يتناول الباحث المصري في هذه الدراسة الاقتصاد السياسي للفقر في مصر عبر مجموعة من المقتربات المنهجية المختلفة التي تكشف لنا فداحة الواقع وآثاره الدامية.

الاقتصاد السياسي للفقر في مصر

(1975ـ2000) رؤية سوسيولوجية

محمد عبدالحميد إبراهيم

مدخل: في موضوع الدراسة وتساؤلاتها وأقسامها الأساسية
على الرغم من تباين الاجتهادات الأكاديمية والسياسية حول ماهية الفقر وتعريفاته، وطبيعة الفقراء وخصائصهم؛ فثمة اتفاق على أنه إذا وجد الفقر في أي مكان أصبحت هذه مشكلة تحتاج إلى سياسة لمعالجتها (انظر: ال كوك، 2000: 10، الجوهرى، 1999: 34ـ36، حجازي، 1996: 9ـ 18،Khan,2000: 4) وتعكس الحالة المصرية في دراسات الفقر تنوعاً نسبياً ووفرة في الاهتمام بقضايا الفقر والفقراء من الجانب الاقتصادي والإحصائي، بينما تعاني الدراسات ذات المدخل السوسيولوجي من قلة نسبية، فضلاً عن أن الاهتمام السوسيولوجي بتناول الفقراء ـ على قلته ـ جاء متأخراً نسبياً. كما تُعاني الدراسات السوسيولوجية من ندرة الدراسات التي حاولت النظر إلى مشكلة الفقر نظرة كلية متكاملة، تؤرخ لها، كما تحللها كمياً وتتعمقها كيفياً، وتتأمل علاقتها بالسياسة الاجتماعية والاقتصادية، وآثارها على مختلف الأصعدة، وفي شتى المجالات (الجوهرى، 1999: 49ـ50).

من هذا المنطلق تسعى الدراسة الحالية إلى الربط بين تطور ظاهرة الفقر في مصر وطبيعة السياسات الاقتصادية والاجتماعية التي اتخذتها الدولة خلال الفترة (1975ـ2000)، وذلك بهدف استكشاف طبيعة العلاقة بين مسار الظاهرة من ناحية، وطبيعة الفعل الاقتصادي والسياسي للدولة، من ناحية أخرى، خلال مرحلة مهمة من مراحل تطور التكوين الاجتماعي المصري في الربع الأخير من القرن العشرين. ويتأسس هذا المسعى على فرضية أساسية مؤداها: أن الفقر في مصر يجب أن يفهم بوصفه نتاجاً لعمليات بنائية معقدة تكمن في الاقتصاد السياسي للدولة (انظر، وقارن، Fergany 1998: 15). بناءً على هذه الفرضية يتشكل سؤال الدراسة المحوري وهو: كيف افضى نمط الفعل السياسي الاقتصادي للدولة ـ معبراً عنه بالسياسات الاقتصادية والاجتماعية التي اتخذتها ـ خلال الفترة (1975ـ2000) إلى خلق سياق بنائي أدى إلى اتساع عمليات الافقار والتهميش داخل المجتمع، وما الآليات الوسيطة التي فَعَّلَت من ذلك؟

وسوف نحاول الإجابة على هذا السؤال من خلال استعراض التطورات التي شهدتها اتجاهات دراسة الفقر، عالمياً ومحلياً، خلال عقد التسعينات، وماهية منظور الاقتصاد السياسي في دراسة وفهم ظاهرة الفقر. وكذا التطورات التي شهدتها ظاهرة الفقر في مصر خلال فترة الدراسة. والدور الجوهري لنمط الفعل الاقتصادي/ السياسي للدولة، خلال تلك الفترة، في خلق سياق بنائي افضى إلى اتساع عمليات الافقار والتهميش داخل المجتمع.

بناءً على ما تقدم تنقسم الدراسة الحالية إلى الأقسام التالية:
أولاً: مداخل دراسة الفقر: المشهد النظري في عقد التسعينات.
ثانياً: الفقر من منظور الاقتصاد السياسي.
ثالثاُ: الفقر في مصر: مسار الظاهرة.
رابعاً: الفقر ونمط الفعل الاقتصادي/ السياسي للدولة: آليات الافقار والتهميش. 

أولاً: مداخل دراسة الفقر: المشهد النظري في عقد التسعينات
حققت دراسات الفقر خلال عقد التسعينات تقدّماً فاق بكثير ذلك التقدم الذي تحقق على صعيد مقاومة الظاهرة ذاتها. فلو كان التقدم الذي تحقق على صعيد الاهتمام البحثي بالظاهرة مواكباً لتقدم مثيل على صعيد التصدي لها ومقاومتها؛ لكان حال الفقراء أفضل، وكان معدل الفقر ـ عالمياً ومحلياً ـ أقل بكثير. لعل ما يصادق على هذه الفرضية هو أنه على الرغم من إعلان الأمم المتحدة أن عام (1996) يمثل عاماً دولياً للقضاء على الفقر؛ فإن انعدام المساواة، وتزايد تركيز الدخل والموارد والثروة بين الناس والشركات والبلدان آخذة في التزايد ـ على الصعيد العالمي ـ وحسبما تشير بيانات تقرير التنمية البشرية (1999: 3) إن المقارنة بين خُمس سكان العالم الذين يعيشون في أغنى بلدان العالم وخُمس السكان الذين يعيشون في أفقر البلدان وذلك في أواخر التسعينات ـ أفصحت عما يلي:ـ

ـ أن خُمس سكان العالم ممن يعيشون في أغنى البلدان دخلاً تبلغ حصتهم حوالي 86% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي ـ بينما تبلغ حصة خمس سكان العالم ممن يعيشون في أقل البلدان دخلاً 1% فقط.

ـ أن خُمس سكان العالم ممن يعيشون في أغنى البلدان تبلغ حصتهم 82% من أسواق صادرات العالم ـ بينما تبلغ حصة خمس السكان الذين يعيشون في أقل البلدان دخلاً 1 % فقط.

ـ أن خمس سكان العالم ممن يعيشون في أغنى البلدان تبلغ حصتهم 68% من الاستثمارات الأجنبية المباشرة ـ بينما تبلغ حصة خمس السكان الذين يعيشون في أقل البلدان دخلاً 1 % فقط.

ـ أن خمس سكان العالم ممن يعيشون في أغنى البلدان تبلغ حصتهم 74% من خطوط الهاتف في العالم ـ التي تمثل الآن الوسيلة الأساسية للاتصالات ـ بينما تبلغ حصة خمس السكان الذين يعيشون في أقل البلدان دخلاً 1.5% فقط.

وإزاء هذا الوضع بدأ المجتمع العالمي يدرك أن النمو الاقتصادي لا يفضي بالضرورة إلى الحد من تفاقم ظاهرة الفقر. ومن هنا بدأ الاهتمام بهذه الظاهرة ـ ظاهرة الفقر يتخذ طابعاً جديداً خلال عقد التسعينات. وقد عزَّزَ من ذلك تغيّر طريقة النظر إلى قضية التنمية ذاتها: حيث حلّ مفهوم " التنمية البشرية " Human Development ـ المعتمدة على البشر ـ محل مفهوم " التنمية الاقتصادية Economic Development المعتمدة على النمو الاقتصادي؛ ذلك المفهوم الذي ساد أدبيات التنمية خلال عقدي الستينات والسبعينات وعقد الثمانينات إلى حد ما.

وبات مفهوم " التنمية " ـ خلال عقد التسعينات ـ يركز على "البشر" بوصفهم الثروة الحقيقية للأمم، وأن التنمية البشرية هي الغاية، والنمو الاقتصادي هو الوسيلة (تقرير التنمية البشرية 1996: 1). وأن التنمية البشرية هي "عملية توسيع خيارات الناس ـ لا مجرد الخيارات ما بين أنواع مختلفة من مساحيق الغسيل أو قنوات التليفزيون أو موديلات السيارات بل الخيارات التي تنشأ عن طريق توسيع القدرات البشرية والطريقة التي يعمل بها البشر ـ أي ما يفعله الناس وما يمكن أن يفعلوه في حياتهم. (تقرير التنمية البشرية 1999: 16). وقد واكب ذلك ـ على مستوى الاهتمام بقضية الفقر ـ أن حل مفهوم "الفقر البشري" Human Poverty محل مفهوم "فقر الدخل" Income Poverty. وأصبح مفهوم "فقر القدرة" Capability Poverty هو المفهوم الذي يسعى لتجاوز المعنى القاصر لمفهوم فقر الدخل، كما يسعى، في الوقت نفسه ـ إلى الإمساك بالجوانب المتعددة والمعقدة لظاهرة الفقر ذاتها. كما أصبح مفهوم الفقر البشري هو المفهوم الأكثر ارتباطاً بمفهوم التنمية البشرية المستدامة: (UNDP Poverty Report 1998: 18).

ويقدم لنا المخطط التالي أهم ملامح المشهد النظري الخاص بدراسة ظاهرة الفقر ـ خلال عقد التسعينات وخصوصاً داخل بلدان العالم النامي (Adapted from UNDP Poverty Report,1998: 10).

ويوضح لنا هذا المخطط أن المشهد النظري الخاص بظاهرة الفقر يتسم بوجود نموذجين أساسيين هما: نموذج الحرمان الفزيولوجي، ونموذج الحرمان الاجتماعي. ويتمثل القاسم المشترك بين المدخلين الذين يضمهما نموذج الحرمان الفزيولوجي (مدخل الدخل/ الاستهلاك، ومدخل الحاجات الإنسانية الأساسية) في كونهما يحددان ظاهرة الفقر بناء على العجز عن الحصول على الحد الأدنى من مستوى الدخل/ الاستهلاك اللازم للوفاء بالحاجات الأساسية: يركز مدخل الدخل/ الاستهلاك على الغذاء أساساً، بينما يوسّع مدخل الحاجات الإنسانية الأساسية هذه الحاجات لتضم حاجات أخرى غير الغذاء، مثل الصحة والتعليم. وتُسمى حالة العجز عن الحصول على الحد الأدنى من الدخل/ الاستهلاك اللازم للوفاء بالحاجات الفزيولوجية الأساسية بالفقر المطلق. ويتم قياس الفقر المطلق عن طريق تقدير نسبة السكان الذين يقعون تحت (أو على) "خط الفقر" (May,Julian,2001 :24).

