أثر نصوص محمود درويش الجديدة تلك مثل أثر الفراشة الذي لا يرى ولكنه لايزول، فمن خلال هذا المزيج الساحر بين الشعر واليوميات يفتح الشاعر آفاقا جديدا للشعر والنثر معا.

أثر الفراشة: يوميات

محمود درويش

 

البنتُ/ الصرخة

على شاطئ البحر بنتٌ. وللبنت أَهلٌ

وللأهل بيتٌ. وللبيت نافذتان وباب...

وفي البحر بارجةٌ تتسلَّى

بصيدِ المُشاة على شاطئ البحر:

أربعةٌ، خمسةٌ، سبعةٌ

يسقطون على الرمل، والبنتُ تنجو قليلاً

لأن يداً من ضباب

يداً ما إلهيةً أسعفتها، فنادت: أَبي

يا أَبي! قُم لنرجع، فالبحر ليس لأمثالنا!

لم يُجِبْها أبوها المُسجَّى على ظلهِ

في مهب الغياب

دمٌ في النخيل، دمٌ في السحاب

يطير بها الصوتُ أعلى وأَبعد من

شاطئ البحر. تصرخ في ليل برّية،

لا صدى للصدى.

فتصير هي الصرخةَ الأبديةَ في خبرٍ

عاجلٍ، لم يعد خبراً عاجلاً

عندما

عادت الطائرات لتقصف بيتاً بنافذتين وباب!

ليتني حجر

لا أَحنُّ الى أيِّ شيءٍ

فلا أَمسِ يمضي، ولا الغَدُ يأتي

ولا حاضري يتقدمُ أو يتراجعُ

لا شيء يحدث لي!

ليتني حجرٌ – قلتُ – يا ليتني

حجرٌ ما ليصقُلَني الماءُ

أخضرُّ، أصفرُّ... أُوضَعُ في حُجْرةٍ

مثل منحوتةٍ، أو تمارينَ في النحت...

أو مادةً لانبثاق الضروريِّ

من عبث اللاضروريِّ...

يا ليتني حجرٌ

كي أَحنَّ الى أيِّ شيء!

مَكرُ المجاز

مجازاً أقول: انتصرتُ

مجازاً أقول: خسرتُ...

ويمتدُّ وادٍ سحيقٌ أمامي

وأَمتدُّ في ما تبقى من السنديانْ...

وثمَّة زيتونتان

تَلُمّانني من جهاتٍ ثلاثٍ

ويحملني طائرانْ

الى الجهة الخاليةْ

من الأوج والهاويةْ

لئلاَّ أقول: انتصرتُ

لئلاَّ أقول: خسرتُ الرهانْ!

لون أصفر

أزهارٌ صفراء توسِّع ضوء الغرفة. تنظر

إليّ أكثر مما أنظر اليها. هي أولى رسائل

الربيع. أهْدَتنِيها سيِّدةٌ لا تشغلها الحرب

عن قراءة ما تبقَّى لنا من طبيعة

متقشفة. أغبطها على التركيز الذي يحملها

الى ما هو أبعد من حياتنا المهلهلة...

أغبطها على تطريز الوقت بإبرة وخيط

أَصفر مقطوع من الشمس غير المحتلة.

أُحدِّق الى الأزهار الصفراء، وأُحسّ

بأنها تضيئني وتذيب عتمتي، فأخفّ

وأشفّ وأجاريها في تبادل الشفافية.

ويُغويني مجاز التأويل: الأصفر هو

لونُ الصوت المبحوح الذي تسمعه الحاسة

السادسة. صوت مُحايدُ النَّبرِ، صوت

عبّاد الشمس الذي لا يغيِّرُ دِينَه.

وإذا كان للغيرة ـ لونِهِ من فائدة،

فهي أن ننظر الى ما حولنا بفروسية

الخاسر، وأن نتعلم التركيز على تصحيح

أخطائنا في مسابقاتٍ شريفة!

ليت الفتى شجرة

ألشجرة أخت الشجرة، أو جارتها الطيّبة.

