(1)
إثرَ طعنةِِِ رمح، صَخَب شيطاني
هذا الفيضانُ الآتي من العراق
يقتفي أثرَ غربةِ خطانا،
نتمنى ذبالة قنديل شارع في كركوك
لو ساعة الغسق تشيعنا.
نتمنى أن –ولو- في راحة القبر
إلى وطن الجميع نرتحل.
نتمنى أن نرسم. . .
كركرات أولادنا ودُعاباتِهم
على خارطة وطن
لا تحده أغلال الدين والقومية.
نجتهد أن ننسى. . .
وجعَ ركلةِ الغزاة الحديدية.
منذ بدءِ دورة الزمان تتفيأ
كأسمائنا وأشكال هيئاتنا
بأطلال أسوار بابل ونينوى.
مُثقل كما ضمائِرُنا الحبلى بالحزن. . .
خُرجُ زوادتنا العتيق
بشواهد الأجداد والحصون والقلاع.
جعلوا لنا آلاف الأسماء،
فنارُنا ينبض في قلب اربيل
أكفُ عذرانا المسافرات إلى الخلود
تنثر وردا وتزرع فرحا،
يمسح الحزن عن شوارع كركوك
وصدى نشيج نزف جراحاتنا
يربك ما برح
فرسان عصر الاحتلال في دهوك.
آشوريون كنا، آشوريون نحن
اجعلوا لنا كل الأسماء
نحن واحد، نَبْتُ البدءِ
في خاطر الله وخاطر الزمان
نحن آشوريون. . .
نحن آشوريون عراقيون،
حيث شواخصُ قبور أجدادنا. . .
صبية المدارس ترتل
وملائكة السماء ترنم
زهو التاريخ يهتف والمدونات. . .
هذه حدود وطننا، هذه حدود العراق.
(2)
لماذا نموت غرباء؟
لماذا يموت العراقيون غرباء؟
أمن قهرِ النور ولَسعاتِ صوت الله
وضجيج مكبرات الصوت عند الفجر
وفوضى مهرجان صرخات المغصوبات؟
خارج أسوار الوطن
داخل أسوار الوطن
يختبأُ اسم إله الحب المهزوم
بين شفتي امرأة وفرجِها.
وينام الشعراء ليموتوا غرباء
ألعلنا استمراءنا لعبة الاخصاء والإقصاء؟
جذع النخل في وطن الرافدين
قبل النبؤات والغوص في كنه الالهة
الفوقانية والتحتانية. . .
كان أشهى من سيقان النساء،
ما كان الشعراء يقضمون حروف الجر
ويلوكون في الغربة شكل القافية
ويموتون منسيين كالغرباء. . .
تدثرهم سطور القصيدة وعُريُ النساء.
(3)
يهجع عند هزيع الليل الأخير
يخشى لئلا يباغت خاطره منام
رنى إلى تمثال امرأة مصنوعة من عاج
بين فخذيها الأبنوسية. . .
تعبر مشاويرُ وأسفار رجالات العراق
لملم أشياءه القليلةِ وتذكاراتَهُ البعيدة
الموجةُ الكبيرة جنحتْ
اجتازت الضفاف. . .
وابتلعت صبية العراق،
تبعثرت أشياءه. . .
جمحت تذكاراته
الحلمُ كان في وجدانه للتوِ قد مضى.
استوقفته سائحة أمريكية:
ـ كيف السبيل إلى متحف برلين سيدي؟
كان قد وصل
الشوارع الطويلة تمتد. . .
أواه يا وشم شارع الموكب{2}
إذن برلين ليست دار قرار.
جال حدب الشمس وصوب الأرض
طالعته آخرُ نشرةِ أنباء العراق:
ـ مالك الأرض غالبُ سلطان السماء.
جلس مقتعدا ركام قصائده
تفرعت قدمه اليمنى دروب
مسحَ الغبارَ عن وجه الملك لير{3}
ظل يقرأُ ويقرأً
يا للهولِ،
النسغ توقف عند منتصف الفتيل
الدروب تراكمت بسادية
كما الدغل بين المذراة والبيدر
يا لذكرى تلك الأخاديد
أخاديد وجه جده الأشوري. . .
ترتسم عند كل الأنحاء. . .
في نهدرا وحدياب.
يقول للممرضة: -
لا عليك سيدتي. . .
انه وجع الغربة في الوطن
انه وجعُ الوطن في الغربة.
