون من الحقول الجرداء يعودون وهم يرتدون بدلا عسكرية ويحملون أسلحة.
يمضعون شونغوم وكأنهم شبعوا. يتنظمون أمامنا في صفوف قصيرة. بدوا كثوار في الوهلة الأولى ثم كثيران تساق إلى البوطوار (مذبح الماشية).
تأسفت المرأة.
ـ سيلتحقون بالآخرين، كل يوم يحدث هذا، منسحبون يتحولون إلى جنود، وبعد لحظات يختفون.
سألت مستغربا:
ـ إلى أين؟
ـ لا أعرف، ربما هناك حرب في مكان ما.
تدخل العجوز:
ـ أكيد هناك حرب وإلا ستفلس شركات السلاح.
شعرت بالتعب والضجر فقلت للعجوز:
ـ تعبت وأفضل الانسحاب مثل هذا المستقبل لا أرغب فيه إطلاقا.
ـ لا يمكنك ذلك، هل تحسب دخول الحمام كالخروج منه؟ إما تبقى في الطابور أو تلتحق بهؤلاء.
ـ لقد تعبت وأريد العودة إلى بيتي.
ـ اجلس مكانك لتستريح وعندما يتحرك الطابور سأعلمك، لا مجال للتراجع الآن
* * *
ـ كأننا نمشي فوق البيض.
قال العجوز بإصرار ومكابرة. التفت جهته فوجدته يسخن فخذيه ويفركهما ويضربهما ضربا خفيفا ذكرني بأيام الرياضة المدرسية التي كنت أحبها لولا النكسة التي صفعتني عندما دخلت مستودع الملابس فوجدت صديقتي أسماء تحت أستاذ الرياضة يدربها على إتقان الحركات الجمبازية. هذا ما صرح به أمام دهشتي وأكدته هي بانفعال. وعندما سألت خالي عبد الستار قال أنه ربما كان يعلمها أشياء أخرى ثم استدرك مستعيذا بالله من الظن والإثم.
قلت للعجوز:
ـ ماذا تفعل؟
ـ أسخن عضلاتي فقد بدأت تتشنج. وهذا أمر ضروري لأن أي إعاقة قد تدفعك إلى المغادرة.
ودون وعي مني بدأت أقفز في مكاني محرّكا عضلاتي بشكل عشوائي.
ابتسمت المرأة التي أمامي بغنج وقالت:
ـ لهذا ألبس عدة سراويل.
ـ كانت أمي تنسج مثل هذه السراويل ويبيعها أبي في الحانات للمومسات المترهلات والراقصات.
ـ ربما أرتدي إحداها.
ـ ربما.
ـ خنقني الذي امامي برائحته.
ـ دون شك يفعلها في سرواله.
ـ عليهم طرد هؤلاء الخرائين.
ـ ربما وضعوا مثل هؤلاء عنوة كي يمتحنوا قوة جلدنا.
ـ هذه هي ألاعيبهم لقد بدأت تفهم.
نظرت إليّ المرأة نظرة إعجاب فقلت متوددا:
ـ كنت أعرف امرأة مثلك ذكية وجميلة، لكنها فضلت ألمانيا.
ابتسمت ابتسامتها الغامضة وكأنها تقول لي في خاطرها أنها لا تحتاج إلى المغازلة لأن نظراتي فضحتني منذ البداية.
ـ أنا أيضا عرفت رجالا كانوا كلهم أوغادا لا يفكرون إلا في مبتغى وحيد وما أن يحصلوا عليه حتى يتبخر الإعجاب والكلام المعسول.
حاولت الدفاع عن الرجال لكني مهما فعلت فلن تقتنع. فقلت:
ـ لا أدري ربما أنت محقة.
ـ طبعا على حق لكني أستثني البعض. أبي كان رجلا طيبا بينما أمي كانت كارثة حقيقية بلسانها ومؤامراتها وصديقاتها الخرافيات، تقضي أوقاتها في تجريب وصفات المشعوذين لربط قضيب أبي أو قدميه أو لسانه، فلا يتحرك إلا بأوامرها. لكن من سوء حظها أن أبي سيسهر ويسكر فيها ستكون آخر مرة أراهما فيها. في الصباح وجدناه مكورا بجانبها على السرير بينما هي تسبح في دمائها. حتى في جنونه كان طيبا. أخرجنا من الغرفة وحاول تهدئتنا. سلمنا إلى الجيران ثم عاد إلى الغرفة واستسلم للنوم جنبها.
حاولت أن أرى وجهها وهي تتكلم لكنها نظرت بكبرياء إلى الأمام كي لا تلتق عيوننا. قلت وأنا غير مقتنع بما سأقوله:
ـ الحياة كلبة.
صاح العجوز معقبا:
ـ تشبيهك غير موفق الكلاب أفضل من البشر.
تحركنا قليلا وتفاديت سجالا عقيما تذكرت لحظاتي السيئة مع الكلاب عندما كانت تطاردني في أزقة المدينة القديمة.
عادت الطائرات تهدر فوق رؤوسنا وهي تلقي صناديقها وأكياسها حاولت أن أميز العلامات المطبوعة فوقها لكنني عجزت عن ذلك.
مرت مروحية قريبة منا وألقت منشوراتها فوق رؤوسنا. ثم بدأ نفس السيناريو يتكرر. منسحبون يتحولون إلى ميليشيات أما نحن فنأخذ في قراءة المنشورات بعيون جامدة كأنها من زجاج.
ألمح عن بعد الشخص الذي استقطبني وتعهد رعاية انتمائي إلى طريق المستقبل. رأيته يهمس في أذن امرأة وهو يسحبها إلى مقدمة الطابور. تعجبت كثيرا فإذا كانت مستقطبة جديدة فعليها أن تبدأ من المؤخرة. نبهت العجوز للأمر فقال:
ـ لا تتعجب، يحدث هذا، كلنا رجال.
قلت محتجا:
ـ هذا الشخص هو من استقطبني.
ـ كلهم يتشابهون. إذا وقفوا أمامك لن تستطيع أن تميزهم عن بعضهم البعض أهدافهم متشابهة. الشخص الذي استقطبني يشبهه أيضا. من زارني في القرية قبل خمس سنوات وقال لي أن اسمي ورد في توصية تلقاها من مركز فرعي.
ـ هل أنت متأكد من المدة الزمنية؟
قال غاضبا:
ـ نعم متأكد، كنت حينها قد حصلت على تقاعدي النسبي وخلوت بنفسي صحبة كلابي وبقراتي. قال لي أنهم يحتاجون إلى خبرتي العسكرية وأن أمامي حظوظا وافرة كي أصبح ضابطا في المستقبل.