ويدل "خط الفقر" على "مستوى الدخل أو الإنفاق الذي لا يمكن دونه تحمل تكاليف الحد الأدنى من الغذاء الكافي تغذوياً إلى جانب الاحتياجات الأساسية غير الغذائية" (تقرير التنمية البشرية، 1996: 222). ويتم اشتقاق خط الفقر وفق منظور الحرمات الفزيولوجي بطرق متعددة؛ لكن ثمة طريقتان أكثر شيوعاً:  الأولى، وتسمى طريقة الطاقة/ الغذاء Food ـ energy method  ويتم من خلالها تقدير الحد الأدنى من السعرات الحرارية المكونة للطاقة في الإنسان، واللازمة للفرد. وبعد  ذلك يتم تحديد مستوى الدخل/ الاستهلاك الذي يفي بهذا الحد الأدنى. أما الطريقة الثانية فتسمى طريقة الانفاق على الطعام، أو نسبة الإنفاق على الطعام. (United Nations,1998: 4-5)  لكن ثمة انتقادات عديدة تم توجيهها لهذا النموذج ـ نموذج الحرمان الفزيولوجي ـ فإذا كان هذا النموذج يؤسس فهمه للفقر على أساس العجز عن الحصول على الحد الأدنى من الخدمات الأساسية أو الحد الأدنى من مستوى   المعيشة؛ فإن هذا التحديد يثير انتقادات/ تساؤلات ثلاثة: أولها، كيف يتم تحديد هذا الحد الأدنى ومن الذي يحدده. وثانيهما، ما طبيعة الحد الأدنى المقبول لمستوى المعيشة. وثالثهما، من الذي يحكم بكونه مقبولاً. (May,Julian,2001 :25)

ولاشك أن هذه التساؤلات، فضلاً عن كونها تدل على جوانب القصور الملازمة لهذا النموذج؛ فإنها تدل أيضاً على قدر التحكمية (الاعتباطية) Arbitrariness  سواء في تحديد خط الفقر (انظر: العيسوى، 1995: 19)، أو في تحديد ماهية (المستوى المقبول من) الحاجات الإنسانية الأساسية. بناء على ذلك سعى نموذج الحرمان الاجتماعي إلى تجاوز الرؤية الاقتصادية للفقر. على أساس أن الفقر يجسد ظاهرة متعددة الأبعاد، وأن فقر الدخل لا يمثل سوى جزءاً من الصورة. من ثم فإن فهم الفقر يجب أن يتجاوز مجرد النظر إليه بوصفه "نقصاً في الدخل، أو حتى العجز عن الوفاء بالحاجات الأساسية" (Fergany,1998: 2).

أما نموذج الحرمان الاجتماعي فيضم ثلاثة مداخل أساسية هي:

- مدخل الفقر البشري Human Poverty approach 
- مدخل الاقصاء/  الاستبعاد الاجتماعي * Social exclusion approach 
- مدخل المشاركة (في تقييم الفقر) Participatory approach
 

ويُركّز مدخل الفقر البشري على القدرات البشرية. ويعتمد هذا المدخل على الإطار التصوري الذي قدمه الاقتصادي والفيلسوف (الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد لعام 1998) امارتيا سين Amartyasen، حيث ينظر إلى الفقر أو الحرمان في ظل غياب القدرات الإنسانية اللازمة للفعل (الحياة) ويؤكد "سين" أن الفقر يجب ألا يتضمن فقط ما يمكن ـ وما لا يمكن ـ أن يفعله البشر (القدرات)، بل يجب أن يتضمن ـ في الوقت نفسه ـ ما يستطيعون، أو لا يستطيعون فعله (الأفعال/ الوظائف). (United Nations,1998: 5)  لذا يرتبط مفهوم القدرات Capabilities  بمفهوم أوسع هو مفهوم الاستحقاقات entitlements، الذي يركز على أهمية الأصول assets  أو الأحقيات endowments  التي يمتلكها الفقراء (May,Julian,2001: 29) ولا شك أن استحقاقات البشر غير محدودة ومتغيرة عبر الزمان والمكان. لكن عند أي مستوى من مستويات التنمية، فثمة استحقاقات ثلاثة أساسية "لا تتاح بدونها خيارات كثيرة في الحياة هي: أن يحيا المرء حياة مديدة وصحية، وأن يكون عارفاً. وأن يتمكن من الحصول على الموارد اللازمة لمستوى معيشة كريم" (تقرير التنمية البشرية 1999: 16).

إننا نلاحظ هنا تطابقاً ـ يكاد يكون تاماً ـ بين مفهومي الفقر البشري والتنمية البشرية. فإذا كانت التنمية البشرية تعني توسيع الفرص أو الخيارات المتاحة أمام الأفراد، فإن الفقر البشري يعني أن هذه الخيارات والفرص تكاد تكون معدومة بالنسبة للفقراء. وأن انعدام ـ أو محدودية هذه الفرص يؤدي إلى الافتقار إلى تكوين القدرات الإنسانية الأساسية. ويؤدي ذلك ـ من ثم إلى "فقر القدرة". ويقدم لنا تقرير التنمية البشرية (عام 1996: 110) مقياس لفقر القدرات. ويتكون هذا المقياس من ثلاثة مؤشرات تعبر عن النسبة المئوية للسكان الذين يوجد لديهم نقص في القدرات في ثلاثة أبعاد أساسية من أبعاد التنمية البشرية هي: الحياة الصحية، والحياة التي تتوفر فيها تغذية جيدة، وامتلاك القدرة على التناسل المأمون والصحي؛ ومعرفة القراءة والكتابة، ووجود المعرفة. والمؤشرات المقابلة الثلاثة هي النسبة المئوية للأطفال دون سن الخامسة الذين يُعانون من نقص في الوزن، والنسبة المئوية للولادات التي تحدث بدون إشراف موظفي صحة متدربين، والنسبة المئوية للأميات اللائي تبلغ أعمارهن 15 عاماً فأكثر.

أما مدخل الإقصاء الاجتماعي Social exclusion approach  فينطلق من فهم الفقر بوصفه قرين الافتقار إلى الموارد اللازمة (أو التي تؤهل الفرد) للمشاركة في الأنشطة السائدة داخل المجتمع أو الاستمتاع بمستوى المعيشة السائد والمقبول اجتماعياً. ويربط هذا المدخل بين الفقر وقضايا المواطنة والاندماج الاجتماعي والمقتضيات اللازمة لذلك (United Nations,1998 :5). حيث ينظر إلى الفقر بدلالة الافتقار إلى الروابط الاجتماعية بالأسرة أو المجتمع المحلي أو بعموم المجتمع، الذي ينتمي إليه الفرد. ويتضمن معنى الإقصاء الاجتماعي بعدين أساسين: أحدهما اقتصادي والآخر اجتماعي. فكون الفرد مستعبداً يعني أن فرص حصوله على دخل منتظم أو مشاركته في سوق العمل أو امتلاكه لأصول، تكاد تكون منعدمة أساساً. كما يمكن أن يكون الأفراد مستبعدون من الحصول على الخدمات العامة (كالصحة، والتعليم الخ) ومن المشاركة في صياغة القرارات المؤثرة في تشكيل حياتهم فالإقصاء الاجتماعي لا يدل فقط على وهن الروابط الاجتماعية التي تربط الفرد بأسرته أو بمجتمعه المحلي، بل يدل أيضاً على الاستبعاد من كل أو بعض الحقوق الأساسية للمواطنة (انظر، May,Julian,2001: 28).

والملاحظ على هذا المدخل أنه يتكامل مع مدخل الفقر البشري. على أساس أن مدخل الفقر البشري، في تركيزه على مفهوم القدرات البشرية، وسَّعَ من هذه القدرات، بحيث تشمل إلى جانب القدرات الأساسية قدرات أخرى من بينها الحرية السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، والإحساس بالجماعة، وفرص الإبداع والإنتاج، واحترام الذات وحقوق الإنسان (انظر تقرير التنمية البشرية 1999: 16) كما أن فقر القدرة يعد فاعلاً من الفواعل الأساسية للتهميش، كما سنوضح فيما بعد. لذا ينظر الباحث إلى هذين المدخلين بوصفهما مدخلين متكاملين يسعى كليهما إلى تجاوز قصور النظر إلى الفقر بوصفه فقراً في الدخل فقط، إلى أطر تحليلية أكثر عمقاً وذات أبعاد متنوعة. وهو ما سيفيدنا في فهم الفقر من منظور الاقتصاد  السياسي. لكن قبل أن ننتقل إلى هذه القضية نشير ـ أخيراً ـ إلى مدخل المشاركة (في تقييم الفقر) participatory approach، حيث يعدّ هذا المدخل أداة أساسية لإدماج وجهة نظر الفقراء سواء في تحليل الفقر أو في صياغة استراتيجيات تقلل من حدته "(Brock,Karen 2000) من ثمّ ينطلق هذا المدخل ـ أساساً ـ من فهم الفقر والحرمان كما يدركه الفقراء أنفسهم (United Nations,1998 :5). أي أنه يعتمد على اشراك المبحوث مع الباحث في فهم ظاهرة الفقر، أي اتاحة الفرصة للإنسان ذاته بوجه عام أو للشخص الفقير بوجه خاص، للتعبير عن إدراكه الذاتي لظاهرة  الفقر وللإفصاح عن وجهة نظره في التمييز بين الفقراء وغير الفقراء (العيسوي، 1998: 7). حيث ينظر ـ هذا المدخل ـ إلى الفقراء لا بوصفهم "إخباريين" بل بوصفهم "محللين" (May,Julian,2001 :45) وقد تطوَّر هذا المدخل منذ أوائل التسعينات بهدف زيادة إشراك الفقراء في عمليات صياغة السياسات التي تؤدي إلى التقليل من حدة الفقر، وكذا اشراكهم في تطبيق هذه السياسات (لمزيد من التفاصيل الخاصة بالتعريفات المرتبطة بهذا المدخل، والمحاولات التي تمت لتطبيقه في   أفريقيا، وآسيا وأمريكا اللاتينية، انظر Brock,Karen,2000).

وإذا كان هذا المدخل لا يرقى إلى كونه طريقة في التنظير للفقر أو فهمه (United Nations,1998: 5) فإنه يعد وسيلة مفيدة لتحديد الطرف الأهم سواء في تحديد الفقر، أو في صياغة السياسات التي تؤدي إلى التقليل من حدة الفقر أو في تطبيق هذه السياسات (انظر: Mc Gee,Rosemary and Andy Norton,2000).

من ناحية أخرى، فإذا كان الفقر ظاهرة معقدة، تتجاوز فقر الدخل، وتحتوي على العديد من الأبعاد البشرية (نقص القدرات/ أو الاستحقاقات اللازمة لتكوين هذه القدرات) والاجتماعية (الاستضعاف Vulnerability، والاستبعاد exclusion) فلا يستطيع مدخل بعينه مهما أوتي من مؤشرات، أو قدرة تحليلية، أن يمسك بهذه التعقيدات التي تسم ظاهرة الفقر. من أجل ذلك قدم تقرير التنمية البشرية (2001) مقياساً مركباً يجمع بين العديد من المؤشرات التي تحتوي عليها المداخل النظرية التي عرضنا لها، ويأخذ في اعتباره طبيعة الارتباط بين "الفقر البشري" و "التنمية البشرية" وذلك على النحو التالي:  

* يتمثل الاختلاف بين دليل الفقر البشري 2، ودليل الفقر البشري 1 في أن الدليل 2 مصمم خصيصاً للبلدان المتقدمة (المصنعة) والدليل (1) مصمم للبلدان النامية على أساس توافر المعلومات في البلدان المتقدمة) ونظراً لأن مستويات الحرمان تتفاوت حسب الظروف الاقتصادية والاجتماعية المتفاوتة بين المجتمعات. (المصدر   السابق، ص14).

