أثارتْ دعوة الصحفيةُ المخضرمة في البيت الأبيض هيلن توماس، التي تعمل كمستشارة صحفية للرئيس أوباما، وقد طالبت يهود إسرائيل بالخروج من فلسطين والعودة إلى مواطنهم الأصلية، أثارت هذه الدعوة دهشة واستغراب كثيرين من الفلسطينيين، فمنهم من ابتهج بالدعوة، لأنه يسمعها للمرة الأولى، ومنهم من عدها نتيجة من نتائج الأحداث الأخيرة، بعد حادثة سفينة الحرية، وبخاصة لأن الدعوة جاءت من صحفية يهودية محنكة تبلغ الحادية والتسعين من العمر، وقد خسرت وظيفتها في البيت الأبيض، واتهمت بالعداء للسامية واليهودية، ونُبِشَت سيرتها كالعادة، فاكتشف النابشون بأنها تنتمي إلى سلالة أب عربي من لبنان!! لكن الحقيقة هي أن السيدة هيلن توماس لم تكن هي أول من دعا لعودة اليهود إلى أوطانهم الأصلية، بل إن هذه الدعوات كُررت مرات عديدة خلال سنوات طويلة، من كتاب وعلماء ويساريين وحتى من أفراد إسرائيليين عاديين.
وهأنذا أقتبس مما جاء في كتابي (الصراع في إسرائيل) حول الموضوع:
ساهم تيار المؤرخين الجدد، بالإضافة إلى سيطرة التيار الحريدي المتزمت على الحياة، في ظهور تياراتٍ أخرى جديدة، لم تحظ بقدر واسع من الإعلام، هي تيارات تمسُّ المجتمع الإسرائيلي، ومن هذه التيارات، تيار المؤرخين الجدد، وتيار الهجرة العكسية، أي الهروب من إسرائيل لانتفاء فرص الحياة الديموقراطية الحرة، وذلك لأن الأصوليين فرضوا إرادتهم وقوانينهم على المجتمع، وأصبح اليساريون مطاردين من اليمينيين، ونمت الظاهرة عقب فوز حركة شاس الأصولية بسبعة عشر مقعدا في الكنيست في انتخابات 1999. فهذه الدكتورة (ميخال أورين) المحاضرة في كلية دراسات أرض إسرائيل في جامعة حيفا تدعو الإسرائيليين إلى مغادرة إسرائيل، ففي أغسطس 2000 تسعى مجموعة من الأكاديميين إلى تأسيس إسرائيل جديدة على شكل مستوطنة علمانية خارج حدود إسرائيل تقول:
"لا نستطيع مواصلة الحياة هنا، هذه ليست الدولة التي صلينا من أجلها فإذا أرادت شاس أن تستبدل النخبة فلها البلاد كلها، مكاننا ليس هنا". والمستوطنة العلمانية المقترحة من قبل الدكتورة ميخال أورين ليست لكل الإسرائيليين بالطبع، ولكنها خاصة بالمفكرين والأكاديميين.
تقول روتي رفائيلي، خبيرة في الدين، وهي من مجموعة ميخال أورين: "ليست المجموعة سياسية، وليست احتجاجية، إنها تفكر تفكيرا جديدا" يقول عضوٌ آخر في المجموعة وهو يورام كريف: "إن ما يهمنا هو حياتنا الشخصية وحياة أطفالنا بالدرجة الأولى، لقد فوجئنا بحجم الإقبال على الفكرة، فكثيرون فكروا مثلنا، وقال لنا أحد الأشخاص : إنه يجري مفاوضات فعلية لإقامة المستوطنة الجديدة، وقد ولدت الفكرة قبل ضجة وصول شاس إلى الحكم".