ـ ثم ماذا حصل بعد ذلك؟
ـ بقيت أنتظر في كل مرة تأتيني اسثمارات أعبؤها وأرسلها على العنوان المطلوب وقبل شهور وصلتني رسالة قصيرة تقول: تم قبولك المبدئي، ستكون الإنطلاقة من حديقة الجامعة العربية، كلمة السر ( الطريق)
قلت في الحال:
ـ هذا ما حصل معي بالضبط.
رأيت الرجل يسحب معه شخصا كنت قد التقيته في مركز الاستقطاب.
كان قد دفعني وأنا أنتظر دوري، ملفي جاهز ولا ينتظر سوى الأنترفيو. إلتفت نحوه وقلت له:
ـ سيأتي دورنا توقف عن الدفع.
نظر إليّ بعدوانية لم يعر كلامي اهتماما وأخذ يخرج رجلا من الطابور ويدخلها إليه ويلتفت إلى الوراء أو يخرج منه أو يقف بجانبي، ويترنح كأنه لا يملك عظاما شممت رائحة خمر تفوح من فمه المظلم كمغارة. كانت فوق حاجبه الأيمن ندبة تشبه علامة نايك الشهيرة يبدو أنه يتعارك كثيرا أو أنه ضحية سهلة لخصومه.
إقترب من أذني أكثر وقال:
ـ من الأفضل في نظرك طوم كروز أم ديكابريو؟
لم أجبه وانشغلت بالتطلع إلى السكرتيرة وما تفعله مع المرشحين راقبت جيوبهم إن كانت ستقدم رشوة لكن مراقبتي كانت تصطدم بعينيها المشعتين.
ـ إسمع أنا أقول لك من هو الأفضل إنه بول نيومان أو لينو فنتورا هؤلاء رجال حقيقيون أما سينما هوليوود الآن فمليئة بالدعارة واللواط.
إنعتقت منه حين وصل دوري فقدمت بأدب ملفي للسكرتيرة ودغدغت صوتي حتى كاد ينحبس في حلقي. تصفحته وقالت:
ـ جيد يمكنك الآن أن تذهب، سنتصل بك في أي وقت. كن مستعدا. وناولتني ورقة صغيرة بيضاء لم يكتب عليها شيء. فصعدت قشعريرة حيرة وتردد وخوف. نظرت إلي نظرة إشفاق وقالت:
ـ افركها وستظهر كلمة السر.
فركتها في الحال، فظهرت كلمة السر.
انصرفت وأنا أنظر إلى السكير بشماتة، وأتمنى أن يرفض طلبه كي لا أجده ورائي في المرة القادمة.
ـ اكتشفت أن الطريق إليّ
كهذا الزمن اللقيط، طويلة لا تدرك الأنهار نهايتها
ولا الهوات أعماقها
في اتجاه الوصول إليّ تساقطت الأشجار بطيورها
والسماء بنجومها…
ردد الرجل الذي ورائي بصوت شجي رخيم، فأحسست بحزن عميق، أحس مثله، دائما، عندما أسمع مرسيل خليفة يغني أشعارا حقيقية.
ـ هل أنت شاعر؟
ـ سيرتي لا تهم أحدا. تشبه خروج الروح من ألعن جسد.
وصمت بعد ذلك الصباح برمته رغم محاولات المناوشة التي كنت أتعمدها لسماع صوته.
تشتعل السماء بشمس الظهيرة الإفريقية. حارقة وكأن الشمس تتدلى فوق رؤوسنا.
ـ اللعنة، كم سيدوم هذا الحال؟
التفتت المرأة وقالت:
ـ لا أفهم سبب انزعاجك.
ـ لست منزعجا، لكن الأمور بدأت تخيفني.
ـ لست وحدك من تبدو له الأمور وكأنها لن تنته على خير، لكن كل شيء سينتهي في نهاية المطاف، بالمعجزات، بالحروب، بالموت… كل شيء سينتهي حين يأتي وقته.
يرتفع صوت المضيفة من مكبر الصوت يقول: (الرجاء التخلي عن أمتعتكم وكل ما قد يعيق تحرككم الرجاء التخلص من الحمولة الزائدة الرجاء الاستعداد للمرحلة التالية)
تنفست الصعداء حل أخيرا الفرج من حيث لا نعلم.
ـ ألم أقل لك أن كل شيء سينتهي.
ـ قلت يا سيدتي، أشهد لك بالحكمة وقوة التبصر. منذ عرفتك وأنت تأتيني بما لم يكن في الحسبان.
ـ قل ما شاء الله.
ـ أقول ما شاء الله لم لا أقول ما شاء الله.
يعود النداء مرة أخرى، يصلنا متقطعا ومشوشا مختلطا بموسيقى مصاحبة، ليس لها لون أو طعم، كأني سمعت:
(حان وقت الاستراحة، يمكنكم الجلوس على اليمين أو اليسار. لا فرق عندنا الآن، انتهت الحرب الباردة، انهار السور، لكن حاذروا ان تغادروا مواقعكم... كي لا يختلط تناوبكم.)
تلميحات غريبة ... ولا وقت لتأويلها كما أني لم أسمع جيدا. أضيأت الجهات، وظهرت فتيات يرتدين لباسا أزرق ويضعن شعارا أحمر فوق صدورهن. بدا لي مألوفا في البداية: ملعقة وسكين يشكلان علامة ضرب. توقفت الفتيات أمام الطابوريين وأخذن يسجلن نوعية الأكل والمشروبات التي نرغب فيها. كانت الطلبات كثيرة ومتنوعة لكن لا شيء منها تحقق. ومع ذلك ما شغلني حقيقة هو الرمز المرجعي للمنجل والمطرقة الذي أعرفه جيدا أخذ يختلط في ذهني بالرمز الجديد المعلق فوق نهود الفتيات الجميلات.
الجوع الذي يستبد بنا كفيل بأن يدفعنا إلى قبول أي شيء، الركوع، الرقص الإباحي، النباح وحتى النهيق ... وفي لقمة واحدة ورشفات محدودة أنهيت الوجبة. تغرغر السائل الأسود إلى أمعائي القاحلة، تقرقرت ورجعت صدى الفراغ الهائل وكأني ألقيت حجرا في بئر غميق.