** يركّز مقياس التنمية المرتبط بنوع الجنس على التفاوت في الإنجاز المتحقق، بين الرجل والمرأة، أي يأخذ في اعتباره انعدام المساواة بين الجنسين. ويقدم التقرير مقياساً آخر هو: مقياس التمكين المرتبط بنوع الجنس Gender empowerment measure، الذي يركز على مدى مشاركة المرأة في الأنشطة الاقتصادية والسياسية. فهو يقيس انعدام المساواة بين الجنسين في المجالات المهمة المرتبطة بصنع القرار. (انظر المصدر السابق، ص 14).

وهكذا يتضح لنا من خلال هذا العرض، كيف أن مداخل دراسة الفقر قد حاولت خلال عقد التسعينات، الانتقال من التركيز على "الفقر الاقتصادي" إلى التركيز على "الفقر البشري" ومن الاهتمام بفقر الدخل إلى الاهتمام "بفقر القدرة" سعياً إلى رصد الجوانب المتعددة والمعقدة لظاهرة الفقر. تلك الظاهرة التي يُمكِنُنَا الاقتصاد السياسي من إدراكها وفهمها ليس في تعقدها وتعدد أبعادها فقط، بل في ظلّ الآليات وفي سياق التحولات البنائية التي يخبرها المجتمع موضع التحليل. وهذا ما نحاول توضيحه في سياق النقطة التالية. 

ثانياً: الفقر من منظور الاقتصاد السياسي:
يُعَرَّف علم الاقتصاد السياسي بوصفه "علم القوانين" التي تحكم العلاقة الاقتصادية، أي العلاقات الاجتماعية التي تنشأ بين أفراد المجتمع بواسطة الأشياء المادية والخدمات. وهي العلاقات التي تتعلق بإنتاج وتوزيع الأشياء المادية والخدمات التي تُشبع حاجات الإنسان في المجتمع أي اللازمة لمعيشة أفراد المجتمع، معيشتهم المادية والثقافية (دويدار، 1978: 20). ولا شك أن القوانين التي تحكم العلاقات المنبنية على إنتاج وتوزيع الأشياء المادية والخدمات التي تشبع حاجات الإنسان (الأساسية وغير الأساسية) تتخذ طابعاً محدداً في سياق التكوين الاجتماعي محل البحث. ولا يمكن فهمها من دون فهم وتحليل الميكنزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية الحاكمة لهذا التكوين من   ناحية، والتحولات التي تتعرض لها أبنيته، السياسية والاقتصادية والاجتماعية، من ناحية أخرى.

في ضوء ذلك نستطيع ـ مثلاً ـ رصد العلاقة بين الطرق أو الأساليب، التي تلجأ إليها الدولة في توزيع أو تخصيص الموارد أو الخدمات الموجودة داخل المجتمع ـ عبر القوانين والسياسات والاجراءات السياسية والاقتصادية التي تتخذها (وهو ما نطلق عليه نمط الفعل الاقتصادي/ السياسي للدولة)، وتأثير هذه الأساليب على نمط توزيع الثروة والدخل (والسلطة) داخل المجتمع وبالتالي تأثير ذلك على طريقة توالد الثروة/ الفقر في المجتمع، وماهية الجماعات المستفيدة (الأغنياء) والخاسرة (الفقراء) من جراء هذه السياسات وتلك القوانين. حيث لا يمكن الحديث عن الفقر بمعزل عن قضايا اللامساواة؛ وارتباط ذلك بالتوزيع غير المتكافئ للثروة والسلطة في المجتمع، وهذه الأخيرة تقع في القلب من قضايا الاقتصاد السياسي. كما يمكننا أيضاً من رصد الطرق (أو الاستراتيجيات) التي تلجأ إليها مختلف القوى الاجتماعية لتحقيق مصالحها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وتأثير ذلك على تغاير و/ أو استمرارية المشروع الاقتصادي/ السياسي والاجتماعي للدولة.

وإذا كانت فرضيتنا الأساسية تنهض على أن الفقر يجب أن يُفهم بوصفه نتاجاً لعمليات بنائية معقدة تقع في عمق الاقتصاد السياسي للدولة؛ فنحن بحاجة إذن إلى تفكيك "هذه العمليات البنائية المعقدة" التي تتسبب في ظاهرة الفقر. وتبدأ أولى مراحل التفكيك من النظر إلى ظاهرة الفقر ذاتها، وما يترتب عليها من تداعي القدرات البشرية ـ نتيجة للافتقار إليها أو العجز عن تكوينها ـ بوصفها تمثل عرضاً لعملية بنائية أوسع هي عملية الافقار impoverishment، وما يترتب عليها من تهميش marginalization  مطرد للأفراد وحرمانهم من المشاركة في أشكال النشاط الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والثقافي، نتيجة لاتساع دوائر الحرمان المادي والبشري التي يعانون منها، واستبعادهم من الوصول إلى الأوضاع الاجتماعية أو الموارد التي تمكنهم من التعبير عن أنفسهم (أو تحقيق مصالحهم) بطريقة مستقلة، داخل السياق السائد من القيم والمؤسسات (انظر، Castells ,1998: 9)  من ثمّ فإن عملية الإفقار، وما يترتب عليها من تهميش، تتجاوز ظاهرة الفقر ـ وإن كان الفقر أحد أهم أسبابها؛ ولا ترتبط بالافتقار إلى الموارد المادية والبشرية فقط، بل ترتبط بالافتقار إلى المعرفة والسلطة والنفوذ، والحقوق   السياسية، والاستبعاد من المشاركة في سوق العمل. وإذا كانت الغالبية العظمى من الفقراء تنطبق عليهم بعض أبعاد عملية التهميش؛ فإن استمرار حالة الفقر يفضي إلى دخولهم الكامل في دائرة التهميش (انظر، Jenson ,2000 :1-2). وذلك حسبما يتضح من المخطط التالي:   

ولاشك أن عملية الافقار، وما يترتب عليها من تهميش، فضلاً عما يحتويانه من أبعاد تظهر في هذا المخطط، تكتسب معناها ومحدداتها البنائية في سياق الفعل الاقتصادي/ السياسي للدولة وما يترتب عليه من نمط بعينه للتنمية. من ثم يمكننا ـ من ناحية أخرى ـ تفكيك العمليات البنائية المعقدة الكامنة في قلب الاقتصاد السياسي للدولة ـ والتي تفضي إلى إنتاج وإعادة إنتاج الافقار والتهميش من خلال التعرّف على طبيعة السياسات الاقتصادية والاجتماعية التي تنفذها الدولة في مجال تنظيم حياة مواطنيها. "فثمة اجماع على أن الفقر ليس في حقيقته إلا نتاجاً للسياسات الاجتماعية والاقتصادية التي تنفذها الدول لتنظيم حياة مواطنيها" (الجوهرى، 1999: 21).

بناء على ذلك وفي ضوء هدف الدراسة الحالية، الذي يتمثل في التعرف على طبيعة العلاقة بين عملية الافقار الذي يعدّ الفقر أهم مظاهرها ـ وما يترتب عليها من تهميش لجماعات بعينها داخل المجتمع، وطبيعة السياسات الاقتصادية والاجتماعية التي اتخذتها الدولة في مصر، وهو ما نسميه نمط الفعل الاقتصادي السياسي للدولة ـ ذلك الفعل الذي يحدد جوهر الاقتصاد السياسي للمجتمع ككل. وذلك خلال مرحلة مهمة من مراحل تطور التكوين الاجتماعي المصري (1975-2000). ننتقل (في النقطة ثانياً) إلى التعرف على مسار ظاهرة الفقر خلال مرحلة الدراسة؛ ثم نتعرف بعد ذلك (النقطة ثالثاً) على طبيعة الفعل الاقتصادي السياسي للدولة، ودور هذا الفعل في خلق آليات الافقار والتهميش في المجتمع المصري، وبالتالي في إنتاج وإعادة إنتاج ظاهرة الفقر، خلال مرحلة الدراسة. وذلك على النحو التالي: 

ثالثاً: الفقر في مصر، مسار الظاهرة:
لا نستطيع التعرف على مسار ظاهرة الفقر وتطور هذا المسار، من دون التعرف على الاتجاهات والمداخل السائدة في تقدير هذه الظاهرة خلال فترة الدراسة. وعلى الرغم مما يسم هذه المداخل من تعدد وتباين ـ يصل إلى حد التضارب والتناقض في كثير من الأحيان ـ فإنه بالإمكان تصنيفها إلى ثلاثة اتجاهات أساسية نعرضها على النحو التالي:

أ-مدخل تقدير نسبة الفقر والفقراء بناء على معيار الدخل/ الإنفاق (دخل خط الفقر أساساً).
ب-مدخل تقدير نسبة الفقر والفقراء بناء على معيار الفقر البشري.
جـ-مدخل تقدير نسبة الفقر والفقراء بناء على مدخل المشاركة. 

أ- مدخل الدخل/ الإنفاق
يُلاحظ الراصد لاتجاهات تقدير ظاهرة الفقر في مصر طغياناً واضحاً لهذا المدخل سواء في تحديد الفقر أو في تقدير نسبة الفقراء ويقدم لنا الجدول التالي مثالاً دالاً على ذلك.

ويوضح لنا هذا النموذج طبيعة التباينات الحادة المتبدية داخل هذا الاتجاه. وقد أشرنا في سياق سابق من هذه الدراسة إلى أوجه القصور التي تعتريه. حسبنا أن نؤكد هنا إلى أن هذه التباينات ترتد إلى التفاوتات في حساب خط الفقر وإلى الطابع الاعتباطي (التحكمي) في تحديد خط الفقر. الأمر الذي أفضى إلى تباينات صارخة، سواء في حساب خط الفقر أو في تحديد نسبة الفقراء في الريف والحضر. خذ على سبيل المثال تقدير نسبة الفقراء في الريف (90/1991) فهي تتراوح من 28.3% (تقدير الليثي وخير الدين، إلى 43% (تقدير كريمة كريم). والأمر نفسه ينطبق على تقدير نسبة الفقراء في الحضر؛ حيث تتراوح هذه النسبة من 35.9% إلى 49% (تقديرات كريمة كريم). وهذه التفاوتات ليست هينة "وتصل في بعض الحالات إلى حدود يستحيل التغاضي عنها او التهاون في أمرها" (حجازي، 1996: 90) حيث يصل التفاوت ـ مثلاً ـ بين أدنى تقدير وأعلى تقدير لنسبة الفقراء في الريف (91/1992) إلى حوالي 14.7%.  

ب- مدخل الفقر البشري
إذا كان قياس وتقدير نسبة الفقر والفقراء في مصر، بناء على مدخل الدخل يتسم بتعدد الاجتهادات وتنوّعها؛ فإن تقدير نسبة الفقر والفقراء بناء على مدخل الفقر البشري يُعاني، على العكس، من الندرة الشديدة. حيث لا يوجد ـ في حدود اطلاع الباحث ـ سوى محاولة واحدة قدمها تقرير التنمية البشرية (المصري) عام 1996. وتم ذلك من خلال ما أسماه التقرير مقياس "فقر القدرة" Capability poverty measure؛ وبناء على البيانات التي وفرها المسح الخاص بالأوضاع الديموجرافية والصحية في مصر تم قياس هذه القدرات من خلال:

ـ نسبة الأطفال دون سن الخامسة الذين يولدون ناقصي النمو.
ـ نسبة الولادات التي تتم بدون اشراف طبيب و/ أو ممرضة/ قابلة متمرسة.
ـ نسبة الإناث ست سنوات فأكثر اللائي لم يحصلن على تعليم.