الكبيرة تحنو على الصغيرة، وتُمدُّها بما ينقصها

من ظلّ. والطويلة تحنو على القصيرة،

وترسل اليها طائراً يؤنسها في الليل. لا

شجرة تسطو على ثمرة شجرة أخرى، وإن

كانت عاقراً لا تسخر منها. ولم تقتل

شجرةٌ شجرةً ولم تقلِّد حَطّاباً. حين صارت

زورقاً تعلَّمت السباحة. وحين صارت

باباً واصلت المحافظة على الأسرار. وحين صارت

مقعداً لم تنسَ سماءها السابقة.

وحين صارت طاولة عَلَّمت الشاعر أن لا

يكون حطاباً. الشجرة مَغْفَرةٌ وسهَرٌ.

لا تنام ولا تحلم. لكنها تُؤتمنُ على أسرار

الحالمين، تقف على ساقها في الليل والنهار.

تقف احتراماً للعابرين وللسماء. الشجرة

صلاة واقفة. تبتهل الى فوق. وحين

تنحني قليلاً للعاصفة، تنحني بجلال راهبة

وتتطلع الى فوق... الى فوق. وقديماً قال

الشاعر: «ليت الفتى حجر». وليته قال:

ليت الفتى شجرة!

غريبان

يرنو الى أَعلى

فيبصر نجمةً

ترنو إليهْ!

يرنو الى الوادي

فيبصر قبرَهُ

يرنو إليهْ

يرنو الى امرأةٍ،

تعذِّبُهُ وتعجبُهُ

ولا ترنو اليه

يرنو الى مرآتِهِ

فيرى غريباً مثله

يرنو إليهْ!

ماذا... لماذا كلُّ هذا؟

يُسَلِّي نفسه، وهو يمشي وحيداً، بحديث

قصير مع نفسه. كلمات لا تعني شيئاً،

ولا تريد أن تعني شيئاً: «ماذا؟ لماذا

كل هذا؟» لم يقصد أن يتذمر أو

يسأل، أو يحكَّ اللفظة باللفظة لتقدح

إيقاعاً يساعده على المشي بخفَّةِ شاب.

لكن ذلك ما حدث. كلما كرَّر: ماذا...

لماذا كل هذا؟ أحسَّ بأنه في صحبة

صديق يعاونه على حمل الطريق. نظر

إليه المارة بلا مبالاة. لم يظن أحد أنه

مجنون. ظنّوه شاعراً حالماً هائماً يتلقّى

وحياً مفاجئاً من شيطان. أما هو، فلم

يَتَّهم نفسه بما يسيء اليها. ولا يدري

لماذا فكَّر بجنكيزخان. ربما لأنه رأى

حصاناً بلا سرج يسبح في الهواء، فوق

بناية مُهَدَّمة في بطن الوادي. واصل

المشي على إيقاع واحد: «ماذا... لماذا

كل هذا؟» وقبل أن يصل الى نهاية

الطريق الذي يسير عليه كل مساء، رأى

عجوزاً ينتحي شجرة أكاليبتوس، يسند

على جذعها عصاه، يفك أزرار سرواله

بيد مرتجفة، ويبوّل وهو يقول: ماذا...

لماذا كل هذا؟. لم تكتف الفتيات

الطالعات من الوادي بالضحك على العجوز،

بل رمينه بحبَّات فستق أخضر

!

ما أنا إلاّ هو

بعيداً، وراء خطاه

ذئابٌ تعضُّ شعاع القمرْ

بعيداً، أمام خطاه

نجوم تضيء أَعالي الشجرْ

وفي القرب منه

دمٌ نازفٌ من عروق الحجرْ

لذلك، يمشي ويمشي ويمشي

الى أن يذوب تماماً

ويشربه الظلّ عند نهاية هذا السفرْ

وما أنا إلاّ هُوَ

وما هو إلاّ أنا

في اختلاف الصّوَرْ!

يرى نفسه غائباً

أنا هنا منذ عشر سنوات. وفي هذا المساء،

أجلس في الحديقة الصغيرة على كرسيّ من

البلاستيك، وأنظر الى المكان منتشياً بالحجر

الأحمر. أَعُدُّ الدرجات المؤدية الى غرفتي

على الطابق الثاني. إحدى عشرة درجة. الى

اليمين شجرةُ تين كبيرة تُظَلِّل شجيرات خوخ.

والى اليسار كنيسةٌ لوثريَّة. وعلى جانب

الدرج الحجري بئر مهجورة ودلو صدئ وأزهار

غير مرويَّة تمتصّ حبيبات من حليب أوَّل الليل.