أما الكاتب اليساري يوري أفنيري رئيس تكتل السلام يعاتب الكاتبة، ولكنه يؤكد الظاهرة، فإسرائيل تغرق مثل غرق السفينة الروسية: لم يعد في إسرائيل مكان لوجود إسرائيلي واحد نزيهٍ ومتحضِّر، دولة إسرائيل تغرق مثل غرق السفينة الروسية، يقول في مقال بعنوان: لا تذهبي يا ميخال أورون: "إن دعوتك يا ميخال أورون تدل على وطنيتك تطبيقا للحكمة التي تقول الوطن هو المكان الذي تغضب فيه". أنتِ غاضبة على شاس، وعلى النزعة الحيوانية التي تفشَّتْ في البلاد فشاس مجرد علامة على مرض خطير.!(معاريف 21/8/2000)
أما الكاتب ياعز بال ميلمد فهو أكثر واقعية في تحليله لظاهرة الهجرة العكسية، وصعود شاس، فهو يُرجع السبب إلى الحكومة التي ترضخ للمتزمتين، وتمنحهم ميزانيات ضخمة، يشترون بها أتباعهم، فهو يقول في هذا الصدد في معاريف: "في إسرائيل اليوم حركتان: شاس التي استفحلت ظاهرتها، واليسار العلماني الذي يعد بمئات الآلاف ولكنه يشعر بالعجز، إن دولة إسرائيل لا تعني عوفاديا يوسيف، فقد وضع هدفه (إقامة دولة دينية). إن الدولة لا تعنيهم، يحصلون على الأصوات بالنقود. ويشعر العلمانيون بالفزع وهم يرون أن خمسة إلى ستة مليارات شيكل من ميزانية الدولة تتحول للجمعيات الأصولية، مما يزيد من قوتها وأبرزها شاس، ويضاف إلى ذلك ما تمارسه هذه الجمعيات من تهريب وابتزاز، ولا يظفر العلمانيون إلا ببصقات الوجه من شاس، وشاس بالنسبة للعلمانيين هي المستقبل الأسود الجاهل. ليس الحل إذن إقامة إسرائيل جديدة، لهدف منعهم من تأسيس دولتهم الدينية، إن الحل يكمن في إغلاق صناديق النقود عن شاس، وعن شبكة (معيان) وعن وزارة الأديان والمجالس الدينية. إن مصدر قوة شاس هم العلمانيون أنفسهم، يجب أن يشرع العلمانيون في تحقيق الثورة المدنية العلمانية، إن هذا سيهدئ روع كثير من الإسرائيليين. (معاريف 22/8/2000 )
ولأول مرة يُجاهر كثيرون بمغادرة إسرائيل، ولا يرون أن فعلتهم خارجة عن الإطار الوطني، يورد الكاتب عوديد كابرا في معاريف قصصا مختلفة عن رغبة الشباب الإسرائيلي في الهجرة من إسرائيل: ولم تقتصر ظاهرة الهجرة العكسية على اليساريين، وإنما شملت أيضا اليمينيين، وهؤلاء المتدينون اليهود هم من طوائف الحريديم، ممن لم يتأقلموا مع القوانين الحريدية، أو هم من مجموعات [التائبين] الذين يلتحقون بالمتزمتين ويتركون اليسار كما تشير صحيفة يدعوت: "شرع عدد من سكان مستوطنة (تفوّح) الأصولية في إجراء مفاوضات لبيع بيوتهم إلى العرب، فيما تنتظر عائلات أخرى للهرب من المستوطنة والحصول على تعويضات في إطار التسوية الدائمة مع السلطة، ويعود السبب إلى الاحتجاج على استفحال التطرف الديني في المستوطنة، فقد ازداد عدد مؤيدي كاخ، ويقول سكان سبعين عائلة: إن الحياة صعبة". اعتبر بعض اليهود الحريديم، الذين لم يتمكنوا من الحياة وسط الأجواء الحريدية المتزمتة حياتهم تلك كأعذار مقبولة للهرب من هذا الوسط الحريدي، واستغلوا في ذلك بعض الشعوذة الدينية، فهاهو حاخام البلدة القديمة في القدس يقول إن إسرائيل غير آمنة، ويجب الخروج منها كما تشير ليلي غاليلي في هارتس 7/11/1999 قال حاخام البلدة القديمة في القدس: "بحساب الأحرف والأرقام في التوراة فمن الممكن أن تقع كوارث في عام 2000، فليس هناك يهودي بعيد عن الخطر، حتى الذين يعيشون في أمريكا فهم معرضون أيضا للخطر، إذن فلا بد من الهجرة فورا".