وبناء على هذه الأبعاد الثلاثة تم التوصل إلى نتيجة أساسية تتمثل في أن "فقر القدرة" يفوق "فقر الدخل" في مصر. فبينما نجد أن حوالي 23% من مجموع السكان يُعانون من فقر الدخل؛ فإن أكثر من ثلث مجموع السكان (34%) يعانون من فقر  القدرة؛ أي يعانون من الحرمان البشري، كما توصل التقرير إلى نتيجة لافتة عند المقارنة بين فقر الدخل وفقر القدرة بين الريف والحضر. حيث وجد أن فقر القدرة في الريف يفوق فقر الدخل (43% لفقر القدرة، مقابل 23% لفقر الدخل). أما في الحضر فينخفض فقر القدرة عن فقر الدخل (21% لفقر القدرة، مقابل 23% لفقر الدخل). لذا يؤكد التقرير المصري للتنمية البشرية (1998/1999) أن الريف المصري، خاصة ريف الصعيد لازال يضم الجماعات الأكثر معاناة من الحرمان البشري (انظر Egyptian Human Development Report (EHDR) 1996: 3-4; EHDR,1998-1999: 11). 

جـ- تقدير نسبة الفقر والفقراء بناء على مدخل المشاركة.
أشرنا في موضع سابق من هذه الدراسة إلى أن مدخل المشاركة يعتمد على إشراك الناس، خصوصاً الفقراء، في تقييم أحوالهم. وأنه لا ينظر إلى الفقراء بوصفهم إخباريين، بل بوصفهم محللين يشتركون في صياغة التصورات الخاصة بفهم عملية الفقر. لكن هذا المدخل مكلف، ويحتاج إلى باحثين ذوي خبرة جيدة بأساليب البحث القائمة على المشاركة، كما يحتاج إلى تدريب الباحثين أنفسهم على التعامل مع هذه الأساليب.. الخ. وذلك حسبما يشير "العيسوى" في الدراسة التي أجراها في إطار التقرير المصري للتنمية البشرية، مستخدماً فيها هذا المدخل.

ونظراً للمتطلبات الصعبة لهذا الأسلوب لجأ الباحث إلى حلّ وسط تمثل في استخدام جزئي لأسلوب المشاركة، والذي أطلق عليه "مدخل المشاركة الجزئية في تحليل وتقييم الفقر Semi- participatory assessment". اتبع فيه الخطوات التالية:-

ـ إجراء استبيان على عينة من الأسر الفقيرة وغير الفقيرة (2100) أسرة وذلك في الربع الأخير من عام 1996.
ـ إجراء مقابلات معمقة على عينة محدودة من الفقراء (70 أسرة، في اواخر عام 1996)، بقصد الكشف عن تفاصيل حياتهم وسلوكياتهم في التعامل مع الفقر  ومفهومهم له وتصوراتهم لكيفية القضاء عليه. وكان من أهم نتائج البحث ما يلي:-

أ ـ تقييم الناس لأحوالهم المعيشية أعطى نسبة فقراء 16% على المستوى القومي، و13% على مستوى الحضر، 19% على مستوى الريف. وهذه النسب منخفضة حتى بالقياس إلى النسب المحسوبة باستخدام خط الفقر المنخفض (النسب التي تبناها تقرير التنمية البشرية المصري 1996).

ب ـ إجابات الأسر عن انطباق صفة الفقر عليها أعطت نسبة فقراء 24% على المستوى القومي، و 16% على مستوى الحضر، 31% على مستوى الريف. وهي نسب مرتفعة عن تلك التي تم الحصول عليها من تقييم الناس لمستوى معيشتهم.

جـ ـ إجابات الأسر عن إمكانية انطباق صفة من صفات الفقر على جيرانهم أعطت نسبة فقراء 43% على المستوى القومي (وهي قريبة من الـ 48% طبقاً لمقياس خط (الفقر) و 30% على مستوى الحضر، و 55 % على مستوى الريف (وهي قريبة من نسبة الـ 50% طبقاً لخط الفقر).

د ـ إجابات الناس عن إمكانية انطباق صفة الغنى أو اليسر (غني أو متوسط الحال) عليهم أدت إلى تقدير غير مباشر لنسبة الفقراء 36% على المستوى القومي (أي أقل من التقدير الحدسي المباشر المطبق على الجيران والبالغ 43%)، و23% على مستوى الحضر، و 48% على مستوى الريف. (انظر مزيد من النتائج، العيسوى، 1998: 10-16).

وعلى الرغم من أهمية مدخل المشاركة في التعرف على وجهة نظر الفقراء في تحديد الفقر، كخطوة تتبعها خطوات أساسية ـ هي الهدف أصلاً من اشراكهم ـ تتمثل في اشتراكهم في صياغة سياسات مناهضة للفقر وتطبيق هذه السياسات؛ وذلك حسبما أشرنا في موضع سابق من هذه الدراسة. لكن الإجراءات المتبعة في دراسة الدكتور "العيسوى"، والتي اعتمد عليها تقرير التنمية البشرية المصري (1996) في تحديد نسبة الفقر والفقراء بناء على مدخل المشاركة (انظر EHDR,1996,overview: 3)  تثير شكوكاً حول سلامة تطبيق هذا المدخل ـ حتى بالمعنى الجزئي (حول الإجراءات المنهجية الواجب اتباعها عند تطبيق هذا المدخل  انظر: Micgee,Rosemery and Andy Norton,2000). فما معنى المشاركة الجزئية، وما حدودها، هل اقتصرت على المقابلات المعمقة مع عينة محدودة من الفقراء، حسبما تؤكد الدراسة، وهي الخطوة التي تلت تطبيق الاستبيان؛ إذا كان الأمر كذلك ـ مع العلم أن الدراسة لم تشر إلى كيفية اختيار العينة، وهي مسألة جوهرية لسلامة تطبيق هذا المدخل ـ فإن المقابلات المعمقة طريقة متبعة في كل الدراسات الكيفية. اضف إلى ذلك أن استخدام الاستبيان يعني أن الباحث هو سيد الموقف، وأن المبحوثين يقومون فقط بالإجابة على أسئلة الاستبيان. كما يُفترض مسبقاً أن هؤلاء المبحوثين يعرفون القراءة والكتابة. وهذا معيار قد لا ينطبق على كل الفقراء.

على أية حال، لسنا هنا بصدد تقديم بديل لهذا المدخل، ولا لغيره من المداخل التي عرضنا لها، فليس هذا ضمن أهداف دراستنا الحالية. فقط أردنا أن نستكشف ملامح المشهد الخاص بتقدير نسب الفقر والفقراء في مصر، وما يتسم به هذا المشهد من تباين يصل إلى حد التناقض. وإذا كنا سنستعين بهذه الاجتهادات في التعرف على مسار ظاهرة الفقر في المجتمع المصري خلال فترة الدراسة فإن التباين الموجود بينها لن يزيد من صعوبة هذه المهمة فقط، بل سيؤدي كذلك إلى تعدد وتنوّع الأحكام أو الاجتهادات الخاصة بتوصيف المسار الذي سلكته الظاهرة، وطبيعة التطورات التي تعرضت لها. وهذا ما تؤكده الشواهد التالية:-

1 ـ ثمة اجتهاد ـ مدعماً بالبيانات الاحصائية ـ يؤكد أن ظاهرة الفقر قد اتسمت بالاطراد المستمر خلال الفترة 1974-1984.

وذلك حسبما يتضح من بيانات الجدول التالي: 

تقدير نسبة الأسر التي تقع تحت خط الفقر
1958/1959-1984

المنطقة

 1958/1959 

1964/1965 

1974/ 75

1981

1984

الريف

38.0

26.80

44.0

43.0

47.20

الحضر

30.0

27.80

34.5

44.0 

51.10

المستوى القومي  

-

-

-

43.70

49.10

المصدر: Farah,N.,1994: 145   

وتوضح هذه البيانات أن ظاهرة الفقر، بدلالة الأسر التي تقع تحت خط الفقر ـ قد انخفضت داخل الريف من 38% عام 58/1959 إلى 26.8% عام64/1965، لكنها ارتفعت بشكل درامي بعد ذلك؛ حيث بلغت حوالي 44% عام 74/1975، حتى وصلت إلى حوالي 47% خلال 1984. والأمر نفسه ينطبق على فقراء الحضر، حيث ارتفعت نسبة الأسر تحت خط الفقر من 27.8% خلال الفترة 64/1965، إلى 44% (1981)، ووصلت إلى 51% عام 1984.

2 ـ يؤكد العيسوى على أن نسبة الفقراء في الريف المصري قد هبطت من 43% في عام 1974/1975 إلى حوالي 30%، وربما أقل من ذلك في عام 1981/1982. ولكن عادت النسبة إلى الارتفاع إلى ما بين 42%، 46% في عام 1990/1991، أي إلى مستوى مقارب لما كان ملاحظاً في عام 1974/1975 أو أعلى منه قليلاً. كما انخفضت نسبة الفقر ـ في الحضر ـ من 33% في عام 1974/1975 إلى حوالي 30%، وربما أقل من ذلك عام 1981/1982، ثم عادت النسبة إلى   الارتفاع، بين 38% و 45% عام 1990/1991، أي إلى مستوى أعلى بشكل محسوس مما كان ملاحظاً في عام 1974/1975.(العيسوى، 1995: 20). ويمكن تفسير انخفاض معدل الفقر، خلال منتصف السبعينات إلى أوائل الثمانينات بارتفاع نسبة التحويلات المالية للعاملين بالخارج خلال تلك الفترة. حيث زادت هذه التحويلات إلى إجمالي الناتج المحلي من 4% عام 1975، إلى 13%، أي أنها نمت بمعدل أسرع من كل الكميات الكلية الهامة في الاقتصاد المصري تقريباً. (فرجاني، 1988: 217).

3 ـ حسب البيانات المستقاة من تقرير البنك الدولي (1998-1999: جدول 4، ص196)، فإن ما يقرب من 52% من السكان يعيشون على أقل من دولارين  يومياً، منهم 7.6% يعيشون على أقل من دولار يومياً (الفقراء فقراً مدقعاً).

4 ـ تشير بعض التقديرات إلى تزايد معدل الفقر من 29% من السكان عام 81/1982 إلى 35% عام 90/1991. وأن البيانات الخاصة بسنة 1995/1996 تشير إلى أن نفقات أدنى 60% من السكان تقترب من خط الفقر (world bank,2001 :56).

5 ـ ينبغي الإشارة هنا إلى الاجتهاد في تقدير نسبة الفقر والفقراء، ودلالة ذلك على تطور مسار الظاهرة خلال الفترة 90/1991 ـ 95/1996، وهو الاجتهاد الذي قدمه تقرير التنمية البشرية (المصري) 1996، وذلك حسبما يتضح من بيانات الجدول التالي:ـ 

وتُشير هذه التقديرات إلى انخفاض نسبة الفقراء في الريف من 28.6% (90/1991) إلى 23.3 % (95/1996) في مقابل ارتفاع طفيف لفقراء الحضر (من حوالي 20.3% (90/1991) إلى 22.5 (95/1996). ويشير الاتجاه العام إلى انخفاض نسبة الفقراء في مصر من حوالي 25% (90/1991) إلى حوالي 23% (95/1996).