أنا هنا، مع أربعين شخصاً، لمشاهدة مسرحية قليلة

الكلام عن منع التجوُّل، ينتشر أبطالها

المنسيّون في الحديقة وعلى الدرج والشرفة

الواسعة. مسرحية مرتجلة، أو قيد التأليف،

كحياتنا. أسترق النظر الى نافذة غرفتي

المفتوحة وأتساءل: هل أنا هناك؟

ويعجبني أن أدحرج السؤال على الدرج،

وأدرجه في سليقة المسرحية: في الفصل

الأخير، سيبقى كل شيء على حاله

شجرةُ التين في الحديقة. الكنيسةُ اللوثرية

في الجهة المقابلة. يوم الأحد في مكانه

من الرُزنامة. والبئر المهجورة والدلو الصدئ.

أما أنا، فلن أكون في غرفتي ولا في

الحديقة. هكذا يقتضي النص: لا بد من

غائب للتخفيف من حمولة المكان!

قال: أَنا خائف

خافَ. وقال بصوت عالٍ: أنا خائف.

كانت النوافذ مُحْكَمَةَ الإغلاق، فارتفع

الصدى واتّسع: أنا خائف. صمتَ،

لكن الجدران ردَّدت: أنا خائف.

الباب والمقاعد والمناضد والستائر

والبُسُط والكتب والشموع والأقلام واللوحات

قالت كُلُّها: أنا خائف. خاف صوت

الخوف فصرخ: كفى! لكن الصدى لم

يردِّد: كفى! خاف المكوث في البيت

فخرج الى الشارع. رأى شجرة حَوْرٍ،

مكسورة فخاف النظر اليها لسبب لا

يعرفه. مرت سيارة عسكرية مسرعة،

فخاف المشي على الشارع. وخاف

العودة الى البيت لكنه عاد مضطراً.

خاف أن يكون قد نسي المفتاح في

الداخل، وحين وجده في جيبه اطمأنّ.

خاف أن يكون تيار الكهرباء قد انقطع.

ضغط على زر الكهرباء في ممر الدرج،

فأضاء، فاطمأنّ. خاف أن يتزحلق على

الدرج فينكسر حوضه، ولم يحدث ذلك

فاطمأنّ. وضع المفتاح في قفل

الباب وخاف ألا ينفتح، لكنه انفتح

فاطمأن. دخل الى البيت، وخاف أن

يكون قد نسي نفسه على المقعد خائفاً.

وحين تأكد أنه هو من دخل لا سواه،

وقف أمام المرآة، وحين تعرَّف الى

وجهه في المرآة اطمأنّ. أِصغى الى

الصمت، فلم يسمع شيئاً يقول: أنا

خائف، فاطمأنّ. ولسببٍ ما غامض.

لم يعد خائفاً!

شخص يطارد نفسه

كما لو كنتَ غيرك سادراً،

لم تنتظر أحداً

مشيتَ على الرصيف

مشيتُ خلفك حائراً

لو كنتَ أنت أنا لقلتُ لكَ:

انتظرني عند قارعة الغروب

ولم تقل: لو كنتَ أنتَ أنا

لما احتاج الغريب الى الغريب.

ألشمس تضحك للتلال. ونحن نضحك

للنساء العابرات. ولم تقل إحدى النساء:

هناك شخص ما يُكَلِّم نفسه...

لم تنتظر أحداً

مشيتَ على رصيفك سادراً

ومشيتُ خلفك حائراً.

والشمسُ غابت خلفنا...

ودَنوْتَ مني خطوةً أو خطوتين

فلم تجدني واقفاً أو ماشياً

ودَنوتُ منك فلم أجدك...

أكنتُ وحدي دون أن أدري

بأني كنت وحدي؟ لم تقل

إحدى النساء: هناك شخصٌ ما

يطارد نفسَهُ!

لم أحلم

متنبّهاً الى ما يتساقط من أَحلامي، أَمنع

عطشي من الإسراف في طلب الماء من

السراب. أَعترفُ بأني تعبت من طول

الحلم الذي يعيدني إلى أوَّله وإلى آخري،

دون أن نلتقي في أيِّ صباح. «سأصنع

أحلامي من كفاف يومي لأتجنَّب الخيبة».

فليس الحلم أن ترى ما لا يُرى، على

وتيرة المُشتَهى، بل هو أن لا تعلم أنك

تحلم. لكن، عليك أن تعرف كيف تصحو.