أطفأت الأضواء وفي لمح البصر أضيأت شاشة بيضاء عملاقة وبدأ الحشد المنتشر على جنبات الطريق اللانهائي، يصفق بصخب وحماس كانت كلاوديا شيفر تغسل جسدها بصابون دوف، لا أدري إن كان الطابوريون متحمسون لجسد كلوديا أم للصابون والماء الدافئ المنعش المتدفق بدخانه الضبابي فوق جسدها الناعم.
ثم ظهر مظليون ملونون يرقصون في السماء وفي مهب الرياح والفضاء العالي، يفتحون قنينات الكوكاكولا التي يتطاير سائلها البلوري وبخفة يلاحقونه رشفا وتلمظا.
وفي وصلة أخرى يظهر جنود آخرون، يخرجون من البحر في اتجاه خيام منصوبة على الشاطئ، يتسللون بحذر ينظرون جهة الكاميرا، يفتحون خيمة كبيرة من الخلف بخناجر مسننة كتلك التي طالما استعملها رامبو (سلفستر سطالون) في أفلامه. يمزقون الكتان الداكن بخفة وحذق وفي رمشة عين ينزلون كالقضاء الأغبر فوق أجساد مستسلمة للنوم. ثم بعد ذلك يحررون الرهينة الجميلة التي تشبه مارلين مونرو. تصفيقات حارة لعلعت وتصفير حاد تعالى أيضا من بعض الجهات.صاحبها نداء المعلق على الشاشة:
(التحقوا أيها السادة بهؤلاء الأبطال، التحقوا بإمبراطورية الخير، مسؤوليتنا، مسؤوليتكم جميعا إنقاذ العالم من مستقبل الشر.)
ومع النداء المرجع صوته إلكترونيا، تظهر صور سريعة للمساهمات النبيلة للجيش الأمريكي عبر العالم وهو يقدم الحرية والطعام والديمقراطية للناس.
أجلس فوق التراب، فأحس براحة غريبة وسكينة عميقة. وكأنني أدرك الحقيقة التي ليس بعدها حقيقة أخرى. عن أي حقيقة تتحدث؟ وهل توجد حقيقة وحيدة في هذا المطلق المتعرج كحقل قاحل؟ لا أدري جميع قناعاتي تنهار وماذا سأصدق وماذا سأكذب؟ نظرت إلى العجوز المستغرق في تأمل السماء والنجوم غير عابئ بالأصوات والصور.يذكرني وجهه ببورتريهات شخوص رأيتها أو تخيلتها من خلال ما كتب عنها: سقراط، زرادشت، كونفوشيوس، هوشي منه ... تخيلته يهمس في أذني:
إذا حكمت فمعنى ذلك أنك تصلح وتقوم، فإذا سست بالعدل والاستقامة فمن ذا الذي يجسر أن لا يكون مستقيما؟.
ينتهى الكرنفال ويطلب منا النوم، يسود صمت رهيب، ثم فجأة تبدأ إضاءة الأنوار الخافتة هنا وهناك. كانت الأنوار تتدرج في توهجها كأضواء مدينة بعيدة في الأفق. بعضهم يضيء الشموع والبعض الآخر يضيء الولاعات. ارتفع ضجيج أصوات تشير إلى عناصر تمرق بخفة بين الممرات وهي تلقي أوراقا. التقطت واحدة وقرأت:
( لا أحد يتوقع الخير من العجائز الذين يحكمون العالم. لقد باتت الجهات الدائنة مقتنعة أن من يتحكم في الأمور مهدد، الآن، بالزوال. ونحن مقتنعين أن الأنظمة التي تريد السلم الاجتماعي، تريده فقط لأجل التمتع بالمحاصيل السابقة التي جمعتها من القمع والسطو والمخدرات وتجارة السلاح. وها هي تلقي بالبر والبحر والبشر في صفقات مشبوهة، تسميها استثمارات وخوصصة أو خصخصة. كما أن تلك الصفقات لا تستفيد منها الشعوب بل تخصص لتسديد الديون ويبقى على الشعوب أن تسدد الفوائد من لحمها ودمها. كما تعرفون الأنظمة الحالية ملطخة بالدماء والفساد. لهذا ندعوكم إلى الانضمام لصفوف الحركة التصحيحية الجديدة…)
أنهيت القراءة بصعوبة، استعنت بشمعة المرأة التي همست في أذني:
ـ نفس الكلام يكررونه، وعندما يحكمون يفعلون نفس الشيء، لا يصدقهم أحد.
حاولت أن أتذكر إن كنت قد سمعت بهذه الحركة التصحيحية الجديدة أو قرأت عنها. لكن الذاكرة يشوش عليها الضجيج والدهشة، سألت العجوز:
ـ ما حكاية هذه المنشورات؟
ـ لا عليك، مجرد عناصر متمردة أو متواطئة مع منظمات أجنبية. تريد خلق البلبلة في صفوف الطابوريين .. وهؤلاء نعرف تاريخهم الذي تنكروا له وغسلوه بمياه التوبة. لا تهتم كثيرا، المهم أن تحافظ على تسلسلك وتدرجك في اتجاه الوصول. أنت تر فلا خيار أمامنا. الحقيقة أني لم أفهم شيئا، لاحظ العجوز صراعي وحيرتي من حركات رأسي ويدي، لكنه لم يضف كلمة واحدة.
استلقيت بدوري على ظهري وأخذت أراقب بريق نجوم بعيدة في مجرات لا نهائية، قد يكون هناك أشخاص آخرون يستلقون بدورهم على ظهورهم في كوكب مجهول، ينظرون إلينا نحن فوق هذا الكوكب الآيل دون شك إلى ما لا تحمد عقباه. ثم كأني سمعت العجوز يقول:
حين يشبع الطغاة شراستهم يتحولون إلى رجال طيبين. وكان يمكن أن تعود الأمور إلى نصابها لولا غيرة العبيد، ورغبتهم في إشباع شراستهم هم أيضا. إن طموح الخروف إلى أن يتقمص دور الذئب هو باعث أغلب الأحداث. كل من ليس له ناب يحلم به. ويريد أن يفترس هو أيضا.
* * *
تخرج شمس شاحبة من وراء الضباب الصباحي الكئيب. ترسل أشعتها الدافئة إلى وجوهنا ورقابنا وظهورنا. أشعر دفئها الفاتر يتغلغل إلى جلدتي. أرسل نظري إلى جميع الأنحاء، فأرى النائمين يستيقظون ويقفون كالصاعدين من القبور. وقف العجوز بعدما استعان بعكازه، أما المرأة فبقيت جالسة القرفصاء. كأنها تفعل شيئا لا تريد أحدا أن يطلع عليه. احترمت خصوصيتها، والتفت جهة العجوز الذي أخذ يطل عليها:
ـ أنظر ! اللعينة تأكل شيئا.