6 ـ اعتماداً على البيانات الخاصة ببحث الدخل والإنفاق والاستهلاك لعام 95/1996 وجد أن نسبة الفقراء تصل إلى 43.5% من إجمالي سكان حضر الجمهورية وفي الريف تصل هذه النسبة إلى 46.9%، كما تصل نسبة الفقراء على مستوى الجمهورية إلى 45% (الليثي، 1998: 152).

7 ـ تشير التقديرات الخاصة بالفقر البشري إلى ارتفاع فقر القدرة بشكل لافت في الريف (43%) في مقابل 23% لفقر الدخل). أي أن الريف المصري لا زال يضم الجماعات الاجتماعية الأكثر حرماناً. وأن أكثر من ثلث سكان مصر يعانون من هذا الحرمان.

8 ـ تم جمع بيانات خاصة بمعدلات الفقر الموجودة في حوالي ثمانين بلداً، منها ست دول تقع في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا (MENA) هي الجزائر، الأردن، المغرب، تونس، الضفة الغربية وقطاع غزة (فلسطين المحتلة) اليمن، بالإضافة إلى مصر، وذلك عام 1996. ومن بين هذه الأقطار جميعها لا يوجد سوى اليمن، والضفة الغربية وقطاع غزة، يتفوقان على مصر من حيث ارتفاع معدل الفقر. ويجب النظر إلى حالة اليمن في ضوء معدل الدخل المتدني بالقياس إلى مصر (260 دولار في مقابل 1100 دولار)، كما يجب الربط بين الفقر والأحداث السياسية في الضفة الغربية وقطاع غزة. (World Bank ,2001: 64)

والنتيجة الأساسية التي تؤكدها الاجتهادات السابقة، برغم ما بينها من تباين، أن ظاهرة الفقر قد اتخذت مساراً متصاعداً في المجتمع المصري خلال الربع الأخير من القرن العشرين. لكن هذا المسار المتصاعد لا يفهم إلا في سياق الاضطراد المتزايد لآليات الافقار والتهميش الحاصلة في المجتمع المصري خلال تلك الفترة. وأن هذه الآليات ترتبط ارتباطاً وثيقاً بنمط الفعل السياسي/ الاقتصادي للدولة. وهذا ما نوضحه فيما يلي. 

رابعاً: الفقر ونمط الفعل الاقتصادي/ السياسي للدولة: آليات الافقار والتهميش
يقصد بنمط الفعل الاقتصادي السياسي للدولة في هذه الدراسة، الإجراءات الاقتصادية والاجتماعية التي اتخذتها الدولة خلال الفترة (1975-2000) وما ترتب على هذه السياسات من نمط بعينه للتنمية خلق سياقاً بنائياً أفضى إلى الزيادة المضطردة في عملية الافقار والتهميش؛ بدلالة المسار المتصاعد الذي اتخذته ظاهرة الفقر، حسبما أوضحنا في القسم السابق من هذه الدراسة. ولاشك أن الربط بين الفعل الاقتصادي السياسي للدولة وما واكبه من سياسات اقتصادية واجتماعية، شكلت الاستراتيجية التنموية للدولة خلال الربع الأخير من القرن العشرين يساعدنا على التفسير البنائي لتزايد عمليات الافقار والتهميش، كما يساعدنا كذلك على تفسير طبيعة النجاح (أو الاخفاق) الذي تحقق في مجال مكافحة الفقر. إذ أن نجاح (أو فشل) استراتيجيات مكافحة الفقر يتوقف على توافر الدعم السياسي اللازم لهذه الاستراتيجيات. "فالتوصل إلى صياغة استراتيجيات للتخفيف من الفقر أسهل بكثير من حشد الدعم السياسي لها. والسبب الأساسي لذلك يكمن في أن الفقراء أنفسهم يفتقرون إلى القوة والنفوذ السياسي، وأن السياسات التوزيعية المنحازة للفقراء غالباً ما تجد معارضة قوية من جانب الصفوات الصغيرة القابضة على زمام السلطة السياسية والاقتصادية (UNDP poverty report,1998:59).

وقد تشكلت ملامح الفعل السياسي الاقتصادي للدولة بانتقاله أساسية، تشكلت معالمها الأولى في منتصف السبعينات (1974)؛ عبر تبني الدولة لسياسة الانفتاح الاقتصادي وتشكلت معالمها الثانية عبر انتهاج سياسات الاصلاح الاقتصادي والتكيف منذ أوائل التسعينات.

في المرحلة الأولى كان النظام ـ الجديد آنذاك قد استوفى تفكيك أهم مقومات الاقتصاد السياسي للنظام السابق ـ النظام الناصري. وذلك من خلال تفكيك أهم ركيزتين أساسيتين استند عليهما هذا النظام وهما: الإدماجية ورأسمالية الدولة (Waterbury,1983:429). وكانت سياسة الانفتاح الاقتصادي بداية لتحول جوهري في السياسة الاقتصادية الاجتماعية. بدعوى تشجيع الاستثمار الخاص، المحلي  والأجنبي، وتجديد القدرة الإنتاجية للاقتصاد المصري وزيادة معدلات التراكم الرأسمالي. وفي سبيل ذلك اتخذ النظام العديد من القوانين والإجراءات التشريعية والتنفيذية التي سعت إلى دعم رأس المال الخاص، واطلاق المبادرات الفردية، وإطلاق العنان لرأس المال الخاص، وإلغاء القيود الواردة على ولوجه مجالات الاستثمار ذات الأهمية الاقتصادية الحيوية والأنشطة ذات الأهمية الاستراتيجية التي كان محروماً من الدخول فيها (مثل صناعة البترول والثروة المعدنية). ودعم مبدأ الملكية الفردية، حيث قامت الدولة بتعديل هيكل الملكية الفردية عن طريق رفع الحدود العليا لملكية الأراضي الصحراوية لمائتي فدان للفرد وثلاثمائة للأسرة، وفتح هذا الحد إلى خمسين ألف فدان للشركات. كما قامت بتحرير العلاقة بين المالك والمستأجر دون الأراضي الزراعية (بموجب القانون رقم 36 سنة 1992)؛ الذي أبطل العمل بالإجراءات التي أقرتها قوانين الإصلاح الزراعي العديدة  منذ عام 1952 ولسنا هنا بصدد العرض التفصيلي لهذه الاجراءات (انظر: حافظ، Abdel ـ khalek,1980  259-279,Hopkins and westrgaard,1998: 6-7; 48-47: 1993

فقط نريد أن نؤكد على حقيقة أساسية هي أن هذه السياسة قد فشلت في تحقيق أهدافها، سواء في زيادة مصادر التراكم الرأسمالي، أو في تشجيع الاستثمار الخاص. حيث تشير الدلائل إلى أن معظم الاستثمارات تمت في قطاع البنوك والسياحة والإسكان الفاخر؛ ولم تحظَ الأنشطة الإنتاجية، خاصة الصناعة والزراعة والثروة الحيوانية باهتمام يذكر في مجالات الاستثمار (Ttoth,J. 1998: 75). كما لم تؤدِ إلى رفع كفاءة الأداء الكلي للاقتصاد المصري ودعم قدراته الإنتاجية والتصديرية؛ بل إنها أدت إلى تعميق آليات تبعية الاقتصاد المصري للخارج، وفقدان الحدود الدنيا من شروط الاستقلال الاقتصادي (انظر بالتفصيل، العيسوى، 1989؛ غنيم، 1986، بوش، وسيمون بروملي، 1996). كما أدت على مستوى التمايز الاجتماعي ـ إلى تغيير مصفوفة العلاقات الطبقية داخل المجتمع، وخلق آليات جديدة للتمايز و/ أو الإفقار الاجتماعي. استفاد منها أصحاب رأس المال الخاص، في الداخل والخارج. وانقلبت أولويات العمل الاقتصادي وأهداف التنمية" وظهر تحالف جديد بين الرأسمالية المحلية ورأس المال الأجنبي والدولة، وتعمقت روابط التبعية.. واتسعت الفوارق في توزيع الدخل والثروات وتحكم أصحاب القدرات الشرائية الأكبر من الأغنياء الجدد في أولويات الإنتاج والتصدير. ومع تخلي الدولة عن كثير من مهامها السابقة في ضبط إيقاع الاقتصاد وتوجيه حركته فقدت الدولة القدرة على تعبئة المدخرات لأغراض التنمية وتورطت في طريق الاستدانة على نحو غير مسبوق، ووضعت مزيداً من العراقيل أمام فرص التنمية في المستقبل (العيسوى، 1989: 220).

وفي هذا السياق تشكلت معالم المرحلة الثانية من مراحل الفعل السياسي/ الاقتصادي للدولة حيث لم تجد الحكومة مهرباً ـ إزاء هذه الأزمة المستفحلة ـ من الاستجابة لشروط المؤسسات الدولية لإصلاح الاقتصاد المصري. وفي عام 1991 اعتمدت الحكومة برنامجاً للإصلاح الاقتصادي والتكيف الهيكلي. ولم يكن توقيع اتفاقية الإصلاح الاقتصادي في مايو 1991 بين الحكومة المصرية وصندوق النقد الدولي هي أولى محاولات إصلاح وإعادة هيكلة الاقتصاد المصري؛ ففي أواخر عام 1986 وضعت مصر برنامجاً يهدف إلى تحقيق معدل نمو يكفي لتصحيح القوى الاقتصادية، وفي عام 1987 توصلت مع نادي باريس إلى اتفاق لإعادة جدولة جزء من الدين الخارجي، إلا أن محاولات إصلاح الاقتصاد المصري كانت تتم في تخوف وحذر شديدين، خاصة بعد محاولات رفع أسعار بعض السلع والخدمات الأساسية التي تمت عام 1977، وما نجم عنها من أحداث واضطرابات شعبية في 17،18 يناير من العام نفسه (انظر اسكو؛ 1999: 47).

لكن أوائل التسعينات حملت مبررات تكفي لإجبار الحكومة على الموافقة على شروط المؤسسات الدولية. وكان من أهم هذه المبررات (انظر، اسكوا، 1999: 47-48).

ـ الخلل الناتج من عجز الموازنة العامة للدولة. والذي بلغ 31.59 % من الناتج المحلي، ثم ارتفع إلى 35.59% من الناتج المحلي الإجمالي عامي 1990،1991 على التوالي. وارتفاع معدل التضخم الذي وصل إلى 21.4% عام 1990، وإلى 20.7% عام 1991.
ـ اختلال هياكل القطاعات الاقتصادية والوحدات الإنتاجية مما أدى إلى زيادة العبء على الموازنة العامة للدولة. كذلك فإنه اعتماد الاقتصاد المصري على عائدات البترول، وتحويلات العاملين بالخارج، والسياحة وقناة السويس تمثل مصادر   (ريعية) يصعب الاعتماد عليها بشكل منفرد.
ـ ارتفاع معدلات البطالة حتى وصلت إلى 8.6% من حجم العمالة الكلي عام 1990/1991.  وثم ارتفعت إلى 14% في نهاية 1992.
ـ عدم القدرة على تمويل الاستثمارات الخاصة بإنشاء وإحياء البنية الأساسية، وإحجام القطاع الخاص عن المساهمة في المشروعات التنموية.