فاليقظة هي نهوض الواقعي من الخياليّ مُنَقَّحاً،

وعودةُ الشِعر سالماً من سماءِ لُغةٍ متعالية

الى أرض لا تشبه صورتها. هل في

وسعي أن أختار أحلامي، لئلا أحلم

بما لا يتحقّق، كأن أكون شخصاً آخر...

يحلم بأنه يرى الفرق بين حيّ يرى

نفسه ميتاً، وبين ميت يرى نفسه حيّاً؟

ها أَنذا حيّ، وحين لا أحلم أَقول:

لم أحلم، فلم أَخسر شيئاً؟!

خيالي... كلب صيد وفيّ

على الطريق إلى لا هدف، يُبَلِّلني رذاذ

ناعم، سقطتْ عليَّ من الغيم تُفَّاحةٌ لا

تشبه تفاحة نيوتن. مددتُ يدي لألتقطها

فلم تجدها يدي ولم تَرَها عيناي. حدَّقتُ

إلى الغيوم، فرأيتُ نُتَفاً من القطن تسوقها

الريح شمالاً، بعيداً عن خزانات الماء

الرابضة على سطوح البنايات. وتدفَّق الضوءُ

الصافي على إسفلت يَتَّسع ويضحك من قلَّة

المشاة والسيارات ... وربما من خطواتي

الزائغة. تساءلتُ: أَين التفاحة التي

سقطت عليَّ؟ لعلَّ خيالي الذي استقلَّ

عني هو الذي اختطفها وهرب. قلت:

أَتبعه الى البيت الذي نسكنه معاً في

غرفتين متجاورتين. هناك، وجدت على

الطاولة ورقة كُتِبَ عليها، بحبر أَخضر،

سطر واحد: «تفاحة سقطت عليَّ من

الغيوم»، فعلمت أَن خيالي كلب صيد

وفيّ!

على قلبي مشيت

على قلبي مشيتُ، كأنَّ قلبي

طريقٌ، أو رصيفٌ، أو هواءُ

فقال القلبُ: أتعبَنِي التماهي

مع الأشياء، وانكسر الفضاءُ

وأَتعبني سؤالُكَ: أين نمضي

ولا أرضٌ هنا ... ولا سماءُ

وأنتَ تطيعني ... مُرني بشيء

وصوِّبني لأفعل ما تشاءُ

فقلتُ له: نسيتُكَ مذ مشينا

وأَنت تَعِلَّتي، وأنا النداءُ

تمرَّدْ ما استطعت عليَّ، واركُضْ

فليس وراءنا إلاَّ الوراءُ!

اغتيال

يغتالني النُقَّاد أَحياناً:

يريدون القصيدةَ ذاتَها

والاستعارة ذاتها...

فإذا مَشَيتُ على طريقٍ جانبيّ شارداً

قالوا: لقد خان الطريقَ

وإن عثرتُ على بلاغة عُشبَةٍ

قالوا: تخلَّى عن عناد السنديان

وإن رأيتُ الورد أصفرَ في الربيع

تساءلوا: أَين الدمُ الوطنيُّ في أوراقهِ؟

وإذا كتبتُ: هي الفراشةُ أُختيَ الصغرى

على باب الحديقةِ

حرَّكوا المعنى بملعقة الحساء

وإن هَمَستُ: الأمُّ أمٌّ، حين تثكل طفلها

تذوي وتيبس كالعصا

قالوا: تزغرد في جنازته وترقُصُ

فالجنازة عُرْسُهُ...

وإذا نظرتُ الى السماء لكي أَرى

ما لا يُرَى

قالوا: تَعَالى الشعرُ عن أَغراضه...

يغتالني النُقّادُ أَحياناً

وأَنجو من قراءتهم،

وأشكرهم على سوء التفاهم

ثم أَبحثُ عن قصيدتيَ الجديدةْ!

