يتناول الباحث المغربي هنا مسألة مهمة، نادرا ما يلتفت إليها النقد الأدبي المعاصر، وهي حالات الأشياء بالمعنى الظاهراتي عند هوسرل ويطبق المفهوم على رواية مغربية بعينها.

حالات الأشياء في الرواية

قراءة في انحرافات التعبير

عبداللطيف محفوظ

إن محاولة توصيف شكل التخييل الذاتي في رواية "يوميات زوجة مسؤول في الأرياف" من خلال دراسة أسلوبها، قد حتمت علي، نظرا لخصوصياتها، الانحياز إلى مفهوم فلسلفي ناتج عن توجه علمي في معالجة عالم الخطاب، بما فيه الخطاب الأدبي. إنه مفهوم حالة الأشياء الذي ظهر عند هوسرل ثم استعير وحدد بشكل مضبوط من قبل جان بتيتو كوكوردا الذي اهتم بعلم تشكل المعنى وفيزيائه متأثرا بالعالم الرياضي روني طوم، صاحب نظرية الكوارث.

ينطلق بتيتو، من فكرة الاختلاف بين الكلمة والشيء، معتبرا أن الواحد منهما ليس انعكاسا بسيطا للآخر، رغم أنهما يجسدان نفس التنظيم السنني العميق، لأنهما يعبران عن نفس المعبر عنه انطلاقا من نسقين تمثيليين مختلفين من حيث مادة التعبير وشكله. ويسمح ذلك بالحديث عن نسقيهما الماديين (اللغة والعالم) بحدود مشتركة، وباعتبارهما طبيعيين، معطيين، وليس أحدهما معطى والآخر مبنيا. ومن الواضح أن هذا الإدراك ـ المخالف لإدراكيْ التجريبيين والاسمانيين ـ الذي يمتاح من فكرة بارمنيدس القائلة بتماهي التفكير وما نفكر به، وهو التماهي الذي ينتج عنه ثالث سماه جان بتيتو، حالات الأشياء، التي تجسد العلاقة بين العالم واللغة، لأنها سكان هذا العالم الثالث الواقع بين الواقعية الخارجية المعمورة بالأشياء والظواهر، وبين الواقعية اللسانية والخطابية المعمورة بالألفاظ والملفوظات إنها واقعية بين كينونات، تقتضي من أجل حصول الفهم إلى جانب علاقة التعيين القائمة بين الدال والمدلول، إضافة علاقة ثانوية، هي علاقة الوصف بين اللغة والواقعة الخارجية ذلك أن كل ملفوظ، وفق هذا التصور النظري، وهو يصف حدثا خارجيا، يجسد في بنيته التركيبية والدلالية وصفا موضوعيا له. أو بعبارة أوضح، إن الملفوظ هو بنينة موضوعية للحدث (أي أنه نسق من التظافرات البنيوية)، وهي بنية معبر عنها لسانيا.

ويعتبر هذا الرابط الموضوعي بين العبارة والواقعية الخارجية الحد الظاهراتي الثالث، وهو بالتحديد ما أسماه جان بيتيتو، إسوة بهوسرل "حالة الشيء" التي هي بتبسيط كبير نتيجة عوامل الثبات الظاهراتي التي تخلق لدى المدرك الإحساس بالدلالة، الناتجة عن الخصائص الواقعية لموضوعات العالم الخارجي، وتمظهر الحضور الموضوعي للوحدات الصورية المرتبطة بهذه الموضوعات، التي نقول إنها حاملة للدلالة" ولعل هذا الثبات المتصور من قبلنا والمعتقل في المداخل القاموسية للألفاظ، هو الذي يتيح لنا أن نشكل فيزياء المعنى، بوصفه توليفا بين الواقعة الخارجية والبنينة اللغوية. وباختصار، فإن حالة الأشياء هي الفعل الاجتماعي الذي ينتج عن فعل القول الكامن في القضية التي لا تكون بالضرورة مجموعة من الكلمات، بل واقعا من الكلام، الذي ليس منظوما إلا بناء على نمط بنينة اللغة للعالم، وليس منتجا إلا لكي يفضي إلى حالة من الفعل اليومي.