(4)
كان نهارُ وكان ليل
جلسنا عشية نطارح الغربةَ الغرامَ
وقبل أن يدرك هسهسة الغابةِ سكون
وتذوي ذبالة الكؤوس في الحانة
أقبل رجلُ من اوروك{4}
مقرورة حناياه بوجد الغربة،
قال لصاحبة الحانة:
ـ ادفعي عني عواء الذئاب يا سيدتي.
تدور المرأة حول كلماتها:
ـ هدأ من روعك يا فتى،
هل غلبَ الموتُ في بلادكم
مدارات الريح. . .
وهندسة الأكوان وقدَرِ الرجال؟
أجلس يا فتى. . .
دعني أتأمل حلو أحداقِك الاشورية
دعني أطيب. . .
خدوش حجارة جسر الدلال{5}
في قدميك المحناة بطمي دجلة.
ما خَطبُكم أهلَ العراق. . .
أديم الارضين بعض قبوركم
داخل أسوار الوطن
خارج أسوار الوطن
وتموتون غرباء كما الغرباء؟
(5)
كان قد شد الرحال على جناح ثور{6}
ظلال كلماته عند الوداع. . .
تفترش الحزن في حضن ارطميس{7}
وبرسفون{8} كما في وجد أزلي
من شفتيه المرتجفتين
ترتشف قبلات الحياة.
كان الأول، ربما كان التالي
وصيا على عُهْدَة سرمدية
اغتص، وتعالى التعابير واللغات.
بعد الكأس الثالثة. . .
قالت صاحبة الحانة:
ـ هات حدثني يا رمز العصر
اجلس، وتعالى نناجي. . .
أرواح فرسان المربد وعكاظ،
دعك من الخلود. . .
دموع غربتك إكسير الحياة
وحوارات أسفارك بذر نبت الخلود
تريث أرجوك. . .
الكلمات لا تسافر ساعة المساء
والريح العاتية لا تقرأ مراسيل العشاق
أرى وشم امبابا{9} بين حاجبيك
ألعلك في المنام عاشرت شميران{10}؟
ما خطبك يا فتى لا يحويك مكان؟
أأنت بعد أغا بطرس{11} الأول أم التالي؟
أجلس يا فتى. . .
الشعراء في وادينا إنعتقوا
من قيد الهوية وشرط الانتماء.
(6)
ورمُحَ الجهد في قلب سركون
مسكون بحيل الألفاظ والكلمات والألغاز
ينازل الاستقرار وحدود المكان
يجعل ثمالة الكأس حلمة حبيبة
نداءُ ثم اختصام فنداء
يتجول بين حنايا "الآشوري المتقاعد"{12}
وضفافِ بحرِ الحبانية ويشد خيط السنارة،
لبى النداء. . .
كانوا أزواجا متزاوجة بسنة الله
قال النوتي العجوز:
ـ مأذون لك يا ولدي الإبحار
أنت والقصيدة زوجان.
وسار المركب الهوينا
الحجرات تختنق بالأجساد والأشياء
جعل ينشأ رفوف الغربان والحمام{13}
الكوة الصغيرة ارض وسماء
عدد الغربان والحمام تام
متى نصل أطلال ارارات؟**
ثم نام ونام ونام.
(7)
بغتة يجمحُ داخلهُ بصوت صهيل
الأرض ليست كما الأرض هناك
ورمل الضفاف غيره
يقلب وجهه في الماء والأرض السماء
الموج ينطر. . .
أنباء الغربان والحمام.
يجتاز صمته. . .
أفق ظل الشمس والأقمار.
تدنو منه نادلة سمراء:
- إنك في سان فرانسيسكو يا ولدي.
يرتعب الوهم في وجدانه
لسور نينوى وجدار برلين حكاية
وجدار الأعظمية. . .
يروي اليوم حكاية{14} .
(8)
كان عائدا من عرس"روتردام"{15}
مزين بوشم الورد كما ملوك الزمان
عقده وأساوره المحلاة بالعشق. . .
أذن مرور وجواز انتماء
أقتعد مقهى المحطة الأخيرة
تسأله صبية شقراء:
ـ كيف تريد قهوتك سيدي؟
ـ سوداء يا آنسة. . .
سوداء كنهارات الطيبين في بغداد.
ومضى سركون تتعثر خطاه
يتوسط لوعة العودة
وصفوف الملائكة الأيتام.
تقول سارة ومريم وآمنة تكفكفان دمعها:
ـ الأمريكان قصفوا بيتنا يا عمو سركون.