شال حرير

شال على غصن شجرة. مرَّت فتاةٌ من هنا،

أو مرّت ريح بدلاً منها، وعلَّقت شالها على

الشجرة. ليس هذا خبراً. بل هو مطلع

قصيدة لشاعر متمهِّل أَعفاه الحُبُّ من الأَلم،

فصار ينظر اليه ـ عن بعد ـ كمشهد

طبيعةٍ جميل. وضع نفسه في المشهد:

الصفصافة عالية، والشال من حرير. وهذا

يعني أن الفتاة كانت تلتقي فتاها في

الصيف، ويجلسان على عشب ناشف. وهذا

يعني أيضاً أنهما كانا يستدرجان العصافير

إلى عرس سري، فالأفق الواسع أمامهما،

على هذه التلة، يغري بالطيران، ربما قال

لها: أَحنُّ اليك، وأَنتِ معي، كما لو

كنتِ بعيدة. وربما قالت له: أَحضنكَ،

وأَنت بعيد، كما لو كنتَ نهديَّ. وربما

قال لها: نظرتك إليَّ تذوِّبني، فأصير

موسيقى. وربما قالت له: ويدك على

ركبتي تجعل الوقت يَعرَق، فافْرُكْني لأذوب...

واسترسل الشاعر في تفسير شال الحرير،

دون أن ينتبه الى أن الشال كان غيمة

تعبر، مصادفة، بين أغصان الشجر عند

الغروب.

الحياة... حتى آخر قطرة

وإن قيل لي ثانيةً: ستموت اليوم،

فماذا تفعل؟ لن أَحتاج الى مهلة للرد:

إذا غلبني الوَسَنُ نمتُ. وإذا كنتُ

ظمآنَ شربتُ. وإذا كنتُ أكتب، فقد

يعجبني ما أكتب وأتجاهل السؤال. وإذا

كنت أتناول طعام الغداء، أضفتُ إلى

شريحة اللحم المشويّة قليلاً من الخردل

والفلفل. وإذا كنتُ أُحلق، فقد أجرح

شحمة أذني. وإذا كنتُ أقبِّل صديقتي،

التهمتُ شفتيها كحبة تين. وإذا كنت

أقرأ قفزت عن بعض الصفحات. وإذا

كنتُ أقشِّر البصل ذرفتُ بعض الدموع.

وإذا كنتُ أمشي واصلتُ المشي بإيقاع

أبطأ. وإذا كنتُ موجوداً، كما أنا الآن،

فلن أفكِّر بالعدم. وإذا لم أكن موجوداً،

فلن يعنيني الأمر. وإذا كنتُ أستمع الى

موسيقى موزارت، اقتربتُ من حيِّز

الملائكة. وإذا كنتُ نائماً بقيتُ نائماً

وحالماً وهائماً بالغاردينيا. وإذا كنتُ

أضحك اختصرتُ ضحكتي الى النصف احتراماً

للخبر. فماذا بوسعي أن أفعل؟ ماذا

بوسعي أن أفعل غير ذلك، حتى لو

كنتُ أشجع من أحمق، وأقوى من

هرقل؟

أَثر الفراشة

أَثر الفراشة لا يُرَى

أَثر الفراشة لا يزولُ

هو جاذبيّةُ غامضٍ

يستدرج المعنى، ويرحلُ

حين يتَّضحُ السبيلُ

هو خفَّةُ الأبديِّ في اليوميّ

أشواقٌ إلى أَعلى

وإشراقٌ جميلُ

هو شامَةٌ في الضوء تومئ

حين يرشدنا الى الكلماتِ

باطننا الدليلُ

هو مثل أُغنية تحاولُ

أن تقول، وتكتفي

بالاقتباس من الظلالِ

ولا تقولُ...

أَثرُ الفراشة لا يُرَى

أُثرُ الفراشة لا يزولُ!

أَنت، منذ الآن، أَنت

الكرملُ في مكانه السيِّد ... ينظر من علٍ إلى

البحر. والبحر يتنهَّد، موجةً موجةً، كامرأةٍ

عاشقةٍ تغسل قَدَميْ حبيبها المتكبِّر!

*

كأني لم أذهب بعيداً. كأني عُدتُ من

زيارة قصيرة لوداع صديقٍ مسافر، لأجد

نفسي جالسة في انتظاري على مقعد حجري

تحت شجرة تُفَّاح.

*

كل ما كان منفى يعتذر، نيابةً عني،

لكُلّ ما لم يكن منفى!

*

ألآن، الآن ... وراء كواليس المسرح،

يأتي المخاض الى عذراء في الثلاثين،

وتلدني على مرأى من مهندسي الديكور،

والمصوِّرين!

*

جرت مياه كثيرة في الوديان والأنهار.

