تكشف الكاتبة الفلسطينية المرموقة في هذه القصة عن تعقد العلاقة بين اختين يربطهما الحب والمصير المشترك برغم التوتر البادي بينهما. ويتحول إصرار الصغرى على ألا تفتح الباب لإختها إلى رفض لفتح الباب الذي سيدلف منه الواقع القاسي، بما ينطوي عليه من تيبس وعنوسة

لن تفتح الباب

حزامة حبايب

ـ لا تكوني سخيفة! افتحي الباب!

ـ ...

ـ قلت لكِ افتحي الباب!

ـ لن أفتحه! تستطيعين أن تكسريه إذا شئت ولكن لن أفتحه!

ـ ستفتحينه بنفسكِ من دون حاجة إلى كسره.

ـ لن أفتحه.. ألا تفهمين؟! لن أفتحه!

ـ سنرى.

ـ لن تفتح الباب .. لن تفتح الباب .. لن تفتح الباب .. ستثبت لها أنها قوّية .. ستموت لتجعلها تعرف أنها أقوى ممّا كانت تظنّ، وستجعلها تندم لأنها في يوم آلمتها .. آلمتها كثيراً!

جلست على حافة البانيو. تثاءب خيال جسدها بميوعة على البلاط .. مَدّت يدها تتحسّس الأرضية، فانزلق خيالها الرّاعش من بين أصابعها. ما الفرق بينها وبين خيالها؟! لِمَ لا تكون هي الخيال والخيال هو هي؟! ألا تنزلق هي من كل شيء تماماً كما ينزلق خيالها السّابح فوق الأرضية اللاّمعة من بين أصابعها؟! تنزلق في سمّاعة التلفون .. تنزلق من عقب الباب .. تنزلق في حذاء .. حتى صورتها لا تثبت على وجه المرآة إذ تنزلق لتستقرّ في قعر لا مرئي! أفكارها تنزلق من عقلها .. أحاسيسها تنزلق من قلبها .. وحتى جسدها تنزلق أطرافه من ثنيات ثوبها كالخيال .. تنزلق من وجودها يومياً كالخيال .. تتزحلق معالمها كالخيال .. تتراقص خطوطها كالخيال. إنها خيال لا أكثر ولا أقل! خيال ذو بُعد واحد مهزوز لا يتجاوز الحائط وبضع بلاطات.

أتعيّرها بانزلاق السنين من جسدها؟ أتعدّ عليها أميال الزمن المقطوعة على ذقنها؟ لِمَ لا تنظر هي إلى نفسها؟ لقد سبقتها وذابت في الكأس قبلها. إنها تكبرها بثماني سنوات، إذ تجاوزت الأربعين، بينما هي في أوائل الثلاثينات لا تزال خلايا بشرتها رطبة. لم تيبَس بعد. رحم اللّه والدتها .. كانت دوماً تقول إن عودها طري .. حقاً إنه طري!

تجردتْ من ملابسها تماماً .. نظرتْ في المرآة المعلّقة فوق المغسلة، ولكنها لم تَـرَ سوى النصف العلوي من جسدها. صعدتْ فوق المرحاض البيضاوي الذي يقع على نفس الخط مقابل المغسلة. أضحى الجزء السفلي واضحاً، لكنّ نصفها العلوي اختفى! فالمرآة صغيرة، ولا تسع جسدها مكتملاً.. متّصلاً. كان بطنها ضامراً، وإن كان مُترهِّلاً بعض الشيء، وبَدَا نتوء ركبتيها الواضح بشعاً ومخيفاً. أما فخذاها فكانا مستهلكين، قرصتْ أحدهما فلم يتغيَّر لونه.. ضربته لكنه لم يترجرج أو يحتك بالآخر .. لم يلهث .. لم ترتفع درجة حرارته. لقد اهترأت كتل الشحم كلّها ما عدا غطاء لحمي رقيق انحشر في زوايا الهيكل العفن. كانت تقف على حواف المرحاض الضيقة .. خشيتْ أن تنزلق داخل فتحته الواسعة .. تُرى كيف سيكون شكها عندئذ؟! شدّت حبل السِّيفون إلى أسفل .. تَدَافَع الماء من كل صوب على هيئة شلاّلات متقاطعة تجمّعت في دوّامة قوية .. سريعة .. ما لبثت أن اجترعتها الفتحة. أتراها لو وقعت سيصرخ جسدها مثل شلاّلات الماء؟! تتقلّب إلى أعلى وإلى أسفل .. إلى اليمين وإلى اليسار .. تلتف حول نفسها في دوامة قوية وسريعة .. تدور .. وتدور .. وتدور .. ثم تتجشأها البالوعة؟!

