رسالة العراق: التفاتة جد متأخرة
.
في التفاتة جد متأخرة أقامت أمانة بغداد في يوم 4 تشرين الثاني (نوفمبر) 2007 حفلاً بمناسبة وضع الحجر الأساس لمشروع إعادة إعمار شارع المتنبي ببغداد حضره عدد من المسؤولين الكبار في الحكومة. شارع المتنبي الذي يسمى أيضاً بشارع الثقافة وهو كذلك فعلاً لا بل هو أهم شارع للثقافة في الشرق العربي إن لم يكن في غربه أيضا، لما يضمه من المكتبات الكبيرة والعريقة وكذلك المطابع القديمة منها والجديدة (من بينها مطبعة يعود تاريخها إلى القرن التاسع عشر تحولت اليوم إلى مقهى يرتاده أصحاب الفكر والقلم، صار يدعى مقهى الشابندر.
في مقهى الشابندر يتبادل المثقفون الأفكار والكتب المسموح تداولها والممنوعة، فثمة ممنوع في كل حقب التاريخ خصوصاً في ظل هيمنة الحكم الاستبدادي السابق وطوال ما يقارب الأربعة عقود تبادلنا الكتب التي حكم عليها بالتابو السياسي والديني منها على سبيل المثال لا الحصر الكتب التي تتناول التاريخ الحديث للعراق ودواوين الجواهري ومظفر النواب وسعدي يوسف وروايات غائب طعمة فرمان وغالب هلسا (أتذكر تحديدا كيف تبادلنا روايته "السؤال") وأولاد حارتنا نجيب محفوظ وكتاب الشاعر معروف الرصافي "الشخصية المحمدية" وكتب السيد القمني ومحمد أركون وفاطمة المرنيسي حتى كتب مفكرو الحداثة وما بعدها كفوكو وإدوارد سعيد وغيرها الكثير الكثير من الكتب، التي إن لم تكن ممنوعة فلا تستورد بسبب الحصار الأخير مما يضطر المثقفون إلى نسخها لدى مكاتب الاستنساخ المنتشرة في شارع المتنبي والتي غالباً ما تجد باعة اختصوا بعرضها على الرصيف وقد عانى ما عانى أولئك الباعة والمشترين منهم من المخبرين والواشين وأدى بهم في أحيان كثيرة إلى الاعتقالات والمطاردات في حرب لا هوادة فيها بين من يصرون على نهل المعرفة والحقيقة ومن يسعون إلى حجبها لتكريس سياسة التجهيل المتعمد.
الإلتفاتة المتأخرة للحكومة في الانتباه لأهمية معالم الثقافة ودورها خصوصاً في جانب إعادة إعمار شارع المتنبي الذي طالته يد الإرهاب في يوم الخامس من آذار (مارس) 2007 في أبشع جريمة أصابت معلماً كبيراً من معالم الثقافة في العراق بعد أن طالت المتحف العراقي بآثاره الهائلة والنفيسة البالغة الأهمية في حفظ الذاكرة الثقافية والحضارية في العراق، أقول تأتي هذه الإلتفاتة بعد أكثر من ثمانية شهور من بعد أن فجر الإرهابيون سيارة مفخخة كبيرة يقودها "انتحاري"تسببت في تحويل أبرز معالم الشارع إلى حطام من خراب كبير جمع جثث الناس بالكتب المحروقة مع الركائز الكونكريتية والفحم والدخان، وتحولت الدماء البريئة التي هدرت إلى اللون الأسود لاختلاطها بالأحبار والرماد. كانت حصيلة الخسائر البشرية أكثر من 30 قتيلا وإصابة 65 آخرين بجروح بينما دمرت 40 مكتبة و15 مطبعة إلى كومة من الأنقاض لعشرات الآلاف من الكتب والمجلدات التاريخية النادرة.