بناء على ذلك اتخذت الدولة العديد من السياسات الاقتصادية والاجتماعية التي تهدف إلى تخفيض النفقات وزيادة الإيرادات بوسائل متنوّعة، منها تخفيض الانفاق العام وبخاصة الدعم المقرر للسلع والخدمات الأساسية، بما في ذلك امتناع الدولة عن تقديم بعض الخدمات، واسترداد جزء من تكلفة الخدمة التي تقدمها، وتحرير الأسعار وتركها تعمل وفق آليات السوق وتكسير أية قيود مؤسسية أو قانونية مفروضة عليها، وتوفير الحوافز التي تصل إلى حد التدليل لقطاع الأعمال الخاص، المحلي والأجنبي، بما في ذلك نقل ملكية القطاع العام إلى قطاع الأعمال الخاص. ومنح التسهيلات الائتمانية والضرائبية لرأس المال الخاص وتحرير سعر الصرف وتخفيض قيمة العملة الوطنية (لمزيد من التفاصيل انظر، فرجاني، 1998: 51).

والسؤال المحوري الذي نطرحه هنا اتساقاً مع أهداف هذه الدراسة ـ هو إلى أي حد أفضى هذا الفعل، وما تزامن معه وترتب عليه من إجراءات إلى نمط بعينه للتنمية كان له تأثيراً فاعلاً في اتساع وتنامي الآليات التي أدت إلى تزايد عمليات الأفقار والتهميش في المجتمع المصري خلال الربع الأخير من القرن العشرين. سوف تكون الإجابة على هذا السؤال ذات شقين الشق الأول نعرض فيه لأهم الملامح العامة التي وسمت الأداء الكلي للنظام الاقتصادي المصري خلال الفترة (1975-2000) ثم نعرض، في الشق الثاني، أهم الآليات التي تشكلت، في سياق هذا الفعل، وأفضت إلى اتساع عمليات الافقار والتهميش. وذلك على النحو التالي. 

1- مؤشرات الأداء الكلي للنظام الاقتصادي المصري (1975-2000)
يمكن التعرف على أهم ملامح المؤشرات الدالة على طبيعة أداء النظام الاقتصادي المصري خلال عقد التسعينات من واقع بيانات الجدول التالي.

(-) تعني بيانات غير متوفرة (للباحث)
المصادر:

1-إسكوا، 1999: 50.
2-ILO,1998: 3 
3-Escwa,2001: 3,14,16 
4-world bank,2001: I  

واستناداً إلى المؤشرات الواردة بالجدول السابق يمكن استخلاص ما يلي:

أ ـ تذبذب معدلات نمو الناتج المحلي الإجمالي، واتجاهها العام نحو الانخفاض. حيث انخفضت من حوالي 6.2% خلال الفترة 1980-1985، إلى 4.0% عام 2001 ووصلت إلى أدنى انخفاض لها عام 1992 (1.9%) لكنها شهدت تحسناً نسبياً أوائل عام 1993 (وصل إلى 6%)، سرعان ما تعرض للانخفاض حتى وصل إلى 3.3% عام 2000. وقد اتسم النمو الاقتصادي المتحقق خلال التسعينات بسمتين أساسيتين:-

تتمثل الأولى: في أن هذا النمو كان محكوماً بالطلب المحلي على السلع والخدمات. لذا كان اسهام القطاع الخارجي في هذا النمو جد محدود، وصل إلى معدل سلبي أحياناً. على سبيل المثال كان الطلب الخارجي (على السلع والبضائع) يمثل 49% من حجم الطلب الكلي خلال النصف الأول من التسعينات، انخفض إلى 9 % خلال النصف الثاني من التسعينات. وانعكس ذلك على تناقص مساهمة الصادرات في نمو الناتج المحلي الإجمالي، حيث انخفض نصيبها من إجمالي الناتج المحلي من 28% عام 1991، إلى 16% عام 2000 (world bank,2001: 7)

وتتمثل السمة الثانية ـ التي حكمت النمو الاقتصادي خلال التسعينات في أنه تم بشكل غير متوازن uneven . وكان قطاع الخدمات من أكثر القطاعات تغيراً، حيث نمى بمعدل 5-6% خلال الفترة 1994-1998،ارتفع إلى 8.2% عام 1999. لكن مساهمته في الناتج المحلي الإجمالي لم تتجاوز 1.7% عام 2000، وهو أدنى انخفاض له منذ عام 1993، وكان قطاع البناء والتشييد من أكثر القطاعات نمواً، حيث تضاعف معدل نموه منذ عام 1995، إلا أنه شهد انخفاضاً حاداً عام 2000، وهو العام الذي شهد ركوداً واضحاً في قطاع البناء والتشييد، وصل إلى معدل   سلبي. أما قطاع الزراعة فقد شكل القطاع الأكثر ثباتاً ـ من حيث معدل النمو ـ خلال التسعينات، حيث ساهم بحوالي 0.5 من الناتج المحلي الإجمالي. وأخيراً كان قطاع التعدين، المعتمد على البترول بشكل أساسي، من أكثر القطاعات تقلباً خاصة خلال الفترة 1999-2000 (انظر world bank 2001: 11)

ب ـ انخفاض معدل التضخم إلى 2.5% عام 2000 بعد أن كان 9.7% عام 1992 (قفز إلى 15% عام 1993). لكن التقديرات تشير إلى أنه ارتفع إلى 3% عام 2000 وكانت الحكومة قد لجأت إلى تخفيض قيمة الجنيه المصري من 3.69 جنيهاً للدولار في نهاية ديسمبر 2000 إلى 4.14 جنيهاً مقابل الدولار وأدى ذلك إلى ارتفاع معدل التضخم رغم تباطؤ معدل النمو الاقتصادي (Escwa,2001: 15). لكن السياسات المالية التي طبقتها الحكومة عام 2000 لم تفلح في وقف التدهور الحاد في قيمة العملة الوطنية ـ وقوة العملة الوطنية من قوة الاقتصاد والعكس ـ حيث كسر الدولار حاجز الجنيهات الخمس أوائل عام 2002. وشهدت البلاد أزمة سيولة حادة منذ عام 2000. وارتفع معدل الاقتراض بين البنوك inter ـ bank rate  بشكل لافت من 9% في سبتمبر 1999 إلى 15% خلال يناير/ فبراير 2000. وفاقم من هذه الأزمة ـ أزمة السيولة ـ تأخر المدفوعات الحكومية التي قدرت رسمياً بحوالي 16.8 بليون جنيه، أي ما يوازي 5% من إجمالي الناتج المحلي (world bank,2001: 16) وانظر بالتفصيل، عبد الفضيل، 2001: 16- 19).

جـ ـ الاتجاه العام لتناقص معدل العجز في الميزانية، حيث تناقص هذا المعدل من 18% خلال الفترة 1980-1985 إلى 4.3% خلال عام 2001. لكن التقديرات تشير إلى تنامي معدل ارتفاع العجز في الميزانية بدءاً من عام 1999 ـ حيث ارتفع هذا العجز من 3.1% (1996) إلى 4.2% عام 1999، وقد شهدت السنتان الماليتان 1998/1999، 1999/2000 ارتفاعاً غير مسبوق في عجز الميزانية. ففي حين أن عجز الميزانية السنوي خلال التسعينات لم يتجاوز 3 مليار جنيه  مصري، زاد هذا العجز إلى 12.7 مليار جنيه في السنة المالية 1998/  1999، بعد أن كان هذا العجز قد بلغ 2.8 مليار جنيه في السنة المالية 97/1998، إلاّ أنه انخفض بشكل طفيف في السنة المالية 1999/2000، ليصل إلى 12 مليار جنيه مصري (Escwa,2001: 16)

تلك هي أهم الملامح التي وسمت الأداء الاقتصادي خلال عقد التسعينات، وهي ـ فيما يرى الباحث ـ من النتائج المترتبة على طبيعة الفعل الاقتصادي السياسي للدولة، وما أفضى إليه من نمط بعينه للتنمية. غير أن هذا الفعل وذاك النمط قد ساهما في تشكل سياق أفضى إلى اتساع الآليات التي أدت ـ وتؤدي ـ إلى تنامي عمليات الافقار والتهميش. وهذا ما سنوضحه فيما يلي.  

2- آليات الافقار والتهميش
سوف نركز على أهم ثلاثة آليات لعبت دوراً محورياً في خلق سياق بنائي أفضى إلى اتساع عمليات الافقار والتهميش في المجتمع المصري خلال الربع الأخير من القرن العشرين. وتتمثل هذه الآليات في:

أ- تزايد الفوارق في توزيع الدخل وارتفاع تكاليف المعيشة.
ب- تراجع معدلات الانفاق الاجتماعي وتناقص معدلات تكوين القدرات البشرية.
جـ- تنامي معدل العجز عن توظيف القدرات البشرية.
أ- تزايد الفوارق في توزيع الدخل وارتفاع تكاليف المعيشة.

على الرغم من أن التقديرات تشير إلى التحسن النسبي الذي طرأ على نصيب الفرد من الناتج القومي الإجمالي عام 1998، حيث بلغ 1290 دولار (تقرير التنمية البشرية، 2000: 204)، بعد أن كان 660 دولار عام 1993 (تقرير التنمية البشرية 1926: 170)؛ فإن الاتجاه العام لمعدل النمو السنوي لنصيب الفرد من هذا الناتج قد تناقص خلال فترة التسعينات، حيث هبط إلى 2.6% خلال الفترة 1990 ـ 1998؛ بعد أن كان 4.6% خلال الفترة 1975-1990 وذلك حسبما تشير بيانات الجدول التالي: 

المصدر:- مستخرج من تقرير التنمية البشرية، 2000، جدول 13، ص204. 

لكن الاعتماد على معيار نصيب الفرد من الناتج الإجمالي كمؤشر للدلالة على التحسن في مستوى المعيشة لا يصلح لمعرفة التباينات الحقيقية في مستوى معيشة الأفراد. فليس معنى أن نصيب الفرد من الناتج القومي الإجمالي بلغ 1290 دولار أن كل أفراد المجتمع يحصلون ـ بلا استثناء ـ على هذا الدخل. فهذا المؤشر لا يكشف عن كيفية توزيع الدخل ـ وهي القضية الأهم في التعرف على مدى التحسن الذي طرأ على مستوى معيشة الأفراد؛ ومدى استفادتهم من النمو الاقتصادي   المتحقق. "فقد يتشابه مجتمعان في متوسط نصيب الفرد من الناتج القومي الإجمالي، لكنهما يختلفان في توزيع هذا الدخل نتيجة ميل أحدهما إلى توزيع الدخل بشكل أكثر عدالة من  الآخر" (Fergeny,1998: 5).

