بعدعشر روايات يقدم الكاتب السوري بإحكام وتمكن صبوات الهوية الملتبسة في واقع عربي أكثر التباسا فتتحول الرواية بطبقات المعنى المتراكبة فيها إلى استعارة عربية مشعة بالدلالات.

صبوات ياسين (رواية)

خيري الذهبي

(1)

انحنى بحركة يكرر فيها ما قام به عشرات المرات من قبل.. انحنى فوق بسطة بائع الجرائد، فاشترى الجرائد اليومية المعروضة. لم تكن كثيرة. كانت أربع جرائد فقط.

انتصب. نظر عبر الزجاج. حاول جعل تحركه عادياً..، ونظر.. رآهم. كانوا هناك متحلقين يثرثرون على عادتهم. كانوا، جابر ونمري وممتاز ومصباح و..  شهق. وكان.. ما يخافه أكثر من الموت. هناك في القلب من الشلة، يقص عليهم إحدى نكاته ويلوي حنكه وشفاهه. إنه يقلد واحدة من اللهجات المحلية ولا شك، كان يُرقص حاجبيه مستجيباً لطرافة النكتة، ووجد ياسين نفسه يتجمد يراقب المشهد مسحوراً ناسياً أنه يرى الآخر. يرى ياسين يقوم بدوره القديم. وفجأة انطلقت عاصفة من القهقهات، والطبطبات على الأفخاذ وعلى الظهور، وتلوِّيات الإعجاب، والتواءات الأحناك والشفاه والعيون.

لم يكن المشهد غريباً على ياسين رغم تجمُّده وانسحاره أمامه،  فلقد عاشه عشرات المرات، مئات المرات. يلقي بالنكتة ويقهقهون ويهنئون ويطبطبون، ويديرون وجوههم عن الرواد الآخرين في المقهى الذين يرمقونهم في غبطة وحسد. هنيئاً لهم. انظر إلى سعادتهم.. هذه القهقهات الصادرة من القلب. هذه التجربة عرفها وعاشها واستمتع بها كثيراً، ولكن كيف. كيف جاء هذا الآخر. كيف أتقن اللعبة، كيف استقطب الشلة. كيف أقنعهم أنه ياسين. أعوذ بالله. إن كانت أسيمة قد اقتنعت بأنه ياسين، فهل يعجب إن اقتنع الغرباء الآخرون، الخارجيون؟ ياسين بالنسبة لهم رجل الطرافة والظرف، رجل الميلان بجذعه مقرِّباً رأسه من أذن الآخر، ينقل إحدى الدسائس والأخبار السياسية التي لا تنشر ولا تعرف خارج كواليس السياسة. ياسين بالنسبة لهم هو الرجل الذي يهز رأسه في جد ووقار ليؤكد لهم أن النميمة التي رواها لهم لتوه هي الحقيقة المطلقة الخارجة  ساخنة من مطابخ السياسة التي لا يعرفها إلا الله والعارفون ببواطن الأمور.

اصطدم به مار متعجل، فكاد يرميه فوق بسطة الصحف، أحس بشذوذ وقفته وأنها ستلفت إليه الأنظار، فاختار أن يمضي. مشى إلى الأمام. قال: سأجلس في الحديقة أتشمس وأقرأ الصحف وأهضم هذه التجربة التي لم تكن على البال. لم يكن  له عادة الجلوس في الحدائق، ولكنه مضى إلى الحديقة. تأملها بعين تبحث عن مكان آمن، ووجد نفسه ينساق إلى شجرة صفصاف تطل على بحيرة اصطناعية، فيجلس تحتها. أمسك بالجريدة الأولى يقلبها، ولم يفاجأ حين رأى مقاله الأسبوعي على الصفحة الأخيرة متوَّجاً بصورته السعيدة يحمل الضحك والفرح وبهجة الحياة. كانت مقالة طريفة تستقبل الحياة بكل مفاتنها، تتحدث عن الحظ الذي يعيشه الناس في بلد سعيد وشعب سعيد وطبيعة سعيدة. كان كل ما في المقال ينضح بالسعادة. رفع حاجبه مستغرباً، لم يكن استغراب مادة المقال، فهو يذكر أنه كان يكتب شيئاً كهذا، ولكن الاستغراب كان في أن توأمه. هه وهل لمثله  توأم؟!. أناه الآخر. صورته التي لم تطارد. سمِّه ما شئت قد استطاع كتابة ما يقنع بأنه ياسين الكاتب.

كان قد أقنع ليلى بأنه يجب أن يقتلع جذوره من المدينة، فلقد اكتشف أن جذوراً غامضة ما تزال تربطه إلى المدينة، ولما لم تفهم تعبير «جذورٍ غامضة» حدثها عن الضرس المقتلع من الفك، ولكن المقتلع بطريقة قاسية، الكسر مثلاً. إنه دائماً ما يترك وراءه جذوراً متشبثة بالفك تسبب الالتهاب والألم. صحيح  أنها خفية لا ترى فهي مغروسة عميقاً في الفك، ولكن ليس المهم الرؤية، بل الفعل، فها هي الالتهابات والآلام تشير إلى وجودها، ولا بد من اقتلاعها. وفهمت أنه في حاجة إلى مراجعة نفسه، والمضي إلى المدينة لاتخاذ قراره النهائي بأن ينسى المدينة والقُبلان، ويعود إليها العاشق المختار. جاءته بثيابه، ونقوده، وسيكتشف في المدينة أنها ضاعفتها بنقودها، و.... اكتشفا فزعين أن أوراقه الأخرى، الهوية والصور وكل ما يدل على شخصيته قد ضاعت ملامحها وحبرها وألوانها في مستنقع النهر الأسود، فلم يكن في المحفظة إلا أوراق لا تقرأ، ومعلومات لا تفهم،.... أحنى رأسه في هزيمة فقد عرف أنَّ عليه أن يكافح منذ اليوم للحصول على هوية سبق أن حازها آخر.

نظر إلى صورته في الجريدة، ياسين الوسيم الضاحك، المشرق، حامل الفرح. تنهد. كيف استطاع أن يكون هذا الرجل، كيف استطاع أن يعيش كل هذه السنين ولا عمل له إلا أن يطبِّل ويغني ويزمِّر للأقوياء الماضين.. لِمَ فعل ذلك؟ أكل هذا ليثبت للخال والجدة والأم أنه نجح. أنه اختار طريقاً مخالفاً لهم.. ونجح.  

(2)

عاد إلى غرفته على السطح، وكان قد اشترى صحف اليوم. قال: أتابع ما يكتبون، وأعرف ما يجري في البلد. تناول مقالاً موقعاً باسم صديق العمر ممتاز الأسعد، قرأه وشهق مندهشاً، كان في المقال شيء غريب، شيء جعله يحتقن بإحساس أقرب إلى الحدس منه إلى المنطق الذي يمكن التثبت منه. أعاد قراءته، ولم يستطع التقاط الشيء الغريب في المقال الذي جعله يتوقف أمامه. كان  المقال ممتلئاً بالفرح والدعوة إلى السعادة، كان مقالاً يجسد البهجة والنصر، وضعه جانباً وحسٌ بالدهشة والاستغراب يتخلله. قرأ التوقيع ثانية؛ ممتاز الأسعد، الصورة الشابة الموحية بالثقة والتفاؤل، أمسك بالجريدة الثانية. قرأ التعليق وكان موقعاً باسم جابر عبد المولى، كان مقالاً حشدت فيه الأرقام والإحصائيات والمقتبسات لتؤكد صدق الموقف العام، والنجاح الهائل الذي أحرزته الحكومة في دفع البلد إلى الأمام. نظر إلى الصورة، إنه صديقه التاريخي جابر، ولكن، لا. ليس المألوف من جابر الاستشهاد بالأرقام والإحصائيات فكيف، ولماذا.... وما الذي تغيّر فيه؟

كان قد طلب صحف الشهر الماضي، أو ما يمكن توفره منها من بائع الصحف العتيقة، يبيعها بالكيلو، فقرأها، وأعاد قراءتها. قرأ مقالات موقعة باسمه وقد علتها صورته، قرأ مقالات أصدقائه مصباح  وجابر، ونمري، وقرأ حتى مقالات يوسف السعيد.

قصّ المقالات، جمعها في مجموعات. مقالات كل كاتب على حدة. أراد أن يتأكد من الحقل الذي يعمل عليه كل كاتب منهم، أعاد قراءتها محاولاً قراءة تبدلات وتطورات كل منهم في غيابه، ولكن المفاجأة كانت جارحة. صدمته القراءة الأولى، ثم لم يملك نفسه، فانطلق يقهقه. أهذا معقول؟ كان أصدقاؤه الأكارم، أصدقاء الشلة يلعبون لعبة الكراسي الموسيقية متنقلين بين صفحات الجرائد الداخلية والأخيرة. كانوا يتبادلون المواقع والمقالات والتواقيع والصور.. كانوا يكررون نشر المقالات نفسها بعد تغيير الأسماء والصور. أهذا معقول؟ صرخ غير مصدق: أين رؤساء التحرير. سكرتيرو التحرير، المحررون، القراء؟

ألم ينتبهوا إلى هذه اللعبة السخيفة، فمقال ياسين الذي قرأه لمن يفترض أنه ياسين، والمنشور يوم السبت ها هو ينشر مرة ثانية باسم جابر عبد المولى مع تغيير في السطر الأول من المقال فقط، أما مقال جابر الذي نشر يوم الأحد، فها هو ينشر باسم مصباح، ثم مقال مصباح باسم يوسف، ثم... أعوذ بالله. ما الذي يجري. أين القراء ليحتجوا. أليس من قارئ متابع يكتشف ما يفعلون. وضع الصحف جانباً مثقلاً بحيرة لم يختبرها سابقاً. مقالات لو قرأت كل واحدة منها على حدة، ودون أن  تنسبها إلى كاتبها أو إلى معيد كتابتها لما كان لك عليها أي لوم، ولكن. ما الذي أوحى إليه بتجميعها، وقصها، ومقارنتها. أي شيطان أشار عليه بهذه اللعبة المشؤومة التي وضعته فجأة على مفصل اللعبة.

اعتاد منذ اليوم الثاني لاستئجاره الغرفة بعد تخليه عن جنة ليلى التسلل عبر الحارات والجادات الملتفة إلى مقهى البرازيل ليراهم في جلستهم تلك متحلقين حول ياسين الآخر، كان يلقي نكاته وكانوا يقهقهون، ويتمايلون، ويطبطبون، ثم كان أحدهم يميل على الآخر المسمى بياسين، فيميل المسمى بياسين برأسه ويبدأ بالهمس ويبدأون بالميلان نحوه والاستماع في اهتمام، وحين يقول ما يتمنون سماعه كان إشراق عجيب يحل على وجوههم، لقد عرفوا السر الذي كانوا يتوقون إلى سماعه. ثم يميل جابر على المسمى بياسين، فيطلب إليه تغيير الجو وإلقاء نكتة ما، وهكذا يبدأ المسمى بياسين بإلقاء نكتة لم يكن لياسين أن يسمعها، ولكنه كان يستطيع أن يقدرها، ويقدر طرافتها من حسن الاستماع، ثم من الانفجار المقهقه السعيد بهذه النكتة التي ـ فكر ياسين لا بد أن تحوم على تخوم السياسة، فإن لم تكن السياسة، فهي تحوم على تخوم الجنس ولا شك.

أحسَّ في المرتين الأوليين وهو يراقب ياسين، ويراقبهم بشيء من الغيرة، بل ربما الحسد. إنهم سعداء. تمنى لو سمع نكاتهم ليقيّمها فهو خير من يحسن تقييم النكات، وتنهد. أتراه بعد كل هذا السواد والتشبيح والتخفي وسكنى المستنقعات، أتراه ما يزال القادر على إلقاء النكات وتفكهة الحاضرين. أحس بالغيرة والمرارة، فمن هذا الياسين الآخر. وكيف استطاع الحلول محله.

كان قد تسلل إلى حديقة الجيران، فالسور المطل على بيته.. بيته؟.. ورآه، ورآها، ورآهما. رأى الحركات الأليفة المملة، شطف بلاط باحة البيت. حمل الكرسيين والطاولة الصغيرة. دولة القهوة، كأس الماء البارد، الفنجانين. زهرة الفل في كأس الماء، السيجارتين تشعلان من جمرتيهما فيما يشبه قبلة السكائر. كل تلك الحركات الأليفة.. المعادة التي لم يكن يعرف متعتها حتى رأى الآخر يقوم بها، فانفجر فيه حنين غير مسبوق. وقد أكره نفسه أكثر من مرة على الرجوع عن القفز إليهما ليصرخ: أنا ياسين. ألا تريان. ما الذي يجري. كيف سرقتماني مني، ولكنه في جزء صغير منه كان يدرك أنه لو فعلها فلن يكون إلا المقدم بنفسه لأولئك الذين وضعوا الجوائز للقبض عليه. ولكن.. ها هو ياسين أمامهم. فلم لم يقبضوا عليه؟.

كان السؤال معجزاً محيِّراً، لا يملك جواباً عنه، ولا يملك سؤال أحد يجيب عنه.

في المرة الثالثة وهو يراقب المسمى بياسين وشلته لاحظ شيئاً مألوفاً يقومون به، يميل مصباح على المسمى بياسين ويسأله ـ ومن الواضح من تعابير الهم والاهتمام على وجهيهما، وياسين يعرف هذه التعابير جيداً ـ عن آخر أخبار ما يُعدُّ في مطابخ السياسة، وعندئذ يحل ما يشبه الوقار والإحساس بالأهمية على وجه المسمى بياسين، ويبدأ بالهمس، ويبدأون بإجحاظ العينين، وعقد الحاجبين، وتجعيد الجبين. أعوذ بالله: أي خبر سياسي هام جداً يلقي عليهم الآن، ثم.. يحلُّ عليهم ما يشبه آلام الهضم على من ابتلع طعاماً عسر الهضم، وها هو يستجمع كل قواه ليهضمه، ثم بعد اجتياز محنة هضم الخبر المزلزل يميل جابر على المسمى بياسين مداعباً وقد كسا وجهه بأرق تعابير التعاطف والرجاء أن يغيِّر الجو الكئيب ويسمعهم واحدة من نكاته الطريفة، ويستجيب المسمى بياسين ويتحفزون ويستجمعون الأنفاس، ثم ينطلقون في قهقهة مريعة تنفَّس كل حزن وكل خيبة وكل انكسار أدخله الخبر السابق في حياتهم، وكان ياسين عندئذ ينسحب من المقهى، ثم يحمل جرائده ويعود إلى غرفته.. ولكنه في هذه المرة قرَّر البقاء قليلاً. كان يعرف أن أحداً لن يتعرف إليه في جلسته المتطرفة في الركن نصف المعتم البعيد عن النوافذ والإضاءة، ومراقبة العابرين في الشارع، ومراقبة الداخلين إلى المقهى، والخارجين منه، والتسلي بالتعليق عليهم صراحة وضمنياً. كان في جلسته المنعزلة تلك يحقق هدفين مهمين له؛  العزلة عن رواد المقهى فهو يخاف التعرف عليه رغم تنكره الشديد، والقدرة على مراقبة شلته في نشاطها اليومي.

في هذا اليوم قرَّر ألا ينسحب، بل يكمل تدخين أركيلته التي كان يبرر بها دخوله للمقهى، وكان لا يدخِّن منها إلا بضعة أنفاس، ثم يتركها بعد قهقهات شلة ياسين ويمضي. في هذا اليوم وكان يشعر بقدر من السأم أكبر من المعتاد، فقرر تدخين أركيلته حتى النهاية حين رأى مصباح يميل على المسمى بياسين، ولدهشته رأى الوقار والإحساس بالأهمية الشديدة على وجه المسمى بياسين، ثم يبدأ بالهمس، ويبدأون بالانحناء قريباً من مهمسه، ويأخذون بإجحاظ العينين وعقد الحاجبين وتجعيد الجبين.. أعوذ بالله.. تمتم ياسين: كأنهم فعلوا هذا قبل قليل، ولم يكمل فكرته حتى رأى جابر يميل على المسمى بياسين مداعباً، كاسياً وجهه بتعابير التعاطف والرجاء لتغيير الجو الكئيب، ويسمعهم واحدة من نكاته الطريفة، ثم لدهشة ياسين الصارخة، رأى وجه المسمى بياسين وقد تحول فجأة من الوقار الصارم، وناقل الأخبار الخطيرة إلى وجه المهرج حامل النكات التي تغسل الهم عن القلوب، ثم رأى القهقهات ورأى الطبطبات، ورأى تعابير الهم وقد زالت عن وجوههم.

كان المشهد محيِّراً تماماً لياسين، فما الذي يجري. أهو سيناريو مكرر، أم هم يتناقلون بالفعل أخباراً سياسية خطيرة، ثم يتخلصون من تأثيرها الضار بهذه النكات. ونظر من حوله في رعب: أتراهم لا يخافون العيون المراقبة، أتراهم لا يخشون من الملاحقين والمطاردين والمهددين.. ما الذي يجري؟ أكان ما سمعه عن الهجمات الليلية، ومطاردات الفجر مجرد إشاعات، وهاهم يجرؤون الآن على كل محرم وليس من يتعرض لهم؟ أقام ياسين في المقهى لساعة أخرى، ليشهد مصباح يميل على المسمى بياسين مرتين، ويرى ياسين يلقي بقنبلته السياسية الخطيرة، فيخيفهم ويرعبهم ويهمهم، ثم يرى جابر يميل على المسمى بياسين، فيطلب إليه تغيير الجو وتلطيفه بنكتة وكان ياسين يستجيب وكانوا يقهقهون ويطبطبون ويسعدون. أسند ياسين ظهره إلى ظهر المقعد يفكِّر. مقالات يعاد نشرها مع تغييرات بسيطة في العناوين والمقدمات، وتغييرات أساسية في أسماء الكتّاب وصورهم، وكأن كاتب المقالات واحد، أو كأنهم لا علاقة حقيقية لهم بما ينشر باسمهم و.. جلسة في المقهى تشبه جلسات الأيام الخوالي، ونمائم عن أسرار سياسية، وهموم ثقيلة، ثم نكات طريفة تتلوها قهقهات وطبطبات وسعادة.

هتف غير خائف من أن يسمعه أحد، فقد كانت غرفته على السطح. ولا جيران قريبون. ولا بيوت قريبة، ولا عسس ولا متطفلون هتف: كأنهم غير حقيقيين. ما أرى غير معقول، ياسين الذي ليس أنا ولكنه يفعل كل ما كنت أفعل، وأسيمة التي لا أدري إن كانت أسيمة أو شبح لها كشبحي المسمى بياسين، ومصباح، وجابر، ويوسف.. أعوذ بالله. ما الذي جرى في غيابي عن العالم. دفع باب الغرفة دون قرع ولكن الباب العتيق لم يخيِّب ياسين، فصرَّ، والتفت ياسين مرعوباً، لم يكن الرعب، بل الهزَّة، فقد تصور أنهم قد وصلوا أخيراً. وها هم قد سمعوه يصرخ. التفت ياسين وربما لو شككته بإبرة في تلك اللحظة لما وجدت فيه قطرة دم. كانت امرأة محجبة بملاءة سوداء ومنديل بونيه، ولم يختف رعبه حين همست: أستطيع الدخول؟

انتصب من مجلسه على السرير الحديدي تاركاً قصاصات مقالات أصدقائه تتساقط على الأرض. انتصب لا يعرف إن  كان التهذيب ما نصبه، أم الخوف، أم المفاجأة. كان يتوقع أحداً ما وبطريقة غامضة كان يتوقع.. هم. ولكن امرأة؟ ومحجبة؟ دخلت دون أن تسمع إذنه بالدخول، ثم أغلقت الباب خلفها بإحكام، وكان يراقب ما يجري مدهوشاً متجمداً. رفعت المنديل ورأى وجه امرأة نَصَف قد تشوِّش حاجباها لقلة العناية، ونبت على شفتها العليا ما يشبه الشارب الخفيف. حدَّقت فيه طويلاً، وحدَّق متجمداً. كان صمت سحري قد حل عليهما لا يجرؤان على اختراقه، وكان يمكن لهذا الصمت أن يستمر لولا أنَّ بائعاً جوالاً أطلق نداءه، فانكسر جدار الصمت. قالت: ياسين الأرفعي؟ ولم تنتظر جوابه، بل تنهدت مسلّمة باستجابته. قالت: الحمد لله، وأخيرأً واحد من العهد القديم.

أعمل مخه، ذاكرته، واعيته، ولكنه لم يستطع مطابقتها مع أيٍّ ممن، أو ما يعرف. نزعت قميص الملاءة الأسود لتتبدى في قميص نسائي لم يكن تحته صدرية نسائية ولم يكن هناك ما يشي بأن أمامه امرأة، أم فتى متخف. قالت: أكل القط لسانك، لم لا تتكلم؟.

فتمتم بصوت حلقي جاف: من أنت. و..

أشاحت بيدها في غير اكتراث: هل تغيرت إلى هذه الدرجة؟ هيه. ربما كنتَ على حق. فما مررت به كفيل بتغيير كل شيء.

كرَّر وما يزال حلقه على جفافه: من أنت؟

فصرخت في نفاد صبر: غيِّر هذا السؤال إكراماً لله. ألم تعرف صوتي؟ أنا دلال الحلبي. أنسيتني؟

تسارع الوجه بلا مساحيق، والحاجبان المهوشان، والشاربان المهوشان إلى التطابق مع الوجه الجميل للديرية الحسناء التي طالما فتنته، وطالما تجاهلت مداعباته ومغازلاته الخفية. أعوذ بالله. دلال؟

هزت راسها في استسلام: نعم دلال.. ثم ضاحكة: ثم لا تتظاهر بالدهشة الشديدة لما وصلت إليه. انظر إلى نفسك. أليس لديك مرآة لترى ما فعل بك الزمان.

وفجأة تذكر. لا.. الأمر غير معقول. صحيح أنها تشبه قليلاً، بل ربما كثيراً دلال الأستاذة الجامعية، والمحللة السياسية، وصديقة السهرات التي كانت تهرب إليها من جفاف حياتها بعد طلاق استعانت إليه بالأصدقاء حتى نالته. ولكن. لكن.. لقد رآها منذ أيام، وكانت في كامل أناقتها ونداوتها وطراوتها وضحكتها المغناج. كانت أعوذ بالله كانت في السهرة الأسبوعية عند.. وضحك.. ياسين وأسيمة، فكيف..؟

جلست على الكرسي الوحيد المقابل للسرير. قالت: تابعت قدومك إلى الحارة، سكناك في هذه الغرفة منذ اليوم الأول. شككت كثيراً في هويتك. أتراك أحد المكلفين بملاحقتي، وهتف: ماذا.. أنا.. ألاحقك؟

تابعت دون اكتراث باعتراضه: لم أعرفك في البداية. ثيابك، طريقة مشيتك، الحزن الهابط عليك. كتفاك المتهدلتان. وكنت أستعد للانتقال إلى مخبأ آخر، أو قتلك لو اضطررت وحوصرت، فلم أكن على استعداد لجعلهم يقبضون علي.

كان يسمع ويسمع ولا يصدق.. أن هذه دلال رغم أن طريقتها في الحديث، وهذا التصميم والخوف يقول إنها صادقة رغم الإهمالات والانهيارات في مظهرها، ولكن.. الأخرى دلال السهرة، عند أسيمة والمسمى باسمي أكثر صدقاً وأكثر إقناعاً وأكثر شبهاً بدلال.

قالت: لم تكن أخرس. فما الذي يخرسك الآن.
قال محاولاً المزاح: طول لسانك يقول إنك دلال، ولكن أناقة الأخرى وضحكتها المغناج يؤكدان لي أنها أكثر منك دلالا.
ـ الأخرى؟ ما الذي تعني؟

وكان عليهما أن يشربا الشاي معاً، وأن يتغديا معاً، وأن يشربا القهوة مرتين، وهو يحدثها عن دلال الأخرى وياسين الآخر، وعن المقالات لا يعرف كاتبها والمتغيرة التوقيع والصور وبعض السطر الأول، أو الأخير منها. كان عليه أن يحدثها عن السيناريو الذي يؤدي به شلة الأمس حدث اليوم. ياسين الآخر مع الشلة، والنميمة السياسية لما يجري في كواليس البلد، ثم عن جابر وكيف يميل على.. يَّ، هـ طالباً تغيير الجو وترطيبه بنكتة، وعن قهقهاتهم للنكتة وطبطباتهم السعيدة، ثم عن تكرار المشهد بعد قليل في ميكانيكية نسخية غريبة.

كانت تسمع وتسمع حائرة مندهشة غير فاهمة، وأخيراً قالت:

ـ شيء غريب. هل تعرف أن جابر عبد المولى قد قتل في زوريخ منذ ثلاثة أشهر.
ـ ماذا.. قتل؟ أأنت متأكدة؟
ـ.. تأكدي من وجودك أمامي.
ـ ولكن ـ قال حائراً ـ.. ما معنى هذا؟

فأضافت: أما مصباح فقد لجأ إلى السعودية وهو مجاور في الحرم المكي لا يقابل أحداً، ويرفض التواصل مع الجميع.

ـ وماذا عن نمري وناديا وملك و..
ـ اختفوا جميعاً. عبروا الحدود. ماتوا، غيَّروا هوياتهم في البلاد الأجنبية. إن كل من عرفت اختفوا. أنت لم تستطع تقدير دهشتي حين رأيت كتفيك المتهدلتين وأنت تتسلل محاولاً التشبح في الحارة. أقول الحق. في البدء قلت إنهم وصلوا إلي وأنت الطليعة، ولكني حين رأيت بؤسك وتحديقك في الأرض والابتعاد عن الناس قلت إنه الخداع، ثم بدأت مراقبتك ومطاردتك وأنا أنتوي الشر، ولكن. قالت بعد نفخة سخرية: لأكتشف أن من كنت أطارده ليس إلا ياسين.

فقال في بؤس: أضعت أوراق هويتي، وكل ما يدل على شخصيتي.

ضحكت في حزن وقالت: الإنسان لا يُعرف بأوراق هويته.

وضحك في حزن أشد: حين تكون الحكومة صاحب الحق الوحيد في إعطاء الهوية، يصبح الإنسان الهوية ـ وأطلق نفخة سخرية ـ أنا الآن لا شيء، ويمكن لك، أو لهم إعطائي الهوية التي يشاؤون.

تشدَّدت دلال فجأة وقالت: هويتك ثقافتك، قلمك. استعدهما.

ولما أراد الإمعان في التباكي على النفس حدَّثته عن استعادتها هويتها عبر الكتابة: أنا أرسل ما أكتب إلى الصحافة العربية في الخارج.

ـ ويسمحون لك؟
ـ أرسلها إلى أصدقاء في الخارج، وهم يوصلونها إلى الصحف المقصودة.
ـ لا شك أنهم يبحثون عنك.
ـ أعرف، وأنا أيضاً طوَّرت أشكالاً كثيرة للتخفي.

تأمل الوجه الناشف بلا مساحيق ولا أصباغ ولا كحل على العيون ولا تسريحة شعر مجنونة مما كانت تفعل، تأمل الحاجبين المشوشين، والشاربين الخفيفين. ولاحظت بسمة التعاطف الساخر على وجهه. قالت: عند الطوفان عليك أن تحفظ رأسك فوق الماء. هذا هو المهم.

صمتا يجرعان قهوتهما، وينتظران هطول الليل، فقد وعدها أن يريها قرينتها وضرتها وبديلتها دلال.

على الطريق وكانا قد غيّرا ثيابهما بثياب شائعة لغلامين في البنطلون الجينز والقميص قصير الكم قال وقد أرهقه الصمت ليصدمها: إن كان لديهما الهوية تثبت شخصيتهما ولم يكن لدينا، وكانا يقيمان في بيتنا، ولم نكن نقيم، وكانا يفعلان كل ما يعرفه الناس عنا، ونحن لا نفعل، فمن الأصيل فينا، ومن الشبح؟

نظرت إليه مواجهة في حدة: إياك.. إنك إن بدأت التشكك تكون قد أوصلتهم إلى نصف ما يسعون إليه.

أعجبه تماسكها، وأحسَّ حسداً صغيراً يعتمل فيه، وصَغاراً كان يضايقه منذ إعجاب الجدة والأم بالخال قارئ المولد ومنشد الصلاة على النبي، الصَغار في أنه ينقصه شيء كان بإمكانه تداركه ولم يتداركه.

عبرا حديقة الجار مطأطئي الرأس مصاغري الظهر حتى وصلا إلى السور المطل على بيته، أرادت السخرية من فعلتهما: راشدان مثقفان يتحولان إلى مغامرين متسللين يتلصصان على الآخرين.

كانت الباحة مضاءة جيداً، وكانت طاولة مما يطوى كبيرة قد حملت إلى الباحة المبلطة، وكانوا قد اجتمعوا لسهرتهم الأسبوعية في ثياب السهرة، وكانت أسيمة في ثوبها الأسود مكشوف الظهر، ولكن، أين دلال الأخرى. كانوا جميعاً هناك، جابر. وهمست دلال: أعوذ بالله أنت على حق. إنه جابر، فكيف أبلغوني بمقتله في زوريخ. انحنى رجل على سيدة كانت ترشف من كأسها، ودعاها للرقص. فلبَّت، ودارا دورة وصلا بعدها إلى دائرة الضوء. أعوذ بالله قال ياسين وهو يلتفت إلى جارته. كانت الراقصة دلال. دلال التي يعرفها الجميع، دلال بظرفها واناقتها ورشاقة رقصها.

قالت تفِّح فحيحاً من الصعب تمييز مخارجه: من يصدق أني دلال، وأمامه دلال بكامل تفاصيلها.

وكان عليهما أن ينتظرا قليلاً ليريا ياسين وأسيمة ينضمان إلى الزوج الراقص لتشحب دلال حتى ما قبل السقوط في حديقة ياسين: لا أصدق، تمتمت منكسرة. وفجأة أحسَّا كفين قاسيتين تقبضان على ذراعيهما المتمسكتين بالسور قبل التدلي إلى حديقة ياسين. التفتا خائفين في وقت واحد، ولكن لم يتح لهما الاحتجاج، أو الصراخ، فقد ألبسا فجأة كيسين أسودين على رأسيهما، وحُملا بقسوة إلى حديقة الجار، فالشارع الخلفي فالسيارة المغلقة تنتظرهما.  

(3)

كانت العربة تتقلقل فيهما على الطريق، وكانت العتمة المسيطرة على أحاسيس ياسين، عتمة حمله إليها الكيس الأسود الذي ألبسوه له حالما قبضوا عليهما معاً عند السور المطل على حديقة بيته، وكانت رائحة عفونة رطبة تتسلل إليه، وكان السؤال يتردد: أهي عفونة الكيس، أم عفونة من ألبسوه الكيس قبل هذا، أم هي عفونة الخوف؟  كان يريد أن يتواصل مع العالم خارج عزلة الكيس الأسود غطى الرأس والرقبة وانغلق عليهما فقطع كل صلة لهما بالخارج. تقلقلت العربة ثانية، فمال إلى اليسار، وأحس فخذها إلى جواره، كانت فخذاً مشدودة طرية، وأدركته ضحكة حبستها عزلة الكيس: كم اشتهى لمس هذه الفخذ، كم اشتهى أن يربت عليها. كانت تتحدى كل رجال الشلة بمؤخرتها المشدودة الصغيرة.. المستفزة، ولكنها كانت تستطيع إيقافهم عن التمادي بنظرة متعالية واحدة.

كانت وهو يدرك ذلك الآن المشتهاة المستحيلة. اتكأ ثانية على الفخذ الطرية المشدودة إلى جواره. قال: لا بد أن كيساً يلف رأسها كما يلف رأسي الآن، وفجأة دهمته الفكرة: كيف، كيف وهو المختطف، المطارد، المطلوب، المحروم من حقوقه المدنية والعسكرية. ضائع الهوية والأوراق وكل ما يثبت أية هوية له. كيف وهو المغطى بكيس أسود ورعب لم يعرفه في حياته، كيف يمكن له أن يفكر في لحظة كهذه بامرأة؟ وشهق، ولكنها ليست أية امرأة. إنها دلال. ولكن. أنت محمول الآن إلى ما يمكن أن يكون الموت، فكيف تستطيع تجاهل ما أنت مقدم عليه لتفكر بفخذ امرأة وقعت يدك عليها بالمصادفة.

المصادفة؟ وهل تظن أن في الحياة مصادفة. هل تعتقد أن هناك ما يمكن تسميته بالمصادفة. كل شيء مدبَّر في هذه الحياة. كل شيء، وإلا، فهل كان لقاؤك بليلى مصادفة؟ هل كان عمادك بالسواد، ثم طهرك بالبياض مصادفة. هل تعتقد أن استئجارك لغرفة في حارة تختفي فيها دلال كان بالمصادفة. لا.. كل شيء مدبر. كل شيء مدبر، وإلا كيف لك أن تتأكد من أنك لست بالمجنون، وأن هناك ياسين آخر في الحياة يسكن في بيتك وينام مع زوجك لو لم تلاق دلال، وتقابلها بدلال الأخرى. ولكن. ما اللعبة؟ ما الغرض؟ من مدبر هذا الازدواج، ولماذا؟

إن كان جابر السهرة.. جابر آخر غير الذي عرفته وقرأت كتابته و.. هرب إلى الخارج، وقتل في زوريخ كما حدثته دلال، فمن هو جابر السهرة؟ وما الذي يكرهه على لبس هذا الثوب، وإن كان ياسين ساكن بيته ومساكن زوجه غيري أنا ياسين المحروم والمطارد، فلماذا يزعج نفسه بلبس هذا الثوب. وإن كان مصباح ونمري ويوسف وأسيمة، وملك، و.. آه.. أعوذ بالله.. كانت الأفكار المتخبطة في دماغه أكبر من احتماله.. كان يجب أن يصفي ذهنه ليعرف إلى أين يأخذونه، وما يريدون منه، ولكن لم يرد أن يستسلم إلى التفكير في موقعه، بل.. مال ثانية على فخذ دلال. كانت الفخذ دعوة وشهوة ورغبة وتحقيقاً لانتظار طويل. الآن فقط يكتشف كم اشتهى هذه المرأة، وتمناها، ولكنه كان الأجبن من التعرض لها وفتح قلبه، فقد كان يخاف أسيمة وغضبها. ودلال ورفضها، والشلة وسخريتها. ولكن، ها هي الآن ولا يفصله عنها شيء، القدر الواحد، والساق قرب الساق، والرغبة المتبادلة، وإلا فما أصمتها عن الاحتجاج على التصاقه بها وتحرشه بها. أتراها كانت تضمر له الشهوة كما أضمرها لها، وما كانت تنتظر إلا فرصة الخلوة به ولكن..

أحس بالسيارة تميل، وكأنها تنزل في واد، فتساءل إلى أين يحملونه إذن؟ وبهدوء استيقظ العقل الاستعاري فيه، وضحك. هذا العقل الذي فارقه منذ الآذن على الباب وممنوع الدخول، وقائمة المحرومين من الحقوق. كيف انحطَّ العقل كل هذا الزمان، ليصبح العقل المباشر، العقل الحيواني لا يشتهي إلا الفلاح في العيش والهرب منهم ومن الموت، وعيش اللحظة بتجربتها اليومية.. كيف استطاعوا قتل عقله الاستعاري والتشبيهي.. أين اختفى عقل المثقف والناقد والقادر على رؤية الحياة من عدة زوايا. أترى تجربة الحياة اليومية المستغرقة للحيوان تستهلك الهامش الذي يعيشه العقل المثقف، فيميل إلى ترف الاستعارات والكنايات. ودهمته الفكرة مخيفة.. أترى كل ما مررت به لم يكن إلا استعارة حياتية. أترى هناك لاعب كبير يلاعبه، ويلاعب دلال الآن، فصنع لكل منهما تشبيهاً واستعارة يقارن فيها ساخراً المشبَّه بالمشبَّه به.. وضحك. ياسين أنت تميل الآن إلى.. السفطسة حتى لا تجابه وجع ما أنت محمول إليه.. أنت تميل الآن إلى عبثيات العقل البيزنطي.

وصرخ غير مسموع: ولكن السيارة تهبط. وجاءه صوته غير المسموع: كما أهبط آدم وحواء من الجنة.

وأطلق ضحكته المجنونة غير مسموعة: ولكن عن أية جنة تتحدث. الغرفة على السطح.

وجاءه صوته الجدلي غير المسموع: نعم. جنة المعرفة. حواء ـ دلال.. أخرجتك من جنة السذاجة إلى دنيا المعرفة. أرتك أنك كنت تعيش تعاسة الظل دون أن تجرؤ على رؤية الحقيقة في النور لتعرف أنك الظل، وأن هناك من يعابثك، فيجعل من ظلك أصلاً ومنك ظلاً، وكما جرى لآدم وحواء ما إن وصلت إلى المعرفة حتى جاء من طردكما إلى الأرض التي يهبطونكما إليها.. أووف.. هز رأسه رافضاً: هذه الثرثرات. هذه الثرثرات. أي قدرة للعقل الخائف من مواجهة نفسه على صنع أوهامه وخيالاته. قال: لنعد إلى جحيم اللحم. ومال على فخذها بقوة. كان يتمنى لو أن يديه طليقتان لأمعن في العبث، ولكنه ما إن أمعن في الميل حتى سمع صرخة مزعجة كادت تتحول إلى لطمة: هيه. أيها المخنث الأحمق. ألا تستطيع التماسك.

كان الجالس ذو الفخذ الطرية المشدودة الحارس الذي ألبسه الكيس الأسود. وخرس ياسين. وكانت السيارة تهبط وتهبط دون أن تمكنه من التساؤل أو الحلم، أو شهوة المرأة التي طالما اشتهاها..

* * *

نظر إلى السجان يرفع عن وجهه الكيس الأسود، ليكتشف أن الكيس الأسود قد انتقل إلى وجه السجان مع إضافة ثقبين عند العينين ونظر من حوله في تساؤل مستسلم لكل الإجابات 

(4)

كان المشهد ريفياً مألوفاً يداعب الذاكرة، جلس على الكرسي المرتجل يتأمل ما حوله. ألحت ذكريات الأيام الماضية حين كانوا يمضون وعائلاتهم إلى بستان مروان. الصديق القريب من الشلة، فينشرون السجاد والبسط بين الأشجار، وتهرع النساء في طفولة مستعادة إلى الأرجوحة المرتجلة من حبل مربوط إلى شجرة، بينما يندفع بعض المتحمسين إلى حوض الماء الكبير، فيسمونه مسبحاً، ويتحررون من ثياب الوقار، ويبدأون بالتخبط في الماء بينما يعمد البعض إلى تهيئة الموقد لشيِّ اللحم، ونشر جو النزهات العائلية.