وما أن ذكر الطعام حتى انعصرت معدتي، وتذكرت فطوري الصباحي في مقهى الزهور، بالقهوة الخفيفة وفطائر الذرة. التفتت فانعكس ضوء الشمس فوق عينيها العسليتين. تشبه زوجتي السابقة في بعض تقاسيم الوجه ربما الفرق الوحيد بينهما هو التعب الشديد المنتشر سوادا على وجه المرأة. زوجتي بشرتها بيضاء وتزيدها بياضا بالمرهمات الواقية من الشمس. في اسبانيا خرجت ولم تعد، بحثت عنها برشلونة كلها وهاتفت من أعرف ومن لا أعرف. تركت غرفتها في الفندق ولم تأخذ سوى وثائقها الشخصية وكأنها تريد أن تتخلص من كل ما قد يذكرها بأمور معينة. قالوا لي فيما بعد:
ـ أنت أحمق كيف تبقى معك وقد أوصلتها إلى ما كانت تبحث عنه.
ـ كانت تركب سيارات المهاجرين وتمتطيهم امتطاء لعل وعسى يأخذها أحدهم معه، غير أن محاولاتها كانت تنتهي عند الامتطاء فقط.
ـ أنت حققت لها ما كانت تحلم به منذ مراهقتها. كنت مغفلا على طول الخط.
تبادلنا رسائل الحب، وتحدينا المصاعب والمصائب وتزوجنا. كانت تقول أنها لا تريد شيئا مني، هديتي أن نقضي شهر العسل في الخارج …
تأملت المرأة وجهي الذاهل وقالت:
ـ أأنت جائع؟
قلت مرتبكا:
ـ لا أدري.
ناولتني حفنة من الفواكه الجافة وهي تبتسم:
ـ وهذه لذلك العجوز الخبيث.
أخذ العجوز حفنته وهو يقهقه:
ـ داهية هذه المرأة، منذ أيام وهي أمامي ولم أحصل منها على حبة واحدة.
عزل العجوز التمرات والتينات واللوزات ثم قدم لي حبات الحمص.
هدرت سيارة الاندروفر وارتفع صوت من بوق فوق سطحها:
(حان الوقت، قفوا في أمكنتكم، ستصلكم حصصكم من القهوة والمادلين.النظام والانتظام أمر ضروري ومن يخالف فسيحرم من الفطور)
وصلتنا حصتنا. قلت للعجوز ما دار في ذهني بالأمس:
ـ أنت تشبه هو شي منه.
ضحك العجوز وقال:
ـ ولم لا أكون أنا شي مني هو.
وواصل ضحكه الماكر. صححت له الاسم. وأضاف:
ـ من يكون هذا الذي قلت اسمه؟
ـ رأيت صورته في إحدى الجرائد التي كانت يسارية. هو زعيم فيتنامي حارب الولايات المتحدة التي غزت بلاده بدعوى حمايتها من الشيوعية. تخيل أرسلت إلى ذلك البلد نصف مليون جندي وطبقت هناك سياسة جد متحضرة: احرق كل شيء. دمر كل شيء. اقتل كل شيء. ومع ذلك لم تنتصر. هم كانوا يحبون القتل أما هو فكان يحب الأطفال والبرتقال.
تأملني العجوز بإمعان وكأنه يراني لأول مرة وقال:
ـ إنه يشبهني، أنا أيضا أحب البرتقال والأطفال، لكني لست زعيما، ولا أقدر على أمريكا، هذا هو الفرق بيننا، أنا أحببت النساء ولم أستطع الإنجاب وضيعت حياتي في الحانات والطرقات.
فجأة نهضت المرأة وهي تقول:
ـ أخيرا بدأ الطابور يتحرك. يقولون أن سبب توقفه يرجع إلى سقوط من كان في المقدمة صريعا بسكتة قلبية ربما من شدة فرحه بالوصول. وعندما فحص الطبيب الجثة وجده امرأة. وقد تسبب ذلك في توقيفات عديدة في صفوف الهيئة المنظمة.
فعلا بدأ الطابور يتحرك، لكن ببطء شديد. رأيت جنودا يقفون أمام الطابوريين ويفتشونهم بطريقة غريبة. وقفوا أمام المرأة وطلب منها أحدهم إنزال سروالها فرفضت بشدة، فهدأها أحدهم كان يقف في الخلف. قال لها:
ـ لا تخشي شيئا مجرد فحص روتيني.
ورغم تعنتها، رضخت للواقع، وبدأت تنزع سروالها، الذي تحول بقدرة قادر إلى أربعة سراويل. أنزلت الواحد تلو الآخر وكأنها تتقشر. اقترب منها الجندي ووضع آلة صغيرة لها خرطوم طويل فوق مقدمة التبان. ذكرني الأمر بآلة بيضاء كانت تحملها الأميرة ديانا وهي تبحث عن شيء ما قيل أنها ألغام مزروعة بالملايين في كل بؤر الحرب في العالم. كانت تضع زجاجا سميكا وشفافا على وجهها الجميل، تحيطها شخصيات ويترصدها المصورون الفضائحيون. كنت وقتها معجبا بقامتها الهيفاء وعينيها الغامضتين بالحزن والكآبة. لم أتوقع أبدا أنها ستموت في حادثة سير بأحد أنفاق باريس. يقولون أن الاستخبارات البريطانية لها يد في ذلك.
قال الجندي:
ـ ارفعي سراويلك، شكرا على تعاونك.
تقدم مني وبدون آلة قال:
ـ وسع رجليك.
وسعتهما ووقف أمامي، وضع كفه بينهما، تلمس قليلا ثم جمع كل شيء في قبضته وضغط بقوة. فصرخت وقفزت من مكاني. أشار للآخرين أن كل شيء على ما يرام ثم تجاوزوا العجوز إلى الذين يقفون في الخلف.
صاح العجوز خلفهم يندد بإقصائه من الفحص:
ـ أولاد الحرام، أنا أفحل منكم يا أولاد الزنا.
أحسست برغبة ملحة في التبول ألم حاد انتشر في جسدي مصحوبا برجفة شديدة. فقلت للمرأة:
ـ الملعون أظنه قد فقصهما، آه، آح... سأتبول في سروالي.
جرتني إلى الأسفل وهي تقول:
ـ اجلس مكانك وتبول.