وتكشف المؤشرات المرتبطة بتوزيع الدخل في عقد التسعينات أن الفعل الاقتصادي السياسي للدولة، وما ترتب عليه من سياسات اقتصادية واجتماعية، أفضى إلى ازدياد التفاوت في توزيع الدخل وميل هذا التوزيع لصالح الدخول الكبيرة. ويؤكد تقرير التنمية البشرية المصري (1995: 64) أن لدينا من الأسباب ما يحملنا إلى الاعتقاد بأن الفجوة بين الأغنياء والفقراء قد اتسعت.. ذلك أن تواضع معدلات النمو وارتفاع معدل البطالة وتناقص النفقات الحكومية، بالإضافة إلى إطلاق الآليات السعرية بدون نظام فعّال للتعويض ـ إن كل ذلك قد أثر بالسلب على الجماعات الفقيرة والضعيفة من السكان. وتلقى بيانات الجدول التالي الضوء على هذه القضية بشكل أوضح.

توزيع الدخل والاستهلاك في مصر

أدنى
10 %

أدنى
20 % 

ثاني
20 % 

ثالث
20 % 

رابع
20 % 

أعلى
20 % 

أعلى
10 %

3.9

8.7

12.5

16.3

21.4

41.1

26.7

المصدر: مستخرج من تقرير البنك الدولي (98/1999، جدول 5، ص198).

إن ما تحصل عليه أفقر 10% من السكان لا يتجاوز سبع ما تحصل عليه أغنى 10%. وما تحصل عليه أفقر 20% من السكان يقارب خمس ما تحصل عليه أغنى 20% من السكان. من ناحية أخرى أفضت السياسات الاقتصادية والاجتماعية ـ الدالة على طبيعة الفعل السياسي/ الاقتصادي للدولة إلى انخفاض الأجور الحقيقية، فضلاً عن تناقص نصيبها من إجمالي الناتج المحلي. وذلك حسبما توضح بيانات الجدول التالي: 

وتؤكد هذه البيانات أن الأجور الحقيقية اتجهت نحو الانخفاض ـ في كل القطاعات بلا استثناء، ويقدر بعض الباحثين أن نسبة هذا الانخفاض بلغت حوالي 20% في المناطق الحضرية،وحوالي 25% في المناطق الريفية(Fergany,1998: 8). ويعدّ التغير في الأجور الحقيقية مؤشراً دالاً على التغيرات في توزيع الدخل لقطاع عريض من السكان يمثل الأجر دخلهم الأساس، حيث بلغت نسبة العاملين بأجر حوالي 63.2% من إجمالي قوة العمل 15 سنة فأكثر، كما شكل العمل المأجور حوالي 71.1% من العمالة في الحضر، 42.9% من العمالة في الريف (EHDR,1997- 1998: N. 14). ولا شك أن عدم العدالة في توزيع الدخل، والانخفاض الحاد في الأجور الحقيقية، وارتفاع الأسعار بشكل يفوق بكثير مستوى الزيادة في الأجور؛ كل ذلك يمثل آليات لا تفضي إلى اتساع دائرة الافقار والتهميش لقطاعات عريضة من المجتمع، بل يفضي، في الوقت نفسه ـ على عدم قدرة الفقراء على الخروج من وهدة الفقر.

ب- تراجع الانفاق الاجتماعي وتناقص معدلات تكوين القدرات البشرية.
ثمة علاقة تبادلية بين تكوين القدرات البشرية والتنمية البشرية المستدامة. إذ لا يمكن حدوث هذه التنمية من دون توافر القدرات البشرية اللازمة. فالبشر هم أداة هذه التنمية وغايتها. كما أن مزيد من التنمية البشرية يفضي إلى توسيع الخيارات المتاحة أمام هؤلاء الأفراد لبناء قدراتهم الذاتية وتوظيف هذه القدرات. والعكس صحيح أيضاً؛ إذ يشكل الفقر عائقاً جوهرياً يحول دون تكوين هذه القدرات. وقد ساهم الفعل السياسي الاقتصادي للدولة، وما ترتب عليه من إجراءات اقتصادية واجتماعية في تراجع الانفاق الاجتماعي الذي كان يساهم في تكوين القدرات البشرية، بما كان يتيحه من دعم للخدمات الصحية والتعليمية بالنسبة لأولئك الذين لا يستطيعون دفع كلفة هذه الخدمات من الفقراء ومحدودي الدخل. وهي الفئات الأكثر تأثراً بانخفاض الأجور الحقيقية وارتفاع تكاليف المعيشة، حسبما أوضحنا في السطور السابقة.

وتوضح بيانات الجدول التالي تطوّر معدلات الانفاق الحكومي على التعليم والرعاية الصحية والضمان الاجتماعي.

وتؤشر هذه البيانات على تراجع الإنفاق الاجتماعي، خصوصاً في مجالي التعليم والرعاية الصحية؛ وهما من أهم المجالات الجوهرية لتكوين القدرات البشرية (فرجاني، 1998: 97) حيث انخفض معدل الانفاق على التعليم، كمسبة مئوية من الناتج المحلي الإجمالي من 5.7% عام 1980، إلى 4.8% عام 1996 (world bank  indicators,1999: 74) ومعلوم أن تراجع الانفاق على التعليم يؤثر بشكل أساسي على الفئات الفقيرة، نظراً لعدم قدرتها على دفع تكلفة هذه الخدمات، وبالتالي هم الأكثر عرضة للخروج من التعليم وباستخدام مقياس مركب لمعدل الالتحاق (في التعليم الابتدائي والإعدادي والثانوي) وُجِدَ أن معدل الالتحاق بلغ 80% لدى أغنياء الحضر، بينما لم يتعدَ 60% لدى الفقراء (EHDR 1998-1999: 12). مما يعني ارتفاع معدلات الانسحاب من التعليم بين الفقراء، ومن ثم ارتفاع معدلات الأمية بينهم بما لا يمكنهم من تكوين القدرات البشرية الخاصة بالمعرفة ـ حتى في حدودها الدنيا.

ومن المفارقات اللافتة في هذا الصدد أن تقرير التنمية المصري (1998-1999) تمحور حول موضوع التعليم من منظور التنمية البشرية. ويؤكد على أن المسارات الحالية والمستقبلية للتنمية البشرية في مصر تعتمد بشكل أساسي على النجاح في تطبيق إصلاح مستقبلي لنظام التعليم، وأن هذا الإصلاح لا غنى عنه لتعظيم امكانية الاستفادة من عمليات العولمة المتسارعة، وتجنّب، أو الحد من تأثيراتها السلبية على التنمية البشرية في مصر (EHDR,1998-1999:13). فكيف يتأتى ذلك في ظل معدل أمية بلغ حوالي 45% من السكان عام 1999؛ ووصل إلى 31% في الفئة العمرية  (15-24) (world bank,2001:65) ناهينا عن أن مرحلة العولمة تحتاج إلى تعليم، أو بالأحرى معرفة من نوع مختلف. فالأمية تعني ـ في عصر العولمة ـ عدم القدرة على التعامل مع التقنيات المعرفية الحديثة: الإنترنت والكمبيوتر. وبالمناسبة يبلغ معدل الحواسيب الشخصية في مصر (9) لكل ألف شخص من السكان خلال الفترة   (1996:1998)، كما يبلغ معدل استخدام الإنترنت (0.04) لكل ألف من السكان (1998) (تقدير التنمية البشرية 2000، ص200). 

جـ- تنامي معدل العجز عن توظيف القدرات البشرية
تعد التطورات التي يشهدها سوق العمل مؤشراً دالاً على مدى استفادة الأفراد من النمو الاقتصادي المتحقق، وكيفية هذه الاستفادة. فالاقتصاد القادر على خلق فرص عمل، ذات مردود مرتفع، يفضي إلى تحسن في نوعية حياة الأفراد (world bank,2001: 58). كما أن العمل هو المجال الأهم الذي يُمكِّن الإنسان من توظيف قدراته البشرية وتنميتها. وتكشف التطورات التي شهدها سوق العمل في مصر خلال الربع الأخير من القرن العشرين عن مؤشرات لا تصادق على قدرة الاقتصاد المصري في خلق فرص عمل ذات مردود مرتفع (وقد لاحظنا الاتجاه العام لتناقص معدل الأجور الحقيقية في موضع سابق من هذه الدراسة) أو في خلق سياق يسمح بتوظيف القدرات البشرية. ومن أهم المؤشرات الدالة على ذلك:-  

1- تناقص معدل فرص العمل المتحققة.
تُشير التقديرات المبدئية إلى أن عدد الباحثين الجدد عن عمل بلغ في مطلع عام (2001) حوالي (910.000) كان عدد الحاصلين منهم على شهادات متوسطة يبلغ (630.000)، بنسبة 69.2 %، وعدد خريجي الجامعات ومؤسسات التعليم العالي حوالي (160.000) بنسبة 17.6%، وعدد المتسربين من المدارس (120.000)، بنسبة 13.2 % (انظر، Escwa,2001: 11). ويمكننا، في ضوء البيانات المتاحة، التعرف على مؤشرات تطور سوق العمل، وذلك حسبما يتضح من بيانات الجدول التالي: 

 

العمالة حسب النشاط الاقتصادي (1998-1997) (1980-1997)
World Development indicators,1999. World bank,1999 p. 54

ويُلاحظ من البيانات التي يحتوي عليها هذا الجدول التناقض الواضح في فرص العمل المتحققة خلال الفترة (1980-1997). ففي قطاع الزراعة بلغت نسبة العاملين في قطاع الزراعة 29% من إجمالي الذكور في قوة العمل، نزولاً عن 43 % عام 1983 كما يُلاحظ أيضاً الزيادة المحدودة التي تحققت في قطاع الصناعة. بما يعني أن أهم قطاعات الإنتاج الأساسية ـ القادرة فعلاً على خلق فرص علم منتجة وذات مردود عالي، أي الزراعة والصناعة لم تحقق زيادة تذكر في فرص العمل.

ويُعدّ قطاع الخدمات هو الأكبر من حيث مساهمته في توفير فرص العمل. لكن مساهمة هذا القطاع قد انخفضت بشكل ملحوظ خلال الفترة الأخيرة. فبعد أن كان يساهم بحوالي61%من جملة فرص العمل المتحققة خلال الفترة 1994-1997؛ هبطت إلى حوالي 45% خلال الفترة 1998-1999. ويرتد هذا الانخفاض إلى تقليص دور القطاع الحكومي الذي كان يساهم في توفير ثلث فرص العمل الجديدة في منتصف التسعينات، لكنه لم يفلح في توفير سوى 14% خلال الفترة 1998-  1999. (world bank: 2001: 12). 

2- ارتفاع معدلات البطالة، خصوصاً بطالة المتعلمين:
يعد مؤشر البطالة خصوصاً السافرة منها ـ من اهم المؤشرات الدالة ليس فقط على العجز عن توظيف القدرات البشرية، بل على تدني الإنتاجية الاجتماعية وقصور الدخل عن العمل من الوفاء بالحاجات الأساسية؛ ومن ثم انخفاض مستوى الرفاه الكلي، أي الافقار (فرجاني، 1999: 2). وتوضح المؤشرات الخاصة بسوق العمل في مصر تنامي معدلات البطالة السافرة بين الذكور والإناث على حد سواء. ويمكن توضيح ذلك من واقع بيانات الجدول التالي:

وتؤكد البيانات الواردة بهذا الجدول المسار المتصاعد لمعدل البطالة خلال الفترة (1980-1997). حيث وصل معدل البطالة إلى 11.3% من إجمالي قوة العمل. بعد أن كان 5.2% عام 1980. كما أن معدلات البطالة ترتفع بصورة أكبر بين الإناث ـ مقارنة بالذكور. من ناحية أخرى تشير التقديرات إلى ارتفاع معدلات البطالة بين المتعلمين، حيث يعد قطاع الشباب المتعلم ذكوراً وإناثاً في الريف والحضر من الباحثين الجدد عن عمل للمرة الأولى، من أكثر القطاعات التي تعاني من البطالة، حيث يصل معدل البطالة داخل هذا القطاع إلى 15%، ترتفع إلى 25% بين النساء الحضريات  (من 15-35 سنة). ويوضح الجدول التالي معدلات البطالة بين المستويات التعليمية المختلفة. 