كان مشهد الحديقة يذكِّر بذلك البستان القديم بقوة. ركَّز النظر يتفحص المكان، أعوذ بالله، كأنه هو ما عدا حوض الماء الذي زيِّن بالبط والإوز، وشجيرات المرجان التي نمت وسمقت، وشذبت لتشكل سور الممر. أعاد التحديق في المشهد بعد أن انتزع منه الرجال في الأكياس السود، ثم استبدلهم بجابر ونمري ويوسف وسعيد، ودلال وثريا وملك والأطفال. لكن المشهد ظل ناقصاً. أضاف إليه الضجيج والهتاف والقهقهات الخشنة والصهصلات الناعمة، وهدير مضخة الماء في الحوض الكبير. أعوذ بالله. لقد عادت الحيوية إلى المشهد.

انتصب في همة وفكر: سأجرب البحث عنهم. نظر إلى الرجال في الأكياس السود كأنه يستأذنهم، ولكنهم كانوا قد اختفوا منذ طردهم من المشهد. مضى بين شجيرات الورد وشجرة الجوز العجوز والسور من توت السياج. كانت الحديقة صغيرة، ولكنها كافية للاختفاء عن العيون. شدته ثمار التوت البري، فاقتطف اثنتين منهما. قربهما من فمه. كانت الرائحة الحامضة المحرشة شيئاً لا علاقة له بحاسة الذوق. دسهما في فمه. وما إن ذابت الحموضة الحلوة في فمه حتى رآها.... دلال.... أعوذ بالله من ألاعيب الذاكرة. توتتان بريتان استطاعتا استعادتها. قالت: يداي موحلتان. ضعهما في فمي.

نظر من حوله في خوف. كان يخاف أسيمة، وكانت الدعوة رغم براءة ادعائها دعوة إلى تخطي حاجز الرفقة والصداقة. شقت فمها المدهون بالوردي، فدسَّ التوتتين السوداوين، وحين أطبقت شفتها اعتقد أنها أطبقتهما على اصبعيه في مداعبة، أتراها فعلت ذلك، أم أنه أراد اعتقاد ذلك، ولكنه حين أرسل إليها في اليوم التالي سطلاً من التوت الشامي لم يتلق رداً، ولم يتلق شكراً، ولم يتلق إطباق شفتين على أصبعيه، فعاد إلى علاقة الشلة المحايدة التي تجعل الذكور يذكِّرون الإناث والإناث يؤنثن الذكور وصولاً إلى علاقة محايدة صداقية، أخوية وكأن لا وجود للجنس.

كان الوجه اللحيم يحاول لجم نفسه، ولكن غضباً عنيفاً كان يعتمل في داخله. قال من بين شفتين رقيقتين لا تليقان بالوجه اللحيم:  حاولنا كل شيء. جعلناهم يترقبون الإشارة منك لتتحول إلى الفعل. مكتبتك، ذكرياتك.. اسطواناتك. ما الذي تنتظر لتبدأ العمل.

أنصت ياسين الذي عاد إلى أناقته القديمة، ولحيته الحليقة، وشعره المقصوص، المثبت بالفيكساتور ليأخذ الوضعية المجنونة التي يريد. كانت شهوة تجميل الجسد والتأنق الحديثة التي تلبسته قد جعلته لا يهتم كثيراً بالمكتبة ولا بالأسطوانات التي طلب، ولا يفعل إلا الوقوف أمام المرآة يتأكد إن كان ياسين ياسين. إن كان هو نفسه، أم أن ياسين المقيم في بيته ومع زوجه هو ياسين الحقيقي.

كان ياسين البرازيل والميلان على جابر لإطلاق النميمة السياسية، ثم التخفف منها بالنكتة قد استطاع الحلول محل ياسين ليجد ياسين نفسه فائضاً لا هوية له، ولا بيت، ولا زوج، ولا عمل. ولدى الآخر كل شيء، بل حتى الشلة المؤمنة به. كان ياسين البرازيل قد استطاع جعل ياسين المحروم من الحقوق يشك في كل شيء حتى في جسده، والغريب ـ هو يذكر الآن ـ أن كل الأماكن التي تقلب ياسين فيها قبل القبض عليه لم يكن فيها مرايا حقيقية، مرايا تتيح له فرصة التوثق من جسده. أيكون المخدوع الذي ظن لوهلة أنه ذلك الشخص الشهير المسمى بياسين، وها هو يحاول إقناع الآخرين بأنه ياسين، وما ياسين البرازيل إلا ياسين الحقيقي. كان يقف أمام المرآة في الجناح الذي سيق إليه، ويسلط النور عليها، وعلى وجهه يريد التوثق والتحقق من جسده، ومن وجهه. كان شك صغير قد بدأ ينغل فيه: أفيمكن لياسين المتحرق للمسة الأم وقبلة الجدة أن يكون ياسين الشهير وزوج أسيمة بنت البندقدار. كانت وقفات المراقبة أمام، وفي مقهى البرازيل يراقب فيها ياسين والشلة قد فعلت فعلها. فجعلته يرى ياسين الآخر ومصباح وجابر ويوسف والآخرين الحقيقة.

ولكن.. دلال.. دلال التي رأى بعينيه ازدواجها والتي فاجأها حين أراها أخراها في السهرة عند ياسين البرازيل وأسيمة.. آه.. تأوه في ألم: أفيمكن لدلال أيضاً أن تكون فكرة.. فكرة خطرت في باله ولا جذر أرضياً لها، وما تحرشه بها تحت الكيس الأسود إلا واحداً من تطرفات ذهنه المشوش، وما صرخة الحارس يحذره من التمادي في مداعبة فخذه إلا الحقيقة الموقظة من الوهم. وتمتم على غير إرادة منه: أشتهي السيران. وعلى عادتهم الجديدة في الاستجابة لنزوانه اختفوا. سمع حركة في الحديقة. وكان التشوش قد بلغ منه المبلغ الذي يجعله لا يكترث لشيء. كان شوبان يداعب سمعاً لا يسمع، وكانت الصحف والمجلات المنشورة في المكان لا تحرض رغبة في القراءة، تساءل: ما الذي يجري. أين أنا. لماذا. ما حكاية ليلى. أهي حقيقة أخرى، أم وجه آخر من وجوه التشوش و.. دلال.. أف. وضع رأسه بين كفيه مستسلماً لحزن لا يعرف له تفسيراً.

علت الضجة من الحديقة، رجال يتمازحون ويقهقهون، ونساء يصهلن، ويضحكن، فيحركن في القلب نزعات غامضة، وثغاء أطفال. رفع رأسه من بين كفيه: ما هذا. ما هذه الضجة. ما الذي يجري. من هؤلاء؟

قام إلى النافذة الكبيرة، أطل على الحديقة ليراهم جميعاً في الحديقة، جابر ومصباح، ويوسف، ومصطفى، وسعيد، وليلى، وملك ودلال وأسيمة.

كان السيران القديم وقد أعيدت إليه الحياة، المشهد الرعوي الجميل يذكر بلوحات الهناءة والفرح التي حاول مونيه بها تثبيت لحظات السعادة في لوحة غداء على العشب. نزل.. وكانوا قد أنهوا السباحة لتوهم، فما تزال قطرات الماء على أجسادهم وتوزعوا في مجموعات. كان مصباح ويوسف يلعبان الطاولة في حماسة، وإلى جوارهم تماماً نمري وجابر يقرآن في صحيفة تقاسما أوراقها، فقد كانت صحيفة مهربة من الخارج، وكانت ملك وليلى تقطعان البقدونس، وثريا ودلال متواجهتين مستلقيتين تثرثران. دلال؟ لا. لم تكن دلال المتقشفة، ودلال العربة. لا. كانت دلال الصبا التي طالما اشتهاها.. ولكن أين أسيمة.. ورآها على عادتها منفردة بمرآتها تعدل حاجبيها وماكياجها وإلى جانبها راديو ترانزستور يطلق موسيقى خفيضة.

أحب المشهد، وأحب ألاّ ياسين آخر في المشهد، تسلل ليجلس إلى جوار مصباح ويوسف. كانا يلعبان بنشاط وحماسة، وكاد صوتهما يعلو حين حاول يوسف أن يغش في اللعب، فالتفت يوسف إلى ياسين يستنجد به ليعيد مصباح إلى جادة العقل، ولكنه حين رأى ياسين بهت قليلاً كمن فوجئ به، فالتفت مصباح أيضاً إلى ياسين، وبهت قليلاً، ولكنهما هزا رأسيهما كمن ينفض فكرة سخيفة، وتساءل ياسين: ما الذي أبهتهما؟ ألاحظا فيّ ما يريب؟ ولكنهما استعادا مرحهما، وقال مصباح: هه. ما آخر الأخبار؟  وقال يوسف في مرح: صحيح. لقد تأخرت في المجيء لا بد أن لديك أخباراً جديدة. هه.

واندمج ياسين في اللعبة، فانحنى عليهما، وما كان في حاجة إلى هذا الانحناء، ولكنها العادة، وما كاد حتى ترك نمري وجابر ما يقرآن، وتركت ثريا وملك شريكتيهما اللتين لم تشاءا أن تكونا خارج السر، فسارعن جميعاً إلى الانضمام إلى معرفة السر الذي طال انتظارهم له. وقبل أن يبدأ ياسين فضْح السر لمح من آخر المشهد نذير وسعيد يرميان ما في أيديهم من حطب، ويسارعان إلى الشلة قبل ضياع آخر الأخبار. انتبه ياسين إلى أن أسيمة لم تكترث لهذا الاجتماع الطارئ ففكر: إنها تعرف أن المصدر سيعود إليها، وسيحمل إليها كل الأسرار، فلم التعجل والازدحام.

قالوا جميعاً يستحثونه: هه.
همس: قبضوا الليلة الماضية على عشرين طياراً.
فأصدروا آهة ألم: لماذا.. وتفاصح جابر: والطيارون لا يمكنهم القيام بانقلاب.

فتابع: ويقال إنهم قد قبضوا على خمسة عشر ضابط مدرعات ومدفعية، فصرخت دلال في حرقة: لا. والتفت إليها الجميع يتساءلون عن سبب تحرقها الحاد على ضباط المدرعات، فارتبكت وقالت: وماذا أيضاً.. احكِ.  فحدثهم عن التبدلات المتوقعة في الإعلام. وأن.. هم ليسوا راضين عن أداء الإعلام، وهم يفكرون جدياً في تغيير الرموز المعروفة كلها. وحلَّ حزن عميق على المجموعة.. حزن جعل أيدي ملك وثريا الملوثتين بمزق البقدونس وعصيره تبدو وكأنها مبقعة بالبثور، فمسحتاها بثيابهما، بينما كتم سعيد دمعة كادت تنبثق من عينيه.

كان الحزن والأسى الحالاَّن على المجموعة كافيين لإفساد جو النزهة نهائياً حين التفت جابر إلى ياسين وقال: ما هذا يا جماعة.. نحن هنا للنزهة، للسيران. للبهجة، وليس للهم، لعن الله  السياسة وساعتها. ايه أخي ياسين. احك لنا نكتة. تبدلت وجوه المجموعة تبدلاً نهائياً، فقد تحولت إلى التشوق واللهفة والانتظار والتعلق بشفتي ياسين الذي سيحمل إليهم الفرح، وسيخرجهم من دائرة المقت والضيق بالسياسة التي لا تحمل لهم دائماً إلا الحزن والأسى.

ربت جابر على كتف ياسين، وربتت دلال على ركبته راجية. فقرر إفراحهم. قال يهمس وبسمة خبيثة على شفتيه: تزوجت مطلقة من رجل ليكتشف بعد ليلة الزفاف أنها ما تزال عذراء، فصرخ مندهشاً: متزوجة.. ومطلقة من ثلاثة رجال، وما تزالين العذراء! نظر إليهم وإليهن، كانوا جميعاً متوترين، مندهشين، متشوقين لسماع حل اللغز وتفسير كيف يمكن لامرأة أن تظل العذراء بعد زيجات وطلاقات ثلاثة.. كانت عيونهم تلحُّ، وشفاههم تصرُّ، وحركات أيديهم تتوسل. فلما حدثهم عن الزوج الأول الفرنسي، وعن الثاني العراقي، وعن الثالث قضى فترة الزواج كلها في الخطب والهتاف بالشعارات حتى انطلقوا في قهقهة مجنونة قهقهة كادت تمزق خواصرهم.. قهقهة كادت تجرح حلوقهم. كانوا يضربون أفخاذهم يستحثون البهجة، أو يهدئونها. كان جنون صغير قد حلّ عليهم جميعاً.

وفكَّر ياسين ولم يشاركهم في الضحك، فأصول الإلقاء تقضي بوجوب الحفاظ على الوقار والحياد، وكأن ملقيها لم يقصد أن يحصد كل هذا الضحك والفرح والبهجة؛ لقد فاجأتموني باستجابتكم هذه. فكَّر ياسين: ما الذي يجري. النكتة قديمة، قديمة حتى الرثاثة وهو يذكر أنه كان يلقيها منذ أكثر من عشرين سنة. أيعقل أنهم لم يسمعوا بها حتى الآن. ثم.. ليست النكتة على هذه الطرافة، فما الذي أبهجهم إلى هذه الدرجة.. تأملهم يقهقهون ويكادون يقفزون عن الأرض في بهجة. هو يعرف أن السامعين لو كانوا آخرين وكان سماعهم النكتة للمرة الأولى، فربما كانوا على حق، ففي ضحكهم  شيء من إشباع جنسي. إنهم من سيفتضون المرأة التي لم يفتضها الفرنسي، ولا العراقي، ولا مردد الشعارات، وفيها شيء من شماتة، فما هؤلاء الذين مضى عليهم في الحكم سنون إلا مرددو شعارات لم يستطيعوا تحويلها إلى وقائع وبرامج، ولو كانوا....

فوجئ ياسين بتوقف القهقهة والصراخ والمرح وعودة كل من الحاضرين إلى نشاطه السابق، لعب الطاولة، قراءة الصحيفة المجزأة، تقطيع البقدونس.. أعوذ بالله، كأنهم لم يقهقهوا وكادوا ينشقون بهجة منذ قليل. نظر إليهم وقد انصرفوا عنه تماماً لينغمسوا تماماً في نشاطهم السابق. حاول التحرش بهم، فحدّث جابر عن وزير الأشغال وإحالته إلى التحقيق، ولكن جابر أصمته بحركة مشيحة من يده، ليس الآن، ليس الآن. مضى إلى حيث دلال. قال: أسمعت بما يعدون لوزارة التعليم العالي؟ ولكنها انقلبت على جنبها مبتعدة عنه، لتتم ثرثرتها مع جليستها. كانت مؤخرة رائعة. فكَّر ياسين. بنت الكلب. من تحب في هذه الأيام. ثم أشاح بيده كمن يبعد فكرة سخيفة، ومضى إلى حيث أسيمة الغارقة في مطاردة آخر شعيرة تشوه خدها فقد أنهت كل ما يجب فعله للحاجبين. استلقى إلى جوارها يتظاهر بأن السنين لم تمرَّ على فراقهما منذ قائمة المحرومين والبيت الخالي من الأثاث. همس: أسيمة. أنا ياسين.

نظرت إليه من فوق مرآتها في غير اهتمام كبير، وقالت فيما يشبه السأم المتظاهر بالمرح: وأنا أسيمة.

كان الجواب مربكاً، محرجاً.. دلو ماء بارد على جسد لم يستعدَّ له.

قال متأتئاً: أعني أنا ياسين.. ياسين.. الحقيقي.

أعادت النظر غير المبالي إليه من فوق المرآة. وقالت تقلده متأتئة:

ـ وأنا أسيمة.. أسيمة.. الحقيقية.

ثم بلهجة جدية: ما قصتك اليوم، ولم تبدو مهموماً، وأنت تقدم نفسك إلي؟

كان هم ثقيل قد حط عليه، فما يقول؟ وكيف يقول؟ كيف يحدثها إنه الهارب، المختفي، المطارد، المقبوض عليه، والمختلي بها للمرة الأولى منذ سنين. فكَّر: ربما كانت الرفقة المشكوك في أصالتها ما يربكها.. فأمسكها من ذراعها. قال: دعينا نقم بجولة في البستان.. لديَّ مأ احدثك به.

ـ ماذا؟ تحدثني به؟ سر.. يعني؟ قالت تكاد تقهقه غير مصدقة، وفجأة صرخت تخاطب المجموعة: هنئوني. هنئوني يا جماعة.. زوجي يريد أن يغرر بي. يريد أن يجرني إلى ما وراء شجرة الجوز. قال: لديه سر يريد أن يحدثني به.

وكأن المجموعة ما كانت تنتظر إلا أن تسمع نداءها هذا حتى تنطلق في قهقهة مجنونة، قهقهة لاحظ ياسين أنها موقَّعة، فكأن المقهقه واحد بأفواه كثيرة وطبقات مختلفة، ولكنهم مدربون على توقيع القهقهة لتبدو موحدة وقالت دلال: هنيئاً لك.

وقالت ملك: ليت هذا البارد ـ تشير إلى زوجها ـ يعرض علي مثل هذا العرض.

وقالت ثريا: ياسين ألديك ما تحدثني به ـ ولكزت زوجها في استهانة ـ أنا أحسن الإصغاء.

كرههم فجأة، كرههم جميعاً. أهذا هو السيران الذي حلم به. أهذه هي النزهات التي حين يحرض ذاكرته لاستعادة لحظات البهجة في حياته كانت تقفز إلى المقدمة.. أهذه..؟ ونظر إلى أسيمة التي عادت إلى الاهتمام بالشعرات الزائدة في وجهها. أهذه هي أسيمة. أتراها أسيمة أخرى؟ كما أنا ياسين آخر. ودلال هذه التي يرى مؤخرتها في استلقائها المستفز.. أووف لم يعد رأسي يحتمل.

تركهم جميعاً، ومضى إلى المعتزل وراء شجرة الجوز.. عبر المضيق ما بين أفرع الجوز الواطئة والسور من توت السياج، والتفت بهدوء. قال:

ـ أراقبهم.. ـ تنهد ـ كيف لي أن أكذب عيني. كيف لي أن أعرف إن كانوا شلة الأيام الماضية، ولكن وذكر ما قالته دلال التي لم يبق منها إلا كلام لن يستطيع أن يعرف بعد زمن إن قالته، أم أنه اخترعه كما يخترع كتاباته، ذكر ما قالته: جابر قتل في زوريخ، والباقون مضوا، عبروا الحدود، اختفوا، غيَّروا أوطانهم، غيَّروا أسماءهم وهوياتهم. ببساطة.. اختفوا.. ثم تنهدت: ولم يبق غيري وغيرك.. أزاح أغصان الجوز يتأكد من وجودها. كانت ما تزال في استلقاءتها تعرض مؤخرتها المشدودة في البنطلون سعيدة بالنظرات المختلسة تطاردها.. كانوا جميعاً كما تركهم جزءاً من مشهد ثابت، مرسوم بدقة، ولو حمل كاميرا، وصوَّرهم الآن لكانت الصورة قطعة مرسومة للسعادة الإنسانية، فما الذي يريده المتنزهون في بلد مثل هذا البلد إلا المنضدة الكبيرة صفت عليها الفواكه وزجاجات الشراب وخضار السلطة، والمشواة القريبة، والطاولة يلاعبونها والجرائد يقرأونها والترانزستور يغنيهم. إنها صورة يمكن أن توزع على المجلات السياحية تستدعي السياح الحسودين لمشاركتهم هذه النعمة.

تأملهم يرمون النرد، يتبادلون أوراق الصحف، ومحطات الراديو، ووضعيات الاستلقاء، والنظرات المختلسة من الذكور للإناث، والإناث للذكور. تأملهم وذكر ما قالته دلال: مضوا، غيّروا هوياتهم.. اختفوا. أعوذ بالله.. لم تستطع أن تنكر أن هؤلاء هم جابر ونمري ويوسف ومصباح.. لم تستطع أن تنكر.. ثم.. ما يدريك.. لعلها كانت واهمة في افتراضها سفرهم.. لعلهم دخلوا في صفقة مع القادمين. لعلهم استدركوا مواقفهم وتنهد التي لم تستطع استدراكها وصنعوا صلحاً معهم.

ولكن.. حدق فيهم منقِّلاً بصره بينهم واحداً، واحداً باحثاً عن نقطة فيهم يستطيع الاعتماد عليها ليرى زيفهم، وفجأة تذكر: ولكن ما هذا الإصرار على المعارضة، على الرغبة في سماع أخطاء الحكومة، عن الحلم بأن  مجموعة ما، أناساً ما، سيقومون بالانقلاب المنتظر. إنَّ الخبر الذي نقلته إليهم فأكأبهم وكاد يبكيهم كنت أحدث به الشلة قبل سنوات وسنوات، وكان السامعون يبتئسون كما ابتأس هؤلاء.. أعوذ بالله، أفلم يشعر واحد منهم أن الخبر قديم، وأنه قد قيل مرات ومرات قبل هذا؟.

علا صوت الترانزستور وأسيمة تعابث الأزرار تبحث عن محطة موسيقية على عادتها. كان ياسين يستند إلى شجرة الجوز، وأمامه طعام يأكل منه في غير شهية. أما أسيمة، فقد صنعت لنفسها ساندويشاً حملته، وابتعدت لا تريد إفساد نظامها الغذائي. ترك الطعام، ومضى ثانية إلى المخبأ بين أفرع الجوز وسور توت السياج. كان لا يرى إلا أسيمة: أفيمكن لهذا الوجه الطفل، والجسد الطفل أن يعرف رجلاً آخر؟ وعاد الاعتراض، ولكنه ليس آخر. إنه ياسين. صحيح أنه آخر، ولكنه ياسين، وتساءل: ولكن، أين ياسين الآخر؟ تمنى لو كان موجوداً. وتساءل: أي حوار كان يمكن أن يقوم بينهما، وكيف ستستقبل أسيمة والآخرون وجود ياسينين. كانت تحتضن الراديو الترانزستور، وتتابع المطربة في غنائها فتكوِّر فمها، وتذبل عينيها: إلى من تتوجه بغنائها.

وبهدوء أحس إثارة هائلة تتفجر فيه. إنه أنا. حبيب العمر. والرجل الأول في حياتها. اندفع نحوها. أمسكها من ذراعها. وجرَّها، فانجرَّت وراءه بلا احتجاج. نظر إليهم مواربة. كانوا منشغلين بطعامهم وشرابهم. دفعها إلى الممر بين توت السياج وأفرع الجوز. كان في نظراتها بله مستسلم غير مصدق. لم تكن أسيمة المتكبرة المتمردة القادرة على الصفع  والخمش. أعوذ بالله. لقد تحولت إلى نعجة أخرى. ألقى بها على الأرض في خشونة لم يعهدها، ولم تعهدها فيه، ولكنها لم تقاوم، ولم تصرخ، والعجيب أنها كانت تمضغ علكة، وتنظر إليه في حياد، كما يمكن لك أن تنظر إلى حيوان غريب، أو مشهد غريب فأنت تراقبه بنصف اهتمام، ونصف إثارة تكاد تعرف ما الذي سيتم تماماً، ولكنك تنتظر بهدوء، فلعل شيئاً طريفاً يضفي شيئاً من الإثارة على المشهد.

كانت عيناها نصف غائمتين، غارقتين في لا اكتراثهما، وفكاها يمضغان العلكة في بلادة. فجأة أحس الإثارة تنسل منه، أحسَّ الشهوة تموت، ورآها، وكأنها ليست أنثى الشهوة القديمة. والتحدي القديم، والنصر القديم، فارتمى إلى جوارها. أخاً؟ ابناً؟ أباً؟ صديقاً؟ لا يعرف ولكن منكسراً. محايداً، مستسلماً ويكاد يكون معتذراً. استرخت قليلاً في اسلتقاءتها وكأنما تستمتع بانتصارها، ثم تحاملت على كوعيها، فانتصبت، ومضت إلى حيث الراديو الترانزستور دون حتى أن تلتفت إلى ياسين. وعرف ياسين أنها أسيمة.. الأخرى.

وحين قاربت الشمس الغياب دبَّت الحركة في الجماعة، وأخذوا يضبُّون، ويلمُّون أشياءهم، ويطفئون نارهم، ويعيدون الهدوء والسكينة إلى المكان، فقد كان هذا هو الاتفاق الضمني بينهم وبين صاحب المكان. كان ياسين  يراقبهم كمن يراقب فيلماً قبل وضع شارة النهاية، فهو يعرف أنها ستوضع. ولكنه يريد أن يراها، فلن ينتهي الفيلم بدونها، وأخيراً حين جهّزوا كل شيء وبدأوا الاتجاه إلى سياراتهم التفتوا فجأة إليه، وقالت أسيمة: ياسين مالك.. ألن تأتي؟

كان السؤال مفاجئاً.. يأتي؟ ويحق له؟.. إنهم.. إنهم الآخرون، وهل يجتمع الآخرون، الأشباه، مع الحقيقي، الأصل؟. تلفَّت من حوله حائراً، هو يعرف أنه محجور عليه في هذا البيت.. هو لا يعرف سبب الحجر عليه حتى الآن، ولا ما المطلوب منه. جاؤوه بكتبه، بأسطواناته، وبالصحف اليومية. وماذا بعد.. لم يطلبوا إليه شيئاً، ولم يعرضوا شيئاً، وحتى حينما تمنى وبطريقة طفولية السيران تحولت الحديقة إلى حديقة مروان، وجاؤوه بكل أصدقاء السيران. والآن.

هتفت أسيمة: ياسين. مصباح ينتظر. تعال..

وعرف أن مصباح قد شغَّل السيارة وهو ينتظر كالعادة فبيتاهما متقاربان.. تلفت ياسين من حوله، وكأنه يستأذن أحداً ما، ولكن لا أحد.. أمعن في التلفت يتوقع رجال الكيس الأسود، ولكن لا رجال للكيس الأسود. وإذن.. أهو حر..؟ أليس من مانع لدي.. همَّ في الانضمام إلى الشلة القديمة.. وهتف ساخراً: الشلة القديمة؟ وضربت أسيمة الأرض بقدمها في عصبيةِ طفلة: ياسين. يكفي. سينزل الليل.

انجرَّت قدماه مترددتين، خائفاً من كيس أسود ينبثق أمامه فجأة فيوقفه، ولكن كيساً أسود لم ينبثق، وحارساً لم يظهر.. ركب إلى جانب أسيمة في المقعد الخلفي، و.. مضت السيارة بهما.  

(5)

الحمد لله الحق المبين، المحسن البَرِّ الأمين، وصلى الله وسلَّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد وأصحابه وأزواجه وآل بيته الكرام الطيبين الطاهرين.. صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين في كل وقت وحين.. وسلَّم تسليماً كثيراً. أما بعد فإني بعد أن استخرت الله ربَّ العالمين، وزرت قبر نبي الله يحيى سيد الحصورين، وحفيدة رسول الله زينب بنت أمير المؤمنين، فرأيت أن من واجبنا نحن الذين أنعم الله علينا بسيد العدل، سيف العروبة والإسلام تنِّين الزمان، وعنقاء الأيام، الخضر الأخضر، والوجه الأزهر، أبو المعالي والشرف، سيد الأيام عقلة بن نافع الزمان، فاجتمعت مع سيد الإعلام ووزيره، وكبير الأمناء والأسرار وخبيره، ومؤرخ البلاد وتحريره، فقررنا أن من الظلم أن يمر بالأمة مثل هذا العَلَم، ويرفع الحيف عنها مثل هذا القلم، ثم لا يخلده كتّاب عصره ومؤرخوه بسيرة تقل عن سيرة الملك الظاهر أبو الفتوحات الموعود من الله بالنصر والتأييد، رافع  راية العروبة والإسلام، ومحرر الديار من الفرنجة والأشرار، المغول والتتار.

أما بعد فإني بعد إعمال الفكر وتكثار الذكر، وسؤال عارفي فضل سلطاننا منذ نعومة أظفاره حتى حصوله على الوعد، وارتقائه سدة العرش الذي كانت الأمة تنتظره لاعتلائها، وكبار الملة يختزنون كنوزهم وسلاحهم وأموالهم ليستعين بها على تحقيق الغاية والوصول إلى الإرب والنهاية.

أما بعد فإني أنا العبد الفقير ياسين بن الأرفعي أقول إن ما وصلت إليه أثناء مذاكرتي مع الكبار والعظام ورفقاء السلطان في طفولته وصباه أن أمه الكريمة والسيدة العليمة قد ذهبت يوماً إلى الحقل تبحث عنه، فقد كانت قد فقدت جدياً من قطيعها ليبحث عنه، فوجدته نائماً تحت شجرة وقد انحسر ثوبه عنه. أرادت وكزه بالعصا ليستيقظ ويجد الجدي قبل أن يأكله الذئب، ولكنها فوجئت به نائماً وتحت كل شعرة من جسده نقطة دم.. أرادت أن تصرخ من الرعب، ولكن يداً كيد الملاك جبرائيل حطّت على قلبها، فأصمتتها. كرَّرت النظر إلى ابنها لتراه وقد جللته ظلال كظلال الدم، وهيبة كهيبة الموت، فتركته وهربت موكلة أمر الجدي إلى الله، ولكنها قرب نهاية الحقل تعثرت بصفيحة عتيقة، فقرقعت مصدرة صوتاً كصوت الطبل، فاستيقظ مولانا من نومه، ونظر إلى حيث الصوت، فرأى أمه تتحامل على نفسها تريد الوقوف، فعدا إليها يساعدها، وما إن مدَّ ذراعه يساعدها على الوقوف حتى نظرت إليه تتفحصه، لترى قطرات الدم وقد اختفت، والجسد المراهق قد عاد إلى نقائه حتى من الشعر فقالت لنفسها: لا بد أنه الخوف، أو الجوع، أو ظلال الشجر ما أوحى إليَّ بهذه الرؤيا، ولكنها لم تتمكن من الاحتفاظ بسرها، فمضت إلى الشيخ في اليوم التالي، وحدثته عما رأت.

أطرق الشيخ مهموماً حتى أصابها بالرعب، ولكنه بعد قليل رفع رأسه إليها يذكرها: أليس هذا هو الصبي نفسه الذي حدثتني أنه حين ولد نزل وكفاه مملوءتان بالدم. قالت: بلى.. ولكنك طمأنتني حينئذ بأن كفيه ستمتلئان بدماء أعداء الإسلام.. فأطرق الشيخ وقال: إن شاء الله.. إن شاء الله.. وصمت. حتى سئمت الأم وضجرت، ولكنها لم تجد في نفسها الجرأة على القيام والعودة إلى شؤون الدار، أصابها الظمأ وأصدعها الصمت الذي لم تعتده، وأخيراً رفع الشيخ رأسه وقال: أهذا هو الصبي الذي حدثتني أنك حين كنت حاملاً به رأيت ناراً تخرج من رحمك، فتحرق الشرق، وتحرق الغرب، وتمحو الليل. فهزت رأسها مطرقة وكأنها تعتذر لإثم لم تعرف أنها ارتكبته، وقالت: أجل. فقال بصوت جليل: إنه القدر، ولا ينفع الحذر من وقوع القدر. ما شاء الله كان. دعيه لقدره، ولعل الله يرفع به راية الفقراء والمستضعفين.

توقف ياسين عن الكتابة يحك سالفه، ثم أضاف: وكان هذا بدء ظهور السيد الخطير والزعيم الكبير معيد العزة إلى الضائعين، والسلام إلى الخائفين.

ضمّ ياسين الدفتر الكبير الذي عنون غلافه باسم سيرة مولانا ملك الزمان عقلة بن نافع الزمان. وضعه جانباً وتنهد، ثم نادى أسيمة فجاءت تحمل إليه صينية الشاي: هاه.. أبدأت الكتابة. قال: وسأقرأ عليك الآن ما كتبت، فإن وافقت عليه عرضته على اللجنة، فإن وافقت عليه جعلته المنوال، وبنيت عليه السيرة التي ستخلِّد اسم مولانا سيد الزمان عقلة بن نافع الزمان، ولكنها أخذت منه المخطوط، وقالت: دعني أقرؤه بنفسي، ولما لم يبد اعتراضاً استندت بظهرها إلى الكرسي الخيزران المريح، وأمسكت بالمخطوط تقرؤه، وتشاغل ياسين بتقليب الصحف اللبنانية والمصرية التي جاؤوا بها صباحاً، كان يحس بالقلق الحقيقي الذي يحسُّه كل مبدع حين يطلع قارئَه الأول على ما كتب. القلق، والترقب، والخوف و.. الأمل في أن قارئَه الأول سيكافئه بالثناء على ما كتب.

تأملها بجانب عينه، الوجه النحيل، العينان البنيتان. هذه الكبرياء الطبيعية، هذا الحس بالأهمية.. ما الذي وهبها هذا الحسَّ بالأهمية ولم يهبه إياه. ولكن أهي أسيمة، أسيمة التي أحبّ، وحارب، وطارد، وخاتل، وكاذب، وادعى حتى نالها.. أعوذ بالله. ولكن. كل شيء في مظهرها يقول إنها أسيمة. الرجل يعرف في أنثاه أسراراً لا يمكن لأخرى أن تخادعه بها، ولكن كل خارجي فيها يقول إنها أسيمة. أسيمة التي رآها أول ما رأى على المسرح، فرأى أودري هيبورن، الشعر الغلامي البني، العينين الواسعتين المداعبتين الغامضتين، الماكرتين، والجسد النحيل الطفلي المغري بالضم والإجلاس على الركبتين والطبطبة على الظهر رجاء عدم البكاء.

كل خارجي فيها يقول إنها أسيمة بنت البندقدار التي فاجأته بلكمة ما كان يعتقد أن امرأة تملك قوة لفعلها فتسقطه أرضاً، وتصيبه بارتجاج في الدماغ، فهي هي يعرف ذلك منذ رجوعه إليها واحتضانها له، وكأنهما لم يفترقا لشهور، أو لسنين، أو لزمن لا يستطيع تعيينه، فما كان يملك ترف حساب الزمن. ولكن.. أهي أسيمة فعلاً؟ فإن كانت أسيمة التي ترك، فماذا عن دلال الأولى ودلال الثانية، وماذا عن جابر ونمري ومصباح وممتاز الذين يعرف أنهم سافروا وغيَّروا أسماءهم، وهوياتهم، وأوطانهم، وها هو يراهم من حوله يقولون الكلمات نفسها القديمة، ويومئون الإيماءات القديمة نفسها، ويتمنون الأمنيات القديمة نفسها، ويتأوهون الآهات القديمة نفسها، ولكن أهم هم؟ أهم أنفسهم الذين عاشر، وجادل، وحابب، وكاره؟

أعوذ بالله.. ليتني أمسك بصخرة الحقيقة.

رفعت رأسها. أزاحت نظارتها الطبية وقالت في وقار:

ـ معارضة جميلة، ولكن. وترددت قليلاً قبل أن تطلقها: أهذا ما يريدون.
ـ تقصدين المعارضة؟

هزت رأسها موافقة: ما أعرفه أنهم قالوا إنك وأنت الخبير والدارس والناقد لسيرة ذلك السلطان المملوكي. فأنت خير من يكتب سيرة مماثلة.

ـ صح.
ـ ولكنهم لم يقولوا معارضة.
ـ وهناك مماثلة أدق من المعارضة؟
ـ لا أفهم.
ـ المعارضة الحقيقية تقوم على فهم دقيق للنص، فهم لأسراره اللغوية، وللغته السرية، على فهم الهدف الكامن، والهدف المعلن للنص الأول، وما عليك لتقديم معارضة أصيلة وحقيقية إلا أن تعيد بناء وتشكيل النص الجديد بحيث يكون مرآة للنص القديم، صحيح أن الانعكاس في المرآة ليس الأصل، ولكنه الانعكاس الأدق للأصل.

ـ وأنت تظن أنك في استهلالك للسيرة هذه تقدم المرآة ـ المعارضة.

ـ أنا أتمنى، وأنت القارئة الأولى تستطيعين الحكم قبل أن نحيلها إلى اللجنة، وإلى المولى عقلة بن نافع الزمان.

ـ أتعتقد أن هناك ضرورة لاطلاعه عليها. ألا يكفي رأي اللجنة ومبادرتك أنت؟

ـ وهل اكتفى الملك الظاهر برأي اللجنة، أو بمبادرة الديناري أو الدودار كاتبي السيرة.

ـ أتعتقد أن السلطان الملك الظاهر صاحب السيرة الأول كان يطّلع على النص؟

ـ طبعاً، وكان يضع ملاحظاته، ورأيه في كل فصل. وهذا ما جعل سيرة عبد الظاهر تختفي عن العامة، وسيرة ابن شداد تضمحل، فلا يتبقى بين أيدي الناس إلا هذه السيرة التي وافق عليها السلطان.

نظرت إليه طويلاً تتأمله وكانت تملك أن تحرجه لمجرد أن تحدِّق فيه، ثم قالت بصوت عميق وكأنه أخذ عمقه من ابتعاد الفكرة: أتظن اختيارك لهذه السيرة مصادفة؟

قال ينفض طوقه كمن يتبرأ من تهمة: تذكري أني لست من اختارها، بل هو من اختارها. وركَّز على هو،

ـ لا. بل أنت من اختارها منذ البداية. اخترتها حقلاً لدراساتك الطويلة عن السيرة الأكثر ذيوعاً في الحضارة الإسلامية، عن السيرة التي كانت كتاباً أساسياً في كل بيت في مصر والشام. عن السيرة التي كانت حلم كل الملوك كما ذكرت مرة. وأغمضت عينيها تردد من الذاكرة. كانت سيرة الملك الظاهر حلم كل الملوك المسلمين والولاة.

ثم واجهته: أفلم تكتب هذا؟

وهز رأسه موافقاً: صحيح قلت، ولكني قلت أيضاً في مناسبة أخرى: وكان الملك الظاهر حلم الشعب الضعيف المسكين المسلوب الحرية والكرامة والخبز. قرأ سيرته فآمن بأنه من سيعطيه الحرية والكرامة والخبز. وكان هذا الشعب كلما تقدم إليه حاكم قرأ السيرة وقال: ها هو الملك الظاهر يعود ثانية.

صمت ياسين، فاستحثته أسيمة ليكمل فكرته، ولكنه تشاغل بالصحف اللبنانية الممنوعة عن السوق والتي توَّزع على الموثوق بهم فقط، وابتسم. إنه الآن واحد من الموثوق بهم.