انطلاقا من هذه الخلفية النظرية للإدراك، التي ترى أن فيزياء المعنى هو تركيب لمنطق جديد، ليس منطق اللغة ولا منطق العالم، بل منطقهما المشترك. وأنه في إنتاجه لحالات الأشياء أو موضوعات الفكر، يخلق لنا تجربة في مستوى لغوي محض، تقتضي من أجل تشكلها السوي، قبل كل شيء، أن تقوم على تحيين موفق للأنساق المعرفية التي يشتغل الذهن البشري بها من أجل التعبير عن كل مقاصده. ويستوجب هذا الشرط أن تكون العبارات، في كل فعل تواصلي، وفق توافقات معلومة.

بناء على ما سبق سأعمل في هذه القراءة، على مساءلة بعض حالات الأشياء المنتجة من قبل الجمل السردية والوصفية، التي تشكل نموذجا لأسلوب التخييل الذاتي المهيمن في الرواية، وسأكتفي بتحليل نماذج من الصفحة الأولى، وسأنطلق من الجمل السردية التي تبنين القيم الفضائية المكونة من حروف
حروف الجر والعلة.

1 ـ حروف الجر والعلة والظروف:
يستعمل لام العلة في الرواية استعمالا متميزا، وبنفس الشكل تقريبا، ويكفي التدليل على بنينته الدلالية المخالفة لما تواطأ عليه متكلمو العربية، لأنها تفرز حالات أشياء غريبة، تفترض من أجل حصول الفهم تحويل الضروري الذي لا يستقيم معنى ما بدونه إلى إمكان. ويكفي من أجل تظهير ذلك، تحليل بعض حالات الأشياء الناتجة عن الجمل السردية التالية:

" آه.. الحمد لله فها هي تمر مرور الكرام، لتنعطف ذات اليمين"
"وهممت بدلف الباب ليمسك بي زوجي قائلا.."
"ودارت الأيام ليمرض أحد الصغار" (ص79)
"استيطان الحشرات للفروات" (80)

إن حالة الأشياء التي تستنتج بناء على وضع علاقات بين الأوفاق اللغوية والعالم المعبر عنه من خلالها، يفيد أن الصدفة هي العامل الحاسم في ربط الفعلين المشكلين للجمل السردية الموصولة باللام. وهكذا يتعين علينا، لكي نقبل بحالات الأشياء هذه، أن نقبل بوجود لام الصدفة ما دامت تلك العبارات لا تبنين لا العلية (لماذا.. لماذا دارت الأيام؟.. ليمرض أحد الصغار") ولا الملكية (فاللام في كل هذه الجمل السردية ليس لام تعليل ولا حرف جر دال على الملكية)؛ أو أن نقبل أن العلة تقوم على الصدفة، أي أنه يمكننا مثلا، أن نقول عوض " أوقفني زوجي عند عتبة البيت ليطلب مني أن أضع قدمي اليمنى أولا.." حيث يكون الطلب علة لإيقاف الزوجة قبل أن تطأ إحدى قدميها العتبة، نقول مع الساردة "وهممت بدلف الباب ليمسك بي زوجي قائلا.." حيث يبدو أن إمساك الزوج زوجته علة لدلف الباب.

ونفس الشيء يقال عن حروف الجر وعن اللام خاصة، فالجملة السردية السابقة "استيطان الحشرات للفروات"، تفرض علينا من أجل تحقيق مبدأ التعاون اللازم في مثل هذه الحالات، أن نقبل بوجود حالات أشياء حيث الحشرات هي مسكن الفراء، أي أن الفراء هي التي تقطن في الحشرات، أو أن لام الجر الدال على الملكية أضحى دالا على الحلول آخذا معنى (في وإلى) وكل هذا لكي ينتظم فهم العالم المتخيل المعبر عنه من قبل المتكلمة في الرواية.