ونبتت أعشاب كثيرة على الجدران. أَمَّا

النسيان فقد هاجر مع الطيور المهاجرة...

شمالاً شمالاً.

*

ألزمن والتاريخ يتحالفان حيناً، ويتخاصمان

حيناً على الحدود بينهما. الصفصافةُ العاليةُ

لا تأبه ولا تكترث. فهي واقفة على

قارعة الطريق.

*

أَمشي خفيفاً لئلاَّ أكسر هشاشتي. وأَمشي

ثقيلاً لئلاَّ أَطير. وفي الحالين تحميني

الأرض من التلاشي في ما ليس من صفاتها!

*

في أَعماقي موسيقى خفيَّة، أَخشى عليها

من العزف المنفرد.

*

ارتكبتُ من الأخطاء ما يدفعني، لإصلاحها،

إلى العمل الإضافيّ في مُسَوَّدة الإيمان

بالمستقبل. من لم يخطئ في الماضي لا

يحتاج الى هذا الإيمان.

*

جبل وبحر وفضاء. أطير وأسبح، كأني

طائرٌ جوّ – مائي. كأني شاعر!

*

كُلُّ نثر هنا شعر أوليّ محروم من صَنعَة الماهر.

وكُلُّ شعر، هنا، نثر في متناول المارة.

بكُلِّ ما أُوتيتُ من فرح، أُخفي دمعتي

عن أوتار العود المتربِّص بحشرجتي، والمُتَلصِّص

على شهوات الفتيات.

*

ألخاص عام. والعام خاص... حتى إشعار

آخر، بعيد عن الحاضر وعن قصد القصيدة!

*

حيفا! يحقّ للغرباء أن يحبُّوكِ، وأن ينافسوني

على ما فيك، وأن ينسوا بلادهم في

نواحيك، من فرط ما أنت حمامة تبني عُشَّها

على أنف غزال!

*

أنا هنا. وما عدا ذلك شائعة ونميمة!

*

يا للزمن! طبيب العاطفيين ... كيف يُحوِّل

الجرح ندبة، ويحوِّل الندبة حبَّة سمسم.

أنظر الى الوراء، فأراني أركض تحت المطر. هنا،

وهنا، وهنا. هل كنتُ سعيداً دون أن أدري؟

*

هي المسافة: تمرين البصر على أعمال البصيرة،

وصقلُ الحديد بنايٍ بعيد.

*

جمال الطبيعة يهذِّب الطبائع، ما عدا طبائع مَنْ

لم يكن جزءاً منها. الكرمل سلام. والبندقية نشاز.

*

على غير هُدىً أمشي. لا أبحث عن شيء. لا

أبحث حتى عن نفسي في كل هذا الضوء.

*

حيفا في الليل... انصراف الحواس الى أشغالها

السرية، بمنأى عن أصحابها الساهرين على الشرفات.

*

يا للبداهة! قاهرة المعدن والبرهان!

*

أُداري نُقَّادي، وأُداوي جراح حُسَّادي على

حبِّ بلادي... بزِحافٍ خفيف، وباستعارة

حمَّالةِ أِوجُه!

*

لم أَرَ جنرالاً لأسأله: في أيّ عامٍ قَتَلتَنِي؟

لكني رأيتُ جنوداً يكرعون البيرة على الأرصفة.

وينتظرون انتهاء الحرب القادمة، ليذهبوا الى

الجامعة لدراسة الشعر العربي الذي كتبه موتى

لم يموتوا. وأَنا واحد منهم!

*

خُيِّل لي أن خُطَايَ السابقة على الكرمل هي

التي تقودني الى «حديقة الأم»، وأَن

التكرار رجع الصدى في أُغنية عاطفية لم تكتمل،

من فرط ما هي عطشى الى نقصان متجدِّد!

*

لا ضباب. صنوبرة على الكرمل تناجي أَرزة

على جبل لبنان: مساء الخير يا أُختي!

*

أعبُرُ من شارع واسع إلى جدار سجني

القديم، وأقول: سلاماً يا مُعلِّمي الأول في

فقه الحرية. كُنتَ على حق: فلم يكن الشعر

بريئاً!

هذه النصوص التي يدعوها الشاعر يوميات تصدر في كتاب عنوانه «أثر الفراشة» عن «دار رياض الريس» في بيروت هذا الشهر.