أطلقت همهمة مراضية، وانتصبت: حسن. أتحب أن أعرض ما كتبت على اللجنة.

رفع رأسه إليها، وقال: إن أعجبتك ووافقت عليها.

قالت وهي تهم بالانصراف: سأعرضها على اللجنة.  

(6)

اختفت.. غابت خطواتها على الدرج. تنفس في ارتباح. عاد إلى مكتبه في نشاط كان قد فارقه منذ الجزيرة والمستنقع. عمد إلى المكتبة الخشبية، فحرر مزلاجاً بها. كان هذا اختراعه الخاص السري الذي كان يخفيه لنفسه، وما كاد حتى دارت المكتبة على محورها، وأصبحت خلفيتها المقدمة، فاختفت الأغاني، واختفت مجموعة كتب الجاحظ، واختفى تاريخ الطبري، والمسعودي، وابن خلدون، اختفى السيوطي وابن عبد ربه، وتجلَّت المكتبة الأخرى مكتبته السرية. مجموعة البعكوكة المصرية، وحُطّ بالخرج السورية، المضحك والمبكي، وألف نكتة ونكتة. مكتبته، سلاحه، أداته لـ.. ولكنه لم يكترث بها، بل جرَّ دفتراً كبيراً مجلداً تجليداً منزلياً. حمله.. وعاد به إلى طاولته الصغيرة المريحة قرب ديوانه المنار من نافذة الحديقة. فتح الدفتر، وتنفس في ارتياح.. ثم.. بدأ الكتابة

قبَّلته مهنئة فنظر إليها في إعزاز: الرائعة دلال ما أحلاك، وحين ردَّ قبلتها على الخد شاكراً همس في ما بين المزاح والرسالة: أفلا يمكن صرف هذه القبلات على الخد بقبلة على الفم؟ لطمته مداعبة وهي تنصرف. رمق أسيمة من موقعه وكانت تعدُّ الشراب وهمس: العزيزة أسيمة. يا الله ما أحلى حضورها. كانت في ثوبها الأسود مكشوف بعض الظهر والكتفين خفيفتي السمرة فاتنة، وكان قذالها نصف المغطى بشعرها الغلامي حقلاً لشهوة لا ترتوي.

التفتت إليه من موقعها، وأشارت بشفاهها، وكأنها تصرخ: حبيبي ألا تساعدني في إعداد الشراب. وأسرع إليها يحمل سطل الثلج، ويوزعه على كؤوس الشراب. وما كاد ينتهي حتى اقترب جابر، وحمل صينية الشراب: اتركوني اتركوني. أنا من سيوزع الشراب. دعوني أحتفل إكراماً لله. أنا أنتظر وكل الحاضرين ينتظرون هذا اليوم منذ زمن طويل.

ضحكوا مؤيدين ولم ينتظروا جابر ليدور عليهم بصينيته، بل خطف كل منهم كأساً وقبل أن يرشفوا الرشفة الأولى هتف ممتاز: هيه. على مهلكم، ورفع كأسه وهو يهتف: في صحة حبيبنا وصديقنا مدير الدعاية والأنباء الجديد ياسين الأرفعي. صفقوا، رفعوا كؤوسهم، وقهقهوا.

كان مصباح مشاركاً ومفارقاً، مساهراً ومراقباً، كان سعيداً، وكان مستحلباً للسعادة. كان ينتظر نهاية الضجة كي يطلب إليه ياسين على عادته أن يغنيهم، وكان هذا أجمل ما في سهرات ياسين.. مصباح المحامي الجليل ونصير المستضعفين وهو في الآن نفسه مصباح المطرب المبدع.. مصباح الذي كان يمكن له ببضع ضربات على عوده وبإغماضة عين وابتعاد روحي عن المكان وضجيجه أن يقدم لك صالح عبد الحي، وكامل الخلعي، وسيد درويش بل ونجيب السراج. كان كنزاً من الأصوات الثرة، والعشق الحقيقي للغناء، وكان الصديق الأقرب والقريب من ياسين.

كانوا قد طلبوا هذه السهرة، وألحوا في طلبها، وحتى حين احتج ياسين بألا شيء رسمياً بعد، وأنه لم يبلَّغ باختياره لمنصب مدير الدعاية والأنباء، وأنه لم يستشر أو يطلب رأيه. إلا أنهم غمزوه ولكزوه مازحين: أعلينا؟.. هذه الألاعيب الدبلوماسية؟ اخدع بها غيرنا.. ولما أقسم لهم. أقسموا له بأن البلد كلها تضج وتعرف بأنهم اختاروه لمنصب مدير الدعاية والأنباء، وقال جابر: أخي. إن كنت تخاف أنا سنطلب منك منصباً، أو تسهيلات، فأرح نفسك، لسنا في حاجة إليك.

وقال له مصباح: إن كنت تعتقد أنا سنطلب إليك بعض التسهيلات في الإذاعة، فهذا ممنوع، فنقابتنا تمنع الجمع بين ممارسة القانون و.. ألحوا، ومازحوه، وداعبوه، وفرضوا عليه السهرة، وأكملت ثريا: وحتى لا تتعب الست أسيمة، فسيأتي كلٌ منا بطعامه معه. نحن نريد الاحتفال بحبيبنا فقط.

ولم يستطيعا إلا الرضوخ، وهيء البيت والباحة ـ الحديقة بالطاولات والكراسي والمظلة تستر الباحة عن الطوابق الأخرى، ونشرت مضخمات الصوت بين شجيرات التين الكاوشوكي والليمون.

كان البيت جنة أسيمة التي لا تعشق شيئاً عشقها للسهرات التي تبدع فيها وتزينها بطلّتها التي طالما فتنت ياسين، وأججت فيه شهوات كانت حريصة ألا تنطفئ أبداً ولا ترتوي.

وقال نمري في جدية غير مناسبة: إيه حبيبنا ياسين. أنت كمواطن مسؤول ومخلص للوطن، ما مشاريعك لتطوير المديرية؟ وقهقه الجميع للنكتة غير المتوقعة، وغير المضحكة، ولكن المزاج كان مزاج القهقهة والفرح.

كان اليوم يوم أسيمة، فهي التي قبلت الزواج من ياسين بعد طول تمنع عن الزواج أصلاً، ومن ياسين تحديداً، ولكنها حين قرأت كتاباته عن قصصها التي ما كانت صحيفة أو مجلة ترضى بنشرها، فأعاد كتابتها وصقلها وأسلبها، ثم كتب واستكتب عنها المقالات النقدية التي جعل فيها منها الواعدة والأمل في كتابة القصة، حين قرأت كتاباته هذه عرفت أن ياسين سيصل، فقررت أن تصل معه.

وكان اليوم يوم ياسين، هذا اليوم الذي سعى من أجله طويلاً، سعى يستخدم كل ظرف النديم، ورشاقة المثقف.. ليجعل من نفسه نجم السهرات، ولم لا يكون وهو من كان لا يمضي إلى سهرة إلا مصحوباً بنجمين ليس من باب يغلق في وجههما أسيمة، التي كانت تضفي بحضورها وإطلالتها ورشاقتها الطبيعية، وبأسطورة بنت البندقدار التي تخلت عن العائلة والثروة والجاه واختارت أن تعيش حياتها على طريقتها الخاصة، و.. مصباح المحامي اللامع الذي كان الغناء سعادته وبهجته حتى لكأن العمل محامياُ ما كان إلا خطأ من أخطاء الطبيعة، وقد فرض عليه تحمله.

كان اليوم يوم ياسين ويوم أسيمة الذي انتظراه طويلاً، وكان يوم الشلة كلها، التي كانت تراهن على ياسين فهو من سيفتح لهم الأبواب المغلقة.

قبَّلت دلال أسيمة مهنئة وقالت: لا حاجة كبيرة لتهنئته بهذا المنصب، وأضافت مجاملة: بل ربما كان المنصب من يجب تهنئته بوصول كفاءة مثل ياسين. وأحنت أسيمة رأسها موافقة، وكانت عيناها تتابعان ياسين الذي انخرط في حوار جدي مع جابر كان يشيح فيه بيديه بعصبية على عادته عند الانغماس في حوار لم يستطع تحويله إلى مزاح، وقالت لدلال ضاحكة: لا يستطيع حتى في وقت كهذا ألا ينخرط في حوار مع جابر.

صفقت ثريا، ثم صفرت بإصبعين في فمها في زعرنة تهريجية، فالتفتوا إليها، ودفعت أمامها طاولة كبيرة محمولة على عجلات صغيرة زيِّنت بالجاطات والزبادي والصحون الكبيرة وقالت: الجوعان يتفضل.  وما كانت في حاجة إلى أكثر من هذه الجملة حتى بتروا نقاشاتهم وحواراتهم الجادة، وجرَّت أسيمة ياسين إلى الطاولة وهي تهتف مازحة: كل.. كل.. أنت في حاجة إلى كرش الوجاهة حتى يحترمك الموظفون. فقهقهوا، وضحكوا، وهرَّجوا. ولكنهم في قهقهتهم، وضحكهم وتهريجهم لم يسمعوا رنين الهاتف، وكيف كان لهم أن يسمعوه واليالنجي ينادي، والكباب الهندي يغازل، والكبب المشوية والمقلية تغمز وتداعب. ملأوا صحونهم وكان الهاتف يرن. أخذوا في تذوّق الطعام، وكان الهاتف يرن.

وفجأة هتفت ثريا: يا جماعة.. التليفون. أصغوا، وكان الهاتف يرن. وبدا السرور المترقب على وجوههم، فليس من معنى لهذا الهاتف الملح في هذه الساعة إلا أنهم يبلغونه رسمياً بما كانت المدينة كلها تضج به وتعرفه. أسرعت أسيمة إلى الهاتف، رفعت السماعة، تنفست عميقاً لتهدئ توترها، وأخيراً همست: ألو.  زحفوا جميعاً بأقدامهم هادئين صامتين لا يريدون لأقدامهم أن تعكِّر سعادة اللحظة، ولكن تعابير وجه أسيمة لم تكن تعابير من تلقَّى الخبر الذي كانوا ينتظرونه. نظرت إليهم. كان التساؤل يرعد في وجوههم وإن لم تعلنه شفاههم، ونظرت إلى ياسين في اشمئزاز وهي تعطيه السماعة ليقول في ارتباك:

ـ خير.. ماذا..؟
ـ إنها لبنى زوجة أخيك.

تنهدوا في انزعاج، وتراجعوا إلى حيث صحونهم وكؤوسهم وحواراتهم، وتناول ياسين الهاتف، ففصله عن المقبس الداخلي، وخرج به إلى الباحة الحديقة البعيدة عن الساهرين، ثم وصله بالمقبس الخارجي وحشرج: ألو.

وصرخت لبنى: ياسين. تعال شف أخاك.. إكراماً لله. لم أعد أحتمل.

وتمتم متضايقاً: ما الأمر.. ما الحكاية.

وصرخت تكاد تسمع السهارى بصوت أقرب للندب: الحكاية العتيقة نفسها.. الحلم.. والسلطان.

ـ طيب. هذه ليست المرة الأولى.

ـ ولكنها المرة الأولى يقرر فيها اقتلاع بلاط البيت للوصول إلى قبر السلطان حيث تنتظر الوصية.

ـ ماذا؟

ـ تعال شف بعينيك. ياسين أنا خائفة عليه، تطورت الحالة معه.

ـ طيب.. طيب.. سأمر عليكم صباحاً.

وقالت في ضعف: ألا يمكن أن تمر الآن. اسمع.. اسمع..

وسمع صوت أداة حديدية تضرب البلاط..

ـ لا.. الآن صعب.. لدي ضيوف.. وأنا متعب وأنتظر هاتفاً ضرورياً. أقنعيه بأن يرتاح.. وسأمر عليكم.. مع السلامة. وأغلق الخط.

حدَّق في الحديقة نصف المضاءة مِنْ حوله في اشمئزاز: لن يدعوني في حالي، سيظلون يتعلقون بساقيَّ يُعثّرونني، ويعرقلونني.. أف.. كان يسمع ضحكهم وهرجهم وقهقهتهم، ويحس السعادة تنز منهم، وكان في الآن نفسه يتأمل نبتة الغاردينيا التي دلَّلها مع أسيمة كثيراً حتى يريا إزهارها، ولكنها بعد إزهار لفصل واحد توقفت عن الإزهار.

تأمل الياسمينة العراتلية كم اشتهى أن تكون دائمة الإزهار، ولكن. إنها شجيرة تزهر لأسبوع واحد أو أسبوعين، ولكن، لم كانت ياسمينة الجدة دائمة الإزهار، لقد اقتلع هذه الياسمينة واستبدلها عدة مرات، بل هو يذكر أنه قد اشترط على البائع في المشتل أن تكون دائمة الإزهار، وقد أقسم الرجل أنها دائمة الإزهار.. وأراه أخواتها المزهرات في المشتل. ولكنها ما إن زرعت في حديقة باحة البيت حتى تحوَّلت إلى ياسمينة فصيل واحد. أسبوع أو أسبوعين. ترى.. ما السبب؟ أهي كمية الضوء القليلة في الحديقة المحاصرة بالبنايات العالية، أم هو الهواء قليل الهبوب في الحديقة المحبوسة بين الأسوار.. أهي.

وفجأة صدمته الفكرة. ياسين مالك وللغاردينيا والياسمينة؟ ضيوفك في البيت ينتظرون انضمامك إليهم، والليلة ليلتك التي انتظرتها، وعملت من أجلها العمر تنتظر فيها النصر على الجميع، على الأم التي لم تحبَّك وعلى الجدة التي كانت ترى فيك خطايا الزمان، وعلى الخال الذي حاز كل الحب حتى لم يترك لك ولو حيِّزاً صغيراً تحبّ فيه، أو تحبّ؟

ياسين إنها ليلتك التي تنتظر منذ زمن: صوتك حلو، ولكن.. أين السكر من العسل.. ياسين.. إنها ليلتك. كان يعرف أنهم قد اختاروه لمنصب مدير الدعاية والأنباء، ولم يفاجأ حين أخبره الأصدقاء بهذا، فمن يستحق مثل هذا المنصب أكثر منه. الإسهام الصحفي حتى الإغراق، الاسم اللامع، الصداقات مع الأقوياء على مختلف مشاربهم.. إنه النجم الأكثر استحقاقاً.. ولكن.. لم لم يبلغوه بذلك بصفة رسمية حتى الآن. لم تركوا الأمر يتسرب إليه عبر الأقنية الخلفية، والأصدقاء يحملون الخبر إشاعة قوية، ولا يحملون القرار الصريح.. أهم يختبرونه؟ يختبرون ردود فعله.. يريدون منه التزامات معينة؟ لا.. لا.. لا.. ما الذي يريدون إذن.. ولكن ياسين. لم التعجل؟.. خلق الله العالم في ستة أيام. وخير ما تصنع هو الصبر والتظاهر بعدم الاهتمام. أفلم تسمع بالمقولة الشهيرة؛ طالب الولاية لا يُولّى. حسن. أنت لن تستطيع دفعهم إلى التعجيل بإصدار القرار بإبداء الكثير من الاهتمام، ولن تجعلهم يتراجعون إن أبديت عدم الاكتراث.. إنه كالقدر، والقدر لا يكترث لرفضك أو قبولك. دع الأمر يسوي نفسه.

نظر إلى شجيرة الورد التي لم يقلِّمها كما نصحه الجميع، بل تركها تطول ويطول جذعها. قال: سأجعل منها عريشة. قام إليها يتفحصها. وفجأة: ياسين لم تتهرب من الأمر.. ضيوفك في الداخل، وأخوك.. أخوك الوحيد يستنجد بك عبر زوجته، وأنت تتلهى بزهور لم تكن يوماً همّك. ياسين..

وانفتح باب الصالون المؤدي إلى الباحة، فاندفق النور واندفعوا.. وصاحت دلال: تجلس وحيداً؟.. يا مسكين..

وقالت أسيمة: من يرك في جلستك هذه يظنك العاشق. واقتربت منه وهي تكمل: إياك أن تقول إنك عاشق لغيري. سأغضب هه.. ولمّا وصلت إليه داعبته في أذنه ضاحكة، وهمست: الوضع خطير؟

فهمس: لبنى تقول: إن الحالة تتطور.

وهجموا: يلله يا جماعة. دعونا نكمل السهرة. وصرخت ثريا: الموسيقى

وقالت دلال: أشتهي أن أرقص، وتقدم نمري: أنا جاهز، ولكنها قالت ساخرة: الأزواج السابقون لا يراقصون!

وضحكوا جميعاً حتى نمري الذي كان عليه أن يتوجع من اللطمة.

انطلقت الموسيقى، وعلا الهرج والضحك والرقص المرتجل، ولكن سؤالاً ظل ينغل في أحشاء الجميع: لِمَ لم يتصلوا حتى الآن.  لم يستطع ياسين الاندماج في الرقص طويلاً، فقد كان السؤال يخزه أكثر مما يخزهم جميعاً: لِمَ لم يتصلوا حتى الان؟ لِمَ لم يتصلوا حتى الآن؟

رفع القلم مرعوباً: ياسين.. ما اللعبة التي تلعبها. أنا أعرف أنها مريحة لك.. أعرف أنك تظن أنك محرر ذاتك بهذه اللعبة. ولكن أتدرك ما تفعل. أنت تعابث الشفرة. تمازح نصل السلطان وأنت سيد من يعرف أن السلطان لا يمازح، ولا يعابث، فما مازحه أحد إلا هوى. أتريد مصيراً كمصير ابن المقفع، قد يغفر لك السلطان كل ذنب، السرقة، الاغتصاب، القتل.. فكلها ذنوب بشرية محتملة وضعف يمكن للسلطان أن يتجاوزه، ولكن.. أن تعابث السلطان.. تمازحه و.. تشرك به.

وصرخ ياسين كمن يرد ليفحم: ولكن من يعابث السلطان، أو يشكِّك به؟ كل ما أفعل هو أني أكتب الرواية الأخرى، روايتي أنا قبل أن يصير السلطان السلطان، وقبل أن أصبح الفريسة والغنيمة، ثم.. اكتفى بهزِّ كتفه والمضي بعيداً، فهذا الحوار مما لا خير فيه. كان ياسين منذ جيء به إلى بيته ومكتبته، وزوجه، بعد طول اختفاء، وقيل له: نريد منك كتابة سيرة لمولانا عقلة بن نافع الزمان، سيرة لن يستطيع كتابتها سواك ووافق، فقد كان الخيار الآخر أكبر من قدرته على الاحتمال، ولكنه حتى عند موافقته الأولى كان يحس ببذرة التمرد تُنتشُ في أحشائه ضئيلة، صغيرة، ولكنها موجودة. قال لدى خلوته الأولى مع تل الورق وكومة الأقلام أمامه: سأضع كتابين في آن واحد، كتاباً هو السيرة التي يريدون لسلطان الزمان، وكتاباً هو السيرة التي أريد. إنها سيرة الكاتب الممزق بين إخلاصه للكتابة والحلم بالخروج من وضاعة الرعية إلى جنة المواطنة، الحلم بكتاب لا يخضع فيه لما يريدون. ولا يبشِّر فيه بما يريدون. بل كتاب يتحدث فيه عن رحلة تمزق طفل غير محبوب من أهله سعى ليكون المحبوب، فلم يستطع تقبُّل نعمة الحب لأن من أحبَّه لم يكن الموازي للحلم، وطارد من لا يحبُّ وهو يعرف أنه أبداً لن يحبَّه.

كتاب هو السيرة التي أريد. إنها السيرة الأخرى، الفضاء المضاد. إنها رحلة البحث عن الحب والقبول والاعتبار في عالم لا يقيم.. الاعتبار إلا للشرطي ورجل الدين، في عالم لا يحترم إلا المخيف والمرعب ـ توقف يفكر ـ أعوذ بالله. إن مجرد التفكير في الكتابة عن الأنا بعيداً عن السلطان هو بداية التمرد.

ياسين. أيحق لك التمرد. وأنت من قضى الثلاثين عاماً الأولى من عمره يسعى وراء السلطان، ورضا السلطان، والفوز بقبول السلطان تغيظ به الأم والجدة والخال الذين رفضوك لأنك لم تكن العبد المؤمن المطيع.. أو.. أيحق لك التمرد، وقد دفع  السلطان أجرك لتكتب سيرته، وأنت حين تكتب سيرتك، فأنت تسرق السلطان.. و.. تظنه يغفر لك سرقته وهو الذي لا يغفر ما هو أقل من هذا.

تأمل الوريقات بين يديه. كان يعرف أنه بعمله هذا يخالف الرجل ذا الوجه اللحيم منقذه من الضياع الطويل، ويعرف أنه بعمله هذا يخالف ما يريد السلطان، ويعرف أنه بعمله هذا إنما يغامر بضياع أسيمة والبيت المريح والرفقة المريحة ودلال الممنية بعد طول تمنع و..

ولكن.. أنا إنسان، وكاتب، ومن حقي أن أكتب ما أشاء. فلم لم تكتب ما تشاء حين كنت في معتزلك مع ليلى.. ليلى؟

ويمكن لمن عاش في تلك الجزيرة أن يكتب، ولماذا؟ وليس من قارئ ولا ناقد ولا....

حسن.. سأفعلها، وليكن ما يكون. يريد سيرة للسلطان.. طيب. سأكتب سيرة للسلطان، ولكني سأكتب السيرة الأخرى أيضاً، سأكتب سيرة للطفل يمزق شرنقة العائلة بحثاً عن ذاته، وفرديته، والعدل في زمانه.

وجذب كومة الأوراق  

(7)

ترجَّل من سيارة التاكسي عند مفترق باب الشرق، فلم يكن من الممكن للسيارة أن توغل المزيد في حارات زقاق الخشب. نفث نفثة سخرية من أنفه: علاء ما الذي أرجعك إلى هذا البيت. وهذه الحمقاء لبنى ما الذي أغراها ببيع بيتها في شارع بغداد. الشارع المبلط الأرصفة، المشجَّر بالفلفل الكاذب والأكاسيا، ما الذي جعلها تنصت إلى هذا الأحمق الغارق في حنين لا معنى له. قال: أريد أن أسترجع البيت القديم.

كان علاء حين قرر استعادة البيت القديم قد رجاه أن يصحبه إليه يستنصحه في الأمر قبل شرائه.فكتب ياسين بعد الزيارة مقالاً طويلاً عن فساد الحنين إلى الماضي، هذه العاطفة المريضة التي تشوِّه المرأى، فلا ترينا ما فعل الزمن.. كان البيت القديم بيت الطفولة والحنين الذي كان يتذاكر أيام الطفولة فيه مع علاء قد تحول إلى معمل للأحذية الرخيصة والشحاطات، ومعمل للحقائب المصنوعة من قضبان خشبية وشرائح من صفيح.. كان البلاط الرخامي الأبيض قد تكسر، وتخلَّع في أكثر من مكان، أما البحرة ذلك المكان الذي حوّلته الذكرى والحنين إلى شوق وحنين صافيين فقد حولها الزمان والإهمال والسكان الجدد إلى حجارة سوّدتها الأشنات والقذر، وامتلأت حتى منتصفها ببقايا الشاي اليابس وقشور الفاكهة ومزق الجلد والصفيح والإهمال. تمنى ساعتئذ لو لم يطاوع علاء ويصحبه إلى مقبرة الذكرى هذه، ولكن ما كان قد كان.. وصف في مقالته الطوان الممزق، والجدران مقشرة الطينة، والإهمال المحيط بكل تفاصيل المكان، والغريب أن القذارة والإهمال والهجر الذي كان ياسين يراه ويزعجه كان علاء يراه بعين المهندس المرمم، فيبهجه، فلم يكن يراه إلا طريقة لبخس سعر البيت، وشرائه بسعر معقول تمهيداً لترميمه. قال: سأستعيد بيت الطفولة ما قبل الشقاق، وسأحوِّل بعض البيت إلى مطعم ومقهى تديرهما لبنى.

لم يقرأ علاء مقال ياسين، وإن كان قد قرأه وهو لم يقرَّ بذلك أبداً فلقد تجاهله تماما، واشترى البيت، ثم انقطع عن ياسين نهائياً، ولم يكن هذا غريباً على ياسين المنشغل بمشاريعه دائماً، ولم يكن غريباً على علاء الذي اعتاد الانقطاع عن أخيه كلما انشغل بمشروع جديد. كانت الدكاكين قد تغيرت، والوجوه قد تغيرت، فلم يعرف فيهم أحداً من حوله، وكيف كان له أن يعرفهم وقد فارقهم مع أمه وأخيه طفلين بعد أن خسر الأب البيت في ديون البورصة ومغامرات التجارة الفاشلة..، ورآها أمامه.. أعوذ بالله.. ما الذي أخرجها من دهاليز الذاكرة الآن. أغمض عينيه كمن يطردها، أو كمن يحثها على مزيد من الجلاء. ورآها. صينية كبيرة من النحاس، صينية العشاء التي كانوا يرصفون عليها الجبن والزيتون والبيض والمربيات للعشاء، ولكن ما كان مرصوفاً عليها هذه المرة لم يكن العشاء، بل كان تلاً من الليرات الذهبية، كم كان عددها. لا يعرف.. ولا يعتقد أنه يمكن له أن يعرف، ولكنه تل لا يمكن أن يعد أقل من ألفين، أو ثلاثة آلاف من الليرات الذهبية. قالت: تأملها جيداً حتى تذكر حين تكبر ما الذي تخليت عنه حتى لا أقع في الحرام!!

فقال في مرح ولم يفهم ساعتئذ ما الذي تعنيه تماماً: أكل هذه الليرات لبابا.

قالت وهي تنفض الغطاء القماشي الأبيض استعداداً لإعادته غطاء للصينية: نعم.

فقال في ارتباك طفلٍ لم تضرسه تجارب الحياة: فلم لا نأخذ بعضها. ماما الله يخليك.. دعينا نأخذ بعضها لتشتري لي ولعلاء الكرة والقطار التي وعدت بشرائها. ولكنها في صرامة أعادت الغطاء القماشي الأبيض إلى مكانه تغطي الليرات وقالت: لا.. ولكن، لم لا..؟ لأنه مال حرام.. إنه مال البورصة.. القمار.. وأنا لن أطعم أبنائي من مال حرام.

ـ ولكنه مالنا.

قالت: لا تجعلني أندم أن أريتك إياه.

كانا قد تسللا إلى غرفته الخاصة أثناء مضيه إلى الحمام العام مع أصدقائه، ويبدو أنها كانت تعرف بكنزه.. قالت: أريتك المال لتعرف أن الحفاظ على الأمانة والشرف يحتاج إلى الكثير من الصبر والمشقة. وهذا المال حرام.. أغنانا الله عنه.

شدته من يده وخرجا من غرفة الأب الخاصة، حلمه الدائم والمحرم عليه الاقتراب منها. كان قد سمع الكثير من شجاراتهما، ومن رفضها هداياه المشتراة بمال القمار، مال البورصة. كان قد رأى الثياب الجديدة الممزقة والمرمية في الباحة، فهي لن تلبس ثياباً مشتراة بمال حرام. كان رغم صغر سنه يعرف أنهم يعيشون على حافة الفقر.. فنفقة البيت كلها إنما كانت تأتيهم من حصة في وقف قديم تركه لهم أحد الأجداد، وما كانت هذه الحصة تتجاوز التسعين ليرة، كان يعرف المبلغ جيداً، فقد كان هو من يصحبها إلى مديرية الأوقاف، تحمل معها دفتر الاستحقاق والختم النحاسي الصغير تختم به على دفتر الصراف أنها قد قبضت اثنين وتسعين ليرة وخمسة وستين قرشاً، وكانت حصته من هذه الرحلة هي الخمسة عشر قرشاً بها يشتري على طريق العودة ساندويشاً أو بوظة، أو بعض الكاتو.. كان رغم صغر سنه الأكبر بين أخويه والذي كانت الأم تعوِّل عليه رجلاً للعائلة به تستقل عن الأب الغارق في البورصة والقمار والحرام وغضب الله.. ولكن الغريب ياسين يذكر الآن أنه كان مفتوناً بذلك الأب، مفتوناً بطوله الجميل، بأناقته المتحذلقة، مفتوناً بشاربيه الصغيرين المتغندرين فوق شفته، مفتوناً بمجيئه الدائم راكباً عربة يجرها حصانان، كانت السيارة قد بيعت قبل أن  يدرك ما السيارة. صحيح أنه كان يتمايل أحياناً في بضعة الأمتار التي يمشيها إلى البيت، والتي كانت تجعل الجيران يتمتمون ولا يجرؤون على التصريح فهو ابن الأرفعي: إه.. الله يمحو كاساته.

كانوا يعرفون أن هذا الجهل الذي يعوم فيه كاسات محكوم بها عليه وسيأتي الوقت الذي سيتوب الله عليه من هذا الجهل ويعود إلى العائلة المشهورة بتقاها وشرفها. فيما بعد وحين ستلجأ الأم مع ولديها إلى بيت أمها، وسيصبح الخال الذي يكبره بسنوات خمس فقط صديقه الإلزامي الوحيد،  وحين يخرجان في النزهات التي سيعلمه فيها الخال وأصدقاؤه السطو المسموح به على البساتين يتنزهون فيها ويسرقون المشمش والجانرك والباذنجان والبندورة ويأكلونها نيئة، يهاجمون أعشاش العصافير وأوكار السراطين، في تلك النزهات التي لم تطل لأكثر من موسم واحد فلقد عقل بعدها الخال، وتفرغ لقراءة مولد البرزنجي، ودلائل الخيرات. في تلك الغارات حدثه عن الفخر الذي كان يشعر به بين رفاق الحارة حين تصل سيارة الكاديلاك يسوقها الصهر الجميل ممشَّط الشعر إلى القفاشاليش، كيف كان يحس بالفخر والفرح بذلك الصهر الذي كان يأتي مصطحباً معه أخته والطفلين وأكياس الفاكهة والحلوى ونظرات التباهي في عيني الخال أمام رفاق الكريات الزجاجية.. ومباريات البلبل الخشبي.

قال: كنا جميعاً نحبه ونفخر به، وحين كان الأولاد يسألونني في خوف: ولكن ماذا يشتغل. كنت أحدثهم أنه تاجر سجاد عجمي.

وفي مرة تالية حدثه عن نزهة اصطحبهم فيها جميعاً إلى مصيف جبلي، الجدة والخال والأم والطفلين. قال الخال الصغير: كانت واحدة من فرحات الأيام.. كان خفيف الظل مرحاً.. يتوقف فجأة أمام بقالية، فيسأل صاحبها إن كان لديه زيت سيارات وحين كان وجه البقال يضطرب حائراً ومرتبكاً أمام الوجه الجاد للأب، والوجه المبتسم للأم، والوجه الساخر للجدة كان الأب يطلق قهقهته الماجنة تاركاً العنان للسيارة تشفط مبتعدة، حتى إذا ما وصل إلى دكان لحام سأله عن سكائر، ثم أطلق قهقهته. قال الخال الصغير: كانت النزهة مرحاً وضحكاً، وكانت أمك تضحك من عمق القلب.. وكان العالم فرحاً وبهجة.. ثم يتساءل في حزن: ما الذي جعله يتخلى عن التجارة التي أحلها الله ويتحول إلى البورص، وإلى المال الحرام.. ثم كان يواجهه في سؤال مباشر وكأن لديه الجواب: ما الذي غيَّره..

هذا السؤال: ما الذي غيَّره. لم يكن سؤال الخال فقط، بل كان سؤال الأم الدائم، وكان سؤال علاء، وكان سؤال الجدة، ما الذي غيَّره.. وكان ياسين ينظر إليهم في حيرة غير فاهم إصرارهم على السؤال عما غيَّره.. فلم يكن يرى في هذا التغير ما يكره.. كان أجمل منهم جميعاً، وكان أكثر أناقة حتى من الأم، وكانت عطوره تفتن الحارة، وكانت سيارته مثار حسد الجميع، وكان السؤال الذي لم يسأل: هو ما الذي غيَّر الأم فجأة فجعلها تبتعد عنه إلى غرفة الأولاد، وجعلها تنظر إلى ماله على أنه حرام وجعلها تنظر إلى صينية الذهب على أنها الطريق إلى جهنم، ثم تختصر حياتها بتلك الليرات القليلة التي كانت حصتهم من الوقف.

كان يحضر معه أنواع الفواكه والحلويات، ولكنها أعلنت أن كل ما يجلبه حرام من مال حرام، وحرَّمت على نفسها وولديها تذوقه، وأصرت على رميه إلى جانب البحرة احتقاراً ورفضاً. ولكنها لم تكن قادرة تماماً على ضبط الولدين اللذين كانا يتسللان إلى ما رمته إلى جانب البحرة إلى حيث الفاكهة والحلوى الٍرمية.. وكانت الصدمة قاسية حتى اٌجرح، الولدان يخينانها ويأكلان المال الحرام.. وكان الضرب الموجع، الذي سيجعل ياسين يكتب عنه في مجٍوعته القصصية الأولى: الشرخ الأول في الحب بينهما والذي سيمتد حتى ليعجزان عن ردمه ويصبح المرفوض منها،  فلقد ضبطته مرة وكان في جيبه كمية من الحلوى والنقود الصغيرة التي عرفت أنه يقبلها من(الأب الوالغ في الحرام..

وسيزداد هذا الشرخ اتساعاً حين تضبط في درجه  المخصص لكتبه عدداً من مجلات سندباد، والأسوأ عدداً من روايات أرسين لوبين، وستعلن أمام أمها وأخيها وعلاء أن ياسين قد فسد، وأن قدر أبيه البورصجي سيتكرر فيه، وألا أمل يرجى منه.. أفلا يقرأ روايات اللصوص والحرامية بدلاً من سير الأنبياء والصالحين.. وسيرة الملك الظاهر. وجد نفسه أمام الباب الخشبي المحفور والمؤطر بإطار من الحجر الأبلق والمزين بقبضتين ومطرقة من النحاس العتيق. قال ياسين: لقد استعاد علاء المشهد الأول للباب.. رفع  المطرقة وقرع بها الباب، فلم يزوِّد علاء الباب بجرس كهربائي قال: الجرس الكهربائي سيشوه تناسق وانسجام الباب مع محيطه. فتحت لبنى، وأشرق وجهها حين رأته. قالت: حمداً لله أنك جئت.

ـ كيف هو؟.
ـ تعال.. انظر بنفسك.

دخل.. وكانت المفاجأة؛ علاء في ثياب عتيقة موحلة غاطس حتى فخذيه في حفرة وقد قلع البلاط الرخامي الأبيض وإطار الغرانيت الذي كحل به الرخام الأبيض. كانت الباحة خراباً حقيقياً جعل ياسين يتوقف مشدوهاً: من صنع كل هذا؟ سمعه علاء فأشرق وجهه، وقفز من الحفرة ثم انقض عليه معانقاً:

ـ حمداً لله أنك جئت.
ـ ما الذي تصنع؟
وضع اصبعه على فمه آمراً بالصمت، فصمت ياسين، ولكن وجهه المتسائل ظل على سؤاله.
قال علاء: أتسمع؟
فقال ياسين في حيرة: أسمع؟ أسمع ماذا؟
كرر علاء: أنصت جيداً، وستسمع.
وقال ياسين في ضجر: ولكن ماذا تريدني أن أسمع.
ـ صوته.. صوته.. إنه قادم.
ـ من؟.
ـ الذي بشرت به في كل ما كتبت. أنسيت.
ـ من؟
ـ الملك الظاهر محرر الأرض، ومعيد السلام إلى البلاد.
تجمدت يداه، وأحس برودة وصقيعاً يدبان فيه.

ياسين. إكراماً لله، ما الذي يغريك بفتح الملفات القديمة.. ما الذي ستجني من نبش الماضي الذي لن يسعد أحداً.

ولكن إرادة لم تكن إرادته قطعاً كانت أقوى منه جذبته إلى الدفتر أمامه، فعاد إلى الكتابة كالمحموم

بدأ الأمر بسعلة قحة عادية، بدت وكأنها محاولة من علاء لتنظيف حلقه من قذاة علقت به، ولكن السعلة لم تخلصه  من تلك الحكة الشائكة التي علقت بحلقه، فأمعن في السعال، وارتفع صوت السعال، وانتبه ياسين إلى أن صوت السعلة يعلو، ويعلو حتى أخذ يهز جدران البيت.

خرجت لبنى من غرفتها مرعوبة: ما هذا. ما الذي يجري؟ كانت جدران البيت الحجرية ترتعش تحت وقع السعلات، وقال ياسين: أله عادة بهذا السعال القوي؟ ولكنها صرخت، فلم يسمعها، فلقد علا السعال، وصرخ يسألها: ما تقول، فصرخت وكأنها لم تسمعه. ترك علاء يسعل ومضى إليها. اقترب حتى كاد يلاصقها: ما تقولين. قالت: اسمع جيداً إنه ليس الوحيد الذي يسعل.

أصاخ. كان السعال العجيب ينطلق من البيوت المجاورة، ويتجمع إلى أن يتحول إلى صوت يهز جدران البيت. رأى علاء يمضي حتى الدرج الخشبي، فلحقا به. كان علاء يقفز على الدرج الخشبي، ولكن صوت قرقعات قدميه المفترضة على خشب الدرج لم تسمع، فقد كانت السعلات أقوى. لحقا به، لحقا به حتى السطح وهناك رأياه يسعل فتتجاوب معه الأسطح الأخرى، الشوارع الأخرى، البيوت، البنايات وحتى الجبل.

كانت المدينة كلها تسعل محاولة التخلص من حكة في الحلق، من حس بتشوُّك مؤلم في الحلق.. كانت تسعل سعالاً موقَّعاً مضطرباً، مهتاجاً. كانت المدينة تحاول التخلص مما يخنقها، ويضايقها، ويمنعها من التنفس الطبيعي. كان ياسين يراقب مذعوراً، متوقعاً حدوث شيء. كان يتوقع انهيار بيوت عتيقة، تحلّل مغائر الجبل وانهيار البيوت المبنية فوقها مجازفة حين رأى علاء يشير إلى السماء ويصرخ: انظر.. انظر. ونظر ياسين إلى حيث أشار علاء، ولكنه لم ير شيئاً، فنظر إلى لبنى مستنجداً. ولكنها أغضت في حزن، ولم يلاحظ علاء حوار العيون بين ياسين ولبنى، فتابع: اسمع.. اسمع.. ألا تسمع خفق الأجنحة.. لقد غطَّت الأفق.

ولكن ياسين رأى بدلاً من الأجنحة الخافقة بقعة دخان أبيض تتمدد وتقترب.. تتمدد حتى أخذت تغطي كل ما يمكن للعيون الوقوع عليه. كان دخاناً بلا رائحة. أكان ضباباً؟ ولكن الزمن كان الصيف، ولا مكان للضباب.