يقول يعرب ورشو وحنا وبيداء وعائشة:
ـ المليشيات سلبوا بيوتنا،
باسم الله وعلى بركته. . .
اغتصبوا أمهاتنا. . .
نحروا آباءنا وأشقاءنا.
واشتد الوجع في قلب سركون
وكان صوت يزلزل الإرجاء:
ـ إني بريء من دماء آهل العراق.
وكان صوت الله.
غاب وجه سركون
وكان صباح، وكان مساء.
الهوامش:
* قرأت اغلب هذه السطور في الحفل التأبيني الذي أقيم في لاهاي إكراما لروح الفقيد، كما نشرت على موقع عينكاوة بنسخة تزخر بالأخطاء المطبعية، كما أود أن انوه: ترد هنا وهناك بعض التعبيرات التي أشير بها إلى أسماء الدواوين الشعرية التي نشرت للراحل قبل موته، الدواوين التي مررت بها وأنا استحضر شخص سركون بولص في وجداني.
1- هو الشاعر الآشوري سركون بولص، ولد في الحبانية(من أعمال محافظة الانبار العراقية)في 1944 وفارق الحياة في إحدى المستشفيات الألمانية في مدينة برلين في 27-10-2007، ونقل جثمانه إلى مدينة سان فرانسيسكو الأمريكية ليدفن هناك في 31-10-2007.
2- شارع الموكب: هو الشارع الذي كانت تسير عليه مواكب الاحتفالات في بابل، وخاصة احتفالات اكيتو، أي رأس السنة الآشورية.
3- الإشارة هنا إلى مسرحية الملك لير لشكسبير التي كان السعيد الذكر جبرا ابراهيم جبرا قد ترجمها إلى العربية وطلب إلى سركون أن يوصلها إلى الأديب يوسف الخال في لبنان.
4- اوروك: مدينة عراقية أيام دولة المدينة، واشتهرت هذه المدينة بملكها كلكامش الذي سعى حثيثا من اجل الوصول إلى سر الخلود كما تروي الملحمة التي تحمل اسمه.
5- جسر الدلال: انه جسر حجري في مدينة زاخو العراقية قد جعل في أساساته جريا على فكر الأساطير سيدة كانت تدعى دلال، أو سميت هكذا لأنها كانت جميلة وحسينة لقبت بالدلال كما تقول الحكاية التي تروى بحزن شديد.
6- استخدم الملوك الأشوريون الثور كرمز للقوة والبأس.
7- ارطميس: آلهة الصيد عند اليونان.
8- برسفون: آلهة الربيع والخصب عند اليونان.
9- امبابا: هو الوحش الذي كان يحرس الغابة كما تقول الملحمة، وقد صارعه انكيدو صديق كلكامش حتى صرعه.
10- شميران: هي المعرفة بسمير اميس، وهي ملكة اشورية ذاع صيت جمالها وحنكتها في إدارة شؤون الدولة.
11- اغا بطرس: هو القائد الاشوري الذي طالب بحقوق الأشوريين القومية بعد أن حطت الحرب العالمية الأولى أوزارها، فنفته الحكومة العراقية إلى فرنسا ليموت هناك، وتقول الكثير من الروايات انه تم التخلص منه بالسم.
12- الآشوري المتقاعد: هو عنوان إحدى قصائد سركون.
13- تقول رواية صاحب التوراة: بعد أربعين يوما من توقف المطر، فتح نوح كوة المركب وأرسل غرابا ليتأكد من أن الأرض قد جفت ويبست، ثم أرسل بعد ذلك الحمامة.
** ارارات: تقول رواية التوراة أن سفينة نوح رست على جبل ارارات الذي يسمى "بالجودي"بحسب رواية صاحب القرآن.
14- بعد سقوط النظام في 9-4-2003، حرص المحتل أن يستنهض كل أحقاد الماضي، ولكي يحقق هذه الغاية الدنيئة، سخر طاقات كل كلابه في الوطن من اجل تأجيج النعرة الطائفية الدينية بين العراقيين، فصار القتل في الشارع على الهوية، ولكي يفصلوا المواطنين عن بعضهم، فصلوا الاعظمية السنية عن المناطق الشيعية المحيطة بها، والغريب في الأمر هو إصرار بعض من ساهم ببناء جدار الاعظمية على اتهام اسرائيل بباء جدار الفصل العنصري الذي نعرفه جميعا.
15- كان سركون في روتردام الهولندية ليساهم في مهرجان الشعر العالمي الذي قلده جائزته.