2 ـ الأفعال وحالات الأشياء:
إن نفس الملاحظات التي أبديناها بخصوص القيم الفضائية، تطول الأفعال بأنواعها المختلفة، ولكي نمثل لذلك، يكفي الوقوف مرة أخرى عند حالات الأشياء المولدة من قبل بعض الأفعال الموظفة في الصفحة الأولى والتي سبق تحليل شكل بنينتها للفضاء:

"وهممت بدلف الباب ليمسك بي زوجي" إن حالة الأشياء التي يمكن استنتاجها بعد التملي، لن تتشكل إلا بفعل تعاون خارق، كأن نعتقد أن دلف ليست تعبيرا من مقاربة الخطو في المشي، كناية عن السرعة أو عدم القدرة على التوازن (كالمقيد)، بل مرادفا لدخل، ويقتضي هذا أن الباب فضاء يتم فيه وإليه الدخول، ويكون به وإليه الحلول، أو مرادفا لفتح أو دفع أو كسر إلخ...  

3 ـ الأوصاف والنعوت وحالات الأشياء:
ولا تنفلت النعوت والصفات من قاعدة خرق البنينة، ولتأكيد وحدة قوانين التخييل في هذه الرواية، لنبق مع نفس جمل الصفحة الأولى ".. الحمد لله فها هي (السيارة) تمر عليها مر الكرام لتنعطف ذات اليمين..."

"اخترقت بنا السيارة ممرا واسعا صفت على جنباته نباتات " إكليل الجبل" بهندسة يخالها الناظر كتيبة عساكر وقفت لأداء التحية رغم شحوب سحنتها واصفرار قدودها..."

أما بالنسبة للجملة الأولى،  فإن حالة الأشياء التي تولدها تكمن في وجود أكثر من إمكانية لشكل إنجاز فعل ما، وأن الاختيار قد وقع على إمكانية تفيد التخفيف والتغاضي، لأن حالة الشيء المصاحبة للعبارة (مر مرور الكرام) تفيد التساهل والتسامح وهي حالة لا تفهم إلا بفهم نقيضها الذي يتمثل في التدقيق والتمحيص.. ومن المنطقي أن عبور السيارة لممر ما، يقبل أوصافا من نوع (بسرعة ، ببطء) ولا يقبل أوصافا تحدد المقصديات، وحالات النفس. ولهذا فإن استقامة العبارة السابقة يستوجب قبول أن للسيارة طوية وإرادة وأن الطريق يسار عليه ممتدا ومطويا..

وأما الجملة الوصفية الثانية التي شبهت الأشجار بكتيبة تؤدي التحية رغم شحوب سحنتها واصفرار قدودها، فتوضح من خلال الوصف (قدود صفراء) أنها تفيد حالة أشياء تكون فيها القدود صفراء وحمراء وزرقاء، وهو عالم ممكن مفارق لعالمنا الفعلي والتصوري لأن القدود لا توصف بالألوان بل بالطول والقصر وحدودهما.

وباختصار فإن المفاهيم والصور والمسارات السردية كلها تخضع لنفس المعايير التخييلية الموضحة سالفا، وكلها تفيد تخييلا ذاتيا استثنائيا تمظهر في أسلوب استثنائي، فرض على عملية التعاون اللازمة للتواصل مع الخطابات، التواطؤ في تصور عالم ممكن غرائبي وأحيانا مفارق لعالمنا الفعلي، وتصورَ بنينة لغوية مخالفة له أيضا. وهذا ما يعني القبول بفرضية تهديم الضروري وتشييد الممكن الذي لا أمل له في أن يصبح ضروريا، أبدا، لأن ذلك يستوجب نسيان المعرفة بالعالم وباللغة. والغريب أن مثل هذا التعاون أصبح مفروضا من قبل الكثير من النصوص الروائية والقصصية، بعد أن كان مألوفا مع بعض النصوص الشعرية. 

مراجع الدراسة:
دليلة حياوي :"يوميات زوجة مسؤول في الأرياف" دار القبة الزرقاء للنشر أبريل 2000.
- سالم يفوت، مفهوم الواقع في التفكير العلمي المعاصر، منشورات كلية الآداب (أطروحات ورسائل:7).
- J. Pétitot Cordida La morphogenèse du sens 1; ed P.U.F  Paris. 1985. 
- F.Rastier.  Sémantique et recherches cognitives, P.U.F, Paris, 1991,
- P.OULLET. une physique du sens. ed. Critique 1985