حسن.. إن لم يكن الضباب، ولم يكن الدخان، فما هذا العماء الأبيض الذي أرعب الساعلين والقاحِّين، والمحاولين إخراج القذى من الحلق، والشوك من الحنجرة، فغطى كل شيء.

سمعوا رنين الهاتف، وعجبوا كيف استطاعوا سماعه، ولكن ياسين انتبه إلى أن السعال قد توقف، فتساءل: ما الذي أخرسه. أهو الضباب الزيتي المائع قد منع وصوله، أم أنه أرعب الساعلين، فنسوا حكة الحلق والشوك في الحنجرة.

كان رنيناً عذباً إنسانياً واعداً بكثير من الود والعلاقات البشرية، فبعد ذلك السعال الذي يهز الجدران، وبعد ذلك الضباب المائع الذي يغطي كل شيء. ها هو الرنين يقول: إن هناك بشراً يريدون الاتصال بك. وتمتم ياسين في أمل ضعيف: أتراهم يتصلون؟.. أتراهم أصدروا قرار تعييني مديراً للدعاية والأنباء أخيراً؟

انتبهوا إلى أن السعال توقف، وربما كان هذا ما جعلهم يستمعون إلى الرنين.

قفزت لبنى إلى الدرج، وما كانت تحتاج إلى دليل يحميها من الانزلاق، أو الوقوع رغم الضباب، فلطالما تسللت إلى السطح في الليالي العاتمة تبحث عن عزلة، فلا تضيء المصابيح، ولا تريد لأحد أن يعرف معتزلها، فدربت قدميها على معاثر الطريق، ومهاوي الدرج. حاول ياسين أن يلحق بها إلا أن قدميه العمياوين خافتا، وترددتا، فأخذ علاء بذراعه، ومضى به إلى الدرج. كان يعرف الطريق.. وحين وصلا إلى الباحة سمعا لبنى ترد على الهاتف: نعم.. نعم.. إنه هنا.

وقال علاء: من؟

ـ إنه الدكتور سعيد صديق الأستاذ ياسين. قال إنه ينتظرك حسب الموعد ثم انقطع الخط.

وسمع ياسين علاء يقول مبرطماً: ها.. الدكتور سعيد. ما الذي يريد منك؟ ثم بصوت جلي: وكيف عرف أنك هنا؟.

ـ أنا من هتف إليه.
ـ خيراً؟..

كان علاء في حالة تريُّب شديدة من كل ما له علاقة بالطب والأطباء، وأدرك ذلك ياسين، فقال وكأنه يعتذر: كنت في حاجة إليه ثم استدرك كنت أريد الاعتذار عن دعوة غداء.

فقال علاء، وما زال صوته ينزُّ بالريبة: أكنت مدعواً لديه على الغداء؟

ـ نعم، وما الغريب في ذلك.
ـ ومع ذلك جئت لتزورنا ثم ازدادت نبرة الشك أتعرف؟ زيارتك اليوم غريبة.. أليس كذلك؟.

ـ وفي زيارة الأخ لأخيه غرابة؟

ـ يعني.. إن كان الوضع طبيعياً، ولكن وأشار إلى العالم من حوله خفق الأجنحة.. الضباب، ثم صرخ يا إلهي.. العالم يتمخض..

وقال ياسين مازحاً: وماذا تتوقع أن يضع؟

صمت علاء فجأة، فقد خاف من ياسين.. ثم استدرك: لا شيء. ثم وجه الحديث إلى لبنى: ياسين تخلّى عن غداء مع الدكتور سعيد ليزورنا. فماذا أعددت له على الغداء.

استدرك ياسين قبل أن ترد لبنى: لا.. الوضع كله مربك. السعال، وهذا الضباب الغريب. لا.. سأمضي إلى البيت وسأتغدى مع اسيمة.

وكأن علاء ما كان ينتظر إلا سماع هذا الجواب حتى يتنفس الصعداء.

ـ طيب.. سأصحبك إلى الشارع العام.
ـ أعرف الطريق. أنسيت؟ قالها يحاول المزاح.
ـ لا.. لا.. ففي مثل هذا الضباب ستكتشف أنك لا تعرف الطريق.

شدَّت لبنى على يده شاكرة.. متواطئة؟.. طالبة العون؟ لا يدري. ولكنه مضى مع علاء، وكان علاء على حق، فالطريق التي لم يمش عليها منذ سنين أنكرته، وكاد يتعثر أكثر من مرة لولا أن علاء كان يسنده.

قال: ها نحن على الطريق العام.  ولم يكن ياسين في حاجة إلى السؤال فقد كانت الأضواء المضادة للضباب تكشف عن جزء من الطريق، وكانت أصوات الزمامير قوية بحيث لم تترك مجالاً لخطأ. للمرة الأولى في حياته يرى المدينة بهذا الشكل. كانت مدينة مختلفة عن كل شكل سابق لها، فلقد تحولت إلى وعاء من حليب رصاصي لا شجر ولا بنايات، لا لوحات إعلانية ولا عسكر. كانت أضواء صفراء وزمامير مرعبة ومرعوبة تطلقها السيارات. أما الناس.. أين الناس.. ما الذي جرى للناس.. صمت السائق، فلم ينطق بكلمة، لم يلعن، ولم يشتم، ولم يصطدم بسيارة أخرى، ولم يسمح لسيارة بالاصطدام به، كيف استطاع العبور في هذه الغابة الحليبية المتسخة البياض.. لا يعرف، ولكنه سلَّم أخيراً أمره له. أغمض عينيه ليكتشف  أن الأمر واحد، ففي ضباب كهذا البصر والعماء واحد. نزل من السيارة، وما كاد حتى أمسكت يد قوية بذراعه، وسمع صوتاً يقول: الأستاذ ياسين؟ فتمتم: نعم.

ـ الدكتور سعيد أوصاني باصطحابك.

كانت قاعة الكشف مضاءة تماماً، فتساءل ياسين: كيف استطاع إبعاد الضباب. أفلت مرافقه ذراعه، وأشار سعيد إلى مقعد جلدي: تفضل. ثم عاد إلى مكتبه، وقرع الجرس: قهوة؟ فأشاح ياسين في سأم: لا.. أرجوك.. لقد شربت ليلة أمس وصباح اليوم من القهوة ما يكفيني لشهر. فقال سعيد في مواساة: لم يتصلوا؟

هز ياسين رأسه موافقاً دون رغبة حتى في الكلام. فأضاف سعيد: سيتصلون.. سيتصلون. الإجراءات البيروقراطية. أنت أعرف الناس بها.

أحس ياسين أنه لا يريد مزيداً من الحديث في هذا الموضوع، فلقد أسأمه وأمضه النقاش فيه مع نفسه، ومع أسيمة بعد مضي الساهرين، ومع دلال في هاتفهما الصباحي حين كانت أسيمة نائمة. قال: لا أريد الحديث في هذا الآن.

همهم سعيد: علاء؟
فقال ياسين في انكسار: علاء.

قلَّب سعيد في ملف أمامه، ثم انتزع قصاصة من صحيفة تأملها قليلاً، وقال: الغريب أن بعض المقولات التي نقولها أحياناً، ولا ندرك خطورتها أو مدى تأثيرها على الآخرين مزلزل. أنا أعرف أن شهوة الكتابة، شهوة أن تقول ما لا يعرفه الآخرون، شهوة كسر المألوف، وافتراع المجهول بالكتابة شهوة قوية، شهوة قد تغري المرء بالاندفاع وراءها، وقول ما لا يدرك مدى تأثيرها وخطورتها على الآخرين.

ـ ماذا تعني.

ـ إسمع. وأخذ يقرأ من القصاصة: كان الملك الظاهر حلم كل حكام ومحكومي العالم الإسلامي. كان حلم الصبيان ذوي الطموح لوضع بصمتهم على التاريخ. ولم لا يكون، وهو الصبي القادم من المجهول، لا عائلة تحميه، ولا حزب يدعمه، ولا طائفة تحتضنه، ومع ذلك يصل إلى مرتبة السلطان، ثم لا يكتفي بهذا، بل يقنع المثقفين بتأليف كتاب عنه يصبح كتاب كل بيت، كتاب يتحدث عن أمة لا عمل لها إلا أن تنتظره، عن تاريخ لا هم له إلا أن يعدَّ له كل ما سيمكنه من السلطنة.. عن..

رفع ياسين كفه يوقفه عن إتمام القراءة: ما الذي ذكَّرك بهذا المقال. لقد نشر منذ سنين، وسنين.

أراد سعيد أن يستمر في القراءة: ثروات الأمة..
وأصر ياسين على إيقافه: أنت تجتزئ ما تقرأ من سياقه.

فقال سعيد: لا بأس. سأعيده إلى سياقه.. إسمع.. أليس هذا حلم الحكام الدائم.. ليس أن يحكموا الحاضر فقط. بل المستقبل، ليس أن يصمت معاصروهم عن أخطائهم، بل يبرروها، ويجعلوها ضرورة. يقتل الملك الظاهر سلفه في الحكم، ولكن هذه إرادة الله، يستولي على أموال السابقين ولكنها المنذورة له منذ الكتاب المسطور. يحيل الأمة إلى مصفقين وهتافين، ولكنه.. استطاع هزيمة الأعداء.

وبينما أخذ سعيد يهدر ويقرأ كان ياسين يفكر في سؤال ملح لم يتوقف: لِمَ لم يتصلوا حتى الآن؟ ولكنَّ ما أثار دهشة ياسين حتى الحيرة هو أن السؤال قفز، وقفز الاعتراض عليه مباشرة: أكان السؤال عن عدم اتصالهم ليس إلا الهروب من متابعة الحوار مع سعيد. أصْمت الاعتراض، وانتصب واقفاً يقاطع سعيد: ممكن أن أستخدم الهاتف.  لم يندهش سعيد لتغيير ياسين محور الحديث، فأشار إلى الهاتف في كرم: تفضل.  طلب ياسين رقم بيته وهو يفكر: يا رب. دعنا ننهي هذه الفوضى، واجعلهم يتصلون. ولكن الهاتف رنَّ.. رنَّ.. ولا مجيب.

وضع السماعة حائراً، والتفت إلى سعيد: غريب.. كيف تخرج في يوم كهذا.

قال سعيد وهو يصب القهوة لهما: لا بد أنها سئمت البقاء وحيدة. قدَّم فنجان القهوة لياسين، ثم رشف من فنجانه رشفة، وتابع وكأن ياسين لم يقاطعه منذ قليل: قلة قليلة أولئك الذين يدركون تأثير الكلمة إن وقعت موقعها في الناس.

استند بظهره إلى المقعد يستريح: هل تتصور أن الرسام الفاشل أدولف هتلر كان يعتقد أن كتاباً ساذجاً على كل المستويات ككتاب كفاحي سيؤثر على البشرية هذا التأثير. هل خطر له ولو للحظة أن بضع الوريقات هذه ستجعل البشرية تقدم ما يزيد عن الخمسين مليوناً من البشر ثمناً لهذا الهراء.

قال ياسين في سأم: ما الذي تريد الوصول إليه.

تنهد سعيد ثانية: أنت ولبنى قلقان من أجل علاء وكوابيسه الليلية، ومشترياته العجيبة، وتخريبه بلاط البيت.

هزَّ ياسين رأسه موافقاً: ولكن علاء ليس الوحيد. ففي بحر السنة الماضية جاءتني عشرات الحالات وكلها إما أنها قد وصلت إلى الفصام الكامل، فآمن المريض بأن الملك الظاهر قد حلَّ فيه وهو يستعد لتجييش الجيوش والنصر على العدو، وإما أنه في حالة كحالة علاء أي من نسميهم بالموسوسين، أو من لديهم الوسواس القهري. فهو لا يعرف إن حاكم نفسه لِمَ يتعلق بالملك الظاهر هذا التعلق، ولكنه متعلق به، لأنه يعتقد أنه الأمل.. وتابع مغيِّراً لهجته: اسمع.. أتعرف كم مقهى شعبياً عاد إلى الحكواتي مهملاً التلفزيون ولعب الطاولة.

قال ياسين في ضعف: سمعت عنهم.

وتابع سعيد: أتعرف ما السيرة التي تعلق بها الجميع؟

ـ سيرة الملك الظاهر!.. قالها ياسين في استسلام. وهز سعيد رأسه مؤمناً، فانفجر ياسين
ـ ولكن هذا لم يكن ما انتويته من كتاباتي.
ـ صحيح. أنت كنت تتعجب كيف تعلقوا بالملك الظاهر فكتبوا سيرته، وحولوه إلى بطل وتاريخ وأمل.

فقال ياسين: مع أنَّ الكثيرين كانوا أهم وأعظم منه في التاريخ الإسلامي. فأين الملك الظاهر من صلاح الدين، من نور الدين، من عماد الدين يا سيدي، ولنكن أكثر جدية أين الملك الظاهر من الحجاج، باني دولة بني أمية؟ أين هو من عبد الملك بن مروان، من موسى بن نصير، من المعز الفاطمي.. وتوقف يتنفس مهدئاً نفسه من العصبية التي تملكته. أين هؤلاء كلهم وهم من بناة الدول الكبار ومن منقذي الأمة من العدو. فلم لم يكتبوا عنهم سيرة تصبح عماد كل مقهى، والكتاب الأول في كل مكتبة منزلية.

وتدخل سعيد مهدئاً: لقد كتبت ذلك في مقالاتك. أنسيت. إنه هو الملك الظاهر من طلب من مثقفي عصره، ومن كتّاب عصره أن يكتبوا سيرته ليس أن يكتبوها فقط، بل يقدِّموها له لينقحها ويراجعها، ويعطي موافقته أو اعتراضاته عليها.

ـ صحيح. هذا كله كتبته، ولكن ما الذي جعل علاء
ـ ليس علاء فقط، بل الكثيرين.
ـ »الكثيرون«.. ما الذي جعلهم ينسون ما كتبت عن قتله صديقه ورئيسه وبطل عين جالوت قطز غدراً.. نسوا ما كتبت عن محاولة قتله آخر الأيوبيين المطالب بالعرش.. نسوا ما كتبت عن دمويته وسكره و..

ـ لأنهم لم يكونوا يقرأون ماتكتب، بل يقرأون ما يتمنون أن يكون.. ـ تنهد سعيد ـ أنسيت الهزيمة التي وقعت على جيلنا فقصمت ظهره، وبددت حلمه. 

(8)

كانت رائحة نتن عجيبة أشبه برائحة الكبريت، أو الفوسفور تغطي الشارع المضبَّب حتى الإعتام، فغمغم في أسف: أفليس كافياً.. كل هذا الضباب!

تحسس بقدمه الطريق بعد نزوله من التاكسي، ولحسن حظه فقد كانت قدماه تعرفان الطريق جيداً، البلاط المخلع، والحوض المكسور المحيط بشجرة الفلفل الكاذب، وسور البناية القريب، و.. الدرج.. نزل، ولم يكن النور مضاء أمام الباب، فتشاءم. هذا يعني أنها ليست في البيت. هو يعرف عادتها، إنها لا ترتاح إلا إذا تركت النور مضاء فوق باب البيت.. كانت تقول: يكفي أننا نسكن في قبو، ويكفي أنه القبو الوحيد في البناية، فهل تريد للمستديرة أن تكون عتمة تجذب اللصوص والمتلصصين.

زحفت قدماه على الدرج ببطء. لم يكن يستطيع تمييز الدرج عن أرض المستديرة عن الباب، فالعتمة المخلوطة بالضباب صنعت جواً زيتياً محيطاً ناشراً رائحة اختلطت فيها رائحة الضباب النتنة برائحة القبو الرطبة.. برائحة المطابخ ورائحة المجاري: أووف. متى نتخلص من هذا القبو كما اعتاد أن يقول، وسمع أسيمة تحتج على عادتها على تأففه من القبو. كانت متعلقة بالمكان

قالت: حين تفرج، ويكون لدينا بعض فائض من مال سنصلحه، ونحيله إلى ما يشبه فيلا في قلب البلد. لا تنسَ أنك الساكن الوحيد، صاحب الباب الوحيد، والحديقة الوحيدة، والباحة الوحيدة في البناية كلها.. أهذا قليل؟

ولما ذكَّرها بالروائح ضحكت وقالت: الأمر كله راجع إلى جهلك بالديكور وفراغ جيبك، وحين يمتلئ جيبك سنغيِّر هندسة البيت كلها، سنجعل الهواء يخلي المكان من كل فساد في دقائق، وسنجعل التيار يزيل الرطوبة في دقائق، وسنجعل النور يصل إلى كل أركان وزوايا القبو.. الأمر كله أمر نقود.. املأ جيبك وسترى كيف تستطيع أسيمة أن تحيل هذا القبو إلى فيلا يحسدك عليها الجميع.

كانت قدماه تتحسسان بلاط المستديرة الغامضة أغمضها الضباب والعتمة، ولكن حساباته أكدت له أنه قد وصل إلى الباب أو قارب الوصول، فمدَّ كفه ليكتشف أن حدسه صادق، فلقد اصطدمت كفه بالمطرقة النحاسية. تحسس الباب يبحث عن موقع القفل. ولم يجرب حتى أن يقرع الجرس، أو المقرعة النحاسية، وجد موقع القفل.. دخل.. كان الضباب الزيتي النتن قد تسلل إلى البيت.. أضاء النور، ولكن لا نور.. عجيب. أيعقل أن الكهرباء مقطوعة.. ألا يكفي الضباب.

نادى بصوت العاشق: أسيمة. ولكن الضباب امتص حتى الصدى، فأخذ يتمتم باللعنات. وكرَّر النداء هذه المرة بصوت أقوى: أسيمة أنا رجعت. ولكن لا رد. مضى إلى غرفة النوم، تحسَّس السرير البارد المرتب.. مضى إلى الصالون. كان أعمى يجرب عماه الجديد بالتلمُّس، ولكن المقاعد أكَّدت له أن أسيمة ليست في البيت. أي سوء حظ. أي سوء حظ.. مضى إلى التلفزيون في حركة آلية ليعمله، ولكنَّ صمت تكة التلفزيون ذكرته بألا كهرباء.. أي حظ هذا.. ضباب، وغياب أسيمة وانقطاع الكهرباء.

اقتعد كرسياً قريباً وأغمض عينيه، ولكنه ما كاد يغمضهما حتى أحس بالجوع، وتذكر أنه لم يذق طعاماً منذ الصباح، فمضى إلى المطبخ وصنع لنفسه ساندويشاً وكأس شاي. وفجأة انتبه إلى الصمت العجيب يرين على البيت. ما هذا الصمت. الوقت ما يزال مبكراً. أين صوت السيارات والزمامير.. أجهزة المذياع والتلفزيون.. صرخات الأطفال وشجارات الأزواج.. لا صوت.. صمت مطبق. شيء غير معقول.. ولكن أسيمة.. أسيمة.. أين مضيت في مثل هذا اليوم إكراماً لله.. لو تركت رسالة.

هو يعرف أن اليوم جمعة، ولا دوائر ولا موظفين، وليس من المعقول أن يكونوا قد اتصلوا لإبلاغه بقرار التعيين.. ولكن ماذا لو كانوا قد اتصلوا.. أنت تعرف سوء الحظ، وكيف يفعل.. لا بد أنهم اتصلوا اليوم فلم يجدوا من يردُّ على هاتفهم. ولكن.. ربما كانت موجودة وتبلغت القرار وها هي تبحث عنك الآن لتبشرك.

ابتلع اللقمة الأخيرة من ساندويشه، وقال: سأهتف إلى جابر لا بد أن لديه خبراً ما.

مضى إلى حيث الهاتف، رفع السماعة، ولكن الهاتف كان أخرس أصم كقطعة من الأثاث، شد السلك.. انحنى إلى حيث المقبس يتأكد من اتصاله، ولكنه كان أخرس، فارتمى على المقعد القريب، وأطلق ضحكة ممرورة.. هه.. الآن اكتمل السعد. ما الذي يجري. إنها المرة الأولى تجتمع فيها الكوارث كلها ضباب وكهرباء مقطوعة، وهاتف مقطوع وقرار لم يعلن و.. أسيمة غائبة..

استند برأسه إلى ظهر المقعد وتساءل: أين يمكن لها أن تكون في يوم كهذا. أين.. لو يستجيب الهاتف.. لو يستطيع سؤال واحد من الأصدقاء عنها.. تنهد.. الآن وأنا في أمس الحاجة إليها؟ الآن وأنا في أشد اللهفة إلى من أشكو إليه وحدتي، وخوفي وارتباكي.. وعلاء وهوسه، وسعيد وتذكيره لي بأن دراساتي عن الملك الظاهر نشَّطت هوس المهووسين الحالمين بالمستبد العادل يحمل عنهم الهم، ويقدم لهم النصر، ويأخذ عنهم فائض حريتهم ورزقهم.. المهم أن يكون الأب الصالح، وهل في التاريخ العربي الإسلامي سيرة لمستبد عادل كرسته السيرة تكريسها للملك الظاهر.

الآن وأنا أتمنى شخصاً أجادله، أحاوره، أبرئ نفسي أمامه، فأنا حين كتبت ما كتبت إنما كنت أحذِّر. كنت أنبِّه كما أعتقد إلى أن المستبد العادل لن يتبقى منه إلا المستبد، فالعادل اختيار، وعطاء ومنحة من المستبد، فإن كان يستطيع أن يكون المستبدّ، فلم يكون العادل. كنت أريد من أحدثه عن أسفي.. أنهم فهموني على عكس ما أردت إفهامه، ولكن اسيمة.. أسيمة.. الشعر الغلامي، والجسد النحيل كضوء، والعينان الواسعتان كسؤال. أسيمة. أين أنت الآن؟ ومن يستقبلك في ضباب كهذا، وانقطاع كهرباء وهاتف كهذا.. أين أنت أيتها اللعينة.. صبَّ لنفسه كأس شاي آخر، وأغمض عينيه، وما كان في حاجة حقيقية إلى إغماضهما، فلم يغمضهما، وكل شيء من حوله مغمض و.. رآها، كانت على الخشبة، وكانت مخلوقاً شهياً، نضراً جديداً. كان في الصف الثاني على عادته، وكان دفتره الصغيرة في حضنه، وقلمه المدرب على الكتابة في الظلمة يكتب، كان يكتب ما يخطر له، ولم يكن شديد الاهتمام لما يجري على الخشبة، ولكنه كان يكتب، وكان يعرف أن انطباعاته هذه ستكون القاعدة لما سيكتب الليلة أو غداً لصحيفته عن المسرحية.. كان قد حفظ الممثلين وأداءهم وخطبهم، يعرف ما سيفعلون، ويعرف كيف سيكون ردُّ فعلهم على حوار مخاطبهم، ويعرف صرخاتهم، وتغليظ صوتهم، أو ترقيقه. كان يحفظهم ولم يكن له فيهم مفاجأة، وفجأة صدمه صوت لم يكن مألوفاً، كان صوتاً فجاً صادماً غير مدرب، أو لم يروضه نمري فيجعله نسخة من أدائه الصوتي.

التفت ورآها.. كانت مخلوقاً شهياً في بقعة الضوء، نضراً، جديداً، مختلفاً بجدتها وتعثرها في التناغم التمثيلي مع أولئك الذين اعتاد أن يسميهم بينه وبين نفسه بالعجائز، الذين لم يكونوا قدامى ولا عجائز، ولكنه كان قد ألف أداءهم حتى لم يعد يرى فيه مفاجأة ولا دهشة.. كانوا كما كتب في واحدة من مقالاته اللاذعة مثل قهوة الصباح. أنت تعرف الفنجان، وتعرف القهوة، وتعرف طعمها، وتعرف دفئها، وتعرف نكهة الهيل فيها، ليس في ذلك من مفاجأة أبداً، فالمفاجأة الوحيدة الممكنة هي رداءة البن، أو قلة الغلي، أو انعدام الهيل، أو قذارة الفنجان.. أما إن اجتمعت الشروط الواجب اجتماعها، فلا مفاجئ ولا طريف فيها، لكنها كانت مختلفة لفتت نظره باختلافها، لفتته بفجاجتها، لفتته بزعيقها غير المدرَّب، لفتته بنضارة جسدها شبه الراقص على المسرح. فقرر أن يتعرَّف إليها. انتظر حتى انتهى العرض، ثم اخترق الخشبة إلى الكواليس كما يفعل الأصدقاء الحميمون والنقاد.

استقبلوه بترحاب ودفء وخوف خفي، فقد كان معروفاً بلسانه السليط وقلمه الجارح، وأنه لا يعجبه العجب، فكانوا، الكبار منهم قبل الصغار يتحاشون سلاطته بالتقرب منه والتودد إليه، ودعوته إلى حفلات الغداء والعشاء، وإبداء الود الشديد له، ولكنه كان يعرف أن هذا كله ليس إلا دفعاً للبلاء، فكان كما اعتاد القول يأكل الطعم، ويبول على الصنارة،. استقبلوه، وقبَّلوه، وقبَّلهم، وقبَّلهن، وهنَّأهم، وهنَّأهن، وما كان يريد إلا الوصول إليها لتحيتها وتهنئتها، ولكنها رمقته في تعال دون أن تكلف نفسها الشكر على تهنئته، رمقته في استعلاء رافعة واحداً من حاجبيها تعلن عدم اكتراثها بما قال، وتمضي إلى عمق المسرح، تركته وحيداً ماداً كفاً لم تستقبل للمصافحة. سارعت ممثلة عتيدة أدركت المصيبة التي ستقع على الفرقة كلها نتيجة لهذا التصرف. سارعت إلى استقبال كفه مصافحة وشاكرة ومتحدثة في إعجاب عن كتاباته، ثم تسأله مباشرة: لم لا يكتب للتلفزيون، فمجموعته القصصية التي قرأتها له منذ أيام كانت حافلة بالأحداث، حافلة بالدراما. ستكسِّر.. وشدّدت على السين. الدنيا. كان يحدق في عمق الخشبة حيث اختفت تلك التي سيعرفها فيما بعد باسم أسيمة حائراً من سلوكها، ولكنه وقد داعبت الممثلة المخضرمة غروره وهي تحتضن ذراعه إلى كتفها، وتشده إلى الكافتيريا اضطر إلى أن يعلن لها أنه غير مهتم بالتلفزيون، ولكنها وقد استطاعت شدَّه إلى الحديث تابعت: ولكن التلفزيون مهتم بك. نحن في حاجة إليك، وإلى قلمك، إلى.. وشرب قهوته معها في الكافتيريا، وعيناه تبحثان عن تلك التي ستسمي نفسها له باسم أسيمة، ولكنها كانت قد اختفت تماماً.

في ليلته تلك.. في ليلته التي أبت أسيمة فيها أن تغادره كما سيكتب لها بعد شهور في رسائل حبه الطويلة، في ليلته تلك قرر أن هذه البنت مدللة، وأنها قد تعوَّدت على المعجبين، وعلى المتزلفين، وكان حين سأل عنها قبل العودة إلى البيت أخبروه أنها البنت المتمردة على عائلتها الثرية المحافظة، وأنها حين هدَّدوها بالطرد من العائلة إن أصرَّت على التمثيل قررت أن تقوم هي بطرد عائلتها من حياتها، فكانت تقدِّم نفسها على أنها أسيمة أسيمة، ولا زيادة، وحين أعلنوا عن اسمها في قائمة ممثلي الفرقة اكتفوا باسم أسيمة.

أدرك أنها امرأة صعبة، وأنها اعتادت الحصول على ما تقرر الحصول عليه، لذلك رأى أن خير وسيلة لجلب انتباهها، ولجعلها تهتم به هو في شتمها، وفي اليوم التالي كان يسلم مقالته إلى الجريدة التي اعتاد الكتابة فيها، وكان عنوانه؛ أليس من فارق بين التلوي والتمثيل. وكان العنوان التالي؛ فتاة تعتلي خشبة المسرح وليس في جعبتها إلا مغص معوي.  كان المضحك الذي لم يتوقعه ياسين هو أنها كانت أصلب وأكثر ثقة بنفسها من أن يوقع بها مقال كهذا إذ هزَّت كتفها في لا مبالاة، ووضعت الجريدة بهدوء على الطاولة، وتابعت العناية بأظافرها.

مضى إلى المسرح يحضر العرض للمرة الثانية، ثم اندفع إلى الكواليس يريد أن يرى تأثير المقال عليها، ولكنا ما زادت على ان اخترقته بنظراتها، ثم مضت بهدوء دون أن تتقبل تحيته للمرة الثانية، لكن ما لم تعرفه أسيمة هو أن مقتله منذ الطفولة كان اختراق العيون له، كان هذا الاختراق ضربة تحت الحزام أحيت فيه أسيمة الخال الذي لبس العمامة والجبة مبكراً، وتنطَّح لخطبة الجمعة، فألقاها ارتجالاً دون ورقة، وكان هذا شيئاً جديداً على سكان الحارة الذين اعتادوا على الخطيب العجوز يحمل ورقته المجعدة، فلقد قرأها عليهم حتى جعَّدها.. بتلك الطريقة الرتيبة الداعية للنوم، وكانوا كثيراً ما يستجيبون، فينامون ولا يستيقظون إلا على نداء المبلِّغ: صلى الله على سيدنا ونبينا محمد، فيرتِّلون من ورائه: وعلى آل سيدنا محمد.

كانت خطبة الخال مفاجئة للجميع، فالفتى في الرابعة عشرة في الجبة البيضاء والعمامة المشدودة جيداً على الطربوش الأحمر. كان المشهد كله فتنة ظل أهل الحارة يتغنون بها لسنوات، وكانت النسوة يتمسَّحن به، ويصلين على النبي كلما مرَّ بهن، ويقلن لأمه: الله يحميه من العين.

في ليلته تلك قبل أن يحمل المقال الثاني في الليلة نفسها إلى الجريدة، ولم يغادر المطبعة قبل أن يتأكد من طبع مقاله الجديد، ولكن المقال الثاني لم ينفعه أيضاً، فلقد اخترقته بنظراتها، ورمت الجريدة بهدوء على الطاولة الصغيرة ومضت.

استمرت المعركة لأيام خمسة، كانت تنتظر فيها أن تنتهي ذخيرته من السباب والشتائم، أو أن تمتنع الجريدة عن الاستمرار في هذه المعركة غير المتكافئة، ولكن الجميع بدوا سعداء، فالجريدة وجدت مادة جاذبة للقراء. والكاتب الذي كان يرفدها بمقال أسبوعي، أو كل أسبوعين ها هو ينشط فيرفدها بمقال يومي، والقراء مبتهجون بقراءة إقذاع بهذه المهارة، والكاتب ينتظر تهاوي دفاعاتها، وكان على حق، فلقد تهاوت أخيراً، فما إن صعد إلى الخشبة حتى اتجهت إليه مبتسمة، وكان عليه أن يتظاهر بالثقل، فيلتفت عنها. كان يعرف أن المعركة في لحظة الحسم، وكان يعرف أن عيون الفرقة منصبة عليهما، ولكن ما لم يحدسه، ولم يدركه هو أن تلكمه تلك اللكمة الرجلية القاسية، فترمي به أرضاً يضرب العمود الجانبي للخشبة برأسه، ويصاب بارتجاج خفيف، ويغمى عليه، وتستدعى الإسعاف، وتقضي أسيمة ليلتها في المخفر رافضة الاستعانة بأهلها، أو بأخيها المحامي، ولما كان المجني عليه ما يزال في العناية المشددة، فلم يستطع المخرج أو الممثلون رجاءه أن يتنازل عن القضية لإخراجها من الحبس في النظارة.

ولما لم يكن ممكناً ترك صبية حسناء ـ بنت عيلة ـ في النظارة مع اللصوص والعاهرات لأكثر من هذا، فقد قام أعضاء الفرقة يرأسهم المخرج نمري بزيارة أخيها المحامي الذي تدخل، ودفع كفالة خرجت بموجبها من المخفر، ولكنها بدلاً من شكر أخيها رمقته باستعلاء، ومضت، فاشترت باقة ورد كبيرة وقامت بزيارة ياسين في المستشفى. ضحكا كثيراً فيما بعد؛ أكان لا بد من ارتجاج في المخ حتى يحبَّ كل منهما الآخر، وأجابت بلسانها اللاذع: وهل يمكن لغير مرتجّ بالمخ أن يحبني.

كان منظره برأسه الملفوف بالشاش ونظرته الغائمة ووجهه الشاحب مؤثراً إذ أيقظ فيها حساً قديماً هجرته منذ كانت تعتني بقطتها التي رجعت إلى البيت مهيضة القائمتين الخلفيتين بعد أن داستها سيارة، فبكت تحتضنها حتى اقترح أخوها معالجتها بدلاً من البكاء عليها. حملوها إلى الطبيب البيطري الذي أعلن لهم بأنها لن تشفى، وأنه ينصح بالتخلص منها واستبدالها بقطة جديدة، ولكنها بكت، وجعرت حتى سمحوا لها باستعادتها إلى البيت، حيث أخذت تمرضها، وتسقيها الحليب، وتغيِّر المناشف القديمة من حولها إلى أن ماتت، فحزنت عليها، وأقسمت أنها لن تنجب أولاداً حتى لا يموتوا.

كانت علاقة عجيبة ما قام بينها وبينه، علاقة بدأت بلكمة أدت إلى ارتجاج بالمخ، ونمت باستعادتها به حس ممرضة القطة إذ قامت على تمريضه بعد خروجه المبكر من المستشفى ليبدآ رحلة ثرثرة نثر فيها كل منهما أمام الآخر صورته الجميلة عن نفسه. حدثها عن جائزة السلام للشعوب في صوفيا للقصة القصيرة التي فاز بها، فأطَّر شهادة الجائزة بلغتها الأصلية، ثم ترجمها، وأطَّر الترجمة وعلقهما على الجدار الرئيسي لتقع عليهما عينا كل من يزوره ويعرف أن هذا الشاب في منتصف العشرينات كان الأول في الحصول على جائزة السلام للقصة القصيرة في العالم العربي.. ثم.. هه.. استحثته، فتابع.. اتجهت للنقد والدراسات.. لماذا؟.. سألت.. كان علي أن أنتظر أن أكتب شيئاً لم يكتبه الآخرون حتى أتفوق به على نفسي، وعلى جائزتي.

و.. حدثته عن أحلام النجمة السينمائية، كانت مدمنة على حضور كل أفلام السينما الجديدة، حدثته عن عشقها لصوفيا لورين، وجينا لولوبريجيدا، عن آفا غاردنر، وأودري هيبورن. كانت تعرف كل تفصيل عنهن، حبهن، عشقهن، هجرهن، أطفالهن، مغامراتهن، بكاءهن الحبيب الهاجر. كانت آسرة وهي تحدثه عن صديقاتها اللواتي تساهرهن يومياً. حدثته أن لديها ألبومات وألبومات لهن انتزعت من مجلات مصرية ولبنانية، وفرنسية. أدَّت أمامه أكثر من دور، والحقيقة أنها حين أدت هذه الأدوار أمامه كانت أكثر إقناعاً من أدائها على المسرح. كان في صوتها دفء، وكان فيه حنين.. كان في حلم كل منهما أنه قد عثر على العصا التي سيتوكأ عليها لبلوغ الأحلام. كان ياسين قد علَّق عليها، وعلى اسم عائلتها المهيب حلم الصعود من حفرة الأهل الذين لن يقبلوا به إلا التقي النقي الطاهر الورع، ولن يعترفوا إلا بمثال الخال نموذجاً للرجل الكامل، ولما لم يكنه، فقد ظل لديهم الشاة السوداء مهما حاولت أن تستكبش وتبيَّض، فستظل الشاة، وتظل السوداء.

كانت أسيمة كما عرف منكسراً فيما بعد قد علَّقت عليه الآمال في حملها إلى مصاف النجوم، وكانت قد حدثت دلال عنه: كنت قد أريته صوري أمثل في مسرحية ثمن الحرية في المرحلة الثانوية، وصوري في مسرحية أوديب بعد نيلي الشهادة الثانوية، وانضمامي إلى فرقة مسرحية للهواة، فأبدى إعجاباً شديداً بشكلي، وحركتي، وطلب مني أداء بعض الأدوار، فأدَّيت، فانهال على يديَّ يقبلهما، ويسميني سارة برنار.

سمع ياسين صوت المفتاح في باب الشقة، فنظر إلى ساعته مذعوراً: لقد رجعت. سارع إلى لملمة أوراقه، ثم إلى المكتبة، فأخفى دفتر السيرة الثانية فيها، وأدارها على محورها.

سمع الباب يفتح، وخطواتها تتقدم، فأعاد المكتبة إلى وضعها الأمامي، وعاد إلى مجلسه يقلِّب في الصحف الممنوعة إلا على الموثوق بهم.. و.. دخلت اسيمة.  

(9)

أعاد قراءة النص بتمعن. كانت اللجنة قد أعجبت بافتتاحية السيرة التي كتبها لمولانا عقلة بن نافع الزمان، عنقاء الأيام، ولكن سيد الإعلام اعترض اعتراضاً خفيفاً ورجا أسيمة أن تنقل إلى الأستاذ ياسين أن اعتراضه كان خفيفاً، خجولاً، ويتمنى ألا يزعج كاتبنا، فما المطلوب أخيراً إلا تقديم الأفضل. تأمل ياسين أسيمة وهي تنقل اعتراض سيد الإعلام، وكان الحرج يغطيها على غير عادتها وكأن حرج سيد الإعلام قد انتقل إليها، فهمهم يستحثها: ولكن ما الاعتراض.

قالت: أبدت اللجنة الإعجاب الهائل باللغة التي توحي وكأن السيرة قد كتبت لسلطان عاصر التاريخ، وعايش التاريخ، وخالد التاريخ.

فقال يستحثها في سأم: وماذا.. وماذا؟

قالت: ولكن قطرات الدم التي تغطي كل شعرة من شعرات مولانا السلطان الصغير.. يعني

فأكمل في سأم: هه.. وأيضاً؟

وتابعت: ثم تلك النار الحارقة تخرج من رحم أمه.

فصرخ في ضيق: ولكن ذلك كان في الحلم.

فقالت: ولكنهم يقولون حتى لو كان الأمر في حلم. وتأتأت قليلاً، وكان هذا ملاحظة كبير الأمناء. قال: لا بأس من كون مولانا هو الموعود بالنصر وحريق الأعداء. ولكن.. أليس من بعض الإشارات إلى الخير الذي حمله إلى الأمة، أليس من إلماحة إلى الفرح  الذي عمَّ الأمة لدى ظهوره. وأضافت راجية: إنهم يتمنون ألا تكون قد نسيت هذا.