في هذا المساء أخذت أفكر بجدية في هذه المخلوقات الحيّة المنصهرة في الطابور. يسيرون دون أن يدركوا أنهم يسيرون ويتوقفون دون أن يدركوا أنهم يتوقفون. التفتت المرأة وقالت:
ـ ما رأيك أن نتزوج؟
وجمت لعدة دقائق وأنا أنظر إلى عينيها المشعتين ثم قلت:
ـ لم أفهم قصدك.
ـ ماذا ستفهم؟ أطلب منك أن تتزوجني.
ـ الأمر صعب خاصة في مثل هذه الظروف.
ـ لا صعب ولا يحزنون. تشهد أمام العجوز أنك ستكون زوجا مخلصا ومسؤولا ثم انتهى الأمر.
تدخل العجوز ساخرا:
ـ امرأة توزن بالذهب.
خشيت أن تكون المسألة مكيدة أو مزحة. فقد علمتني الأيام السالفة أن أحتاط من ظلي، فبعدما جربت أن أسير بجانب الحيطان بعيدا عن كل ما يعكر انتمائي للمؤسسة، وضحيت بالكثير من أجل ذلك، ومع ذلك سقطت الحيطان كلها فوق رأسي.إذن لا ثقة بعد ذلك.
ـ لماذا سكت هل ترفض طلبي؟
قالت المرأة وقد استدارت لأول مرة بكامل جسدها نحوي. رأيت إلحاحها وهي تشد كفي بقوة فأدركت أنه لا مفر لي من الرضوخ. مادام الزواج سيكون صوريا فلن يلزمني في شيء نظرت إليها ثم قلت:
ـ لأجل عينيك الجميلتين أفعل ما تريدين.
صاحت منشرحة:
ـ كنت أعرف أنك لن تتخلى عني.
زغرد فجأة الرجل الذي أمامها. أما هي فأخرجت قنينة عطر ورشّت بها المخنث ودغدغته في عنقه، وكأنها تشكره على زغرودته الرنانة. همست المرأة في أذني وقد لاحظت التصاقي بها:
ـ خلال الليل وبعد ان ينتهي مهرجان الدعاية افعل ما تريد.
كلما امتنعت وتمنعت إلا وازددت أنا التصاقا بها. يلاحظ العجوز جموحي:
ـ لا تفعل في السر ما تندم عليه في العلن.
ـ ماذا تقصد؟
ـ لا أقصد شيئا حلالك حلالك وافعل به ما تشاء.
ـ مجرد مناوشات فقط لأجل التهييء النفسي.
ـ على العموم الالتصاق هنا وارد لكن إذا انقلب إلى عناق وانزلاق وإطلاق، فهذا لن يسمح به حراس المراقبة.
وافقته بإيماءة من رأسي، وأنا أشم رائحة حسد منبعثة من صوته. تناسيت أمره وأنا أتخيل المرأة عارية أمامي. بعد ذلك بدأت طاقة الصبر تتبخر مني. خطونا بعض الخطوات المعدودة ثم انطفأت الأضواء وانصرف الحراس إلى وجهة أجهلها. عاد مهرجان الدعاية، وعلت التصفيقات أحسست ألما حادا في أذني اليسرى حاولت تجاوز الألم بالتركيز في أمر آخر لكن المرأة فاجأتني قائلة:
ـ دعك من التفكير واقترب أكثر.
جلست بجانبها فأحسست رغبتها تتبخر رائحة وسخونة من جسدها المحصن بالسراويل والجلباب الكاشميري الأسود. كانت لها خطة لإرتشاف نشوتها بطريقة سريعة وكافية. دست ركبتها بين فخدي ثم دعكت برفق لبضع ثوان ثم دست كفها إلى ثكة السروال وجذبته نحوها ودعكته للحظات ثم تناولته تناولا خفيفا في البداية. تناوبنا على الصعود والنزول إلى شجر التوت نسترد الشهقة ونستبطئ اللذة إلى أن أشفينا الغليل من ظمأ طويل لا نتذكر غير نهايته. بعدما نالت ونلت التفتت كأنها نادمة على الإسراف أو محتشمة من الإباح. فهمهمت بشيء لم أفهمه ثم نامت. حاولت الالتحاق بالمرأة في سباتها العميق. لكن دون جدوى فقد بقيت عيني جاحظة أدورهما في غاريهما كعيني ابن آوى المشعتين في الحلكة المرعبة.قمت بصعوبة وألقيت نظرة على الأجساد المقصوفة فوق الأرض فبدت كقتلى عقب حرب طاحنة.
* * *
هبت نسمات هواء دافئ فانزاحت الغيوم وظهر نصف القمر والنجوم والمجرات فتذكرت عبد الستار الذي علمني لذة القراءة. كان يشتري مجلات كثيرة تتحدث عن الكواكب والفلك ويعلق صور الكواكب على جدران غرفته الصغيرة. هو من أدخل في رأسي فكرة وجود كائنات أخرى في كواكب أخرى وأن نظام المجرات يقوم على قانون التماثل وأن هناك حياة في مكان ما منها. وبعد ذلك بسنوات انقلبت فكرته إلى أن تلك المخلوقات هي الملائكة دون سواها، فقد خلقت من نور ونعلم أن النور هو الضوء وبالتالي فتنقلهم يتم بواسطة سرعة الضوء وبذلك خلص إلى استنتاج خطير أنه مادام الملائكة من نور فهي من يقطن تلك الكواكب. وقبل اختفائه عن الأنظار تطورت فكرته إلى أن أقرب طريقة للتحليق على جناح الملائكة في اتجاه عوالم الله السرية لن تكون إلا بالشهادة. بعد ذلك ارتدى البياض وأطلق لحية سوداء ناسبت وجهه الأبيض وزادته جمالا وبدأ يستمع لأشرطة أبي قتادة الفلسطيني وأبي حمزة المصري.وابتعد عن فتيات درب الإنجليز وتخلى عن تربية الحمام وأخذ لا يفارق مسجد الحمراء يبيع الخبز أو البيض أو الكتب أو المسك وأحيانا أراه يمر بجوار بيتنا يهرول صحبة أشباهه يوزعون المساعدات على بيوت منتقاة بعناية فائقة.
سعت إليه أمي ذات خميس فوجدته في كتاب يطلقون عليه اسم (بيت الملائكة) يحفظون فيه القرآن وطلبت منه الحضور في اليوم الموالي لتناول الكسكس.