لا فرق .. لقد تجشأتها البالوعة منذ سنوات .. منذ أن فقدت معنى أن تكون .. أن تتغيَّر .. أن يتسارَع نبضها تارة ويتباطأ تارة أُخرى .. أن تتنفّس بانتظام في يوم، وتلهث في يوم آخر. منذ أن ضاعت قيمة أن تولد كلّ دقيقة، بل كلّ ثانية .. منذ أن غاب جمال التعقُّل في الجنون والصدق في الكذب .. ابتلعتها الفتحة منذ أن أصبحت تفتح خزانتها على أشباح بنية وكحيلة وسوداء، بياقات مرتفعة وأكمام طويلة، وتنانير واسعة تصل إلى ما فوق الكعبين بشبر! في الأوّل، كان عناق هذه الأشباح ضرورة فرضتها عليها وفاة والديها، ثم تحول فيما بعد إلى ضرورة أيضاً، ولكن من نوع آخر! ضرورة فرضتها عليها أوائل الثلاثينات! وسرعان ما ستفرض عليها أوائل الأربعينات اختصار عدد هذه الأشباح وألوانها. مرة .. مرة واحدة فقط لفّت حزاماً من الساتان الأحمر العريض حول خصرها الخجول .. أعجبها للغاية. فلقد كن جذاباً، كما أضفَى على بشرتها الباهتة شيئاً من حياة. إلاّ أنّها سخرت منها .. هي .. ضحكت وذكرتها بمن يحاول جمع الماء المسكوب من جديد يائساً! معها حق! ما كان يجب أن تحاول. فالماء المسكوب لا يُجمع ثانية.

ولكن هل انسكب الماء منها حقاً؟!

بدأ العرق يتفصّد من كل أنحاء جسدها .. ما بالها لم تطرق الباب عليها ثانية؟! لعلّها نسيتها! ومع ذلك فلن تفتح الباب! حبّات العرق ثقيلة تنزلق على جبينها.. على رقبتها.. على فخذيها.. بسرعة! حتى العرق ينفلت من جسدها بسرعة، وكأنّ انفلات الأيام وحده لا يكفيها! فليكن .. ومع ذلك لن تفتح الباب .. ستطرق الباب بعد قليل، سترجوها أن تفتحه، ولكنها سترفض، وستقول لها إنّ كونها أختها الكبرى لا يعطيها الحق لأن تكون وصيّة عليها. صحيح أنها تكبرها بثماني سنوات، وصحيح أنها هي التي تصرف شؤون البيت، وتدير كل صغيرة وكبيرة، خصوصاً بعد وفاة والديهما، وصحيح أنها تعمل و.. ناجحة .. أجل .. فلتعترف أنها ناجحة في عملها .. كل هذا صحيح .. لا تنكر ذلك، إلاّ أنه لا يعطيها الحق لأن .. لأن تؤلمها!

ألأنّها أحبّته؟! ولكنه هو الآخر يُحبّها .. إنّها واثقة من ذلك .. لا يمكن أن يكذب عليها! ثم لماذا يكذب عليها؟! فهي لم تفرض عليه عاطفتها. هو الذي بادأها الحديث يوم التقت به في منزل إحدى صديقاتها. كان مهذباً .. ينتقي جُمَله بعناية. أعطاها رقم تليفونه، لكنّها قرّرت ألاّ تتصل به .. عيب! بعد يومين اتصلت به لتقول له إنّه ما كان يجب أن يعطيها رقم التليفون و.. خرجت معه! صارحها بحبّه بعد أسبوع واحد فقط من اتصالات تليفونية شبه يومية. هكذا .. فجأة ومن دون مُقدَّمات! ولِمَ لا؟! إنها جذابة، وذكية وفي أوائل الثلاثينات. لا تزال رطبة .. لم تيبس بعد. رحم اللّه والدتها! كانت دوماً تقول إنّ عودها طري .. حقّاً إنه طري!

فتحتْ خزانة صغيرة مُعلّقة على الحائط. بحثت عن قطع وأغراض معدنية ثقيلة، فوجدت مقصّاً كبيراً ضربت به أرضيّة الخزانة الخشبيّة بعنف. كان الصوت عالياً. يجب أن يكون عالياً .. وعالياً جداً لتسمعها، فتهرع إليها لتطرق الباب من جديد، وتتوسّل إليها أن تفتح ولا تؤذي نفسها. وكان الصوت عالياً حقاً .. وعالياً جداً! حتى إنّ أذنها طنّت، ولكن أختها لم تطنّ! فركتْ أرضيّة الخزانة بقطعة ليف خشنة .. طرقت جوانبها بألواح الصابون النابلسي الثقيلة .. نقرت أباريق الماء البلاستيكية .. هزّت علبة المسامير الصلبة بقوّة .. ألقَت بمشابك الغسيل على الأرض .. غير معقول! كل هذا الصوت ولم تسمعها بعد؟! لماذا تأخرت إلى الآن؟ مستحيل أن تتركها كل هذا الوقت حبيسة دون أن تطرق عليها الباب .. يجب أن تلحّ عليها بالخروج .. سترفض هي بالطبع في البدء .. ولكن بعد محاولة ثانية على الأقل، ستتراجع عن قرارها .. وستخرج .. وستقول لها إنها قبلتْ اعتذارها! أجل .. تذكرتْ .. يجب أن تعتذر عن الألم الذي سببته لها.