أعاد قراءة النص بتمعن الغريب. كان النص يؤدي كل المراد نص ـ سيرة  ـ ملحمة يجب ألا تقلَّ إن لم تزد عن سيرة الملك الظاهر.. ولكن.. أضاف: ربما كانوا على حق.. صحيح.. ربما كانوا على حق.

مضت تعد الغداء، وتركته يعالج أوراقه، ربما كانوا على حق، فالسلطان الحلم ليس سلطان النصر على الأعداء، وليس سلطان الخوف فقط، فنحن في القرن العشرين حيث الأفكار الكبرى عن العدل والحرية والخبز. وسلطان الأمل، هو سلطان الخبز، وسلطان العدل.. صحيح. كيف لم يفكر في هذا.. ولكن.. السيرة ما تزال في بدايتها. فهل يقول كل شيء منذ الصفحات الأولى.

فتح السيرة المثال، السيرة التي قرَّر أن يعارضها وأخذ يقلِّب فيها. أعوذ بالله. كيف نسيت، فحتى مؤلفي السيرة الأوائل لم ينسوا هذا، فها هم يحدثوننا عن معاصر القصب، ومصانع السكر والدبس التي كان قد استولى على معظم أرباحها الفتى سرحان ابن الحرام ولكن محمود، وبالسلطنة موعود، يمضي إليه ليكتشف أنه ظالم وقاتل، ومغتصب نساء ولص.. ومرتكب لكل الجرائم، فيأخذ على يده، ويعيد الأمن إلى نصابه، والأموال إلى الدولة صاحبة الحق الأصلي في هذه المعاصر، ولكن السلطان الأيوبي المجذوب إلى حب الله نجم الدين أيوب يهبه خراج المعاصر والمصانع حلالاً زلالاً. وتتنازل الدولة عن حقها للرجل الموعود بالسلطنة والنصر ليستعين بهذه الأموال على تنفيذ الوعد وإحقاق الحق.

فكَّر ياسين. هه.. علينا أن نوجد معاصر قصب استولى على خراجها شرير، فحرم الدولة والشعب من مكاسبها وضرائبها، ثم يتحرك سلطاننا الموعود، فيطرده عن جنته، ويعيد خيراتها إلى الشعب، ولكن الشعب والدولة يصران على جعلها هبة خالصة للموعود بالسلطنة لا ترد، فبها يتقوى على الأعداء، ويحقق العدل والخبز. فكَّر، وفكَّر. كيف يعارض مثل هذا التفصيل المعبر، فكَّر بالإصلاح الضريبي، ولكنه وجده مزعجاً لكثير من أفراد الشعب المهمين. كما فكر، ولن يحس به العامة والفلاحون.. قلَّب ثانية في السيرة يبحث عن وحي للمعارضة، ولكن أسيمة فتحت الباب، وأطلت بوجهها المضيء تدعوه إلى الغداء.

* * *

في المساء قالت وهي تضيء جانب الحديقة المغطى بشرفة الجيران وترفع فنجان قهوتها إلى فمها: ساعة لربك، وساعة لقلبك. وهمهم يستفهمها وهو يرشف من قهوته: المعنى.

ـ إنهم يلحون. يريدون سهرة من سهرات الأيام الماضية..

حدَّق فيها مستفهماً، فلم يعد يفهم كلامها على معناه المباشر.. صار يحاول دائماً فهم ما تخفي وراء قناع الكلام.. أراد أن يسأل: من؟ يحاول معرفة إن كانت تعني أحداً غير  الشلة القديمة جابر ومصباح وممتاز ونمري وسعيد و.. دلال وثريا وملك. ولكن.. كم يتمنى لو كان واثقاً أنهم هم.. وذكر السهرة الأخيرة قبل الكارثة فاستحثته بهمهمة سريعة: همم. ثم فسَّرت: أصدقاؤك، الشلة. واضطر إلى الإجابة: طيب. كما تشائين، ولكن أمهليني بضعة أيام.

ـ لماذا؟.
ـ السيرة متعثرة، ولا أستطيع إدخال تجربة أخرى عليَّ الآن. يجب أن يستمر العقل مشغولاً بها. يبحث عن الحلول المناسبة.

ـ هه.. قالت وهي تعدل من جلستها لتنزع ورقة صفراء عن نبتة الخبازى البيضاء، إن كان الأمر أمر سيرة مولانا فلديك الحق كله. وقامت إلى الهاتف، فطلبت ثريا وبدأت الثرثرة. وتنفس الصعداء.

لبس ثياباً خفيفة، وحيَّاها باصبعين، ومضى يتمشَّى، فالمساء اللطيف يغري بالمشي. على الطريق كان يقدح زناد فكره بقسوة وصعوبة. كان عليه أن يجد معاصر قصب، ومصانع سكر ودبس استولى عليها شرير ليجعل الموعود بالسلطنة يقضي عليه، ويعيد الحق إلى نصابه. فكَّر بالأراضي الزراعية والاستيلاء عليها من أيدي الأشرار الذين حرموا الفلاحين منها، فكر بالمصانع والاستيلاء عليها من أيدي الصناعيين الأشرار، وإعطائها للعمال ينعمون بخيراتها، و.. توقف قليلاً، فلقد أعجبته الفكرتان، ولكن، ولدواع فنية محضة قرر أن يقوم بهما خطوة خطوة حتى يملأ صفحات أكثر في السيرة. قرر ولأن السلطان الموعود من أصول فلاحية أن يبدأ بالاستيلاء على الأراضي الزراعية، وتوزيعها على الفلاحين، و.. أعجبته الفكرة. أعجبته حتى الطرب، وقرر العودة إلى البيت ليبدأ كتابتها مباشرة، ولكنه حالما استدار هاجمته السيرة الثانية، سيرته هو، هاجمته على غير رغبة حقيقية منه، أو استدعاء لها، ولكنها ببساطة هاجمته. حاول طردها. وهز رأسه كمن ينفض ذبابة حمقاء، أو فراشة شريرة، ولكنها تشبثت تشبُّث العنكبوت.

هزَّ رأسه ثانية يريد طرد السيرة الثانية، فالسيرة الأولى هي من يدفع أجره، ويقيم بيته، ويرضي زوجه، ولكن السيرة الثانية لم تستسلم فـ.. استسلم، وما إن دخل البيت، واكتشف أن أسيمة لم تكن في البيت.. حتى أدار المكتبة على محورها، وانتزع دفتره السري، ووجد سيرة العذاب تحتل كل فراغ في البيت، وتابع من حيث توقف.

* * *

سمع.. الطرق القوي على الباب الخارجي، الطرق الشديد لا يخاف إزعاجاً ولا يرهب احتجاجاً، فتحامل على نفسه. كان نائماً على الديوان في الصالون، كان يسمع الطرق، ولكنه لم يكن في حالة تجعله قادراً على الاستجابة السريعة. تمتم: أنا في البيت.. طلع النهار.. الطرق على الباب يعني أن الكهرباء ما تزال مقطوعة، وفجأة هتف: أسيمة.. أسيمة، ولكن أسيمة لم ترد، والباب ما يزال يقرع بقوة. مشى حافياً إلى الباب، أتراهم جاؤوا يبلغونه بقرار تعيينه مديراً للدعاية والأنباء.. ابتسم في سعادة. ترى من القارع. جابر؟ لا بد أنه جابر، فهو الأنف القادر على الوصول إلى كل الخبايا والأدراج المغلقة. فإن لم يكن جابر. ألعلها أسيمة؟ لا، فأسيمة لديها المفتاح، وبفرح فكَّر، إنها دلال، وتمنى من كل قلبه أن تكون دلال.

تنبه بهدوء إلى أنه يرى ما حوله. إذن فالضباب انجلى، ورائحة النتن اختفت، ولكن الكهرباء ما تزال مقطوعة، وإلا لقرعوا الجرس. كانت الأفكار تتسابق متصادمة في رأسه المتعب.. الهاتف.. هل أعادوا وصل الهاتف. اتجه إلى الباب. فتحه، وما تزال الفكرة الوردية في أن الطارق دلال، فإن لم تكن دلال، فجابر يحمل إليه الخبر المنتظر، ولكن فتحة الباب كانت خالية. تطاول بنصف جسده إلى المستديرة يبحث عن الطارق، ولكن.. لا أحد. رمش بعينيه أكثر من مرة يحاول تنظيفهما وجلاءهما، ثم حدَّق يتفحص المستديرة نصف العتمة. كبس زر إضاءة مصباح فوق الباب آلياً، ولكن  المصباح لم يستجب، فتذكر: الكهرباء مقطوعة.. هتف: من قرع  الباب، وتنبه إلى زمامير السيارات في الشارع، إلى ضجة الشارع التي اختفت في الليلة الفائتة. هاه. إنه الضباب ما كان يحجز الأصوات. أراد أن يرجع: لا بد أنه ولد أراد أن يعابث أهل البيت، أو.. لعله رجل اكتشف أنه يقرع الباب الخطأ، فخجل وانسحب قبل العتاب والاعتذار.

أراد إغلاق الباب والعودة حين رآها. كانت ورقة كبيرة مطبوعة مثبتة على الباب بدبوس.. تساءل: ما هذه الورقة، وما المعنى.. ولِمَ لم يسلموها إليه مباشرة.. انتزعها مع دبوسها. وعاد إلى الصالون. حاول أن يقرأ، ولكن عينيه المغبشتين لم تُمكناه من القراءة. فرماها على الطاولة، ومضى يتنظف، ويصنع قهوته.

فيما بعد وبعد وقوع الكارثة التي أنهت كل وجود، وكل حلم، وكل خيال سابق سيتساءل كثيراً، في الكوخ المعزول في بستان الخال، وفي جزيرة المستنقع ورائحة زيت الغار تضمخه وتنشر فوعانها من حوله سيتساءل، وسيلح السؤال حتى الألم: أكان يعرف بشكل ما، بشكل غامض، بشكل لا واع، بواحدة من آليات الحدس مما لا علاقة له بالمنطق والعقل. أكان يعرف بوقوع الكارثة؟ فيما بعد وفي الليالي التي كان يتمنى فيها لو أن الأنتي دوهر ينغ كان قريباً، فيمكنه من النوم المحرَّم المستحيل كان يتساءل: أتراه فهم الإشارات التي أحاطت به وصدمته، أتراه فهم سعال المدينة تحاول تنظيف حلقها من الشوكة العالقة، أتراه فهم الضباب الزيتي غطَّى المدينة، فقتل زمامير سياراتها وشجار أزواجها وصراخ أطفالها وأحالها إلى قطنة كبيرة منقوعة بالزيت. أتراه فهم الإشارات تعلن له عن الكارثة التي أحاقت بأحلامه. أتراه فهم الإشارات تهدم كل ما بناه مع أسيمة ومصباح من سهرات للمرح والطرف والطرب والتقرب من الأقوياء.. أتراه وهو من كان يرفض دائماً الإصغاء إلى الغيبيات والحدس والتخاطر.. على أنها خزعبلات وأضغاث أحلام حمقى. أتراه فهم الإشارات كلها على أنها الإيذان بنهاية الأيام السعيدة التي عاشها مع شلته، ومع مجد الفائز بجائزة السلام في صوفيا، والناقد المرهوب الجانب في المدينة، بل في البلد كلها. ياسين الأرفعي الذي ما إن يدخل مطعماً حتى تهب أكثر من طاولة لاستضافته والترحيب به ومن معه. وما إن يدخل نادياً ثقافياً، أو تجمعاً ثقافياً حتى يجد الجميع يتقربون منه ويتملقونه.. أتراه حتى لو لم تثر إشاعة تعيينه مديراً عاماً للدعاية والأنباء، وظلَّ الصحفي الملاحق، والناقد المخيف، أفلم تكن جنة السعادة تلك كافية، ولكن.. إنه ابن آدم الذي لا يملأ عينيه إلا التراب، والطماع الذي ما فتئ يحرض ويرسل الرسائل الغامضة والسرية إلى الأقوياء حتى تسرب الخبر وعرف به كل الناس. ياسين الأرفعي سيصبح المسؤول الأول عن الصحافة والإذاعة والتلفزيون. سيصبح المسؤول عن السياسة الإعلامية للبلد كلها.. و.. سيجبرهم هناك على الجانب الآخر من المدينة.. هناك في بيت الجدة عند أطراف المدينة، هناك حيث النهر الذي طالما طارد ضفادعه وسراطينه، وحيث رأى الخال ينضج قبل الأوان ويتخلى عن مراهقته، ويرى الأم تغادر أنوثتها الجميلة لتدخل في إهاب الحاجة وملاءة الباحثة عن السعادة وراء الأفق بعد أن فقدتها مع الأب الذي لاحق أرضيته ودنيويته حتى لقي حتفه على طريق حلب في حادث سير كان يحاول فيه استعادة ماله من الحاج أحمد الذي شاركه في تجارة الفستق في ضربة أخيرة لاستعادة الحظ.. سيجبرهم على احترامه فهو الأول في العائلة كلها من ستتصدر صوره شاشة التلفزيون، وسيرونه بينهم يومياً، ويدركون أن طريقهم ليس الطريق الوحيد للوصول إلى السعادة. سيتنهد كثيراً ورائحة زيت الغار تغرق كل مسامَّة فيه، ويتساءل لم أصرَّ على عدم فهم الإشارات تعلنه بأنه على أول طريق الخراب.

تَنَظَّف. حمل دولة القهوة، عاد إلى مجلسه. كان يتباطأ في كل حركة يقوم بها.. أكان لا واعياً يؤجل لقاء المصيبة؟ لا يدري، ولكنه أخيراً وقد جرع نصف فنجان القهوة، وتأكد أن الهاتف ما يزال مقطوعاً، وأن الكهرباء ما تزال مقطوعة، وأن أسيمة لم تتصل به، ولم ترجع إلى البيت منذ الأمس. أمسك أخيراً بالورقة يقرؤها، ولم تكن مفاجأة شديدة الألم وهذا ما أدهشه. لم يكن تهاوي عالمه السابق صارخ  الوجع، فكأنه كان يعرف أن هذا ما يجب أن يكون.

كانت الورقة قائمة باسماء المحرومين من حقوقهم المدنية والسياسية، وكانت القائمة تضم بالإضافة إلى اسمه أسماء كثيرين، وعلى رأسهم أسماء شلته من الرجال والنساء من الكتاب والصحفيين والإعلاميين والمحامي المطرب مصباح، وكان التوقيع: لجنة الدفاع عن الثورة. الثورة؟.. تنهد وهو يرتشف رشفة أخيرة مثقلة بالطَفَل من فنجان قهوته، وتذكر.. كان يقطع عليه نوم ليله  السابق الذي استعان عليه بحبتي فاليوم طلقات رصاص كان يظنها حلماً، بل هو يذكر أنه استيقظ مرة على صوت انفجارات مدفعية لم يصغ إليها جيداً، ولم يهتمّ، فقد كان إثقال الفاليوم أقوى.. ولكن.. تنهد.. إذن فالإشارات كانت صحيحة.. تنهد.. إذن فالثورة التي كان الجميع يعرفون أنها واقعة، ويخافون وقوعها قد وقعت.. تنهد.. إذن فقرار تعيينه  مديراً عاماً للدعاية والأنباء لن يصدر.. تنهد.. طيب.. ولكن.. ما معنى هذا.. ما معنى الحرمان من الحقوق المدنية والسياسية.

سمع صوت المفتاح في الباب الخارجي، فهبَّ إلى المكتبة تعرض قفاها السري ودفع سيرته في قاعها، واستعاد مجموعة الأغاني والطبري وأعمال ماركس و.. أنتي دوهرنغ.. ودخلت أسيمة.

كانت فَرَحاً وصباً وباقة ورد وكيساً فيه عشاء. قالت وهي تنظر إلى المكتب: كأنك تلهَّيت عن الكتابة.

قال:  لن أنام حتى أعطيك الفصل الجديد.

قالت: وإذن نتعشى عشاء خفيفاً، ثم تعود!.. قالت في تهريج مفتعل.. إلى العمل.

بعد العشاء الخفيف حمل دولة قهوته، ومضى إلى المكتبة ثانية. قلَّب في أوراق السيرة السلطانية، ثم قرأ من حيث توقف، و.. اكتشف أن لديه ما يكتبه.  

(10)

جرع جرعة من قهوته، وأغمض عينيه يتخيل مولانا الفتى يبحث عن قدره، وبهدوء تسللت حكاية رفيق صباه، الجنعال مسعود عن أول بطولة قام بها، ويعرف الجميع أنه قام بها. قال: الطاحون. وتذكر ياسين الطاحون الحجرية تقام على نهير مندفع فيحركها وتعيش القرية والقرى المجاورة عليها، فيها يطحنون برغلهم ودقيقهم وكشكهم وفكر.. لم أصف شكله حتى الآن. لم أقرر العمر الذي سنبدأ به السيرة. أهو منذ الطفولة المبكرة.. منظ المراهقة، الشباب؟.. فكَّر.. منظ الصفحات الأولى قررنا أنه ريفي، فهو نائم في الحقل، وقررنا أنه ضعيف الحال، فها هي أمه تريد إيقاظه ليبحث عن الجدي الضائع، و.. لكنه ليس شديد الفقر، فالأسرة التي تستطيع إضاعة جدي لا بد أن"يكون لديها قطيع من الماعز.. حسن.. ولكن الملامح. الملامح، فكَّر لا بد أن يكون وسيماً، فمن سيكون السلطان المنتظر والموعود بالفرح، لا بد أن يكون جميلاً. حسن. إنه أشقر. ليس شديد الشقرة، فشمس بلاد الشام لن تبقي عليه شقرته الشديدة، العينان؟ زرقاوان بالتأكيد. الطول.. هو هوه. لا بد أن يكون فارع الطول. فالسلطان صورة الكمال. القوة.. يجب أن يكون ليس قوياً فقط، بل أسطورة في القوة. تذكَّر حكاية حكاها عنه واحد من أصدقاء طفولته: كان يستطيع حمل ثور على كتفيه والمشي به مئة متر.. هه.. حكاية جميلة يمكننا إثباتها. وفي أحد فصول الشتاء الشديد جاعت الذئاب والضباع، فنزلت إلى القرية، وأخذت تهاجمها، فتخطف خروفاً من هنا وعجلاً من هناك، واستنفر أهل القرية ببنادقهم العتيقة وفؤوسهم، ولكن الوحوش لم ترعوِ، فطوَّرت أداءها حين حبسوا حيواناتهم، وأحكموا حراستها، فخطفت الضباع مؤذن القرية العجوز، ولم يهتدوا إلى هويته إلا من شرواله الأسود الممزق الملطخ بالدم.. استغاثوا بالدرك، بالشرطة، بالحكومة، ولكن من يطارد وحوشاً تختبئ في الجبل، وأخيراً جاء الفرج، لقد حضر مولانا الموعود بالسلطنة عقلة في إجازة من كلَته العسكرية.

شكوا إليه ما أصابهم، فرأوا معالم الغضب على وجهه، تلك المعالم التي سيذكرها الجميع لعقود. لقد عبس، فنفر في جبينه صورة سبع من لحم، وانتصب في حاجبيه سبع شعرات، فصار صورة للغضب والرعة، فخافوا قبل أن تخاف الضباع والذئاب، وابتعدوا من طريقه بهدوء، ولكن سلمى حضرت.. آه.. ياسين. ها هي عناصر الحكاية تتكامل. وفجأة اختفى السبع من لحم، ونامت الشعرات السبع، وعاد الموعود بالسلطنة الشاب الوسيم الأشقر ذا العيون الزرق، الفارع الطول الوسيم حتى لتعشقه أخته كما يقولون! في الأمثال. اقتربت سلمى منه في حياء، فاقتربوا منه، فلقد عاد ابنهم الذي يعرفونه ثانية. قالت: الوحوش قتلت المؤذن، وأكلت الراعي، وخطفت ستة جداء وتيساً، و.. قال يصمتها في وقار: لقد حدثوني عن كل هذا.. جهِّزوا الأفخاخ. وازرعوها حول القرية. قالت: وأنت؟ قال: سأمضي بنفسي إلى مغائر الوحوش، فلا يمكن تركها تضايقكم بعد اليوم.

ويكمل صديق الطفولة: حمل بندقيته وجعبة رصاصه، ورغيفين وقرصي شنكليش، ومضى إلى الجبل إلى حيث غاب لأيام ثلاثة. كان أهل القرية يسمعون فيها اصوات الرصاص، فيطمئنون. فالموعود بالسلطنة ابنهم الحبيب ما يزال حياً. اعترضت الأفخاخ بعض الوحوش الهاربة، ولكن رؤوس الوحوش الضخمة المؤذية كان عليهم أن ينتظروا ليروها محمولة على ظهر ضبع ملجم بسكين في فمه وما يزال حياً ليظل البرهان على بطولة مولانا ابن نافع الزمان.

نظر ياسين إلى الساعة، لقد قاربت منتصف الليل، ويجب أن ينام.. أعطى الأوراق إلى أسيمة تقرؤها، ومضى إلى غرفة النوم.

(11)

لم تستجب لندائه، وما كان لها بتجاهل ندائه عادة، فكرَّر النداء. كان يريد تأكيد عادته الجديدة في التدلل والتقلب، وشرب القهوة في السرير، ولكنها لم تستجب، فغضب، وقرر أن يجهر بغضبه، فقفز من السرير وهو ينادي غاضباً، ولما لم تجب عرف أنها ليست في البيت. فتنهد وقال: أصنع قهوتي بنفسي وأتنظف إلى أن تعود. تجول في البيت حاملاً فنجان قهوته وكأنه يتأكد من غيابها، أو يرجو أن يراها مختفية في هذه الزاوية، أو تلك، ولكنها كانت فعلاً قد غادرت.

وصل إلى غرفة مكتبه، و.. ذكر السيرة الأخرى، سيرته التي أخفاها في الأمس في قاع المكتبة السرية. وضع الفنجان على المكتب. استعاد دفتر حياته السري، ومضى به إلى الطاولة الصغيرة المريحة عند النافذة تضيئها الحديقة. قرأ ما كتب بالأمس في برود من يبحث عن خطأ يقوِّمه، أو انحراف في المسار يسويه، ولكن الأحداث استولت عليه، فوجد نفسه يكمل من حيث توقف قبل وصول أسيمة.

على غير توقع، وبلا أية مقدمات وجد ياسين نفسه عارياً أمام العيون الغريبة تحدِّق في عريه في شماتة، ثم في اشمئزاز، ثم في كراهية، وأخيراً في اختراق.. كان يحس بدرجات تغيرات علاقاته مع الآخرين منذ الرفض مروراً بالاشمئزاز والمقت، وحتى الشماتة والتي كانت كلها فعلاً إنسانياً. أما الاختراق، فكان خارجاً عن المعقول، كان أمراً لا سابقة له.

كان أصدقاء الشلة الذين استطاعوا تنظيم لقاء في بستان صديقهم مروان قد حدَّثوه، وسمعوا الآخرين يتحدثون عن الانقلاب الجديد من حولهم في أقربائهم وجيرانهم، تحدَّثوا عن الصعوبات مع الجوار، مع الأهل، مع زملاء العمل.. حدَّثوه عن المقت الذي قوبلوا به، حدثوه عن الكراهية والرفض منذ صدرت القائمة المشؤومة، ولكنَّ واحداً لم يستطع حتى الآن أن يحكي تجربة الاختراق، أن يمرَّ بك الجار، أو القريب فلا يرفض تحيتك، ولا يرمقك في كراهية، ولكنه ببساطة.. لا يراك.

بدأ الأمر مع ياسين في ذلك الصباح الذي قرر فيه المضيَّ إلى عمله مدرساً للتاريخ على عادته، ولكنَّ فجيعته كانت في أن الآذن، البواب، الحارس المتملق الذي اعتاد أن يحمل إليهم السندويشات وصحون الفول، ويقدم الشاي والقهوة. هذا الآذن يتنمر فجأة، ويقف ساداً الباب بجسمه حاملاً بندقية ليس له بها عهد: ممنوع.

ـ ما الممنوع؟ سأل ياسين غير فاهم يحاول تحويل الأمر إلى مزحة، إلى نكتة ما على طريقته التي طالما ساعدته على القفز فوق مطبات الحياة، ولكن الآذن الذي اكتسى وجهه طابعاً صارماً سيراه ياسين فيما بعد كثيراً على وجوه أولئك الذين سيسمون أنفسهم فيما بعد بالمسؤولين. سيراهم ياسين في كل زاوية، وركن، ومكتب، وسيشزرونه بنظراتهم. سيرفضونه بتحديقاتهم. وسيشمئزون منه بإيماءاتهم. وسيصلون معه إلى الذروة حين يخترقونه بعيونهم: نحن لا نراك، لا نسمعك، لا نشمُّك.. نحن نستطيع العبور من خلالك، فأنت لست إلا شبحاً قادماً من العالم القديم الذي أسقطناه.

نظر ياسين إلى الجسد الضخم، الجسد العريض. الجسد الذي كان وزملاؤه يجعلونه نكتتهم؛ بم يغذي هذا الـ.. برميل. ويضحكون غير حريصين كثيراً على ألا يسمعهم، ولكنهم تأدباً لم يكونوا يرغبون في سماعه نكاتهم عنه. أكانت نكاتهم هذه  تضمر غيرة ما، حسداً ما، من كل هذا الجسد الضخم والذي يعرفون بم يغذيه، فهو يعيش معهم في المدرسة أكثر بكثير من عيشه في بيته، وبين أهله ورفاق مقهاه.

قال: ممنوع. وسد الباب بجسده الضخم حتى الإسراف. ما الفائدة من جسد على هذه الضخامة لآذن. أليست نزوات الطبيعة مضحكة. كان يقول مازحاً: لو أنها منحته جسداً على قدر العمل الذي يقوم به لكان بربع هذا الحجم، أو ربما عشره. وكانوا يقهقهون. لم يكن يقصد سوءاً، فكل ما كان يقصد هو المرح، وإضحاك مجموعة المعلمين في دقائق الراحة ما بين تلاميذ، وتلاميذ. كانوا يقهقهون، ويسعدون بنكاته. بل كان منهم من يرجوه بإلحاح أن ينضم إليهم في سهراتهم الشهرية التي يقيمونها للترفيه عن أنفسهم، ولكنه كان يعتذر، فقد كانت أمسياته مليئة، ما بين المسرحيات الجديدة، والندوات الثقافية يغطيها، والسهرات مع الكبار يدعى إليها فيصحب حارسيه،  أسيمة ومصباح، وكان كل شيء هناك أفضل، المجلس، الطعام، حسن تلقي النكات والطرف، والأحاديث الشيِّقة و.. سماع آخر الشائعات السياسية عما يطبخ خلف الكواليس.

وكان ياسين يجهز عند مضيِّه إليهم كل أدوات الفرح، ولو عرف مساهروه أي جهد يبذل، وأي قدرات يشحذ ليكون النجم، ويكون المرح، ويكون القناع لسود الأيام، لو عرفوا ذلك  لأشفقوا عليه. كان لديه مكتبتان، مكتبة يعرفها الجميع ويراها الجميع، ومكتبة هي سره الخاص. كان قد اخترع، وكان يحب هذه الكلمة، يرددها مع نفسه اخترع مكتبته الخاصة التي كلَّف النجار حين صنعها أن يجعلها مكتبتين. المعروضة والسهلة، والتي كان طابقها الأسفل من الأدراج والخزائن الصغيرة، أما المكتبة الأخرى فكانت على الجانب الآخر، الخلفي، السري، وكان يرفع مزلاجاً من اليمين، وآخر من اليسار، فتتحرر المكتبة، ويديرها على محورها، فإذا بالوجه الآخر للمكتبة يتبدَّى، كانت كنزه الخاص الذي يحتفظ فيه بكل كتب الطرائف والنكات التي استطاع جمعها بدءاً من أخبار الحمقى لابن الجوزي، إلى أخبار هبنقة وأشعب، إلى مقتطفات جمعها بنفسه من كتب الأغاني والجاحظ والتوحيدي، إلى الكتب الشعبية، جحا وطرائفه، أخبار أبي نواس، وكتب تختصر بعناوينها، ألف نكتة ونكتة، واضحك تضحك لك الدنيا ومجموعة من صحيفة البعكوكة المصرية، وحط بالخرج السورية، والمضحك والمبكي، وجراب الكردي.

كان هذا كنزه الخاص، ولو عرف الساهرون والكبار أي جهد كان يبذل في كل صباح كان سيساهرهم فيه حين يحفظ النكات ويكررها، ويصنع لها السيناريو متى تقال، ورداً على ماذا، وكيف، وأي ملامح يضعها على وجهه وهو يلقيها، وبأي لهجة تلقى، وكان قد نمَّى لديه موهبة تقليد اللهجات بدءاً من لهجة الدروز في الجنوب، إلى لهجة فلاحي الجزيرة في الشرق، إلى لهجة علويي الساحل في الغرب، ولهجة أكراد ركن الدين في دمشق، وكانت مكافأته الكبرى حين يضحكون، وكان يتعمَّد استخدام اللهجة الدرزية إن كان في السهرة درزي، ويصمم على تقليد عجائز الأكراد إن كان في السهرة كردي، ليكون الكرديُّ الضاحك الأول على اللهجة المقلدة.

ولكن.. ها هو الآذن يسد الباب بجسده الضخم واضعاً القناع الصارم الجديد على وجهه قائلاً: ممنوع.

قال ياسين بلهجة مصالحة أقرب إلى الملاطفة أو الرجاء: ولكن لديَّ دروس. وما يزال هناك عشر دقائق قبل بدء الدرس.

ولكن الوجه القناع الذي ما كان يتخيل أن لمثل هذا البغل وجهاً على هذه الصرامة، فلم يكلف نفسه عناء قول غير كلمة واحدة: ممنوع.

عرف ياسين منذ قراءته القائمة المشبوكة بدبوس على باب بيته والتي وصلت في الوقت الذي كان يقدر أنَّ أوان قرار تعيينه مديراً عاماً للدعاية والأنباء قد آن. عرف ياسين أن أياماً سوداً على الطريق، فقدّر أنهم سينقلونه ولا شك إلى قرية نائية في حوران، أو إلى البادية، أو أنهم سيخفّضون مرتبته الوظيفية من ملاك الثانوي إلى الابتدائي، أو في نقله من وزارة التعليم إلى وزارة أخرى، التموين، أو الأوقاف.. ولكن أن تأتي العقوبة بهذه الطريقة، فيبلغه بها آذن يمنعه من الدخول إلى مقر عمله.

قال مماحكاً: أريد مقابلة المدير.

ولكن القناع الصارم ردَّد الجواب ثانية: ممنوع

قال: طيب. هناك أشياء لي في خزانتي الصغيرة، دفاتر. كتب. دعني آخذها.

ولكن الجواب جاء متوقعاً: ممنوع.

تأمل ياسين الجسد الضخم الذي كان مادة لسخريته فيما مضى، تأمل البندقية الرشاشة، وكاد يقتحم الباب بعنف، ولكن منظر الجسد المهدِّد، والقناع البارد للواثق من قدرته على الرد جعله يتراجع.

استدار بعصبية عائداً يريد من يشكو إليه الموقف الجديد، يريد من يبثه حزنه، والظلم الذي وقع عليه. تمنى لو يلقى جابر، أو مصباح، أو نمري آه.. أو حتى دلال.. ولكن هواتفهم جميعاً مقطوعة، وكان يعتقد أن عطلاً فنياً قطع هاتفه، ولكنه بعد أن عرف أنهم قد قطعوا الهواتف عن كل المغضوب عليهم والمحرومين.. فهم، وصمت.. كان أول ما خطر له هو المضي إلى مدير التربية، ولكنه تردد: لن يستقبلني، وسأقف على بابه إلى أن أحسَّ بالخجل، فأمضي بعد أن أعطي أولئك البيروقراطيين الصغار ممن كانوا يحسدونني على صوري المنشورة في الصحف، وعلى المنابر التي أعتليها، وعلى الكبراء الذين أساهرهم. سأعطيهم الفرصة الآن ليفعلوا ما حلموا به طويلاً إعادته إلى حجمه الحقيقي مجرد معلم صنع ضجة من حوله ببعض العلك والثرثرة في الصحف، وبسهرات مع كبراء.. أين التعب الذي تعبناه والسنوات التي انتظرناها لننتقل من المرتبة الرابعة إلى المرتبة الثالثة. كيف كيف ينتفخ علينا ويريد أن يتعالى على أصحاب المرتبة الثانية، والأولى الذين أفنوا عمرهم في هذه المهنة.. ولكن.. ما الحل الآخر؟ الصحف؟ لا يمكن الاعتماد عليها وسيلة للعيش.. أطرد من مدرستي؟ للاذنب؟ فكَّر.. سأرى بعض الزملاء أناقشهم وأستفيد من تجاربهم.

مضى إلى مقهى البرازيل، مقهى الشلة، شلة النكات والقفشات والسخرية من المارة، ومن السياسيين، ومن أنفسهم إن لم يجدوا من يسخرون منه.

فكر أن يمضي إلى البيت أولاً يفطر ويشكو لأسيمة ما فعلوا به في المدرسة، وكان قد ناقش معها هذه الاحتمالات، ولكنه لاحظ عدم تعاطفها مع مصيبته المحتملة، وذكر أنها قالت له: كنت نصحتك. السفينة غرقت فاقفز، ونظرت إليه في سأم يعرفه، ثم مضت إلى غرفة النوم وتركته مع التلفزيون وحيداً. ولما كان التلفزيون بمحاضراته التي لا تنتهي أشد إملالاً من الوحدة فقد مضى إلى غرفته المكتبة، وانتزع كتاب أنتي دوهر نغ، واستلقى على الديوان، وتغطى جيداً بالبطانية وترك السأم يقوده إلى عالم النوم.

كانت هذه وصفته الشخصية لاستدعاء النوم. جرَّب عدَّ الخرفان قبل النوم لينام، فازداد أرقاً. جرب عدَّ البشر في ساحات المسيرات، فازداد أرقاً، وأخيراً وجد دواءه الشافي بالصدفة المحضة، فما إن يستلقي، ويفتح الكتاب الذي لم يحبَّه، ولم يفهمه، ولم يعرف سبب ترجمته إلى العربية، ولكنه اقتناه، ووضعه في مقدمة المكتبة برهاناً على ثقافته المعاصرة، ومجاراته موضة العصر كما كان يحلو له القول.

وكان إذا ما استلقى، وقرأ نصف الصفحة الأولى، وليس مهماً أية صفحة يقرأ ثقلت عيناه، وتثاءب بنعومة، فوضع الكتاب جانباً، وأطفأ اللامباديرة القريبة، وغرق في نوم الأطفال.

لكن أنتي دوهرنغ لم يستطع إنامته هذه الليلة. اللعنة. من هو دوهرنغ؟ فكر: الغريب أن الكتاب الذي قارب الاهتراء لشدة ما تقلب بين أصابعي وحمل إليّ النوم أكثر مما فعل أي كتاب آخر لا أستطيع تذكر مؤلفه، لا.. أنا أعرفه.. من.. من هو المؤلف؟.. إنه ألماني.. ألماني بالتأكيد. ولكن من هو.

لاحظ النافذة الواجهة الكبيرة للمقهى، ورأى الوجوه، وبروفيلات الوجوه وريليفات الوجوه وراء النافذة، وخاف: أتراهم يحدقون بي؟ أتراهم عرفوا بما فعلوا بي في المدرسة؟ كيف سيفعلون. هل سيتعاطفون معي؟ هل سيشمتون بي؟ هل سيجاملونني، ويلعنون هذه القوة الغاشمة التي لا تميِّز بين المبدأي والمنافق المتظاهر بموالاتهم، ولا يريد إلا الكسب من الالتحاق بركب المنتصرين. إنه يعرف أنَّ كثيراً ممن يعرفهم قد مضى إلى المتنفذين في السلطة الجديدة ليعلنوا ولاءهم، وأنهم كانوا طيلة الوقت يؤمنون بأن الحق سينتصر، وها هو ينتصر، وهم يهنئونهم، ويهنئون أنفسهم بانتصار الحق بهم.

تمهل يستعرض الصحف المعلقة على جدار الرصيف يطالع العناوين والمانشيتات ولا يقرأ. بل.. لنقل الحقيقة. كان خائفاً.. مم؟.. من أصدقائه، من شركاء السخرية والتعليقات الجارحة على كل شيء، من أحبائه الذين طالما أقرضهم واقترض منهم.. الحق أن لقاء الآذن عند المدرسة قد أرعبه إذ قدم له بروفة عما يمكن أن يفعل من يكبرون الآذن.. ولكن.. سيلقى الأستاذ غسان على الأقل.. إنه معلم قديم، ونقابي قديم، وعضو لسنوات في نقابة المعلمين.

سيستشيره ويحاول الإفادة من سنه وعمره، ولا بد أن لديه جواباً ما على هذه الأحجية.. انقلاب تقوم به مجموعة عسكرية على مجموعة أخرى، لم يكن ياسين عضواً بالمجموعة السابقة كما لم يكن بالمجموعة اللاحقة، فلماذا حين يمضي إلى المدرسة يفاجأ بمنعه من الدخول؟ مذنب؟ ما ذنبه؟ كان يسهر مع كبرائهم، وما الخطأ في هذا؟ هم كانوا يحبون مساهرته. كانوا يحبون منادمته. كانوا يحبون نكاته وطرائفه وغناء مصباح الرائع، وحضور أسيمة النبيل، و.. لنقل الحقيقة، فياسين ومصباح وأسيمة كانوا أيضاً يحبون مساهرتهم. كان ياسين يحب أن يُرى معهم وبينهم. كان يحب أن يقال عنه، أو يقول هو بنفسه في اليوم التالي:.. أبو كفاح.. غليظ.. غليظ يا جماعة. أنتم لا تعرفون كيف يتجشأ على الطعام، وحين كان الجالسون يسألون متهيجين: من هو أبو كفاح؟ كان يشيح  بيده بلا اكتراث، وكأنه نديمه في الليل والنهار: أبو كفاح، أبو كفاح! وحين يعجزون عن التخمين عجزاً أو خوفاً كان يكمل باستهانة: وزير الداخلية! وكانوا يشهقون، وكانوا يصفُّرون، وكانوا يحيُّونه فيما بعد في احترام خاص، في خوف. وكان فيهم من يحمل إليه مظلمته في عريضة يضعها في جيبه الداخلي في دفء مع بسمة متفضلة: لا تهتم.. سنحلُّها.. اضحك يا رجل.. اضحك.. العالم لا يستحق مثل هذا العبوس، ويبدأ سرد عدد من النكات والقفشات يجعل أبطالها دائماً الأبو جهاد، والأبو كفاح، والأبو نضال، والأبو ثائر، فيضحكون بقوة حتى تدمع العيون، وكان يتساءل أترى النكتة كانت على هذا القدر من الطرافة، أم أن ضحكهم لم يكن إلا شماتة بهذا الأبو جهاد والأبو كفاح، وبهذا الموقف البائس الذي وُضِع فيه أشخاص مخيفون قادرون على الأذى، وليس فيهم من يجرؤ على الحديث عنهم حتى همساً، فكيف يأتي هذا.. ويعنون ياسين، فيطلق عليهم مثل هذه النكات.