أحضر معه لترا من اللبن وأكل الكسكس بنهم وشدد الخناق على أختي وسألها بنبرة تهديد: (بماذا ستجبين ربك حين يسألك عن الذنوب التي ارتكبتيها بكشفك شعرك ووجهك ويديك وقدميك؟) قاطعته أمي قائلة: (صاحب الدار انتزع منا البيت غرفة غرفة وفي كل مرة يحضر رهطا جديدا) سوى طاقيته ومسد لحيته وقال: (آه لو تدرين يا أختي أن لا دار غير دار الجنة والخلود. وسعد من نالها صحبة الرسل والصحابة والصديقين والمجاهدين).
لم يطل انتظاري طويلا فرأيت مروحيات أو صحونا طائرة كاتمة للصوت تلقي حبالا في اتجاه أشخاص يتشبثون بها ثم يصعدون إلى جوف الظلام كأنها عمليات أو مناورات لا أدري ما يحدث. فلولا الأضواء الغمازة بين السماء والأرض لما اكتشفت الأمر. أردت التسلل للتحقق من الأمر لكنني خشيت أن تضيع رتبتي فبقيت فريسة للندم. في الصباح وقبل الإفطار أخبرت العجوز بما حدث. فنبهني إلى أن الأمر مجرد مناورات وعندما قلت له أن هؤلاء ربما قد يكونوا سكان الفضاء. ضحك الملعون حتى برز بلعومه الأسود وقال:(اهتم بسكان الأرض أفضل لك. تلك مجرد مناورات تجرى بالليل لإخفاء الأسلحة الجديدة،أو ربما هناك تكنولوجيا جديدة لا تستعمل إلا في الليل، لو أنك أيقظتني لأخبرتك بتفاصيل أوضح ).
وزع الإفطار ثم وصلتنا أرقام جديدة بدل الأرقام القديمة. قالوا لنا أن فيروسا خرب نظام الطابور المعلوماتي لا يعرف مصدره حتى الآن فأعيد ترتيب كل شيء يدويا بناء على الملفات القديمة. وقبل موعد الغداء وقف الحراس والمراقبون والمستقطبون أيضا وأخذوا يراجعون المواقع، تقدم أحدهم مني وتأمل وجهي ثم تجاوزني إلى العجوز وقال له بلهجة صارمة:
ـ هناك خطأ، أنت ترتيبك يخالف موقعك، عليك أن تنسحب حتى ننظر في أمرك.
حاول العجوز الدفاع عن موقعه واستنجد بي لأسانده لكني لم أستطع ذلك. فقد نظرت إلي المرأة وقالت لي بعينيها: إلزم الصمت لتحافظ على موقعك. شيعته بعيني الخائنتين وأنا أفكر أننا من أجل المرأة نفعل أي شيء ونتخلى عن كل شيء. رأيناه يحشر داخل عربة موشومة برموز غريبة. حاولت تذكر الرمز لعلي أفسره بمعلوماتي المدرسية لكني لم أفلح في ذلك.فتأكدت من الشائعات التي تقول أن المدرسة لا علاقة لها بالواقع. لمت المرأة لوما شديدا فنظرت إلي نظرة ناقمة وقالت:
ـ تضامن معه وسترى ما سيحصل لك.
التزمت الصمت وفررت بفكري إلى كليبسو تلك المرأة الساحرة الجمال التي أسرت أوليس في جزيرتها وعذبته باللذة والاغتراب لعدة سنين. وفجأة وقف حارسا المراقبة أمام المرأة أخرجا ملصقا أزرق وأحمر وألصقاه فوق صدرها ثم تقدما مني ووضعا فوق صدري نفس الشيء. ثم هنآنا بكلمات شكر على تعاوننا الإيجابي. التفتت المرأة نحوي وهي تكاد ترقص من الفرح وقالت:
ـ أرأيت لو احتججنا لما حصلنا على هذا الجو كير، الآن يمكنك أن تستعمله في الأوقات الحرجة.
انطلقت المروحيات السوداء التي تدعى على ما أعتقد الأباتشي أو كوجار لا أدري، لكن لو كان العجوز حاضرا لقال لنا نوعها بسهولة. حومت الطائرات فوق رؤوسنا عدة مرات. تكور الرجل الذي احتل مكان العجوز ووضع رأسه بين ركبتيه وأغلق بكفيه أذنيه وأصدر أنينا ثم سرعان ما أصبح عواءا. نظرت إلي المرأة باستغراب وقالت:
ـ لا تستبدل واحدا حتى يأتي الأسوأ منه.
حاولت تهوين الأمر على الرجل قائلا:
ـ لا تخف هذه مجرد إجراءات أمنية.
أطل بعين واحدة وقال:
ـ أسكت أنت لا تعرف شيئا هذا يا سيدي يسمونه انقلابا عسكريا وإذا لم تنبطح أرضا حصدت الرشاشات رأسك في الحال.
لم أشعر بنفسي إلا وهي منبطحة أرضا تنتظر لعلعة رصاص أو انفجار قنابل. بقيت المرأة واقفة تقهقه فوق رؤوسنا وتحتنا على الوقوف قبل أن يلمحنا المراقبان العائدان من المؤخرة. توقف هدير المروحيات أو ابتعد عن سمعنا فوقف الرجل منتصبا كالنخلة وفجأة بدأ يسأل:
ـ ماذا حدث؟ من دفعني على الأرض؟
ثم دخل في حالة صمت غريب. ضحكت المرأة حتى دمعت عيناها ثم تماسكت نفسها. نظرت إليّ بإشفاق. وهمست في أذني.
ـ احذر، هذا الرجل، لا يبدو طبيعيا.
تأملت الرجل الذي بدا عليه أنه يراني لأول مرة. وقلت له:
ـ أين الانقلاب الذي تحدثت عنه؟
نظر إلي باستغراب ثم قال:
ـ من أنت؟ وعم تتحدث؟
عجبت من الأمر وازدادت المرأة شماتة بي. تأملت مرة أخرى وجه الرجل الحزين والمتوتر والآيل للتصدع. وسألته:
ـ لماذا فعلت ما فعلت؟
أشاح بوجهه عني وانشغل بالنظر إلى السماء القانية وكأني سمعته يقول:
ـ اهتم بنفسك وإلا..
وتأكد لي تهديده حين أخرج بؤبؤي عينيه وزمجر في وجهي بغضب.
جرتني المرأة من ذراعي وقالت:
ـ دع عنك الرجل، كل شيء في وقته، لقد انقطعت عني العادة، ستكون أبا خلال شهور.
أحسست دوخة في رأسي وخواء في ركبتيّ ثم بدأ الأشياء تغيم في عيني.
ـ ماذا تقول؟ أراك صامتا.
ـ ماذا سأقول؟ لقد فاجأتني، لم أكن أتوقع هذا وأنا في هذه الوضعية.