لقد وصفتها بأنها سهلة وعبيطة، إذ تسمح لشاب مستهتر بأن يصنع منها أكبر مغفلة. وحلفت لها أنه سيهجرها فور أن يُرخي سروالها! غير صحيح على الإطلاق! إنها ليست سهلة، وليست مغفلة كما تظنّ .. لقد أقسم أنه يحبها .. قلبها يُسرّ لها بحبه .. ولماذا لا يحبّها؟! إنها في أوائل الثلاثينات .. لم تيبس بعد، بينما هي في الأربعينات .. يبست ولم تعرف الحب .. فكيف لها إذن أن تتكلم فيه وعنه؟! والأهم من هذا هو من أين لها بقصّة السروال المرخي؟! إنّ سراويلها كلها في الأربعينات! طويلة وقطنية ومشدودة! لعلّها .. لا .. لا يمكن .. مستحيل .. إنها في الأربعينات! لا أوائل الثلاثينات!!

لن تقتل نفسها .. ولن تفتح الباب. ستلقنها درساً لن تنساه! مدّت يدها إلى الرّف العلوي للخزانة. تبعثرت على أرضيته دبابيس شَعَر ومتر وملقاط حواجب قديم وماكينة حلاقة وكريم مزيل للشَّعَر وأقراص حمراء للمغص. خنقتها حموضة الحشائش السوداء أسفل إبطيها، دهنتها بالكريم المزيل للشعر. لفّت المتر حول ردفيها. تحتاج إلى عشرة سنتيمترات من الشَّحم .. أما خصرها فكان مثالياً .. نحيلاً بعض الشيء ولكن الرجال يحبونه هكذا .. كالخاتم. فخذاها حيّراها إذ لا يبدو أنهما يحتاجان إلى سنتيمترات زيادة، بقدر ما يحتاجان إلى ضخّ لون دبق فيهما. غريب! ما سرّ احتفاظهما بماكينة الحلاقة لوالدهما مع أنهما تخلّصتا من كل حاجياته تقريباً بعد وفاته؟! ملقاط الحواجب قديم، لا يحفّ جيداً .. يقرص دون فائدة .. نتفتْ خمس شعيرات طويلة تناثرت أسفل ذقنها .. أفشل شيء أن تصبغ سالفيها، والزّغب الذي يكسو  وجهها وشاربها بلون أشقر. رفعت شعرها بأربعة دبابيس، وفردت بضع خصلات على جبينها. بانت أصغر سناً. لِمَ لَـمْ تفكر بهذه التّسريحة من قبل؟! كان سيعجبه لو رآها كذلك! الأقراص الحمراء! عشرة منها كفيلة بتحقيق المطلوب .. تتخيّل الآن غرفة بيضاء .. واسعة .. وسريراً وفراشاً أبيض وأسلاكاً كثيرة تصل جسدها بأجهزة ضخمة ذات شاشات داكنة، ورموز غير مفهومة، وثلاثة أطباء بلحى سوداء مقصوصة بالتساوي يناقشون حالتها، وسلال ورود تحمل بطاقاتها تمنّيات بالشفاء من أُناس تعرفهم ولا تعرفهم، وعلبة شوكولاتة إنجليزية فاخرة، وممرضة تقيس نبضها وتقول:

ـ أنقذناك من الموت بأُعجوبة!

بالطبع لا يجب أن تكون الممرضة جميلة حتى لا تتحول الكاميرا نحوها! وأختها تبكي .. تجلس على حافة السرير وتبكي نادمة. تلطم وتقول "أنا السبب!" تطلب منها أن تسامحها .. ترجوها أن تسامحها وإلا قد تقتل نفسها! وهي .. ستغفر لها .. ستتحامل على نفسها وتنهض من فراشها بوهن ثم تحضنها وتقول:

ـ لقد سامحتك .. صدّقيني سامحتك!

فهي طيّبة ومتسامحة وفي أوائل الثلاثينات. تفهم ماذا يعني أن تكون في الأربعينات، وأن تكون سراويلها كلها قطنية وطويلة و..مشدودة! تفهم جيداً!

ابتلعت أول قرص .. ماذا لو لم تطرق الباب؟ ابتلعت ثاني قرص .. قد تتركها هكذا حتى الصباح! ابتلعت القرص الثالث .. إنها عنيدة .. أُختها وتعرفها جيداً. ابتلعت القرص الرابع .. ربما تموت حقاً .. ابتلعت القرص الخامس .. الباب أخرس! سارعت إلى المرحاض .. كادت تغطس رأسها فيه. أدخلت إصبعها في فمها وسعلت بقوة .. تقيّأت رغوة حمراء ولعاباً أبيض .. سعلتْ بشدّة، فأفرغت كل ما في جوفها. جذبت حبل السيفون إلى أسفل .. ارتفع القيء إلى أعلى قليلاً ثم ما لبث أن دار في دوامة سريعة اجترعتها الفتحة الواسعة. أنصتتْ جيداً حتى سمعت تجشؤ البالوعة!

صوت أقدام تقترب .. طرقات على الباب .. لقد جاءت أخيراً:

ـ العشاء جاهز.

ـ حاضر.. أنا قادمة!