كان هذا التساؤل، وهذا الإحساس بالأهمية مكافأته، ولا شيء آخر، وهو يقسم إنه لم يحصل منهم على أبيض، أو أحمر، لم يحصل على منصب، وكان أقصى منصب حصل عليه هو الإشاعة التي عاش بها وعاش أصدقاؤه بها قبل الكارثة. كانوا يتسلون معه و.. كان.. يتسلى معهم، و.. هل يمكن اعتبار شعور الزملاء في العمل، أو الجيران في الحارة باحترام بسيط له، أو خوف بسيط منه مكافأة.

كانت عناوين الصحف تتحدث في بلاغة عن انتصار الحق، وعودة الأمور إلى نصابها، وكانت العناوين الصغيرة تختصر برقيات التأييد ومسيرات الترحيب بعودة الحق إلى أهله، وزوال البغي والطغيان، تنهد في أسف: هه. تأخرت..

كان يعرف أن هذه خطيئته الأصلية، أنت تتأخر دائماً في اتخاذ قراراتك، كيف حزروا بأن الأمر انتهى، فاتخذوا قرارهم، وقفزوا إلى السفينة المبحرة، وتأخرت في اتخاذ قرارك وإعلان تأييدك، فغرقت مع الغارقين، وخسرت مع الخاسرين تنهد لو أني أصغيت إلى أسيمة. قالت منذ اللحظة الأولى بعد قراءتها قائمة المحرومين، اقفز تنج. لو طاوعتها، لو طاوعتها. كيف ملكتْ هذه الرؤية الواضحة في اتخاذ القرار الصحيح تنهد لا بد أنه الدم، العائلة، الأصالة وقدرتها على الطفو في الفيضانات..، وأنا؟ ابن كلب؟. ألست ابن عيلة ايضاً. صح. ولكن العيلة التي لم تستطع الطفو أبداً، بل كانت كلما طفت شدَّها تشتتها إلى القاع، وكان عليها أن تبدأ المحاولة من جديد. أما أبناء العيلة وتراث الدم القادرة على الطفو.. هه. قالت: اقفز تنج. ولكنك ترددت كترددك ما بين الأم المتشددة في طهرانيتها والأب البورصجي. ترددت، وتساءلت لحظتها: وماذا سيقول الناس عمن يبدل معطفه عند كل منعطف، وأول كل حارة، وطال التردد: وماذا إن أخفق القادمون، سيبطش بي القدامى ويعتبرونني الخائن، وربما الجاسوس، وستكون الخسارة والشماتة فظيعتين.

تمتم: إنها حيرة وتشتت المثقف. وذكر أنه كان قد كتب هذه الجملة مرة في مقالة نقدية عرض فيها لفيلم هاملت، حيرة وتشتت المثقف. حيرته وتمزقه، وعدم قدرته على اتخاذ القرار المناسب في الزمان المناسب.. هاه. ها أنت تضيف سبباً آخر لعدم قدرتك على اللحاق بالركب الصاعد.. تشتت المثقف، وتشتت الممزق في عائلة لا تراث لها بالطفو الدائم، فعل العائلات العريقة.

كانوا متحلقين حول طاولاتهم، اقتحم الباب، ونظر إليهم. رآهم خلف غشاوة الدخان والبخار المحبوسين. كانوا منحنين على طاولاتهم، على شطرنجاتهم، على صحفهم، ولكنه لسبب ما أحس بأنهم يتظاهرون بالانغماس فيما هم فيه حتى لا يرفعوا رؤوسهم ويروه. أكان مبالغاً في شعوره، أكان توتره بعد لقاء الآذن المسلح ما جعله يبالغ في رد فعله. سلَّم على عادته على جماعة الطاولة الأولى. السلام على القوم.. ولم يكمل بالكرام حتى يوحي لهم بمزحته المألوفة بكلمة اللئام بديلاً عن الكرام. ولكن واحداً لم يردُّ، وواحداً لم يرفع رأسه ولو ليصحح أو يكمل قولته، فاضطرَّ أن يكمل معيداً: السلام على القوم الكرام، ولكن حامل الزهر تابع لعبه ملقياً بزهره مبدياً بهجته الشديدة حين كان الزهر اثنين وواحد، فأخذ يفقش بأصابعه، ويرقص في سعادة. جرَّ كرسياً رصفه بين كرسيي اللاعبين، ولكن واحداً لم يتزحزح ليفسح له حسب العادة، فقال: إيه بني يكلب لم لا تفسحون، ولكن واحداً لم يفسح، وواحداً لم يردَّ على بني يعرب، ولا بني يكلب، وكَزَ الأستاذ نظمي ليلتفت إليه، ولكن الأستاذ نظمي لم يشعر بوكزته، فأحس ياسين بالحرج، أفلم يشعر بوكزته فعلاً؟ تطاول برأسه بين اللاعبين، ولكنهما تابعا لعبهما، وكأن رأساً لم يتطاول، وظلاً لم يحطَّ على الطاولة.

أحس بالارتباك. فهذه هي المرة الأولى لا يقفزون في فرح  وسعادة لمجالسته لهم. أخذت الأفكار تختبط وتتسارع: أتراهم عرفوا بما فعل الآذن، أو تراهم يعرفون بما هو أشد من ذلك..؟ تركهم، ومضى إلى الطاولة الثانية حيث الأستاذ جمال صاحب الجريدة الصغيرة، الذي كان يصل إلى أوج سعادته حين يقدم له ياسين مقالة ينشرها، فيسعد مرتين، واحدة لأن كاتبها ياسين، وأخرى لأن أكثر ما يدفع ثمناً لمقالة هو دعوة على عشاء، فإذا كان كاتب المقال والمدعو إلى العشاء هو ياسين، فالسعادة للأستاذ جمال إذ سيضمن عشاء ممتعاً، وندماء ظرفاء، وشراباً ظريفاً، وطعاماً ظريفاً، ومقالاً ظريفاً لا.. مكافأة عنه.

اقترب من طاولة الأستاذ جمال في دلال على عادته، وهتف: صبراً آل ياسر، ولكن ياسين لم يحصل على التفاتته، ولا على ابتسامته، ولا على الترحيب بمجالسته، بل لاحظ أن الأستاذ جمال حافظ على إطلالته المفكرة على الخارج، واستمر يدخن أركيلته بهدوء، وكأن أحداً لا يقف إلى جواره، فهتف ياسين: أستاذ جمال. نحن هنا.

لم يفده هذا التنازل، فمدَّ كفه أمام وجه جمال يلوِّح ليلفت انتباهه، ولكن يده عبرت كظل لا يرى، اندهش ياسين: ما الذي يجري. هل صرت الشبح؟!

التفت إلى الجميع، وقد واتته شجاعة لا تواتيه في العادة، وصرخ: مرحبا شباب.. أنا ياسين.. صاحبكم.. أنا عاتب.. ما فيه أهلين؟.. لكنَّ جواباً لم يتلقَّ، وترحيباً لم ينل، والتفاتاً إليه لم يبد. خجل؟ لا، لم يخجل. ارتبك؟ لا. لم يرتبك. الحيرة، ما أحس به كان الحيرة. آذن المدرسة سدَّ عليه باب المدرسة ملوِّحاً بطريقة ملتوية برشاشه وهو يقول: ممنوع. أما هؤلاء، أصدقاؤه، جلساؤه، ندماؤه، فهم لا يرونه. هل تشبَّح؟ فكر.. ربما.

مضى إلى طاولة خالية. جلس إليها، انتظر مرور سلامة خادم المقهى وصفَّق يلفت انتباهه، لكن ما صعقه حقاً هو أن الخادم لم يسمع تصفيقه، ولم يلتفت إليه، ولم يكن له بذلك عادة، كان يكتفي بالإشارة بجانب اصبعه ليكون الواقف بين يديه. فما الذي جرى، هل صُمَّ.. حسن.. إن كان قد صُمَّ، فهل عمي؟ لقد أشرت له بيدي كاملة الطول، ولكنه لم يرني.

أنتظرُ قليلاً. لا. إنهم لم يروني. الأستاذ غسان لم يحضر اليوم. شلة الطاولة لم يروه، ولم يسمعوه، الأستاذ جمال لم يره، ولم يسمعه.. الكرسون سلامة لم يره، ولم يسمعه. تمتم: ما يدريك.. ربما تشبحت، حين أدارت الدولة لك ظهرها اختفيت.. صرت الشبح.

أطرق قليلاً يفكر: يجب أن أرجع إلى البيت. هناك أخلو إلى نفسي وأفكر. لقد غادرت قبل أن تستيقظ أسيمة. كان فطوري خفيفاً جداً، فالعادة أن نفطر في الاستراحة الطويلة نسبياً ما بين الدرس الثاني والثالث. ولكني لم أدخل إلى المدرسة، ولم اقدم الدرس الأول ولا الثاني، ولم أفطر.. هه. تنهد.. نرجع إلى البيت ونتشاور مع أسيمة، ربما كان لديها فكرة صائبة ما، فكثيراً ما فاجأته هذه المرأة بأفكار ما كانت تخطر له على بال.

بدت الشمس أشد وضاءة حين وصل إلى باب المقهى، ولكنه قبل أن يخطو الخطوة الأولى سمع صوتاً مائعاً يهتف: واحد ملك ظاهر سكر زيادة. تجمَّد في موقفه، فقد عرف أنه المعنيُّ. ولكن أصوات المقهى المألوفة من رمي زهر، وطقطقة أحجار الطاولة ومضايقات اللاعبين لبعضهم البعض استمرَّت وكأن هاتفاً لم يهتف. تهيأ لإكمال خروجه حين سمع الصوت المائع يعلن: مرحبا ملك ظاهر ها ها هاه.

التفت كنابض يريد معرفة من يسخر منه، فمن الواضح أنه المقصود بهذه السخرية، فلقد ارتبط اسمه لسنين بدراساته وكتاباته عن الملك الظاهر وسيرته، ولكنه رآهم كما تركهم قبل ثوان منحنين فوق شطرنجاتهم، فوق طاولاتهم، فوق صحفهم، وفوق نمائمهم السياسية.. لم يلتفتوا إليه، ولم ير الهاتف ذا الصوت المائع.. حرج فاستدار ثانية، ومضى مسرعاً يخاف من تعليق جارح آخر.

توقف على الرصيف بعيداً عن باب المقهى.. تنفسَّ عميقاً، فبدا الهواء أكثر نقاء، فأغمض عينيه في استسلام، ولكنَّ دفعة من كتف كادت تلقي به أرضاً، فالتفت في غضب ليبادره الآخر بانحناءة اعتذار، ويمضي.. تابع ياسين مسيرته حين توقف فجأة: الرجل صدمني.. الرجل اعتذر. إذن أنا لست شبحاً، ثم ضحك في استخفاف: وتصدق أنك تتشبح؟ وتصدق أصلاً أن هناك أشباحاً.. ولكنهم لم يروني.. لم يسمعوني.. لم يلتفتوا إلي في المقهى.. هدأ نفسه: ربما كانوا خائفين، فالمقهى ممتلئ بالمخبرين ولا شك، وهم لا يريدون لأنفسهم أن يرتبطوا بك.

عبر الشارع إلى الجانب الآخر، قال: هذا موقف جديد لم أعرفه، ولم يعرفه غيري من قبل فأعرف كيف أتصرف. قال: خطوة خاطئة قد تعني الهلاك الدائم. قال: أمضي إلى البيت فأغيِّر ثيابي، ثم أحمل مقالتين إلى الصحف التي أتعامل معها. يجب أن أظل مرئياً في أيام التشبيح هذه. قال: لا.. لن أنشر مقال الإطراء بالشاعر الأحمق الذي ظهر اسمه في قائمة المحرومين، لا.. فهذا محسوب عليهم، على الماضي.. لا.. يجب أن أبتعد عما يثير الشبهات في هذه الأيام. فكَّر قليلاً.. صحيح.. لم لا أبدأ معهم صفحة جديدة. سأكتب سلسلة مقالات تعيد الاعتبار إلى أولئك المنسيين الذين ما كان ناقد أو صحفي يجرؤ، أو يتبرع بالإشارة إليهم، وها هم اليوم في المقدمة.. ألن تكون المجموعة الجديدة صوت الناقمين على الماضي والماضيين. حسن.. سأكون معهم. كل ما في الأمر أن علي أن أخلو مع مؤلفاتهم لبضعة أيام أقرؤها، وأضع الملاحظات تمهيداً لهجمة نقدية تعيد الاعتبار لهم.

قال: لم تدرك القطار راكباً أصيلاً.. ضيَّعك تشتت المثقف وعدم قدرته على اتخاذ القرار المناسب في الزمن المناسب، ولكن.. ها هي الفرصة تدلي إليك برأسها. اغتنمها والحق بالقطار متعلقاً بهم، وسيفهم الفاهمون والقيِّمون أنك لست العدو.

أراحه القرار الجديد، وشكر الله،  والشمس الهادئة التي ساعدته على المشي واتخاذ القرار الذي سيعيد إليه مكانته، ولن يجعله موضوعاً للشماتة التي أبداها الجميع.

وصل إلى البناية وحمد الله أن هذا وقت العاملين في أعمالهم والطلاب في مدارسهم، فليس من متطفل في الطريق، أو جار يتظاهر بالتعاطف، ويكون قد قرأ قائمة المحرومين في الصحف ويسألني عما سأفعل، فأنا لن أعرف كيف أردُّ عليه ولا أنتوي الردَّ عليه، ولا يجب أن أضع أمامهم خططاً لا أعرف إن كانت ستنفذ.

لاحظ أن المصباح فوق الباب مضاء، وبدأ اللعن: هذه العادة الكريهة التي تكلفني كل شهر مبالغ أنا في غنى عنها. ما الذي يغريها بترك المصباح مضاء ليل نهار. يمكنها أن تصنع كباقي الجيران، تضيء المصباح على الباب ساعة يطرق الباب لتتأكد من الطارق، أما أن تتركه مضاء ليل نهار فهذا ظلم.

عرف أن أعصابه قد اهتاجت، وهو ليس في حاجة إلى الهياج الآن. البرود يا ياسين. البرود.. أنت في حاجة إليها، إلى حكمتها، إلى هدوئها، إلى اقتراحات منها يمكن أن تكون مفيدة. أنت الأضعف الآن، بل يمكن القول إن دمك حلال، فلو اعتدى عليك أحد، فلن تنصرك الحكومة، ولو اختصمت مع أحد، فأنت المخطئ والملوم، وعدو الحكومة لا دية له.

توقف قبل قرع الجرس.. ما هذا العلك البارد؟ عدو الحكومة؟ من قال إني أرغب أن أكون عدو الحكومة؟

فتش في جيوبه يبحث عن المفاتيح، ولكن.. أعوذ بالله.. المفاتيح.. أعاد التفتيش، ولكن لا مفاتيح.. كل المفاتيح، مفاتيح الباب الخارجي، مفاتيح المكتبة، خزانته الخاصة في المدرسة.. أف.. اللعنة، لا بد أني نسيتها في البيت عند تغيير ثيابي، ولكن.. تنهد وهو يقرع الجرس. قال: ليتني جئت معي ببعض الخبز الساخن. أريد فطوراً ثقيلاً، فطوراً أتلهى به عن الهموم الصغيرة هذه، وكاد ينسحب ليأتي بالخبز. ولكن.. الباب لم يفتح. لماذا.. أعاد قرع الجرس، وسمعه يصدي في الداخل قوياً، ولكن لا جواب. أين مضت والساعة الثانية عشرة ظهراً.. لا عادة لها بالخروج من البيت في ساعة كهذه.. أين يمكن لها أن تمضي.. أطال قرع  الجرس حتى خاف عليه الاحتراق. كان يقرع الجرس قرع طالب نجدة. قرع ضائع يطلب هادياً.. أحس بالتوتر والتعرق.. هل خرجت من البيت في هذا الوقت؟ وأنا في أمس الحاجة إليها.

رفع اصبعه عن الجرس. تنفس يهدئ نفسه، تنفس عميقاً لا بد أنها مضت لزيارة صديقة ما، أو لعلها خرجت تشتري بعض السكائر.. أو.. ولكن.. كيف يتم هذا في يوم واحد، آذن الممنوع، وتشبيح الأصدقاء والزملاء له في المقهى، نسيان المفاتيح النادر في البيت، خروجها في هذا الوقت تحديداً.. أووف.. لو أن لي عقلاً بوليسياً لقلت إنها مؤامرة كبرى تتم ضدي.

ضرب على الباب بكفه بقوة.. لعلها نائمة.. لعلها في الحمام. أعاد الضرب بقوة لم يكن يقصد بها تنبيهها قدر ما كان ينفس طاقة غضب تعتمل فيه.. لا جواب.

ضرب الباب بكتفه يريد خلعه، ولكن الباب قوي. قوي أكثر مما يجب وهو يعرف ذلك، فهو من كلّف نجاراً ودفع له الكثير حتى يقوّي الباب ولا يمكّن لصاً أو مغامراً من اقتحامه في غيابهما الذي يطول أحياناً عن البيت.

توقف يفكر.. أسيمة خارج البيت. إنها خارج البيت ولا شك، فلو كانت في الداخل لفتحت الباب، وأدارت ظهرها مباشرة دون تحية إن كانت غاضبة، أو بعناقة حنون إن كانت راضية.

جلس على الأرض مسنداً ظهره الذي اكتشف تعبه إلى الجدار، وفكر: كيف كانت صباحاً، راضية، أم غاضبة؟ ولكن.. كيف لي أن أعرف وقد تركتها نائمة، وتركتني أعدُّ قهوتي وإفطاري الخفيف جداً بنفسي. حسن.. بالأمس.. الأمس مساء.. كيف كانت.. غاضبة؟ هل أغضبتها.. لا.. على العكس.. قرأت عليَّ قصتها الأخيرة.. آه.. كانت غاضبة، لا بد أنها كانت غاضبة.. لم يعجبها رأيك في القصة. كانت القصة مليئة بالإنشائيات، والرومانسيات.. ولكن.. أكانت فعلاً مليئة بالرومانسيات والإنشائيات. أٍ أنك أنت من كنت المتوتر والغاضب، والمتحامل، فألقيت برأيك المتحامل عليها في فجاجة.

أغمض عينيه يستعيدها مفكراً.. لا.. لم تفاجأ بعأيك النقدي فلقد اعتادت عليك، وعلى آرائك المتشنجة كما كانت تقول.. كانت تعلن دائماً أنك تطلب أكثر من الممكن. أنك تريد الكتّاب جميعاً بمرتبة بلزاك ودويستوفسكي. ولكن العالم يستطيع احتمال وقبول من هم أقل من بلزاك ودويستوفسكي. وكانت ترضيك بهذه الملاحظات، فتبدأ في إعادة النظر فيما كتبت من وجهة نظر إصلاح ما يمكن إصلاحه في المعروض أمامك.

سمع حركة.. فتح عينيه.. الحركة في البيت؟ أصاخ جيداً.. لا.. ليست في الداخل.. انها في البيت الفوقي، أو ربما في الشارع.. لا.. لم تكن غاضبة. إنها تخزن الغضب الصغير، غضبة فوق غضبة ولا تتلف أعصابها في غضبات صغيرة. إنها تجمعها لتفجرها في غضبة واحدة كبيرة لا يستطيع الصمود أمامها. ابتسم.. الصغيرة الحلوة.. كان محظوظاً بالحصوٌ عليها، رغم أخطائها الكثيرة، أخطاء في الطبخ، في الكيِّ، وفي العناية بالبيت بشكل عام، ولكنها رائعة بالعناية بأزهار الحديقة، رائعة في تغيير أماكن الأثاث (تجدد الحياة) كما كانت تقول.

كان يحب فيها هذه الرغبة في التجدد، فقد كانت تغيّر كنبات البيت كل ستة أشهر أو سنة.. كيف.. لا يعرف. كانت تبيع الطقم العتيق، وتشتري طقماً آخر وتدفع الفارق أقساطاً، أو تشتري كنبات من الموزاييك، أو الجوز المحفور العتيقة، فتجددها أو تكتفي بتغيير قماش الكنبات والستائر.

كانت طاقة تتفجر، وكانت مشكلتها أنها تتفجر، فهي لا تعرف كيف تجري هذه الطاقة في قناة واحدة، كانت تكتب القصة وتكتب الشعر، وتكتب التمثيليات الإذاعية، وها هي تفكر في الكتابة للتلفزيون، كانت تمثل، وترقص.. ولكنها في كل هذا كما كان حريصاً على إبلاغها من النسق الثاني أو الثالث، وقد قال لها مرات: إن العالم لن يذكر إلا النسق الأول، وعليك أن تحاولي أن تكوني النسق الأول في فن ما، أي فن.. ولكنها.. أسيمة. قالها يبتسم في حنان.

انتصب ثانية. قال: أجرب القرع، فلعلها إن كانت في الحمام، ومنعها صوت الحمام من السماع أن تسمع، أو إن كانت في الحديقة تقتلع وتزرع، فلم تسمع القرع أن تسمع. قرع الجرس، وضرب الجاب بكفه وبقدمه و..

انسحب إلى الشارع. ما العمل؟ جائع.. أسيمة ليست في البيت، والنقود التي أحملها قليلة. تذكر.. له بعض النقود عند!جريدة الصرخة، سيمضي إليهم.. سيقضي بعض الوقت، يثرثر، و يحاول الحصول على ماله، سيحاول أن يفهم ما يجري في البلد.. سيتفق معهم على سلسلة المقالات التي يفكر في كتابتها و.. مضى.. وحين وصل إلى نهاية الشارع التفت إلى الوراء، إلى حيث البيت، فلعله يراها قبل أن يبتعد، و.. ابتعد.

كانت مفاجأة.. لا.. ليست بالقاسية. أعوذ بالله.. أهناك ما هو أكثر من القاسية. كانت صاعقة، كان باب الجريدة مختوماً بالشمع الأحمر مع ورقة معلقة عليه بشكل واضح تعلن إغلاق الجرائد كلها، وسحب رخصها، وعلى من يريد افتتاح جريدة أن يتقدم بطلب ستنظر الجهات المختصة في أمره.  

(12)

قالت وهي تسكب بعض الفاصولياء العريضة في صحنه، ثم تسكب بعض المرق فوق صحن رزه في تأني وإتقان ربة العائلة العتيقة: أعجبتهم الإضافات الجديدة إلى السيرة. تنهد وهو يرمق كفَّها الصغيرة تحمل قطعتي لحم كبيرتين في ملعقتها الكبيرة وتضعهما فوق الرز: طيب. ولكنها لم تتوقف.. أضافت: ولكن كبير الأمناء تساءل وأظنه على حق، فغمغم.. همم..

قالت: بالأحرى اندهش: سلطان عربي؟ وحلم عربي؟ و.. أشقر.. و.. عينان زرقاوان؟

قال: ولكن السلطان يجب أن يكون جميلاً، وهل يمكن للجميل أن يكون جميلاً إن لم يكن أشقر ذا عيون زرق.

نظرت إليه طويلاً تتساءل إن كان يسخر، ولكنه حافظ على وجهه الجاد. فقالت وهي تكاد تسخر: ولكنك لست أشقر، وليست عيونك زرقاً!

فأجاب متظارفاً على عادته قبل الكارثة: ولذلك لم أكن السلطان.

ابتسمت: وأنا لست شقراء، ولا ذات عيون زرق.

فقال: ولهذا أحببتك، وطاردتك.

ـ أهذا يعني أنك لا تحب السلاطين.

ـ لا.. ليس هذا ما عنيت، ولكنني لا أفضلهم على طاولة طعامي ولا في سرير حبي.. ضحكت.. رغم الصرامة التي كانت تضعها كثوب جديد. قالت: يجب أن تصغي إلى ملاحظاته. والأمر بسيط. مالك وللسلطان الأشقر والعيون الزرق.

ـ حسن.. أعطوني صورته.. صفوه لي.. كيف لي أن أعرف كيف يبدو.

ـ وهل تعرف كيف كان شكل عماد الدين، كيف كان شكل صلاح الدين، كيف كان شكل عبد الرحمن الداخل.. تخيَّل يا حبيبي.. تخيَّل.. أين خيالك الروائي.. تخيَّل.

ـ تخيَّلنا، فاعترضوا، لا.. أريد صورة له وإن أمكن، فمقابلة شخصية معه.

وشهقت مذعورة، فكأنما ارتكب المحارم كلها: مقابلة؟ شخصية؟ مع مولانا؟

ـ ولم لا.

ـ لا.. لا أعتقد.. فكرتْ قليلا ً.. اسمع. أكمل كتابة سيرتك عن مولانا ـ ثم متأنية ـ وقد اقترحوا. أن نكلف فيما بعد كاتباً آخر ينقِّح ما لا يوافقون عليه. هه ما رأيك.

انفجر ياسين فجأة فكأنما لم يكن يحتاج إلا إلى هذه الملاحظة حتى ينفجر.

ـ منقح؟ كاتب آخر.. رقيب؟ لا.. لا.. أفهميهم. هذا ما لن أقبل به أبداً. السيرة إما أن تحمل اسمي، أو لست على استعداد لكتابتها.

أصغت إلى ثورته، تأملته يثور، ويتهيج، وتنتفخ عروقه: ولكن حبيبي نسيت؟ أنت لست صاحب قرار كتابة السيرة.. أنت مكلف.

ـ مكلف؟ ما معنى هذا؟ عبد؟ لا رأي لي.. لا.. لا.. لن أكتب بعد الآن.

كان يعرف أن ثورته الطفلية هذه ليست إلا ثورة مسالمة، ثورة أمام زوجته، وليست أمامهم، ولن تصل إليهم، فلا مصلحة لها شخصياً بخراب المشروع.

انتصبت تستعد للمضيِّ، فصرخ مرعوباً: إلى أين.

ـ أعدُّ لك فنجان قهوة لتهدأ أعصابك، ثم نناقش الأمر بهدوء.. كراشدين.

أغمض عينيه يحاول تخيل شكل آخر للسلطان. فكَّر. يجب أن يكون مختلفاً، فلو كان يشبهه، أو يشبه جابر، أو نمري، أو.. هه.. مصباح.. فما المميز فيه ليكون السلطان. كانت حكايات الطفولة حين تصف الجميل، تصفه بالأشقر الأحمر أزرق العينين، فكيف يخالف هذه الوصفة الآن ليأتي بسلطان أسمر، أسود العينين، أو بنيهما. صغير العينين كثيف الحاجبين، أعوذ بالله، رجل كهذا يصلح ليكون بواباً للبناية أو سائقاً لسيارة، أما السلطان.

دخلت أسيمة تحمل صينية القهوة.. كانت رزينة أكثر مما يجب، ما الذي أثقل الرشاقة التي وعدت بإيزيدورا دونكان وسامية جمال. ما الذي أعبس هاتين العينين اللتين حلمت بهما أودري هيبورن.. ما الذي.. قالت: كنت أفكر.

فقال ممازحاً يحاول ترطيب رصانتها: عظيم.. شيء جديد.. تفكرين؟

لم تستجب لمزاحه إذ تابعت: أنت كما يبدو لا تدرك عظم المهمة التي كلفت بها؟

فقال في وقار: بل أدركها، ولذا فأنا أريد لها أن تكون الأمثل.

صبَّت لهما القهوة، وكانت شاردة طيلة فترة الصبِّ. أعوذ بالله.. لا.. لا يمكن لهذه أن تكون أسيمة الطيش ولكمة ارتجاج المخ.. لا يمكن لهذه أن تكون أسيمة الصوت الفج والحركات غير المنسجمة على المسرح. تنهد ولم يسمعها تنهده.

قالت: أكان اختيارك في دراساتك المواربة في رفضها للملك الظاهر وسيرته اختياراً بريئاً، أم كان رفضاً لأمك التي حدثتني عنها، وعن إدمانها قراءة السيرة، ولجدتك التي كانت تحفظ عن ظهر قلب أجزاء مهمة من السيرة، ومن الخال التحدي. أكان اختيارك دراسة السيرة ورفضها بريئاً، أم كان انسلاخاً من جلدة الماضي، محاولاً نفض تبعاته عنك كمن ينفض طوق ثوبه معلناً البراءة على عادتك التهريجية.

نظر إليها بإعجاب رغم أنه لم يوافقها على ما كانت تقول إلا أنه وجد التحليل معقولاً فقال يستحثها: هه تابعي.

قالت: وها أنت تصطدم بما يسمى بعلم الأدب بالتمنيع. إن جزءاً لا تملك السيطرة عليه في مخيلتك يرفض أن يمتثل إليك ويعيد خلق وتصنيع الملك الظاهر، المثل الأعلى لأمك من جديد.

أصدر آهه إعجاب داخلية وما يزال يحافظ على قناع الإنصات الهادئ، ثم همهم يستحثها: هه

ـ ولكنك مخطئ، فالمطلوب اليوم كتابة سيرة سلطان آخر.. سلطان ليس الملك الظاهر، بل لو كانت أمك حية لكان لها رأي آخر، فالناس يحبون سيرة الأموات أكثر مما يحبون سيرة الأحياء. وسارع إلى أوراقه، فكتب جملتها الأخيرة وقال: أسيمة أنت اليوم تقولين أشياء جميلة من أين لك بها؟

قالت: أريدك أن تواجه نفسك مواجهة حقيقية. إنها فرصتك لدخول التاريخ. اسمع أنت لم تكتب حتى اليوم الأشياء التي كنت تحلم بكتابتها، بتجاوز ما كتب قبل الآن. ولم يَردَّ، فقد كانت الملاحظة جارحة قالت: ها هي فرصتك. اركب جوادك. اكتب السيرة التي ستصبح نديم وسائد الشعب، اكتب الحلم الذي ينتظرونه منذ وفاة الملك الظاهر، وستصبح في أهمية الجاحظ والأصفهاني.

كانت تقول.. وتقول.. وكان يصغي مندهشاً: أكلّ هذا الكلام الكبير لها، أم أنهم جعلوها تحفظه لتلقيه أمامه؟

انتصب. قالت: إلى أين؟

فقال ضاحكاً: سأحاول هضم كل هذا الكلام الجميل الذي قلت.. سأتمشى وأفكر.

هزت برأسها توافقه وهي تلملم أدوات القهوة.  

(13)

اختار طريق البساتين لرياضته الماشية. قال: أخلو بنفسي بعيداً عن زمامير السيارات المطاردة. ما الذي يعجلها؟ كانت السيارات في تدافعها وتطاردها توتره، وتزيد في عصبيته، واعتبر نفسه محظوظاً حين غامر بالابتعاد عن طريق السيارات داخلاً بين البساتين، فهدَأ قليل من توتره. أمعن في اختراق الطريق سيئة التزفيت، ولكنها كانت خيراً من طريق ترابية، رأى قنفذاً داسته سيارة، فتساءل في أسف: أوقد طاردوها حتى إلى هذه الطرق الفرعية. تأمل النهير الصغير. تفحصه متوقفاً عن المشي. عم كان يبحث.. عم كان يبحث.. السراطين.. الضفادع.. حشائش الماء الخضر المنسابة كشعر امرأة بعد الحمام.. وبهدوء.. وجد نفسه يعيش ما سيكتبه في ليلته تلك كالمحموم، وعاد ليكتب

وقف أمام الباب الخشبي العتيق. تأمل المشهد من حوله في حنين، فلطالما خاض في هذا النهير، يبحث عن السراطين والماء يداعب أعلى فخذيه، فيشعر بمتعة حسية مبكرة ربما كانت ما جعله يكرر هذا الخوض حيث لا سراطين ولا ضفادع، كان يدس عوداً في الوكر الطيني في ممر يعرف أن السرطان سيلجأ إليه خوفاً، وكان ما خطط له وجرَّبه يتمُّ بالتفصيل الممل فها هو السرطان يفر من العود المهاجم إلى خارج الوكر لتكون أصابع ياسين المتوترة كالملقط مستعدة للانقضاض على ظهره الصدفي وإلقائه خارج الجدول ليضمه الأولاد إلى السراطين الأخرى في السطل حتى إذا ما اكتمل العدد بدأت حفلة التعذيب وانتزاع الأطراف، أو الدفن حياً في التراب حرقته الشمس، لماذا كانت هذه القسوة.. تنهد.. تأمل المشهد ثانية، ماتت أشجار الصفصاف، واقتلعت أشجار الحور عن الضفة، ويبست شجرة التين، ولم يستبق النهر على ضفته إلا جنبات الدفلي المنيعة على الموت وبعض النفنوفة.. والنسرين هنا وهناك.

كانت شلة من الصبيان يلعبون بالكريّات الزجاجية جاثين يقذفون بكريّاتهم، كأن الزمن لا يتحرك. وكأنه فارقهم بالأمس فقط، ولم يتغير فيه إلا هذا السواد فوق شفتيه، وهذه الخفة في شعر الجبين. أراد أن يقترب منهم، يعلمهم كيف يقذفون بالكريَّة الزجاجية، ولكن ثقلاً في القدمين وخزياً من موقف العائد إلى حيث كان يتمنى ألا يعود، ولكن ها هي المغامرة تنتهي، وعليه أن يكمن ها هنا حتى يرى ما تأتي به الأيام.

رفع كفه يريد المقرعة ولكنها تلكأت. وتنهد.. ما أصعب عودة الابن الضال ينتظر المغفرة، ويقدم التفاسير. أمسك بالمقرعة فالتصقت الأصابع اللحمية بالأصابع النحاسية.. توقف في خجل.. في.. ولكن ما الحل الآخر.. أسيمة لم تفتح الباب، والأصدقاء والزملاء والندماء شبَّحوه فلم يروه.. ها أنت وحيد يا ياسين، وحيد مثل ذلك اليوم الذي قررت فيه هجر الحارة والماضي واختراق المستقبل.. عزَّى نفسه. الحياة كالنهر مليئة بالانحناءات، والاستراحات.. المستنقعات، وبالانهيارات.. الشلالات. ولكن النهر لا يستطيع إلا أن يسير إلى الأمام.. سر يا ياسين.. سر ولا تخجل، فكثيرون أصابهم ما أصابك! تنهد.. أمراء وكبراء ووزراء و.. لكنني.. صرخ في لوعة.. لم أكن يوماً، ولم أرغب يوماً بأن أكون الأمير أو الكبير، أو الوزير. أنا لست إلا عشبة صغيرة داستها الأقدام لمئات السنين، وحاولت أن تنتصب. عشبة شاءت الانتصاب.. فلم أحاسب محاسبة شجرة الحور أو الجوز؟

دوَّى صوت المطرقة النحاسية على سندانها، دوَّى عالياً وهو لا يذكر حقيقة إن كان هو من أفلتها لتنقرع على السندان، أم أنها أفلتت نفسها، أو انزلقت على غير رغبة منهما معاً، ولكنها قرعت، وانتهى الأمر.

سمع حركة الأقدام في الدهليز الطويل، وسمع نحنحة الخال يتساءل في غير لغة عن الطارق، ولكنه بَكُم. كان من يسمى بالخال لا يستحق فعلاً كلمة الخال، فلم يكن ما بينهما من العمر يتجاوز السنين الخمس، ولكنها سنين فرضوها عليه جميعاً وقاراً واحتراماً وهيبة، وكانت الجدة التي كانت تستدعي الاحترام عنوة لابنها تصرُّ على أن ينادوه بالخال: فلم تحرموه حقاً وهبه الله؟ لم تريدون أن تصغِّروا من كبَّره الله؟ وهكذا كان ياسين وأخوه علاء يناديانه إرضاء للجدة وابنتها بالخال.

كانت هناك منافسة طويلة وعميقة بين ياسين وخاله، منافسة أشبه بالتنافس بين الأخوين المتقاربين سناً!

كانت المنافسة على قلب الأم ـ الأخت، ولكنها منافسة كسبت منذ البداية تقريباً. فالأم ـ الأخت المتعلقة حتى الانسحاق بأمها سرعان ما ضحت بالابن في سبيل الأخ، وكان لها للحقيقة مبرراتها الكثيرة، فالأخ ـ الخال كان مرضياً عنه تماماً، كان يصلي الصلوات الخمس في حينها، وكثيراً ما أمَّهما بالصلاة. كان قارئاً جيداً لمولد البرزنجي، فإذا ما أخذ بالقراءة تحوّل إلى ممثل أول، أو ممثل وحيد يحرك الحاضرات كما يشاء، وكان يحلو له أن يدس في قراءته بين الحين والآخر كلمة صلوا على النبي، فيندفع النساء جميعاً في نشيد واحد

صلى الله على محمد       يا رب صلِّ وسلِّم

فإذا ما صمتن أشار لهن ثانية بإصبعه الصغيرة: صلوا كمان على النبي العدنان فيندفعن يكررن:

صلى الله على محمد       يا رب صلِّ وسلِّم

ويظل يكرر حتى يسأم ويسأمن، فيكمل قراءة معجزات مولده صلى الله عليه وسلم. وفجأة يتوقف فيصمتن متوترات لينطلق وكأنه قائد الفرقة الموسيقية بصوته النحيل المسرسع: عطِّر اللهم قبره الكريم، فيكملن وهنَّ يمسحن على وجوههن في خشوع: بعرف شذي من صلاة وتسليم. اللهم صل وسلم على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، وعلى أصحاب سيدنا محمد وعلى أحباب سيدنا محمد وعلى....