ـ تفعلونها وتتبرءون منها، كلكم سواء، لقد أخطأت حين تزوجتك.
استحوذ عليها توتر عارم فخيل إلي أنه لولا قيود الوضعية لخرجت من الطابور وولولت بأعلى صوتها حتى يسمعها البعيد والقريب. أطل الرجل الذي ورائي مبتسما وكأنه استعاد وعيه وقال:
ـ مبروك، هذا رائع لم أجرب من قبل هذا الإحساس، كنت أتمناه من كل قلبي، عندما التقيت أول مرة رقية في الثانوية أحببنا بعضنا، لكن فجأة تقيأ والدي دما متخثرا وما كاد يصل إلى المستشفى حتى مات قال الطبيب الذي عاين جثة والدي أن رئتيه طحنهما غبار الفوسفاط. كنت أتمنى أن أتابع الدراسة إلى جوار رقية لكن الظروف فرضت علي السفر إلى الرباط عند عمي الذي كان يشتغل في قصر أحد الوزراء. شغلني معه في المطبخ وتدريجيا أصبحت متخصصا في إعداد الشاي فكان يلبسني لباس عبيد القصر الملكي ويضعني أمام ضيوفه لكي يفتخر بالشاي الذي لا يشبع منه أحد.
كنت أتمنى أن أتزوج رقية وأنجب منها أبناء لكن حضوري انقلاب الصخيرات ورؤيتي الجثث المثقوبة بالرصاص جعلني أفقد صوابي لعدة سنين قضيتها كلها مرميا مهملا بمستشفى برشيد ولم أصحو من غيبوبتي إلا في السنين الأخيرة عندما هرب جميع المرضى ليلة موت الملك. الشخص الذي لا يتذكر ما يفعله غير جدير بالثقة حدثت نفسي وأنا أنظر إلى المرأة التي أخذت تتشاجر مع من أمامها، الذي كشر عن أنيابه صائحا في وجهها:
ـ إذا لم يعجبك الحال، ابحثي لك عن مكان آخر.
قلت لها:
ـ ابتعدي عنه، لا نريد مشاكل.
لكنها بقيت في مكانها مصرة على حل المشكلة بنفسها. رفعت قدمها إلى أعلى ثم ركلت الرجل حتى صرخ مولولا، قبض الرجل شيئه وأخذ يتهددها بالانتقام، لم أنتبه أنا إلى أنها استغلت فجوة بين فخذيه فجمعت كل شيء بضربة واحدة.
حضر المراقبان بسرعة فبادرتهما:
ـ حاول أن يعتدي علي بالليل وكرر المحاولة مرة أخرى كيف سمحتم لمثل هذه العناصر أن تدخل الطابور أنا أحملكم المسؤولية.
تناولاه كشيء وأخرجاه من الطابور وهما ينهرانه ويأمرانه أن يغلق فمه وإلا عد أسنانه بين يديه.
ـ أخيرا تخلصنا منه.
قالت المرأة وقد أشرق وجهها فرحا وظفرا وأضافت:
ـ الآن يمكننا أن نواصل المسير دون عراقيل.
اقترب الرجل الخلفي من أذني وقال:
ـ نحن جئنا لكي نصل ولا لكي نتوقف في مكاننا. المفروض أن الطريق إلى المستقبل معدة سلفا والمسؤولون يعرفون ما يفعلون.
أسعدني حديثه المتزن وتمنيت لو يبقى على هذا الصفاء الذهني دائما، فقلت:
ـ معك حق، هذا ما كنت أتوقعه في البداية، لكن تبين لي أن عامل الزمن لا أهمية له، فمثلا العجوز الذي كان مكانك انتظر عدة سنوات ليصل إلى الطابور.
قهقه بشكل غريب حتى تغضن وجهه ببشاعة وقال:
ـ هذا العجوز أعرفه جيدا كان أحد الضباط الذين شاركوا في الانقلاب قاد الجنود وعند التنفيذ أدار رشاشه إلى أجسادهم فقتل عددا كبيرا منهم. وقد نال عن هذا الموقف البطولي امتيازات كثيرة.
ـ أتقول الحق؟
ـ طبعا أقول الحق شاهدته بأم عيني يعدم ضباطا كانوا سيبوحون بسره أثناء التحقيق فأعفاهم من ذلك وتخلص منهم.
بالنسبة لي كان العجوز مجرد رجل في خريف عمره لا تكاد قدماه تسندانه ومع ذلك كنت أحس قوة خفية تندفع منه كما النهر الجوفي العنيف المار تحت أقدامنا دون أن ننتبه إليه.
ـ أقول لك شيئا.
قلت:
ـ قل لا تخش شيئا.
ـ أريدك أن تتحمل تقلباتي.
قلت بإحساس أبوي:
ـ أعينك على تخطي الصعاب، لكن لا تعتمد علي طويلا، فهذا القلب قد يحتملك طويلا أما هذا العقل فما عاد يحتمل.
وتردد صدى هذه الكلمات في أعماقي كأني سمعتها من شخص ما أو قرأتها في مكان ما. صاحب هذه الذكرى إحساس بالأبوة أو المسؤولية أو ما شابه ذلك. فانتشيت به وأنا أرى رأس الرجل الأصلع يتمسح بكتفي وكأنه طفل صغير أو بالأحرى حيوان أليف، فبدا يشبهني إلى حد الالتباس.