الحالة التعليمية والبطالة

      

تعداد عام
1996

بحث للحالة بالعينة
1999

 أمي
 يقرأ ويكتب
مؤهل أقل من متوسط
مؤهل متوسط
مؤهل فوق متوسط
مؤهل جامعي وأعلى الإجمالي

 4.0
2.5
2.6
72.0
 6.7
 12.2
100 %

0.6
1.3
1.6
69.6
8.6
18.3
100 %



المصدر: جريدة الأهرام، الجمعة 27 يوليو 2001، ص3. 

وتؤكد هذه البيانات ـ على ما بينها من تباين ـ الارتفاع الواضح لمعدلات البطالة بين المتعلمين بشكل عام. فقد بلغت نسبة البطالة بين ذوي المؤهلات المختلفة ـ من أصحاب المؤهلات دون المتوسطة إلى أصحاب المؤهلات الجامعية وفوق الجامعية حوالي 98.1 %، كما بلغ معدل البطالة بين أصحاب المؤهلات العليا حوالي 18.3 %.

      فكيف يمكن تحقيق الاستفادة من التعليم، وفق منظور التنمية البشرية، ومن ذا الذي سيقود عملية الاستفادة من عمليات العولمة المتسارعة أو الحد من تأثيراتها السلبية على التنمية البشرية في مصر، حسبما يؤكّد تقرير التنمية البشرية المصري  (EHDR,1998-1999: 13).

      وتوضح هذه المؤشرات، في مجملها، طبيعة الآليات البنائية التي ساهمت في اتساع عمليات الإفقار والتهميش. وكيف أن هذه الآليات تخلقت في سياق السياسات الاقتصادية والاجتماعية التي ترتبت على الفعل الاقتصادي السياسي للدولة، وما واكبه من نمط بعينه للتنمية.

      ولاشك أن استمرار هذه الآليات يؤدي إلى تنامي معدل الجماعات الاجتماعية التي تصبح عاجزة عن تكوين القدرات البشرية اللازمة ليس فقط لخروجها من دائرة الافقار والتهميش، بل اللازمة لبناء مجتمع القرن الحادي والعشرين. ذلك المجتمع الذي أصبح الاقتصاد فيه مبني على المعرفة Knowledge ـ based economy، وأضحت القدرات البشرية المفتاح الذي سيحدد شكل المجتمعات في المستقبل.  

قائمة المراجع 

أولاً المراجع العربية
1-أسكوا (1999)  اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا، تقييم برامج الخصخصة في منطقة الاسكوا. الأمم المتحدة
(El Escwa/ ED/ 1999) 3 Feb 1999,original: Arabic)
2-آل كوك، بتي (2000)  فهم الفقر، عرض د. على الدجوى، المكتبة الأكاديمية، القاهرة.
3-البنك الدولي (98/1999)  تقرير عن التنمية في العالم: المعرفة طريق التنمية، الطبعة العربية 98/1999، مركز الأهرام للترجمة والنشر، القاهرة.
4-الجوهرى، محمد (1999)  الدرس السوسيولوجي في الفقر، تأملات في الحالة المصرية، في: محمود الكردي (محرر) الفقر في مصر، الجذور والنتائج واستراتيجيات المواجهة، أعمال الندوة السنوية السادسة لقسم الاجتماع ـ كلية الآداب، جامعة القاهرة، مطبعة جامعة القاهرة.
5-العيسوى، إبراهيم (1998) الفقر والفقراء في مصر: الواقع والتشخيص والعلاج، بحوث اقتصادية عربية، العدد الثالث عشر.
6-العيسوى، إبراهيم (1995) التنمية البشرية في مصر: ملاحظات في ضوء التقرير المصري لسنة 1994، المجلة المصرية للتنمية، والتخطيط، المجلد الثالث، العدد الأول.
7-العيسوى، إبراهيم (1989) المسألة الاقتصادية في مصر وسياسات الإصلاح، دراسة نقدية في الأزمة الاقتصادية، مركز البحوث العربية، القاهرة.
8-العيسوى، إبراهيم (1989)  المسار الاقتصادي المصري وسياسات تصحيحه، في: رمزي زكي         (محرر) السياسات التصحيحية والتنمية في الوطن العربي، دار الرازي، بيروت، الطبعة الأولى.
9-الليثي، هبه (1998) الفقر في القاهرة: في، القاهرة في لحظة، تحول، تحرير مصطفى كامل السيد وآصف بيات، مركز دراسات وبحوث الدول النامية، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة.
10-بوش، راي وسيمون بروملي (1996)  الاقتصاد السياسي للإصلاح في مصر، كتاب المحروسة، القاهرة.
11-تقرير التنمية البشرية، 1996، برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (الطبعة  العربية).
12-تقرير التنمية البشرية، 1998، برنامج الأمم المتحدة الإنمائي. (الطبعة العربية).
13-تقرير التنمية البشرية، 2000، برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (الطبعة  العربية).
14-حافظ، سعد (1993)  آليات التحول الرأسمالي ومستقبل الرأسمالية في مصر، مجلة التنمية والتقدم الاجتماعي والاقتصادي، السنة السادسة عشرة، العدد 56.
15-حجازي، عزت (1996) الفقر في مصر، المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية، القاهرة.
16-دويدار، محمد (1978)  مبادئ الاقتصاد السياسي، دار الجامعات المصرية، الإسكندرية.
17-عبد الفضيل، محمود (2001) تفسير جديد لأزمة السيولة والركود، مجلة وجهات نظر، العدد الخامس والعشرون ـ السنة الثالثة، فبراير 2001.
18-غنيم، عادل (1986)  النموذج المصري لرأسمالية الدولة التابعة، دار المستقبل العربي.
19-فان درجاج، جاك (1996)  التنمية الاجتماعية أثناء التكيف الهيكلي، تناقض أم فرصة، في: طاهر كنعان (محرر) الآثار الاجتماعية للتصحيح الاقتصادي في الدول العربية. صندوق النقد العربي، الصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي أبوظبي، يناير (1996)
20-فرجاني، نادر (1999)  البطالة في مصر، الأبعاد والمواجهة، أوراق بحثية (12) المشكلة، القاهرة (through website: www. Almishkat.org)
21-فرجاني، نادر (1998) آثار إعادة الهيكلة الرأسمالية على البشر في البلدان العربية، مجلة التنمية والسياسات الاقتصادية، المعهد العربي للتخطيط، الكويت، العدد الأول.
22-فرجاني، نادر (1988)  سعياً وراء الرزق، دراسة ميدانية في هجرة المصريين للعمل في بعض الأقطار العربية، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، الطبعة الأولى.
 

ثانياً: المرجع الأجنبية:

1-Abdel ـ Khalek, Gouda (1980)  the open door policy in Egypt. Its contribution to in vestment and its equity implication " , in: Mlcolm H. Kerr and sayed yassin (eds.) rich and poor states in the Middle East, Egypt and the New Arab order, west view press.
2-Brock, karen (2000)  An introduction to participatory poverty assessments: introductory reader (july 2000) participation group at IDS     (instute of Development studies) university of sussex, Brighton, BN1 9 RE, UK. Through: www. Ids ac. uk/ ids/ particip/ research / ppa. Html.
3-Castells, Manual (1998)  In formation technology, Globalization and social Development, prepared for UNRISN conference in formation technologies and social development (Geneva, 22-24 June 1998) through: htlp: // www. Unrisd. Org/ infotech/ conferen / castlp. Htm.
 4-Egypt Human Development Report (EHDR) (1996):  through, http: www. Undp. Org. eg / publications / HDR / HDR ـ 96 / undr. 96. htm.
5-Egypt Human development Report 1998 ـ 1999,  Istitute of national planning, cairo, 2000, downlanded from web site: www. Undp. Org.
6-ESCWA, 2001  Economic and social commission for western Asia, " preliminary over view of economic developments in the ESCA region in 2001   (EI ESCWA / ED / 2001 / 1 & 3 dec. 2001, original: English).
7-Fergany, Nader, (1998)  the growth of poverty in Egypt, Al mishkat Research notes (12)
8-Farah, Nadia Ramsis (1994)  political regimes and social performance: the case of Egypt,
 in: Ayse oncu, caglar Keyder & saad Eddin Ibrahim (eds.) developmentalism and Beyond, the American university in Cairo press. 
9-Hopkins, Nicholas s. & Kirsten westergaard (1998)  Directions of change in Rural Egypt, American university in Cairo press.
10-Ilo, (1998)  Job creation and poverty Alleviation in Egypt: strategy and
programmes, A report prepared by the international labour office, through: http: // www. Ilo. Org/ public language / employment / start / papers/1998/ lecundp / index..
11-Jenson, Jana (2000)  Bachgrouder: thinking about marginalization: what, who
 and why ? Canadian policy research net works Inc. web   site: www. cprn.org.
12-Khan, Mahmood Hasan. (2000) Rural poverty in developing countries: issues and policies,
 international Monetary fund working peaper (Wp/00/78)
13-May, Julian, (2001) An Elusive consensus: definitions, measurement and Analysis of poverty, in: Alejandro Grinspun et als. (eds.) choices for the poor, lessons from national poverty strategies (UNDP) proo ـ poor policies) through: http: // www. Undp.org/dpa/ publications/ choies for poor / English H / index. Html.
14-Mcgee, Rosemary & Andy Norton (2000)  participation in poverty reduction strategies: Asynthesis of  experience with participatory approaches to policy design, Implementation and Monitoring. Institute of development studies, university of sussex, Brighton, UK.
15-Toth, Jems, (1998)  Beating plowshares into swords, in: Nicholas S. Hopkins &
Kirsten westergoord (eds.) Directions of change in Rural Egypt, American University in Cairo press.
16-United Nations, (1998)  Poverty Reduction strategies, A review, united Nations
publication.
17-UNDP (1998) United Nations Development programme, poverty Report.
18-UNDP (2000) Poverty Report.
19-Waterbury, John (1983) The Egypt of Nasser and sadat: the political Economy of two Regimes princefom univ. press.
20-World bank (2001)  Egypt: social and structural Review, report No
.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* آثرنا ترجمة كلمة exclusion  بـ " الاقصاء ": حيث القاصي والقاصية والقصيّ والقصِةُ  من الناس والمواقع: المتنحي البعيد. وأقصى الرجل يقصيه باعده (لسان العرب من خلال: / lexicons. Sakhr. Com/ htlml/2056520.html.  وذلك تميزاً لها عن كلمة Marginalization  التي تعبر - فيما يرى الباحث -من عملية أوسع من الإقصاء حسبما سيتضح في موضع قادم من هذه الدراسة.