ابتسم ياسين في مرارة، كان يعرف كيف يستدرُّ حبهن، وعطفهن، ورضاهن. وكن يمطرنه بحبات الملبَّس والبسكوت والراحة، وكان لديه دائماً من هذه المدخرات ما يزيد عن حاجته، فكان يستخدمها في تشغيله مع أخيه الصغير للقيام بالمهام الثقيلة جلب الماء من الحنفية العامة شراء الخبز المبكر من الفرن، وكان لديه دائماً الأجر المغري، الملبس والبسكوت وراحة الحلقوم، وفيما بعد وحين كان يخلو بنفسه ويتذكر تلك الأيام في حنين وحنان كان يتساءل: ما الذي جعله يتعلق بروايات موريس لوبلان وآرثر كونان دويل مبكراً، وجعل الخال يتعلق بمولد البرزنجي. ما الذي جعله حتى حينما صودرت منه روايات أرسين لوبين التي تعلم اللصوصية والفساد، وروايات شرلوك هولمز التي لا تقل عنها سوءاً. ما الذي جعله يلجأ إلى سيرة الملك الظاهر، وسيرة الملك سيف، ولا يقرب مولد البرزنجي، ولا الإسراء والمعراج، ولا دلائل الخيرات. أهو الفساد المبكر في بذرته كما كانت جدته تعايره، أم هو هذا العلم الأرضي الفاسد الذي يعلمونه في المدارس؟ من تاريخ وجغرافيا وأشياء واضحة تتحدث عن كل شيء إلا عن المعجزات وقدرة الله الصانعة لكل شيء. وكانت الجدة تسأله أحياناً إن كان يعرف سر الفساد الكامن فيه، ولكنه لم يكن يحر جواباً إذ لم يملكه أبداً.

فتح الباب أخيراً، وتواجه الندان، الأخوان اللدودان، المتنافسان على قلب أم لم يعد لها قلب بعد أن طواها التراب، ولكنهما ما يزالان يتنافسان عليه. فتح الباب والتقت الدهشة الصارخة على وجه الخال بوجه البراءة المدعاة والصلف المتفضل على وجه ياسين. كان قناعاً لا يريد جلاء الانكسار الذي يعيشه من اضطر إلى التنازل عن كل إنجاز ونجاح حصل عليه منذ صارت صوره تتصدر الجرائد، وتزوج بنت البندقدار، وبدا أن العالم قد انفتح أمامه إلى نجاحات كان يمكن حسابها وتوقعها على وجوه الناجحين الآخرين.

بشَّ الوجه الملتحي، فقد كانت المفاجأة غير متوقعة، وأسعدت البشاشة الصلف المدعى على وجه ياسين، واستسلم لاحتضانه، ثم لجرِّه إلى الداخل، ولكنهما وقبل أن يجتازا منعطف الدهليز الأخير توقفا ليصرخ الخال منبهاً النساء في الداخل زوجه وابنته الكبرى إلى قدوم أجنبي عليهما أن يستترا منه: يا الله.. يا الله.. خذوا طريق.

وبعد توقف قصير سمعا فيه الحركة المتعجلة العصبية في الداخل.. وسمعا تصفيقاً يسمح لهما بالدخول تقدما في اتجاه غرفة الضيوف بعد أن عبرا الباحة الصغيرة، وتوقف ياسين قليلاً يتأمل شجرة النارنج. ألا يسأمون من تكرار هذه الشجرة التي لا تعطي إلا خضرة الورق وعطر الزهر أوان الزهر أما الثمر فمن يجرؤ على تذوق ثمر النارنج. والبحرة الصغيرة المصبوبة قطعة واحدة من الموزاييك. تذكير بماض كان فيه بحرة كبيرة وكانت تشرب من النهر وتعود بوسخ مائها إلى النهر. ولكن.. فسد النهر وأَسِنَ ماؤه، وماتت ضفادعه وسراطينه وحتى أعشابه.

رأى الوجه الملتحي للخال يشده إلى غرفة الضيوف، فمضى لاحقاً به، أخذ يرحب به، وكان الترحيب يتضمن تساؤلاً مضمراً عن سبب زيارة لا سابق لها منذ زمن طويل، وقبل أن يجيب ياسين كان الباب يقرع، ثم يفتح مواربة. وصينية القهوة تتطاول، فقام الخال بحملها وتقديمها لياسين. كان ياسين جائعاً، ولكن الموت كان أهون من الاعتراف بهذا الجوع، وكان مفلساً فالمصيبة وقعت في الثلث الأخير من الشهر، ثلث الاستدانات والقروض والشجارات مع أسيمة على هدرٍ لا مبرر له، الهدر في الطاقة الكهربائية، في المصابيح المنسية مضاءة طيلة الليل، والهدر في طبخ طعام لا يأكلونه، فطبخها لم يتحسَّن أبداً، وكانوا يرمون معظمه، أما في ثلث الشهر الأخير فكانا يأكلانه. فرميه كفر.. كما كان يعلن.

شربا القهوة، وكانت المفاجأة في أن الخال كان يعرف بقرار الحرمان من الحقوق المدنية والسياسية الذي وقع على رجال العهد البائد ممن لا جريمة مباشرة تطالهم. كانت المفاجأة في أنه لم يشمت، ولم يعاتب، ولم يبد حكمته حيث لا لزوم للحكمة. قال:

ـ والآن. ما مشاريعك؟

كان لياسين حصة صغيرة في البيت، هي ميراثه من أمه في بيت أبيها، ولكنه لم يطالب بها أبداً، فقد كانت أتفه من أن يفكر بها رجل يسعى للمجد سعيه، أما الآن.. لكن واحداً منهما لم يناقش الأمر، علا أذان المغرب، وانتشرت حركة عصبية في البيت. سمع صوت طرطشة الماء، وسمع وقع القباقيب الخشبية على البلاط، ورأى تصبُّر الخال قليلاً حتى هدأت الضجة، ثم رآه يستأذن، ورأى واحداً من أبنائه يحمل له القبقاب الخشبي ومضى الخال، وكان الحرج الشديد على ياسين، الحرج من موقف لم يكن مستعداً له، أن يمضي الخال وأبناؤه إلى الجامع لصلاة المغرب. أفيبقى وحيداً في البيت مع النساء.. لا.. فهذا عيب، أيمضي إلى الصلاة معهم ولم يفعلها منذ سنوات، تردد،  وتردد، ثم رأى المجاملة، فتوضأ، ورأى سعادة على وجه الخال، أهي سعادة هداية الابن الضال، أم سعادة النصر. فها أنت ترضخ أخيراً للحق. بعد الصلاة كان الدرس الديني وقد قام به الخال كاملاً، وكان الدرس عن التوبة، وعن سعادة الله بعودة التائب إلى حماه ورشده وعن، وعن، وفي تلك الليلة وحين يحاول ياسين النوم، فيتأبى سيتساءل أتراه عنى بكل هذه الموعظة ما آل إليه وضع ياسين. كان عشاء متواضعاً، ولكنه كان دافئاً فتح من أجله بيت المونة وأخرج الزيتون النفيس زيتون المناسبات، والمكدوس واللبنة المحفوظة على شكل كريات، والبيض المقلي بالقاورما، وأكل ياسين، أكل أكل جائع لم يأكل منذ الأمس.

كانت سهرة مختلفة عن كل سهرة سهرها ياسين منذ أدار ظهره للحارة وأهلها شاقاً طريقه في مراقي المجد كما كان يفكر، سهرة أمسك فيها الخال كتاب تفسير الجلالين، كما أمسك ولداه الكبيران جزءين من القرآن الكريم وأخذوا يقرأون بهدوء، ولما لم يكن لديه ما يقرأ، ولم يكن لديه شهوة القراءة فقد أخذ بالتثاؤب، فساقوه إلى غرفة صغيرة نظيفة الفراش والشراشف، وسرعان ما غرق في نوم لم يستعن عليه بالأنتي دوهرنغ.

حين سمع الأذان، خال نفسه ما يزال في الحلم القديم، ولكن الأذان ألح.. كان قريباً، لم يكن أذاناً يتسرب من مسجد، بل كان شديد القرب، فتح عينيه، لم تكن أسيمة إلى جواره. كان الأذان قريباً جداً، مدَّ ذراعه يريد إشعال اللمباديرة، فاصطدمت بالجدار الخشن في قسوة. لم يكن اصطداماً، بل كان ضرباً خدش ظاهر كفه ولا شك، وأيقظه بحدة، تمتم يلعن، وقد استيقظ تماماً، لا.. ليست هذه غرفة نومه، ولا غرفة مكتبه التي يلجأ إليها هرباً من شجار، أو هرباً من أرق سيستجر الشجار.. لا.. وألح الأذان: الصلاة خير من النوم.. و.. عرف الصوت، وحين عرف الصوت عرف الغرفة، والوضع الذي آل إليه، فأحس بكآبة سريعة. كآبة أخرجته من نشوة أسيمة وكافتيريا النجمة وبسمة الوعد.. كان نداء الصلاة خير من النوم صريحاً واضحاً، كان للبيت قانونه الواضح، وعلى من يقيم فيه أن يخضع لهذا القانون، وهكذا انسلَّ من السرير وهو يتنحنح، ثم أعلن عن يقظته بـ: يلله يلله.

صلَّى الفجر والخال الإمام، وأبناؤه وبناته المحجبات وزوجه يأتمون به. صلى الفجر مستعيداً صباً قد انقضى، وتقى مفروضاً لم يكن جزءاً من مزاجه، ولكنه لم يستطع أن يمعن في الرفض، فقد كان الجميع متحدِّين في هذا الأمر، وكان قائد سرب الإيمان الجدة الأرملة، وفيما بعد وفي زمن إعداده لكتابة السيرتين. سيقرأ ما كان قد كتب عن تلك الفترة: ما الدافع الذي يقود الأرامل إلى التشبث بالدين بهذه الحدة، لم يكن تدينها، ولا تدين ابنتها تديُّن من يعيش أبداً، بل كان تديُّن من يموت غداً. كان الموت جارهم اليومي، وكنَّ يتحدثن عن يوم القيامة، وكأنه سيكون آخر الشهر، وكنَّ حين يتحدثن عن يوم القيامة وعذاب الجحيم يتبدين وكأنهن يتمنين أن يقع يوم القيامة غداً كي يعاقب الخاطئون والخاطئات، وكان في رغبتهن تلك شيء من خوف ألا يعاقب الخاطئون، وكان في ذلك الخوف شيء من شك، أكان الشك فعلاً، أم كان الخوف من ضياع جهدهم في العبادة، فيتساوين مع الخاطئات والخاطئين في الحظ، وكنَّ إذا سمعن الحديث عن التواب قابل التوبة يشعرن بشيء من الحزن. أهذا معقول. يقضي الخاطئ عمره في ملذات الخطيئة حتى إذا ما أدركته الوفاة تاب، فقبل الله توبته سعيداً بتوبته، فيكسب الحالين، ملذات خطيئة الدنيا، وملذات الغفران والتوبة، وكن يأسين حين  يفكرن في هذا. أسيعامل الله  الخاطئة.. التائبة معاملته للجدة التي قضت العمر في التهجد والتعبد وحرمان النفس من كل لذة. أسيعاملها الله معاملته للتائبة. وتكاد تشعر بالتمرد، ولكنها فجأة ترجع إلى الله، وتستغفره عن شرور ظنها، وعن إثم تفكيرها، وتعلن بصوت عال، وكأنها تعني أحداً ما ليسمعها: الله  قادر على كل شيء.. لله حكمة تقصر عنها أفهامنا. له البداية والنهاية، وهو الغفار الرحيم.

وكانت أحياناً تميل إلى التواضع، فتسأل: وهل أنت على ثقة من أنك الصالحة التقية مغفورة الخطايا؟ ما يدريك. وذنوب الشك والتمرد التي تهجس في فؤادك. أتظنيه يغفرها لك؟ بعد صلاة الفجر فرضاً وسنة، وقراءة أوراد كان ياسين يشعر اثناءها أن كل هذا ما هو إلا انتقام منه، وتبيان لخطل العنزة التي شطَّت عن الطريق، فهاجمها الذئب، وكان حظها الطيب أن نجت بتراء الذيل فقط. نجت لتعود إلى القطيع درساً لكل من تسوِّل له نفسه الضياع عن القطيع.

وجد في جيبه عند مغادرة البيت مئة ليرة، فأحسَّ بخجل عميق. لم يكن الامتنان، بل الخجل والحس بالعار. وتساءل: أي فارق كان بين الخال واستجابته، وعلاء ولبنى وتجاهلهما قرعه الباب، وصكَّهما الهاتف عند سماعهما صوته على الجانب الآخر. تنهد.. كانت الليرات المئة الجواب على المنافسة الطويلة على قلب الأم الذي صار تراباً، وكانت الردّ الصريح بأنَّ كل ما فعلت يا ياسين عبث وقبض ربح، فها أنت تعود الجريح المهيض الأعزل لم تُفد من تلك المغامرة إلا الجراح.. ترى.. هل عرف الخال بأنه قد صار لديهم الشبح.  

(14)

تأمل المدخل العتم، وانقبض قلبه، فليس لها عادة بتعتيم المدخل..

قرع الجرس، ولكن لا رنين.. ما معنى هذا؟ الكهرباء مقطوعة؟ رجع إلى مدخل الدهليز، وضغط زر المصباح الأوتوماتيكي، فأضاء المدخل، وإذن؟ الكهرباء مقطوعة في بيتنا فقط. ضرب على الباب بيده يريد رداً، ولكن لا رد. هتف: أسيمة.. أسيمة. افتحي الباب فلقد نسيت المفتاح، ولكن لا رد. دفع الباب عرضاً فهو يعرف حرصها وحرصه على الإغلاق الجيد للباب، فالقبو المنعزل مغر للصوص حيث لا جيران سواهم، ولكن الباب لدهشته انفتح.. أكمل فتح الباب كاملاً إلى الداخل، ولم يخطُ، فلقد أخافته المفاجأة. النور مقطوع، والباب مفتوح.

لعل هناك جريمة ما، وما كاد يذكر الجريمة حتى اندفع إلى البيت يخترق الصالون إلى الحديقة الباحة، فيفتح الباب المطل عليها ليضاء الصالون العتم، وحين أضيء الصالون العتم اكتشف أن الصالون عار من كل اثاث، لم يصدق عينيه، فاندفع إلى غرفة النوم، ولكن غرفة النوم كانت عارية تماماً. مضى إلى غرفة مكتبته ليجدها كاملة العري، لم ينطق بكلمة وهو يتنقل بين الغرف يبحث عن أسيمة. ترك المكتبة ـ المكتب بأقدام متعبة ثقيلة، واتجه لا إرادياً إلى المطبخ، وكان في ركن من دماغه أمر بأن يصنع لنفسه على عادته فنجان قهوة يصفي به تشوشات ذهنه، ولكنه في الطريق إلى المطبخ سمع الهاتف يرن. لم يذعره الرنين، وكان يجب أن يذعره، فرنين الهاتف العالي في بيت خال من الأثاث، ومن الناس، ومن النور يجب أن يذعر، ولكنه على العكس لم يذعر، بل أشعره الرنين بشيء من الحنين، من الألفة، فها هو البيت الرافض، العتم، الدافع بعيداً عن الألفة يتحول من مكان إلى بيت، إلى إنساني. الرنين يعني أن هناك آخر يسعى وراءك يريد الحوار معك. قال: أسيمة. واندفع إلى الهاتف، فرفع السماعة ليسمع صوتاً رجلياً هادئاً مألوفاً إلى حد ما آمراً يقول: اخرج من البيت حالاً.. اهرب إنهم يسعون وراءك للقبض عليك.

انقطعت المكالمة، فوضع السماعة لم تنتظر منه رداً. أكان المتكلم يعرف انه من سيرد. أكان يعرف أنه في البيت الآن، ولم يحذره؟ من هو؟

رن الهاتف ثانية، فرفع السماعة ليأتيه الصوت ثانية: أما زلت هناك. إنهم في الطريق إليك.

كالمنوَّم لم يقاوم، ولم يفكر، ولم يناقش الأمر. كانت الأشياء كلها متَّحدة لتقنعه بأن ما قام، وما قاموا به بالأمس سلسلة واحدة، وعليه أن يفرَّ إن أراد أن يبقى حراً. اندفع خارجاً من البيت. وأدرك عند مصافحته نور الشارع بأنه لم يقفل الباب، ولكنه سخر من الأمر، فماذا في البيت مما يخاف عليه. تأمل المارة، والمشاة، وركاب السيارات، وسأل في رعب: من فيهم المراقب، ومن هو المتكلم بالهاتف ثم صرخ: من يلاحقني؟ بدا الجميع متشابهين، كلهم رقيب، وكلهم لا رقيب.

قرر أن يقطع لحظة تشتت المثقف كما كان يحلو له التعبير، واندفع من الشارع الرئيسي إلى حارة جانبية، فحارة جانبية، فحارة جانبية، وضاع بين الحارات حتى تأكد ألا ملاحق يلاحقه. وما أن اطمأن إلى أن أحداً لا يلاحقه حتى استوقف سيارة تاكسي حملته إلى دكان الخال الذي قال يهوِّن عليه الأمر: أعتقد أنك تهوِّل الأمر على نفسك. وصرخ في لوعة: ولكنها ليست في البيت والأثاث اختفى.

فقال الخال مهدئاً: كثيرات من الزوجات الغاضبات يفعلنها، يحردن ويحملن الأثاث معهن، أليس ذلك من حقها.

وقال ياسين في حزن: ولكن لم يكن بيننا ما يغضب أو يسبب الحرد. فقال الخال: وهل كنت في قلبها لتعرف فيم تفكر،  وماذا تخفي في قلبها.

ـ والهاتف المحذر؟

ـ ربما كانت مزحة جار كان يراقب دخولك إلى البيت بعد أن رأى رحيلها.

أسند ياسين رأسه إلى كفيه وأخذ يفكر: في ما قال الخال صواب كثير، وفيه أيضاً خطأ كبير. باع الخال صحني فول وصحن حلوى الحبوب وعاد يشكر الله ويحمده. قال: كنت دائماً أقول الحكومة نار من اقترب منها أحرقته.

كان ياسين قد سمع هذه الحكمة كثيراً من خاله، ومن جدته، ومن أمه ومن حكماء العائلة جميعاً، ولكنه كان قد هيَّأ حكمته منذ زمن طويل، تلك الحكمة التي كان يرددها كلما ذكروا حكمتهم، أو ذكرها حين هجرهم قال: والبعد عن الحكومة صقيع من فارقه تجمَّد.

ضرب صبي على الطاولة بليرته المعدنية يستحث الخال، فالتفت إليه باشاً واستأذن من ياسين ثانية: طلب الرزق الحلال جهاد.

كان الخال قد اختار لعيشه مهنة بسيطة لا يقارب فيها الحكومة ولا مالها غير الطاهر. كان يقول: حين بنوا الكعبة بعد انهيارها بالسيل شرطوا ألا تبنى من مهر عاهر ولا مكس مكاس. ومال الحكومة مهور عواهر ومكوس مكاسين، فتخيل أي أبناء تربي وأنت تطعمهم من هذا المال. كان قد تخلى عن كل عمل فيه للحكومة يد، واختار دكاناً يبيع فيه الفول النابت وحلوى الحبوب شتاء، والمثلجات صيفاً، فإذا ما سئل عن حاله قبَّل يده ظهراً وبطناً، وقال: الحمد لله. كشف ياسين الغطاء عن حلة الفول مداعباً ليكتشف أن الحلة قد نفدت أو كادت، فضحك الخال: أتريد معاونتي.

وضحك  ياسين: وتقبل بي معاوناً؟ وما كاد ياسين ينهي جملته حتى رأى شاكر ابن الخال يقود دراجته النارية في اندفاع، توقف الرجلان يستكشفان سبب اندفاع شاكر، وما إن توقف حتى قال: سألوا عنك في البيت.

ولم يكن ياسين أو الخال بحاجة إلى سؤال من السائل، وتحرك الخال بسرعة، فأنزل الابن عن الدراجة النارية، وقال لياسين: اركب. فركب ياسين دون مقاومة على الدراجة وراءه. قال الخال للابن: أشرف على الدكان. ولم ينتظر جواب الابن، بل طار يحمل ياسين خارجاً من الحارة، كان لدى ياسين الكثير من الأسئلة ولكن الريح الصافعة أصمتته، كان الخال مستعداً لركوب الدراجة فقد انتزع نظارة الدراجات الخاصة من جيبه، ولبسها، أما ياسين فكان عاري الرأس والوجه والعينين.

بعد قليل انتبه إلى أن عينيه تذرفان الدمع بقوة، تذرفان حتى لا يستطيع حبسها، كان صفع الريح قوياً، ولكن مرض المهنة ألح عليه، فتساءل: أتراها دموع الندم، أم دموع الأسف على ما أضعت بالأمس. انحرفت الدراجة في طرقات ترابية متغلغلة بين البساتين، أراد أن يسأله إلى أين المسيرة. ولكنه فضل الصمت، فلن يجري أسوأ مما يجري.

لم تكن الرحلة قصيرة، ولكنه كان مطمئناً، والغريب أنه كان مسلماً أمره كاملاً للخال، لم يكن خائفاً، ولم يكن متشككاً. كان يعرف أن حلاً ما على الطريق، وكان الحل بستاناً وبيتاً ريفياً لم يكن يعرف أنه للخال، ولم يكلف الخال نفسه بشرح الأمر له. قال: ها هنا مكان أمين. فتح باب البيت الصغير. قاده إلى المطبخ. أراه مكان الشاي والقهوة والخبز ومؤنة البيت من زيتون وجبن وزيت.

قال: احتجب ها هنا حتى يأذن الله بالفرج.

قاده إلى غرفة أخرى ليرى سريراً خشبياً وفراشاً ومكتبة صغيرة قال: سيزورك شاكر كل يومين ليرى ما تحتاج إليه. أأنت في حاجة ماسة إلى شيء الآن؟ هز ياسين  رأسه نافياً، فغادر الخال، وبعد قليل سمع صوت الدراجة النارية تبتعد به. وضع رأسه فوق الطاولة منهكاً. كانت استعادة الحالة منهكة عصبياً ومرهقة روحياً. تنهد ورأسه بين يديه.. أيمكن للذكريات المستعادة أن تستعيد ألم اللحظة التي صنعتها.

لم يسمع صوت الباب يفتح، ولكن وقع عقبيها في الصالون جعله يقفز مذعوراً ليستقبلها وليسوقها إلى المطبخ معاتباً، وليطلب إليها تجهيز عشاء خفيف، فسيموت من الجوع، وما كادت تستجيب حتى اندفع عائداً إلى المكتب يخفي سره ومكتبته، وسيرته  

(15)

لم تكن في البيت، فمضى إلى المكتبة، ورأى أوراقه عن سيرة مولانا السلطان على المكتب. جلس. فكر، وضع الأوراق على المكتب رسالة تقول: عليك إنجاز المهمة جلس، وقفز السؤال: ما الذي جعل السلطان سلطاناً. هه. ما المميز فيه. قلَّب في مذكرات رفاق طفولته وفتوته الأولى يتساءل: هل يمكن الإجابة عن هذا السؤال؟ قلَّب الأوراق و.. توقف ملتفتاً بكليته إلى حكاية بئر البنزين.

كانت سنوات قحط ثلاثاً قد انقضت، فجفت العيون، وتقاعست الأنهار والجداول، ويبس الشجر حتى لقد قيل إن مئة ألف شجرة مشمش قد يبست في قرية واحدة. في ذلك الحين طرأت على البلاد موجة الآبار الارتوازية. كانت موجودة من قبل، ولكنها لم تكن منتشرة، فلم تكن الحاجة شديدة لها. ولكن سنوات القحط جعلتها ضرورة. وهكذا قرر أهل مولانا عقلة بن نافع الزمان أن يحفروا بئراً، فلم يعد هناك مكان للتأجيل، فماء الشرب نفسه صار ضرورة واحتياجاً.

في ذلك الحين، كان عقلة الذي سيغدو السلطان في الرابعة عشرة من عمره، ولكنَّ أعمار العظماء لا تقدر بالسنين، فكم من عظيم تجلَّت عظمته وهو في المهد صبياً، فصحب العاملين حين حملوا الحفارة إلى الحقل، صحب قضيب الرمان في تجواله في الحقل يبحث عن شرايين الماء في الجسد الناشف للأرض. كان عقلة يمشي ويتأمل حامل قضيب الرمان المنشغل عنه، المنغمس تماماً في مراقبة اهتزاز قضيب الرمان، كان يمشي ويرى عيون حامل قضيب الرمان الغائبة حتى الابيضاض، وكان يتساءل: أيستطيع قضيب الرمان أن يدلَّ على شرايين الماء. كان القضيب يميل إلى الأرض، وكان عقلة يستبشر، وكان الحامل يهزُّ رأسه في رفض. لا. الماء الموجود لا يستحق الحفر، وكان يمشي وكان عقلة يمشي، وكان الأمل ينوس ما بين ميلان القضيب وانتصابه، وفجأة، وقريباً من الطريق المعبَّد الواصل للمدينة انحنى القضيب حتى لمس الأرض، فجحظت عينا صاحب القضيب، أراد أن يرفعه، أن يغيِّر من موضعه، ولكنَّ القضيب تشبَّث وكأنه وجد أخيراً مبتغاه. ترك القضيب، فهوى ملتصقاً بالأرض. انحنى عقلة على القضيب يريد رفعه، ولكن القضيب التصق. قال صاحب القضيب: لا فائدة. لن تستطيع رفعه حتى يبتل بالماء الذي يشده إليه.

وضعا كومة أحجار يدلان فيها على مكان الماء، ومضى صاحب القضيب يأتي بالحفارة وسائقها وقد استغرقه البِشْر، فالمكافأة عادة على قدر الماء المستخرج من البئر. انحنى عقلة على القضيب يريد تفحصه، ولكن القضيب تململ لا يريد الافتراق عن الأرض، وفجأة تذكر عقلة أن عليه أن يستنجد بنسبه، بأصالته ليؤكد أنه الموعود.

وقف قرب القضيب، وتلا نسبه الكريم بدءاً من نافع الزمان حتى الجد الأكبر قابيل بن آدم. فهابيل قتل صغيراً قبل أن ينجب، ثم انحنى فلمس القضيب، وما كاد حتى قفز القضيب من مرقده إلى كف مولانا الذي لوَّح به كمن يلوِّح بسيف، وصل صاحب القضيب وسائق الحفارة، وفوجئا به يلوِّح  بالقضيب، فغضب صاحب القضيب: كيف فعلت هذا. سيهرب الماء الآن ويغور. لا يجب تحريكه حتى يغتسل بماء العِرق الذي دلَّ عليه. ثم استدرك: ولكن كيف استطعت رفعه؟ لم يجب مولانا، فقد أربكه هجوم حامل القضيب، سحب صاحب القضيب القضيب من يد مولانا عقلة، وما كاد القضيب ينفصل عن يد مولانا عقلة حتى انجذب إلى الأرض، والتصق بها. انحنى صاحب القضيب يريد رفعه، فأبى القضيب، انحنى سائق الحفارة فوق القضيب يريد رفعه، فأبى القضيب. وعندئذ نظر صاحب القضيب إلى مولانا عقلة في غضب، وقال لسائق الحفارة: هذا الولد نحس. يجب إبعاده عن البئر. من يحمل قضيب الماء بعد التصاقه بالأرض قادر على تهريب البئر وتغوير الماء.

رفض سائق الحفارة الحفر حتى جاء خال عقلة وأهله، فأبعدوه عن الحقل، وبدأ الحفر، ولكن مولانا عقلة كان يفكر في القضيب وسحره، وتساءل: السحر في القضيب أم في صاحب القضيب، أم في البئر الباحثة عمن يجدها؟ قال: أجرب، مضى إلى حقل الجيران، فاقتطع قضيباً من الرمان، وأخذ يذرع به الحقول التي جردها القحط من نباتها وشجرها وجنباتها، ولكن القضيب لم ينحن، والأرض لم تستجب. كان يسمع ضربات الحفارة تخترق الأرض، ويتساءل: إن كان القضيب الآخر أكثر صدقاً، أو أحسن تدريباً. ثنى القضيب، فانثنى. مضى به إلى بركة اصطناعية للماء، فانحنى فوق الماء في شهوة. قال: لا سرَّ يفصل بين القضيبين، ولكني عبرت حقولاً لا ماء فيها.

أخفى القضيب تحت ثيابه، ومضى يجرب الحقول، اقترب من حقلهم، وكانت ضربات الحفارة ترجُّ الأرض، جرَّب القضيب، فاهتزَّ قليلاً، مشى كمشية صاحب القضيب يجرب القضيب، فاهتزَّ القضيب ومال، ثم انحنى بعنف يكاد ينفلت من أصابعه ليلتصق بالأرض. تركه قالتصق بالأرض، وأدرك أنه قد عثر على موقع ماء جديد. جرَّب رفع القضيب، فأبى وكان قد عرف الحيلة، فقرأ نسبه، وحمل القضيب، فانحمل. وضع بضع حجارة مكان القضيب يعلِّم مكان الماء، ومضى يجرب بقية الحقل، وكانت المفاجأة أنه عثر على أحد عشر موقعاً علَّمها جميعاً، وكان لديه من الذكاء ما جعله يعرف أن لاكتشافه قيمة وثمناً، فلم يخبر باكتشافه أحداً، ومضى ينتظر مع أهله ظهور الماء.

كانت المفاجأة في اليوم الثاني للحفر إذ انبثق فجأة ومن موقع الحفر بدل الماء البنزين.. لا.. لم يكن النفط الخام، بل كان البنزين الصافي. سوَّر خال عقلة الحقل، ثم أعطى سائق الحفارة وصاحب القضيب مكافأتهما، وطرد الفضوليين من الجيران، وأضاف المضخة إلى البئر، وانتقلت الكازية من مفترق الطريق إلى القرية إلى حقل عائلة عقلة، فأخذوا يبيعون البنزين الصافي والأشد نقاء من بنزين الحكومة بسعر أقل، وطال طابور السيارات أمام الحقل يريدون البنزين الأنقى والأرخص، وقبل أن تعرف الحكومة، وتتحرك أجهزتها البطيئة في تحركها توقفت المضخة، ولم يعد في البئر بنزين. جاؤوا بالحفارة ثانية، حفروا.. أعادوا الحفر.. وأخيراً اكتشفوا أن ما ظنوه بئراً للبنزين لم يكن إلا خزاناً سرياً احتياطياً للقوات الفرنسية زرعته أيام الاحتلال تحسباً للطوارئ.

ضحك أهل القرية، ضحكت القرى المجاورة، وضحك رئيس المخفر، والحكومة، وانطفأت حكاية الكنز من بئر البنزين، ولكن عقلة لم ينس الآبار التي اكتشفها على طول الحقل الموازي للطريق المعبدة.

اتفق مع عمال من قرية مجاورة، وجعلهم يحفرون له آباراً عرف أن عمقها يجب ألا يتجاوز ما حفرته الحفارة أي ما يقارب الأمتار الخمسة عشرة حتى إذا ما اصطدمت معاولهم بصوت الخزان المعدني انتقلوا إلى الحفرة الثانية. وهكذا بدأت ثروة بيت نافع الزمان التي تركها الفرنسيون تحسباً للطوارئ، وكانت غنيمة غنمها مولانا عقلة، وهبة وهبها له الله استعداداً للمهمة التاريخية التي سيقوم بها في قادم الأيام في محاربة التتار والصليبيين. وضع ياسين القلم من يده. أعاد قراءة ما كتب، وسمع الباب الخارجي يفتح، فأدرك أنها قد عادت. انتصب قائماُ، تمطى، ورآها تدخل مبتسمة: هاه. تكتب؟ عظيم.

ومدت يدها تريد قراءة ما كتب. ولكنه همس: جوعان.

فأجابت في لهفة: لا عاش الجوع. من عيوني.. وجرت إلى المطبخ.

(16)

تقلَّب في سريره يتمطى.. كان الضحى، وكانت ظلال من نور أحمر تتسرب إلى غرفة النوم من الحديقة. تقلَّب في سريره، وتأوَّه في سعادة، فقد كان حلماً جميلاً ما عاشه في ترنيقة الضحى تلك. كان في غرفته على السطح حين فتح الباب، ودخلت دلال في ملاءتها المتنكرة. ولكنها لم تكن المرهقة، ولم تكن قد أهملت شاربيها وحاجبيها، بل كانت دلال الجميلة.. دلال التي لقيها في بستان مروان، وكانت الشهوة، وكانت الشباب، وكانت الرغبة. لم يخجل هذه المرة، فحدَّثها مباشرة عن عشقه القديم لها منذ المرة الأولى التي رآها. قال: شعرك الطويل السبط الأشقر كان غيمة من شهوة، ثم تنبه إلى أنه أخطأ، وكان يريد أن يقول من جمال، أراد أن يقول من سعادة، ولكنه قالها، والغريب أنه لم يخجل، والغريب أنها لم تدهش لتعبيره غير اللائق. حدثته عن عشقها القديم حتى قبل أن تطلق من نمري، فسألها معاتباً: ولم لم تصرحي؟ قالت: أنت تعرف النساء وخجلهن. ألم تربُّونا أنتم الرجال على هذا، ثم انطلقت وهي تنزع الملاءة عن ثوبها الذي لم يكن متقشفاً كثوبها أثناء رحلة التخفي، بل كان ثوب دلال الأنيقة الجميلة التي عرفها بعد عودته من محنة التخفي، ثم انطلقت متابعة، ففاجأته بأن في بعض المصائب فوائد، فلولا المطاردة التي أبعدتهما عن موقعيهما القديمين وعن شلتهما ـ المجتمع ـ الضمير المحاصر وعن أسيمة، وأدهشته رصانة تحليلها، وما وصلت إليه حين قالت: لما استطعنا اللقاء في هذا العش.

يذكر ثرثرتهما، ويذكر أنهما فجأة وعلى غير توقع، ومن غير تحضير حقيقي كانا قد انغمسا في عناق جنسي انفجاري.

تقلَّب في سريره، ولاحظ مندهشاً أنه كان سعيداً، وكان فرحاً. وأدركته الدهشة، فهو يعرف أنه والسعادة ليسا على ود، بل إن لعنة الكتابة والتهيؤ للكتابة التي عاشها وعاشته جعلته لا يعرف التفرغ والاستسلام للفرح حتى في أشد لحظات الفرح، فجزؤه المراقب للفرح كان يحرمه من بهجة الغرق والاستغراق التي يعيشها الآخرون، أما هذه المرة، فقد عاش السعادة، عاشها وها هو يحس بخفة آسرة تكاد تدعوه للطيران، وكان يعرف أنه لو شاء الطيران لطار.

أشعل اللامباديرة القريبة، وتأمل غرفة نومه المحسنة، والمجددة، والمزينة باللوحات المنسوخة، وفجأة هاجمه السؤال: أهذه هي السعادة إذاً. أنت تعرف أنك عشت لحظات من حلم، فأفقت سعيداً ناسياً كل ما حلَّ بك من مصاعب وخيبات.. لحظات من منام، من غياب عن الوعي، ولكنها كانت أكثر إفراحاً وإسعاداً من الحقيقة، من سهرات الشلة ومنادمتهم، من الغزل السريع المغطى والصريح مع نساء الشلة، أو مع صديقات العمل، ولكن، لا.. إنه لم يعش مثل هذه البهجة، لماذا.. حتى في أكثر لحظاته حميمية مع أسيمة كان فرحه مراقباً، كان مسوقاً بخطة. لم يستسلم للفرح أبداً، بل كان يتحرك وفقاً لخطة ربما لم يصارح نفسه بها، ولكنها كانت موجودة، كان يريد الحصول عليها، وكان على استعداد للتظارف، والتثاقف، والتشاهم، والتنابل، ولكن كان في طريقه إلى الحصول على أسيمة، وكان إدراكه أن الفرح الذي يعيشه ليس مجانياً، ولا حراً. كان هذا الإدراك بحد ذاته منغصاً.

أما في الحلم مع دلال، فقد كان الفرح حراً، مجانياً، هبة طبيعية، تنفساً لهواء لا يسائل فيه رئتيه عما تصنعان. هاجمه السؤال بهدوء: ياسين. أفلا يمكن إدامة هذه السعادة، إن هذا الفرح الذي تحسه الآن ربما لم تعشه إلا مرتين، أو ثلاثاً طيلة عمرك. وبالمصادفة المحضة التي لا رأي ولا إرادة لك فيها. حسن. أيمكن إطالتها أو استحضارها عند الطلب. أيمكن أن تقول: أريد اليوم أن أكون سعيداً، فتكون سعيداً؟ هذا ممكن؟ بعض المدمنين على المخدرات يقولون إنهم استطاعوا ذلك عبر الغرق في جنة الخَدَر، ولكن أتراهم صادقين. أهم يسعدون فعلاً لدى كل تعاطٍ، أم أنها لذة المرة الأولى، وربما الثانية فقط، وهذا ما يجعلهم يدمنون بهذه الحرقة آملين استعادة تلك اللحظة الوردية المشرقة التي عاشوها لدى التعاطي أول مرة. وإذن.. أين السعادة؟ لقد صحا اليوم سعيداً وكأروع ما يمكن للسعادة أن تكون. أتراه لأنه حصل على دلال التي قضى العمر يطاردها، وهي تمنّي وتمطل. تعد ولا تفي، توحي ولا تصرِّح.. ولكن.. هتف فجأة يواجه نفسه: ياسين.. ياسين. حتى في حوارك مع نفسك لا تريد أن تكون الصادق.. أأنت طاردتها بهذا الإصرار حقاً؟ لا أعتقد، ولو طاردتها بهذا الإصرار لأذعنتْ. ولكنك إنما كنت تسلي ضجرك، تحاول ادعاء العشق، والمطاردة، والتظاهر بأنك زير النساء.

سمع صوت المفتاح بالباب الخارجي، فانتصب شبه مرعوب من سريره يتفحص ثيابه. ثم ضحك من نفسه: أتراك تخشى أن تضبط بتهمة الخيانة. سمع صوتها من الصالون تهتف في رقة: ياسين. مون آمور. أين أنت؟ تذكر فجأة أنه لم يفطر، وتذكر أنه جائع، ولكنه أحس أنه يجب أن يشرب قهوة قبل ذلك. فهتف: هنا.. هنا. خرج إلى الصالون، فقدَّمت له خدَّها يقبُّله، وفوجئ قليلاً بحركتها، فمالها عادة بهذه الرقة، ولكنه قبّلها، ثم همس: ريحتك  صبارة. أكلت صبارة؟

ضحكت وقلت: يا شمام!
مضى إلى الحمام يغتسل، ومضت إلى المطبخ لتفاجأ بأنه لم يأكل: ما أكلت؟
ـ ما أكلت. قلت أنتظرك.
ـ ذوقاً، أم كسلاً؟
ـ الاثنان.
ـ طيب. القهوة، أم الإفطار أولاً؟
ـ لا. بل القهوة.
جلس في غرفة الجلوس يقلِّب في الصحف التي جاءت بها معها.

دخلت بصينية القهوة، أعطته فنجانه، وصمتت صمتاً صار معتاداً عليه في تعامله معها بعد الرجوع. لقد تحلَّت بوقار لم يكن لديها من قبل. رشف رشفة ورشفت رشفة. قالت: أعجبهم الفصل الجديد الذي أضفته إلى السيرة. صمت، ولم يبد شكر المجاملة، فلقد صار معتاداً عليها تبدأ بالإطراء، ثم تقدِّم الانتقادات والاعتراضات. رشف رشفة أخرى.