وجاء في النشرة التي تروجها الحركة: "إن إسرائيل غير آمنة، ومن الأفضل أن نكون تحت رعاية الرائد (موشي كوهين) من الجيش الإسرائيلي، المرتدي القبعة الدينية، ويأكل الحلال، وليس تحت رعاية كولونيل غير متدين ولا يراعي (الكاشير)". وزعت الكراسة المكتوبة بالإنجليزية في القدس ولاقت تجاوبا لدرجة أن مجموعات مسيحية قرأت النشرة واتصلت بالحركة لتعرض عليها ملجأ لليهود لحمايتهم من الكوارث، وتعرض أيضا التبرع لنقلهم، هؤلاء مسيحيون أخيار حسب حركة (عملية العودة). ولم تقتصر الهجرة من إسرائيل وليس إليها، على اليساريين المحبطين أو اليمينيين المشعوذين، بل امتدت إلى علماء الآثار، الذين يرون في إسرائيل أرض [الولادة] التي يجب الهجرة منها، لا إليها وهذا النمط يصب في خانة تيار ما بعد الصهيونية، حتى وإن بقي يرفض اللقب السابق:
يقول [جيكوب نيوزنر] أهم عالم تلمودي في أمريكا من زعماء اليهود: "يؤمن يهود أمريكا بأرض ميعاد واحدة، وهي أمريكا وعاصمتها واشنطن. لقد أصبحت إسرائيل عند اليهود الأمريكيين مثل إيرلنده عند الإيرلنديين أي موطن الأصل، أي البلد الذي يهاجر منه الإنسان، لا إليه". (معاريف 19/11/2001)
ولم يقف أمر الهجرة عند اليساريين الراغبين في مغادرة إسرائيل بسبب اكتساح الأصولية لحياة الإسرائيليين، ولم يقف عند اليمينيين المتطرفين المشعوذين الذين ما يزالون ينتظرون [الماشيح] ولهم حساباتهم الخاصة بهم، بل امتد تيار الهجرة [من] إسرائيل إلى العلماء والباحثين الذين لا يسكن كثير منهم في إسرائيل نفسها، لأن إسرائيل بممارساتها القمعية ضد الفلسطينيين الأبرياء أساءت لليهود في مهاجرهم، وجعلتهم عرضة للأخطار، حتى أن بعضهم مقتنع بأن إسرائيل هي السبب المباشر في أحداث الإرهاب الموجودة في العالم، وهي سبب موجات الكراهية ضد اليهود كذلك.
عُقد في سواحل النورماندي في فرنسا مؤتمر [القلعة] في قلعة يرجع بناؤها إلى أكثر من ألف سنة مؤتمرٌ عالميٌ لغرض تهجير اليهود من إسرائيل إلى أوروبا ومن الأقوال التي دارت في غرف المؤتمر المغلقة:
ـ قال د. إيف غولدشتاين من جامعة زغرب: لماذا لا يهاجر الإسرائيليون إلى أوروبا هجرة جماعية؟
ـ أما الفيلسوف الفرنسي أندريه غلوكسمان فقال: أوروبا هي المكان الطبيعي لليهود.
ـ تطالب مديرة معهد أنشتاين في برلين سوزان نيمان اليهودَ بالعودة إلى ألمانيا، للاستفادة من ذكائهم وحنكتهم.
ـ أما دومنيك مويزي مستشار المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية وهو ابن أحد الناجين من الأوشفيتز، اختبأت أمه سنتين في دير فرنسي، وهو يؤيد دولة فلسطينية، وهو ألمع الأدمغة الأوروبية فقد توصّلَ إلى النتيجة التالية: "نظرا لعدم وجود أمل لحياة اليهود في الشرق الأوسط، فإن أوروبا تفتح ذراعيها لهم. يشعر الأوروبيون بأن إسرائيل تهدد حياتهم، وليسوا مستعدين للموت من أجلها!
ـ قال مارتن غابي الأستاذ اليهودي الأمريكي: إنه سمع من يقول ليس هناك شخص ألحقَ الأذى باليهود بعد هتلر، أكثر من شارون نفسه! فقد أعطى شارون شرعية العداء للسامية بعد خمسين عاما.
ـ يقول مايكل بيرنز: من الصعب أن يكون الإنسان مؤيدا لإسرائيل لقد ملَّ الناسُ من الحديث عن الكارثة اليهودية، وأشار إلى استطلاع للرأي نُفِّذَ على الطلاب المسلمين؛ وخلُص الاستطلاع إلى أنهم يحبون كرة القدم، ويكرهون بالإجماع اليهود!
ويتوقع غولدشتاين بأن ينشأ شرخٌ كبير بين اليهود والإسرائيليين، مما يعرِّض حياة الأوروبيين للخطر، وأجمع المشاركون في المؤتمر على أن شارون هو السبب في إشعال نار العداء للسامية، هناك موجة كره للأمريكيين والإسرائيليين لغطرستهم، فشارون وبوش قد يتسببان في نهاية العالم (هارتس 17/2/2004)
وأخيرا: هل دعوة الصحفية المخضرمة هيلن توماس لعودة اليهود إلى مواطنهم الأصلية تعكس مجرد حالة ضجر من تصرفات الحكومة الإسرائيلية؟ أم أنها دعوة تحمل رؤيا عالمية تهدف لحل مشكلة الشرق الأوسط برعاية أمريكية؟ أم أنها رؤية طوباوية لإنقاذ بقية اليساريين الإسرائيليين في إسرائيل والعالم من ضائقتهم وحصارهم المماثل لحصار الفلسطينيين في غزة، بل هو حصار أقسى وسط سجون الحارديم المظلمة؟! وأخيرا أتمنى ألا نفقد الذاكرة بين كل حدثٍ وآخر، وأن نتمكن من ربط الأحداث تاريخيا وفكريا لنتمكن من بلورة أسلوب يمكننا به أن نفهم طبيعة الصراع في المجتمع الإسرائيلي.