ونقلت الصحف التي نقلت الخبر آنذاك أن الانفجار قد "دمر المكتبة العصرية، التي احترقت بالكامل...وهي أقدم مكتبة في الشارع تأسست في عام 1908 وتضم آلاف الكتب التاريخية الثمينة والتي لا يمكن أن تقدر بثمن ولا يمكن أن تجدها في أي مكان آخر». و«مكتبة النهضة وهي أكبر مكتبة بالشارع دمرت واحترقت هي الأخرى بالكامل، وهي الأخرى تضم آلافا من الكتب التاريخية والدينية والقانونية التي تحاكي تاريخ العراق القديم والحديث». ما يقرب من سبعين متجرا تضررت وسبع عمارات دمرت بالكامل». مقهى الشابندر، دمر هو الآخر بالكامل. مما يشير إلى مشهد واضح لاغتصاب الثقافة والاعتداء عليها في شارع المتنبي؟
الغريب في الأمر، فيما يخص هذا الاحتفال هو غياب المؤسسة الرسمية الراعية للثقافة في العراق وهي وزارة الثقافة. هذه الوزارة المهملة تماماً من قبل رئاسة الحكومة لخلو مقعدها منذ فترة طويلة بعد أن أوكلت خصوصاً في الحكومتين الأخيرتين لمن هم أبعد الناس عن الانشغال بمفاصلها وفيها من الخلافات الحادة بين الوزير ووكيله وكبار الموظفين في الوزارة حتى وصلت بها الأمور إلى أن يصف وكيل الوزارة الأقدم وزيره وعلى شاشات الفضائيات بأنه "ذباح"! فكيف يدير الذباحون الثقافة؟
الأمر الغريب الآخر الذي نتج عن هذا الاحتفال هو التنافس (السيء النوايا) على تقديم الخدمات لشارع المتنبي وأناسه بين مؤسسة المدى الثقافية والمؤسسات الحكومية التي رعت الاحتفال، والذي ظهر في السجالات الصحفية الحامية بين صحيفة المدى التي تمثل مؤسسة المدى وصحيفة الصباح. وكانت صحيفة المدى من قبل ذلك وفي يوم 5/11/2007 قد انتقدت المسؤولين الحكوميين في إهمال غير مبرر، كما صرح كاتب المقال، لجهودها التي بذلتها في سبيل إعادة الحياة لهذا الركن الثقافي المهم في ذاكرة وحاضر العراقيين. وكانت مؤسسة المدى قد عملت على تخصيص رواتب شهرية للمتضررين وعوائل الشهداء وساعدت على إعادة الحياة إلى المكتبات المحترقة وإعانة أصحابها سواء بتزويدهم بالكتب بأسعار الكلفة أو الدفع بالآجل. كما اتهمت صحيفة المدى المسؤولين في أمانة بغداد ومحافظة بغداد بالمماطلة والتسويف وعرقلة مبادرتها في إعمار جميع المباني المتضررة. وعلى أثر ذلك ظهر مقال في جريدة الصباح تحت عنوان "القيم على الثقافة" متهما مؤسسة المدى بالسعي إلى مصادرة "مشروع المتنبي" أو محاولة وضع يدها عليه. مما حدا بجريدة المدى الرد واتهام الكاتب وجريدة الصباح ب"الانتهازية" للحكومة في المقال الذي نشر على الصفحة الأولى من يوم الخميس 8/11/2007.
نقول، أن مجيء هذه الالتفاتة المتأخرة، التي تدعي أنها ستجعل من شارع المتنبي تحفة فنية، خير من عدم مجيئها وأن لا ضير في التنافس "الإيجابي" الشريف بين المؤسسات الأهلية والرسمية إذا كان الهدف تقديم أفضل وأسرع الخدمات في سبيل النهوض بالواقع الثقافي المتهالك تحت سنابك برابرة التدمير والتكفير والتجهيل ومصادرة العقل ومغول المزايدات السياسية واستعراض عضلات الأفواه.