* * *
أسل نفسي من تحت المرأة التي توسدت بطني. الشمس الصاعدة بعنف بدأت تفضحنا. انقلبت إلى الجهة الأخرى. فرأيت الطابوريين يتراصون من جديد بشكل ميكانيكي وكأنهم مسيرون. يرتفع صوت البوق الرسمي يقول: (ألغي أيها السادة طابور كم، استعدوا للانتقال إلى المرحلة القادمة) ينتشر اللغط والصخب. يتفكك الطابور بتردد. يترك الطابوريون صفوفهم للحظات ثم يعودون بسرعة إلى الصفوف. بقي الحشد لساعة بين كر وفر. يئس الناس من اللعبة فجلسوا على التراب مجتمعين، متفرقين، لاغطين، تائهين، وفجأة ظهر الحراس بسياراتهم السفرجلية يلوحون بضرورة التراجع إلى الخلف وأمام غبارهم وهديرهم أخذ الطابوريون يتراجعون ويتداخلون في بعضهم لبعض. يحيطنا الحراس، من كل جانب، وهم يصرخون: ستوزعون إلى مجموعات. بدأت التفرقة، تذكرت المرأة، فحاولت العثور عليها، لكن دون جدوى، كأنها فص ملح وذاب. ماذا سأفعل الآن، أواجه مصيري الذي ينتظرني مع الطابوريين أم أنطلق راكضا في أي اتجاه أختار؟ عندما يتساقط الليل ويستسلم الطابوريون للنوم، بعد يوم مرير من التردد والشك والانتظار. سأنسحب من مجموعتي. بداية سأزحف على بطني ثم ما أن أبتعد قليلا حتى أحبو على أربع ولما ابتعد كثيرا سأركض بسرعة إلى الأمام غير عابئ بما قد يحدث. إن رموني بالرصاص مت وإن ألقوا القبض علي سجنت وإن فلت بجلدي فالطريق أشد شساعة من حلم. داعبتني الرياح الآتية في اتجاهي فمررت يدي فوق رأسي فوجدت شعرا غزيرا وناعما ففرحت به وواصلت الركض وأنا أغني:
بطني جائع
أفقي واسع
هيا نصمد
هيا نركض
وما أن رددت اللازمة، حتى تعالت الأصوات خلفي مرددة نفس النشيد، مصرة على صعود الثلة المطلة على البحر الغاص بناقلات الطائرات الحربية الداكنة اللون والمشعة كعيون ضباع تنتظر وليمة غزو.
ما فائدة الركض إذا كانت الوجهة غير معروفة والنتيجة واحدة. لكن رغم ذلك فالركض في مثل حالتنا أصبح شريعة لأن الحفاظ على الحياة عين الشريعة وجوهر ها. إذ سرعان ما بدأت تظهر أضواء تحمل ذيولا زرقاء كأنها شهب تحمل الحظ السعيد للبشر. شكلت بصعودها نصف دائرة ثم هوت فوق رؤوسنا المهلوسة.
* * *
أتذكر أننا لم نصرخ لأن الموت المفاجئ لا يترك للإنسان فرصة للألم والصراخ، تحس فقط باجتياح واختراق حاد ثم لاشيء بعد ذلك. كأنك تفقد السمع فجأة، أو تغوص في أعماق المحيط دون رجعة.
بقي الصدى يتردد حولي كطنين. أرى ولا أرى أسمع ولا أسمع أتكلم بلاصوت بقيت هكذا لسنوات، أدخل في الكلام ولا أخرج منه، عشر سنوات من الهلوسة والتخيلات، أوهام تتحول إلى وقائع ووقائع تتحول إلى أوهام، ووسط كنت أمشي في الطابور كأني أمشي على شعرة الصراط، الشمس فوق رأسي والأرض قبري، لا يعرفك أحد ولا تعرف أحد. تنظر في الوجوه ولا تر أحدا وينظرون في وجهك ولا يرون أحدا...
الضرورات تبيح المحظورات لهذا كان من الحتمي أن أتمم هذه الحكاية لن أفعل ما فعله جيمس جويس في عوليسه.
توقف الآن عن القراءة وتخيل معي، أنا أجلس على أحد كراسي حديقة المشفى وأمامي امرأة تشد بيدها اليسرى طفلا في الخامسة تقريبا، يقتربان شيئا فشيئا بين أشجار الأوكالبتوس السامقة تحفهما أشعة الخريف الباردة. كانا كلما اقتربا إلا وأحسسنا برعشة تهز بدننا. وقفا أمامنا، وقالت المرأة وكأنها تخاطبنا:
ـ انظر إلينا جيدا، أنا خنساء، هل تتذكرني، وهذا ابنك سعيد، صورة طبق الأصل منك. لقد تخليت عن القرعة لأمريكا. لا أريد غير المغرب موطنا. ألا تريد أن تعود إلى البيت، انتظرناك طويلا. يقول الطبيب أن حالتك في تحسن متواصل.
لاحقنا عيني الطفل وهو يركض بين كراسي حديقة المستشفى. كان ركضه سريعا، يقف أينما شاء ووقتما شاء. مراقبا بين الفينة والأخرى أمه. وفجأة ابتسم الطفل ابتسامة رائعة، دفعت وجهنا إلى محاكاة ابتسامته، لكن وجهنا صلصال تشقق. تأملنا المرأة الجالسة بجانبنا كانت تشبه امرأة نعرفها، ما زالت رائحة ما بين نهديها تملأ روحنا. اقتربت المرأة قليلا وشدت كفنا بقوة وكأنها تعبر بها عن كل شيء. ثم وقفت وقالت بتأثر:
ـ لا تطل الغيبة، ماتت أمك الجمعة الماضية. وأختك في بيتك تنتظر عودتك.
شيعناها وهي تمضي، بعبرات ساخنة صامتة، أردنا الصراخ باسمها لكن صوتنا تجمد، أردنا الركض خلفهما لكن أقدامنا تلاشت، فبقينا عاجزين، نتأمل ركض الصغير في اتجاه البوابة الحديدية إلى أن اختفى الهواء من حناجرنا وتخشبت. ثم عادت النوبة من جديد.
الخروج من البوابة
الأمور لاتنته أبدا كما خططنا لها.
خرجت فوجدتني أسير في نفس الزقاق الذي كنت أعبره منذ خمسين عاما كان شاغرا وكأن الوقت ليل أو حالة حظر تجول. كنت في قرارة نفسي أعرف أنني لم أخرج من أي مكان وأنني أقتفي أثرا لا أستطيع تحديده. ومع ذلك كنت أسير. في الوقت ذاته كنت مشغولا بشيء فوق رأسي، كنت أحسه يثقل شيئا فشيئا وكأن وزنه يزيد أو سقفه يدنو، فطأطأت رأسي كمكسور، وحنيت ظهري كحمال عجوز، وشيئا فشيئا أخذت أقترب من الأرض وألامسها بأصابعي وكفي حتى أصبحت أحبو. أحسست بالخجل من أن يراني أحد يعرفني وفكرت خصوصا في أصدقائي فقد يظنون بي الظنون والناس في أيامنا لاتؤمن بغير المظهر أما الجوهر فكله واشبع به. لكن شيئا ما كان مبعث ارتياح في ما يحدث لعله الاطمئنان إلى أن كل شيء سينتهي أخيرا.
لكن الغريب أن الأرض انخسفت تحتي متداعية ببطء كما الرمال المتزحزحة. كان النفق الدوار أشبه بحلبة تزحلق. وبسرعة خاطفة كنت في مكان بعيد أي في طرف آخر. لا أعرف بالتحديد الزمن والمسافة التي استغرقها السقوط. لكن الوصول إلى تلك العتمة الباردة كان كافيا بوضع حد لهذه الحكاية.