ـ إنهم معجبون، معجبون كثيراً بذكائه، وقدرته على الاستفادة من غنائم المستعمرين، وتحويلها إلى ما يفيد أبناء الوطن.
ـ طيب.
ـ و.. يتساءلون. ما الخطوة التالية؟. يعني، ما المعجزة، أو المأثرة التالية التي سيقوم بها مولانا.
ـ سيقوم باستعادة التاريخ بالمقلوب.
ـ المعنى.
ـ استفاد أولاً من غنائم الفرنسيين، ثم
ـ العثمانيين
ـ صح
ـ كيف؟
ـ لا. اتركيها مفاجأة.
فكرت قليلاً.. معك حق. لنتركها مفاجأة ـ ثم أكملت ـ أظنك جعت.
ـ جداً.
ـ سأضع الطعام. أنهِ صحفك وقهوتك.

مضت إلى المطبخ، ومضى إلى المكتب. أغلق الباب، ضغط المزلاج، انفتح قلب السر استخرج دفتر حياته الخاصة، قرأ آخر ما كتب و.. انفتح الكهف الأسود.

كان زمن طويل قد انقضى في ذلك البيت المعزول، في البستان المعزول حيث لا راديو، ولا تلفزيون، ولا تليفون، ولا صحافة، كان هو والطبيعة والمكتبة القسرية. حاول مقاومتها طويلاً، ولكن السأم وانعدام المحاور جعله ينزل إلى الطبيعة يحاورها ويستعيد زمناً كان على ودٍ فيه معها، حمل الفأس، وعزق حول شجرة المشمش، فقد أحس أنها تشكو كثرة الأعشاب حول ساقها، ثم حمل الفأس وعزق أحواض التفاح والكمثرى، والخوخ، ثم اللوز، وأخيراً الرمان ولم يطرق بابه طارق، ولم يخاطبه مخاطب، بل كان يتسلل كل بضعة أيام إلى كوخ معزول في البرية دلَّه عليه، كوخ أشبه بالعرزال، أو كوخ الناطور المرتجل ليجد هناك الخبز والبيض والجبن وما يحتاج إليه لبضعة ايام، لكنه أبداً لم يجد السكائر و.. في الحقيقة هو لم يطلبها، ولم يجد الكحول، فقد شعر برعب استقبالهم لطلب كهذا.

زمن طويل انقضى خلصته فيه العزلة من شهوة السكائر، ومن شهوة الكحول، ومن كثير من القلق والخوف. بدأ يقيم صداقة خاصة مع الشجر، مع الشحارير الوقحة، ومع الغربان اللصة، ومع طيور نسيها منذ ترك عادة التسكع بين البساتين وسرقة ما يمكن سرقته من ثمار السفرجل والمشمش والتوت الشامي. في أيامه المعتزلة الأولى هاجمته أسيمة، هاجمته بجسده المهتاج هيجته الوحدة والعوز إلى الآخر. ترى.. ألجنس حوار؟ أتراه الحوار الأعمق بين اثنين. أتراه الحوار النموذجي الأول. حاول فيه الفرد أن يصل بالحوار إلى الاندماج، فلم يحصل إلا على جوع لا يشبع. أتراه حاول بذلك الحوار امتلاك الآخر، والدخول إلى عمقه، فرض أناه على الآخر في توحيد مشتهى منذ تم الفصل والتمزيق بالولادة بين الأنا والآخر. كان يحس بالشوق إليها، وكان يخادع جسده في توحد خيالي معها، وكانت المخادعة تنتهي باسترخاء مشمئز، أو بحس بالإثم عميق.

حين حاور الطبيعة عبر إنهاك الأنا بالفأس والرفش نسي ذلك الحوار الأولي مع اسيمة، ولكنها لم تستسلم، فقد عاودت مهاجمته ليلاً، وأول الرقاد ومع أول دفء في الفراش، ولم يكن بالإمكان الخروج إلى الطبيعة والفأس والرفش، فتمنى لو أن أنتي دوهرنغ كان بالمتناول لاستطاع هزيمة أسيمة وحمله إلى ممالك النوم. كانت تلحُّ وتفحُّ وتتلوى، وكانت تطرد النوم عنه بعيداً، فقرر اللجوء إلى المكتبة التي لم يقربها منذ دخل البيت ـ المعتزل. قام إلى المكتبة، قلَّب في كتبها، فوجدها ما توقع دون زيادة ولا نقصان، فتساءل: أتراها المكتبة نفسها منذ أيام الطفولة، كانت تفسير الجلالين، وكتاب أوراد رياض الصالحين وسير الصالحين، وعلى رأسها جميعاً نسخة عتيقة من القرآن الكريم تمنى لو وقع عليها قبل التشبح الأخير لضمها إلى مكتبته في افتخار فقد كانت مطبوعة على الحجر وتعود إلى القرن التاسع عشر، أمعن في التقليب، فوجد نسخة من فتوح الشام للواقدي، ونسخة من سير الأنبياء، و.. وكانت المفاجأة نسخة من مجموعته القصصية الأولى والوحيدة، وكانت مجلدة بجلد عتَّقته الأيام، وربما كان هذا سبب عدم تعرفه إليها.

قلَّب في مجموعته القصصية في لهفة، ثم في رفض.. لا.. لن أحنَّ. وفجأة دهمه السؤال: إذن فقد قرأوه، كيف كان رأيهم فيما كتبت، وكيف قيَّموه. هل أحسوا بالفخر في أن ابناً لهم قد خرق جدار الخمول، وصار النجم، أم نظروا إليه الآبق والفاسق ينتظرون أوبته وتوبته. قلَّب في المجموعة، وفجأة قرأ تعليقاً على هامش إحدى القصص.. لا. ما هيك كانت الجدة حرام. كانت مرة قوية كافحت كتير لتخلي العيلة واقفة على رجليها بعدما الرجال هربوا، واحد على الفالج، والثاني أبوك.. على الموت. هه. رفع رأسه، هل قرأوها حكايات عائلية.. أعوذ بالله، أنا لم أنتو هذا أصلاً. كان ما حاولت هو نقل النموذج من الخاص إلى العام. كان ما حاولت قراءة قسوة المرأة إن صارت الحاكم أو الحكم، فإذا بهم يقرأونها سيرة عائلية لا. لا. لا.. نفض رأسه. هذا يجب توضيحه، ولكن.. كيف..؟ وأنت الناقد المحترف مرعب المبدعين. كيف ترى الآن.. ها هي رسالتك تستقبل بطريقتهم، وهل تملك أن تلقى القراء واحداً واحداً، وتفسر لهم الخطأ، أو تفسر لهم وجهة نظرك. وهل يستطيع الأدب تحمل رسائل التصحيح والتوجيه والتفسير إن لم يفسر نفسه بنفسه.

أعاد قراءة التعليق يحاول معرفة كاتبه، لا، فهذا ليس خط الخال، فهو يعرفه. إنه خط أكثر تأنقاً وأكثر تأنياً، وأكثر عناية بالأبعاد وجمالية الخط، فلقد درس الخط على يد الخطاط بدوي. لا.. هذا خط فيه تسرع، ولهفة، وبطء في الأداء. ترى.. خط من؟ خط من؟ أيعقل أن يكون خط أمه.. ولكن.. هي لم تعش إلا سنة وشهوراً بعد ظهور مجموعته. أفيعقل أنها قرأت المجموعة، واحتجَّت. فهذا ليس تعليقاً. إنه احتجاج ولكن.. إن كان احتجاجها، فلم لم تنقله إلي مباشرة، وقد لقيتني عدة مرات بعد النشر.

وضع المجموعة جانباً خائفاً من مزيد من التعليقات، والاحتجاجات، فلقد اعتاد على النقد المتهيب يخاف قلمه الجارح، ويجامل من يستطيع الجرح بقلمه، و.. كان مقتنعاً أنه كتب قصصاً متميزة. لقد أدرك ذلك بحسه النقدي وبآراء مَنْ حوله، ولكن ها هي الرسالة تصل إليك من وراء الأفق، من عالم لن تستطيع تبرير نفسك أمامه. ولكن. أليس من الخطأ التعامل مع الأدب على أنه مطابق، أو مجاف للحقيقة، الأدب أدب. تخييل.. هه.. وهذه رسالة أخرى عليك أن توصلها إلى القراء واحداً واحداً. لا تنس أن الأدب القصي فن جديد. لا.. لا ليس جديداً، فلقد تربى على سيرة الملك الظاهر، وتربت أمه وجدته والخال، كلهم قرأوها ولم يجادل واحد منهم في أنها حقيقة، أم تخييل رغم السحر والمعجزات، وهبَّ ثانية.. ها أنت تحاكمهم بعقلك أنت.. ومن قال إنهم لا يؤمنون، ولا يحبون السحر والمعجزات. أفلم تكن عزاءهم لقرون، أفلا ينتظرون المهدي المخلِّص لقرون، أفليس الملك الظاهر الذي ذكرته مهدياً خلَّصهم من الصليبيين كما آمنوا. أفليس الملك سيف المخلِّص الذي أنقذهم من الأحباش.

عاد إلى فراشه. أطفأ الفانوس، وطلب النوم، ولكن تعليق من افترض أنها الأم ظل يلحُّ ويلحُّ تفسيره للتعليق، حكمت رأيك وأدنت الجدة. هل كانت إدانتك بريئة، أم كانت تصفية لحسابات مريرة لم تكن فيها السعيد. لم تستطع إسعادهم، ولم تستطع جعلهم يسعدونك. وفجأة انتصب من مرقده مفزوعاً: لماذا.. لماذا لم يستطع إسعادهم، ولم يستطع جعلهم يسعدونه. لم استطاع الخال قراءة المولد لهم ولهن، فأسعدهم وكافأوه بحب لم يحصل عليه، وباحترام لم ينله. ولكن الناس الذين انتقلت للعيش معهم أحبوك، واحترموك. وتنهد.. كنت أشتهي أن يكون الاحترام هنا، بينهم، أولئك الذين رذلوني وأهملوني حين لم أقرأ لهم مولد البرزنجي، أو الإسراء والمعراج، وفتوح الشام.

تنهد في الظلام وهو يعود إلى الاستلقاء يطلب النوم حين ذكر فجأة: ولكن ما معنى وجود هذه المجموعة هنا.. في هذا البيت الذي سيق إليه ليختفي من أولئك الذين ترك الأهل والحارة لينضم إليهم. ما معنى وجود هذه المجموعة هنا في بيت لم تدسه الأم ولا الجدة. ما معنى هذا. من وضع المجموعة ها هنا، أهو الخال. تنهد.. لا بد أنه الخال.. كان يعرف أنك لن تستطيع مقاومة إغراء تقليب كتب في مكتبة مهما حاولت، فهو مرضك الذي يعرفه، ولكن.. إنَّ وضع المجموعة هنا رسالة.. حسن. ما هي الرسالة.. كرر السؤال، ولا جواب، كرَّره حتى تحول إلى رسالة يقرأها في الظلام تلوح وتختفي كقطيع الغنم الذي يعدُّه الأرقون طالبو النوم. ونام.

لم يكن لديه راديو، ولم يكن لديه تقويم، ولم تكن الصحف تصله. كان زمن طويل قد انقضى، زمن استطاع فيه طرد أسيمة من حياته، زمن استطاع فيه طرد السكائر والكحول أو إخراسهما على الأقل من حياته، زمن حاور فيه الطبيعة، فأرهقته بمطالبها التي لا تنتهي، ولكنها كانت السعادة في إخراس الأسئلة الكثيرة، كان التعب جواباً، وكان ألم المفاصل كافياً لجعل الحسد ينشغل بنفسه، بجوعه وظمئه، وبوله، وغائطه، كان الجسد ملكاً ومملكة عازلة عن كل الممالك، الأسئلة والتوقات، زمن كان يسقطه التعب فيستند إلى شجرة لا حول فيه حتى لصنع شاي جديد، ليكتفي بشرب ما تبقى من شاي بارد محلَّى..

زمن طويل انقضى على ياسين في معتزله، حين فتح الخال باب البستان بمفتاحه، فذعر ياسين الذي حولت الوحدة الطويلة الآخر لديه إلى تهديد وعدو، فاختفى عند سماع صوت إغلاق الباب، وسيكتب: اختفى كذئب متوحد، لكن نحنحة الخال وهتافه: السلام عليكم يا أهل الدار هدأت من روعه، فخرج للقائه.

نظر الخال إلى الأرض المعزوقة والأشجار المقلمة المعتنى بها، وضحك: لم تضع وقتك عبثاً. فضحك ياسين مجارياً: اليد العاطلة..

فقاطعه الخال: إلا إن كانت تسبح الله.

مضى الخال إلى المطبخ المرتجل، وكان يحمل صرة فيها غداء مطبوخ لم يأكل منه ياسين منذ العزلة. قال وهو يسكب الطعام: سألوا عنك هذا الأسبوع ثلاث مرات. وتوتر ياسين: في الأمر شيء!

ـ سألوني، وسألوا الجيران، ولهذا معنى واحد.
ـ سيصلون إلي قريباً.

مسح الخال الصحن بقطعة خبز ينظفه من آخر مرق فيه، وقال: فكِّر، وسأفكر، وسأعود في المساء، وأرجو ألا يحصل أذى قبل ذلك.

انصرف.. وترك ياسين الذي لم يجد لديه فائض قوة لوداعه حتى الباب، فلقد كان قدوماً كارثياً، سلام الطبيعة قد دمر، وعليه الآن أن يجابه مطارديه من جديد. شرب ما تبقى من شاي بارد. قضم ما تبقى على الطاولة من خبز. مسح صحنه من آخر نقطة مرق. مضى إلى شجرة اللوز ينقِّب فيها كلما أزّمه أمر عن لوزة منسية ها هنا، أو هنالك، وكثيراً ما استجابت لرغبته، فقدمت له بضع لوزات منسية يتلهى بكسرها وأكلها. نقَّب في شجرة اللوز ولم يجد لوزاً. نقب جيداً، بل تسلق نصفها يبحث عن لوز ولا لوز، وفجأة واجهه السؤال: ياسين. إلى أين المفر، ما الذي تفعله. لا مزاح في الأمر. سيصلون بين ساعة وأخرى. لقد شمُّوا رائحتك. والأمر أصبح أمر ساعات وتكون في أيديهم، وستؤذي ليس نفسك فقط، بل الخال الشهم الذي فعل كل ما يستطيع لحمايتك. ستؤذيه وتؤذي أهله.. افعل شيئاً واصرف الأذى عنهم. وعاد إلى غرفته دون لوز.. واستلقى على السرير مفتوح العينين يفكر في حل.

* * *

سمع صوت سيارة تقف أمام البستان حيث تركه الخال منذ يومين وقال: كن شديد الانتباه. البستان بعيد، ولن يستطيعوا القدوم إلا بسيارة، فإن سمعت صوت سيارة، فاهرب.

اقشعر جسده رعباً، ولكن الحس العملي جعله يضع المعطف المضطرب على كتفيه، ويقفز من الباب إلى الحديقة حيث سمع هرير كلب وعرف أنهم عرفوا طريقه، فانطلق إلى الجانب البعيد من البستان حيث السور الساقط. ركض كأرنب بري. اخترق الأعشاب والحجارة يعدو ولا ينظر إلى الخلف. كان القمر في محاقه، فحمد الله أن عتَّم عليهم، فلم يهتدوا إليه، وفجأة غاصت قدماه في طين مائي، وفغمت أنفه رائحة البيض الفاسد. إنه مستنقع، ولكن متى وجِد هذا المستنقع؟ هو لا يذكر وجود مستنقع كهذا من قبل، فكيف وجد؟.. شكر الله أن وضع المستنقع في طريقه فأبعد عنه الكلاب التي سمعها تنبح والتي رآها في نور ما قبل العتمة تتشمم، وتهر، وتنبح، رأى أشباحاً تحمل البنادق والرشاشات يحومون ويهمهمون، فعرف أنه الطريدة، ولكن من دلهم عليه؟ من هداهم إلى طريقه وعرَّفهم إلى ملجئه؟ أهو الخال؟ مستحيل. ولِمَ يفعل ذلك، وهو لم يقربهم، ولم يتقرب إليهم، ولم يتعرف إليهم. مستحيل. وهو الذي يرفض العمل لديهم. فمالهم دنس ما أتاهم إلا من مظالم. أو مآثم كما أعلن دائماً، مستحيل وهو من قدم إليه المأوى والمهرب.

كان الماء بارداً، وعرف أنه لن يستطيع البقاء طويلاً في المستنقع.. رأى ظلال مصابيحهم تنقب المكان من بعيد، وسمع هرير كلابهم ونباحها البعيد، فهدأ وجيب قلبه، ولكنه أبداً لم يطمئن، فقد كان يعرف معرفة أشبه باليقين أنه إن خرج من المستنقع فسيجدهم في انتظاره، وما كان على استعداد لجعلهم يقبضون عليه. كانت الأخبار والإشاعات الأقرب إلى الأخبار، والمعلومات الأقرب إلى الإشاعات تتحدث عن سجون لا ضوء فيها، وعن آبار حولت إلى سجون، وعن قتل لا معنى له و.. دماء لا لون فيها، وعرف أن الواجب يقول: إن دارت الطاحون ولم تستطع ركوبها فلا تقف في دربها.

سمع هريراً قريباً، ورأى مصباحاً يمسح وجه القصب، فتجمَّد لا يستطيع حراكاً، وفجأة سمع صوت الرصاص، رصاص كثير ينتثر فوق الماء وبين القصب، فغطس. لم يخطط، ولم يفكر أنه قادر على الغطس في الماء القذر.. الماء الأسود برائحة البيض الفاسد والكتل الطرية تموج من حوله. غطس ولو تنبأ له متنبئ بأنه يمكن أن يغطس في مغطس كهذا لقتله.

غطس حتى لم تعد رئتاه تحتملان، فرفع رأسه، وما كاد يشهق شهقته الأولى زارقاً الهواء الفاسد في رئتيه المتشنجتين حتى سمع صوتاً أشبه بالأنين. توقف يتسمَّع، فانقطع الصوت، ترك ثانية لرئتيه متعة شهيق الهواء الفاسد، وعاد الأنين. أكان أنيناً؟ توقف يتسمع. لا.. لم يكن الأنين، بل ربما كان النعيب. بل كان النعيب. توقف الصوت قليلاً ثم انطلق. كان نعيباً جميلاً. نعيباً أشبه بالهديل. كان المسلحون قد مضوا مصطحبين كلابهم الهارَّة معهم. قال: لولا ذلك لما نعبت البومة. فالبومة اشد حذراً من أن تنعب في مكان فيه إنسان.

تنصَّت متعمداً، متقصداً. فقد كان النعيب آنس إلى قلبه من هرير الكلاب المطاردة، ورصاص القصاصين يريدون رأسه، تنصَّت وانطلق النعيب. كان البوم يقلِّب فيه وينغِّم. كان عذوبة مطلقة. أتراه يطارد أنثاه بهذا النعيب. كان يعرف أن للمدينة نهرين، نهراً يحمل إليها الماء والنضارة والخضرة والحياة، ونهراً يحمل عنها وسخها وسوادها، وكانوا يسمونها قليط، ويسمونه نهر الجان. قال: حظي أن أغطس في قليط، ثم تنهد: ولكنَّ هذا خير من القبض عليك والسجن الأشبه بالموت.

علا النعيب حتى كاد ياسين يعتقد أنه في متناول اليد أو أقرب. تأمل القصب من حوله. قال: لن أعود إلى البستان، فلربما كانوا بانتظاري، بل سأخترق المستنقع إلى الجانب الآخر، لا بد أن هنالك منجى ما، وما كاد يتخذ قراره، ويتحرك من ملبده، حتى انطلق الرصاص قوياً منتشراً مبقبقاً الماء من حوله مصمتاً البومة عن النعيب، فغطس.

غطس حتى كاد ينشق صدره، تحسس جذور القصب تحت قدميه، وأحس بالكتل العائمة تصطدم به في حركة الليل المائي الغامض، ولم يعد يستطيع الصمود، فطفا غير عابئ بالرصاص، وفوجئ بالمستنقع الصامت. لا نعيب، ولا نقيق، ولا هرير كلاب: ولا طلقات رصاص. قال: يئسوا أخيراً ومضوا، وما كاد يتمُّ جملته حتى انطلق الرصاص يمشِّط المكان ويقصف أنابيب القصب فيساقطها، ويخرس الضفادع والبوم، ولكن أين اختفت الكلاب؟ وغطس، وحين غطى رأسه الماء القذر تساءل: ما الذي يريدون؟: القبض عليه، أم قتله؟

رفع رأسه ثانية، فرأى نوراً بعيداً على الجانب الآخر من المستنقع، نوراً يلوح ويختفي، نوراً يموج عرضاً، ويموج طولاً، وكأنه دعوة. قال: لا خيار. على هذا الجانب الرصاص والقتلة والكلاب الهارَّة، فما يمكن أن يكون على الجانب الآخر. سبح. سبح؟ لا. بالطبع، فالماء كان يراوح ما بين العجان والسرة. مشى.. مشى؟ لا. حتى المشي لم يكن التعبير الصحيح بل كان يتقدم في تحرك خليط بين السباحة والمشي، ولم يكن لهم ألا يلاحظوا حركة القصب في اهتزازه، فانطلق الرصاص، وغطس. وما إن هدأت البقبقة وانقصاف القصب حتى عرف أنهم توقفوا، فرفع رأسه.

تحوَّل الأمر إلى ما يشبه اللعبة. نور يلوح على الجانب الآخر يدعو، ورصاص وهرير على الجانب الأول، وغطس يتحاشى الرصاص الأعمى، تقدم والنور يتجلى والشاطئ يتضح، والماء يضمحل، والقصب يندر. تقدَّم وقد صار الماء إلى الركبة، ولم يتبق أمامه إلا أن يخرج إلى البر حين أحس يداً قوية تمسك به من الرقبة، وتغطسه في الماء. قاوم، ولكن مقاومة الضعيف، فقد كان الخوف والغطس ومطاردة الرصاص قد أنهكته حتى التهافت.

لم يطل به الغطس هذه المرة، فما كاد يشعر بالاختناق حتى ارتفعت اليد القابضة برأسه، ودفعته إلى الشاطئ.. أراد أن يلتفت، ولكن اليد استمرت بدفعه حتى خرجت به من المستنقع، والغريب أنه حين وضع  قدمه على الأرض الصلبة منصاعاً تهاوى متهالكاً. كانت ركبتاه قد انهارتا تحت رحلة الرعب والغطس والرصاص والهرير، وما كاد يصل إلى البر حيث النجاة حتى انهار، ولكن اليد القوية لم تسمح له بالالتفات، ولما لم يكن لديه الكثير من التصميم والعزم ليقاوم ويلتفت رفعته من سقطته، ودفعته إلى الأمام. ومشى يتعثر، وجاءه الصوت المبحوح: كدت تفسد كل شيء بتسرعك.

أراد أن يلتفت ليسأل عما أفسد، ولكنَّ اليد القوية ظلت تدفعه وتابع الصوت المبحوح: غطست ست مرات، ثم انطلقت ضحكة ماجنة: وكان يجب أن تغطس سبعاً.

فهمس ياسين حائراً: وكيف عددتهم؟
فقال الصوت المبحوح: كنت أعد الصليات، وأرى تموج الماء بعد كل غطسة.
فقال ياسين مستسلماً: وما الفارق بين ست غطسات وسبع؟
فقال الصوت المبحوح: لا بد لمن يعبر إلينا من العماد.
فالتفت ياسين مفاجأً: عماد؟
قال الصوت المبحوح وهو يدفعه بقوة إلى الأمام: على من يريد العبور إلينا أن يتعمَّد بالنهر الأسود ليطَّهر من الدم. والتعمد لا يكون إلا بسبع غطسات، وقد غطَّستك السابعة. لا تخف. أنت محظوظ.

عند سماعه هذه الجملة تهاوت ركبتاه ضعفاً؟ حيرة؟ أم استسلاماً؟ هو لا يدري، ولكنه انهار، وعرف صاحب الصوت، ألا مزيد من قوة فيه فانحنى عليه، وحمله بسهولة ملقياً إياه على كتفه.

ضحك ياسين في استخفاف: ما الذي يجري. ومن هذا الذي يحملني على كتفه كخرقة.

تحسس البطن الذي يحمله، فراعته صلابة، وضحكة خفيفة، وهمس: ما الذي تفعل؟

كانت الهمسة القريبة فحيحاً غير ذكري. ما هذا. تحسس أعلى البطن ليصطدم بثديين صلبتين كبيرتين، فانتفض مرعوباً، وسقط إلى الأرض يتمتم: ما هذا؟ ما هذا؟ من أنت؟

انحنى الشبح في الثياب الرجلية والثديين الصلبتين فوقه وقال: تعجلت الاكتشاف. هيا. قاوم ياسين الحمل هذه المرة، ويبدو أن السقطة أو الريح المجففة قد خففت من تأثير البيض الفاسد على أنفه، فشمَّ رائحة غريبة، رائحة أشبه،.. أشبه.. نعم.. أشبه برائحة زيت الغار. كانت الرائحة قوية. أراد أن يدفع الشبح عنه، ولكن الشبح لطمه على رأسه كمن يلطم طفلاً يهدئه قال: الآن صرت لي.

كل ما يذكر بعد ذلك كان رائحة زيت الغار القوية تفعم أنفه.. رائحة غريبة. كان يفكر والأرض تهتز أمام ناظريه، هو ما الذي جاء بزيت الغار إلى هذه المرأة.. أكانت فعلاً امرأة؟ حين يذكر أسيمة كان يذكر ثديين أشبه بتينتين جافتين معلقتين إلى صدر غلام.. كان النحول المشتهى قد جفَّف ثدييها، وفي ذلك الحين قال جملته العجيبة: أول فواكه المرأة عطباً صدرها، ولكنه أحبها حتى لم يعد يرى التينتين، ولا الخصر يكاد ينقصف لنحوله.

همس: من أنت؟

فهمست ولا يعرف لم تهمس: اسمي ليلى.

* * *

في البيت العجيب جدرانه من خشب عتيق مرتجل وأكياس خيش وسقف من بقايا صفيح وطين لازق.. في البيت العجيب فراشُه إسفنجة عليها بساط، ونوره مصباح كاز لا يشتعل. رمته على الفراش، وقالت: نم. أنت متعب، في الصباح نتحدث.  غادرت وما أن غادرت حتى غفا دون انتظار لأنتي دوهرنغ، وحين فتح عينيه، لم يكن بيده ساعة، ولا كان يلبس بدلة الأمس التي لبسها في بيت البستان، وكان قد أودع في جيوبها كل ماله..

أحسَّ بضيق صغير. لقد شلَّحته، فما كان عليه إلا كلابية عتيقة. قال يتنهد: طيب. لقد أنقذت حياتي.. وأخذتْ أجْرَها.. تقلَّب.. واندهش أنه لم يكن شديد القلق، وما كان هذا طبعه، فقد كان كل شيء يقلقه. نقْص الملح في البيت يقلقه، ومصباح الباب المنسي يقلقه، وغياب القلم عن موقعه على طاولة الكتابة يقلقه. كان قلقه قلقاً يبحث عن سبب، وما كان السبب الحدث، بل كان القلق روحاً تبحث عن قناع. عن مبرر، وما كان أكثر المبررات. ولكن ها هو الآن عار من كل شيء، من البدلة، ومن الساعة، ومن آخر نقود يملكها، ولا يحس بالقلق الذي كان يجب أن يعيشه.

تحسس جسده تحت الكلابية، ففاحت من الكلابية رائحة الغار. تشممها بلذة.. لذة ما كان يعرف أنها رائحة ستلتصق به طويلاً، فسيضيع عن ليلى، وستتقلب به الأيام، ولكن رائحة الغار ستظل لاصقة به. ما شمَّها في صابون، أو ثوب إلا حنَّ إلى ليلى.

ليلى.. ما حكاية العماد الأسود هذه، هو يعرف عن التعميد، الطقس القديم لدى كل الأديان منذ المعمدانيين ويحيى، إلى المسيحيين، والمانويين، ولكن.. من هذه الليلى، وما حكاية العماد الأسود في النهر الأسود. ضحك في استسخاف لا بد أنها نكتة.. أعجبه التفسير، فعاد إلى الغفو وغفا عميقاً. هل نام ليلة واحدة، أم ليلة ويوماً، أم ليلتين ويوماً، هو لا يعرف وليس من يخبره، ولا ساعة لتهديه، ولا عادة له بالنوم الطويل، فقد كان أرقه الأكبر الأرق نفسه، فكيف نام. انتصب من رقدته ونور حليبي يتسلل من شقوق العتمة، ما الذي أيقظه؟ الأذان؟ لا.. صياح الديك؟.. ربما ولكن.. أين أنا؟.

انسحب من مرقده يتأمل المكان بحذر وخوف، واصطدمت قدمه بشيء طري، فكاد يسقط، ولكن الشيء الطري تحرك، وسمع الفحيح: أفقت؟

استعاد كل شيء فجأة.. المستنقع، النعيب، الغطس في الماء القذر و.. ليلى.

جثا أمام الجسم الطري فجذبته إليها: صحوت؟

ـ من أنت؟
ـ ليلى.. أنسيت؟

تملص منها وقد عرف أنها ليلى، فرائحة الغار الواخزة، كانت صريحة الهوية، وأنا.. أين أنا؟

ـ جائع؟
وانتبه فجأة إلى أنه يتضور.
قالت: سأهيء لك ما تأكل.

واتجهت إلى الباب، وعند الباب استدارت: ربما تفضّل الاستحمام قبل الفطور.

تشمَّم جسده، وكاد يقيء، فرائحة جسده كانت اشبه بالجيفة. قال: نعم، ثم غشيه توهان ما بعد النوم.

حملت الصفيحة بمائها الساخن إلى داخل الغرفة، وضعتها أمامه: سآتي بمنشفة.

سكب الماء متسرعاً على جسده يريد التخلص من رائحة النتن العالقة فيه، وبادرته نشوة ما كان له بها عادة. نشوة مزيج من دفء ونعومة وانتعاش.

انفتح الباب، فالتفَّ يستر عريه، ولكنها ضحكت في لا مبالاة. قالت:

ـ سأفرك لك ظهرك. لن تستطيع تنظيفه بنفسك.

صمت، فقد كان يعرف أن رائحة المستنقع لن تفارقه بسكب الماء فقط. كانت قد جاءت بليفة وصابون. دعكت ظهره، كتفيه، ثم بحنان أم فركت رأسه. رقبته، وصدره، واسترخى مستسلماً: أعوذ بالله منذ كم لم تقرب جسمي يد امرأة. الأم تخلت عني منذ زمن طويل. منذ أن رأت أني صرت الكبير، فتركتني لقدري. تركتني أبني رجولتي وكبري كما كانت تسميه على طريقتي الخاصة، وما كنت تجاوزت السابعة. لم يكن هنالك من أب يقودني إلى دروب الرجل، ولم يكن هناك من جد، أو عم. والخال الوحيد كان قرين العمر، فما كان لديه ما يهدي به الآخرين.

تركته، فقد كان حراماً كما كانت تقول رؤية جسد الابن أو تنظيفه.. كانت ليلى تدعك رقبته، وكان مسترخياً يتركها تقلِّب في رقبته كما تشاء. منذ كم من السنين لم تقرب جسده يد امرأة. أسيمة كانت تؤمن أنها الأحق بالعناية، وأن واجب الرجل الأساسي خدمة المرأة، وكان مكلفاً بتقديم كل الخدمات في كل الحقول، وكانت مكافأتها الكبرى له الرضا. أعوذ بالله، ما اصعب رضاها.

سكبت طاساً من الماء الفاتر على جسده، وأحس قشور قسوة تتساقط عنه. من هذه المرأة؟ كيف دخلت إلى حياته؟ بل كيف دخل إليها؟ من هذه المرأة؟ وكيف سمحت لنفسها بملامسة جسده وهو الذي ربته امرأة كان مقتها الأكبر ملامسة الجسد؟ تنهد.. حين يذكر أمه لا يذكر ملامسة معها، احتضاناً أو قبلة.

كان اللمس الوحيد المقبول في العائلة قبلة اليد، دليل الاحترام والشكر والولاء، قبلة اليد اللمسة الوحيدة مع جسد الأم صبيحة العيد واللمسة الوحيدة مع الجدة عقب العودة من المدرسة، واللمسة الوحيدة مع كبار العائلة ذوي اللحى السود الطويلة.. لا احتضان، لا قبلة على الخد. فقد كانت قبلة الخد متهمة دائماً بالفساد إن كانت من امرأة، وبالشذوذ إن كانت من رجل، وحتى حينما كبر، ورشد، وصار المعلم، والكاتب، والناقد المخوف كان يكره قبل الأصدقاء والزملاء، وكان حتى حينما تقدم به العمر يخاف أن تكون القبلة الطريق إلى الشذوذ.

انحنت ليلى فوقه تحمل المنشفة تجففه، فانتصب مستجيباً لشدها، ورآها.. أهذا معقول؟ لم يرها حتى الآن.. كانت.. رائحة غار، وفحيح شهوة. أما الآن فقد رآها وعرف أنه سيحبها.

و.. سمع أسيمة تصرخ من المطبخ: حبيبي لا تتذمر.. أرجوك. الغداء الجيد مكافأة جيدة.

ولم يجب، فقد كانت ليلى قد احتلت كل فراغ فيه.  

(17)

كانت ليلى المرأة، ليست المرأة الحضارة، وليست المرأة الزينة، وليست المرأة الدين أو الثقافة، أو الموانع، أو المحرَّمات، أو الأخلاق، أو الخجل، أو التصنع، أو التظاهر بعكس ما تشعر به.. لا. فليلى.. كانت المرأة.. كانت قد قالت بعد أن رمته عن ظهرها: الآن صرت لي. وكان قد ظن الأمر كلمة اصطلاحية، أو تعبيرَ تدلُّل، ولكنه أبداً لم يدرك أنها عنت كل حرف فيها. قالت: لقد حصلت عليك بذراعي. أنقذتك من أعدائك.. ونشلتك من الماء. غسلتك من دنسك وعمَّدتك بالبياض بعد العماد بالسواد، وأخرجتك من ماضيك.. أطعمتك وسقيتك، وأرضعتك. فأنت لي.

كان يراقب شفاهها تتكلم، وكان بعد أن عرف بأنها لا تعرف الكنايات والاستعارات والبلاغة، بل كانت تعرف المشاعر، وكانت تذيب المشاعر في كلمات.

قالت: حملتك على ظهري شبه ميت كما تحمل الأم جنينها شبه الميت، فأحييتك، ووضعتك في فراش كما تضع الأم جنينها في فراشها. قالت: عمَّدتك بيدي في النهر الأسود، ثم عمَّدتك من النهر الأسود بالماء الطاهر.. فأنت لي.

وعرف أنها كانت تعني ما تقول، كانت قد صادرت ـ وكان يشك في أنها فعلت ذلك من قبل ـ ولكنه عرف فيما بعد. عرف أنها صادرت بدلته، وصادرت حذاءه، وصادرت أوراقه وهويته.. ساعته وماله. لا.. لم تكن قد شلَّحته كما ظن أول مرة. لا.. بل صادرتها تمنعه من مغادرة القرية ليخلو لها. ولا تنافسها عليه أخرى.

كان قد عرف النساء قبل ليلى، عرفهن، المتصنعة المتظاهرة بالحب وجزء من عقلها خفي يعمل كالآلة الحاسبة. كم تكلف الشهقة، وما ثمن الآهة. وهل سيستطيع الدفع كما يجب. كنَّ كثيرات، ولم يكنَّ بنات هوى، بل كنَّ المثقفات والمتعلمات، والباحثات عن زوج، والباحثات عن مستقبل فني، والمتسليات، ولكنهن في أعماقهن كنَّ بنات هوى، من الذي صنع بنت الهوى؟ من أولُّ من علمها أن تحيل جسدها إلى آلة حيادية لكسب المال.

كان في لحظات فراغه ولا ورق لديه ليسكب عليه أفكاره، كان يكرر الفكرة ويكررها ليحفظها، فتبهت وتسخف، وتتحول إلى هلام، فيكرهها ويحاول نسيانها، ولكنه كان كالساحر المبتدئ يلقي بتعزيمته يريد تحويل الهواء إلى ماء فتقع التعزيمة عليه، فيتحول.. إلى ماء. كان في لحظات فراغه حين يفكر في التاريخ يقول: كانوا يقولون التاريخ صراع الأفكار. وكانوا يقولون: التاريخ صراع الإرادات. وكانوا يقولون: التاريخ صراع الأقوياء بالضعفاء. ولكني بالأمس فقط فكرت: التاريخ صراع الرجل والمرأة، وعلى المرأة، وبالمرأة..

ليلى.. كانت وجاءت وعاشت قبل هذا الصراع. كانت تعيش معه عيش العصفورة مع العصفور، والقطة مع القط، مع الحيوانيين الأولين قبل اللغة ـ الندم، وقبل الكتابة ـ  الندم، قالت: منذ أن علّمتم أنفسكم الكتابة لم تفعلوا إلا أن تكتبوا وصايا الأجداد للأبناء والأحفاد في كيف تذلون أنفسكم في المرأة، وكيف تذلون المرأة فيكم.

صدمه قولها، وحين غادرته للعمل، فكَّر حائراً: أفتستطيع مثل هذه الأمية أن تقول هذا الملخص للحياة.

وحين أعاد التفكير في الأمر قال: هل العلم جلاء للعرفان، أم تركيم للجهل فوق القلب فيحجب المعرفة فيه.

زمن طويل انقضى وهو سيد الجسد، وعبد الجسد، وأخو الجسد، وابن الجسد، وجسد الجسد استطاعت ليلى حمله للمرة الأولى إلى خارج التعليمات والوصايا والتخويفات والتهديدات.. استطاعت، وليس يدري من علَّمها ولا يعتقد أن هناك من علَّمها. استطاعت نقل الجسد من معدن خامل، إلى ذهب يحمل أدق الأحاسيس والرعشات والهمزات واللمزات والغمزات.. أعوذ بالله.. حين كانت تمضي ويخلو بنفسه كانت كآبة كبيرة تحل عليه. كيف عاش كل أولئك النساء اللواتي مرَّ بهن، الجدة التي عاشت مع الجد العاجز بعد الحرب كما أكَّدت له كل الهمسات والإشارات التي ما كانت ترقى أبداً إلى المعلومات، فوهبت نفسها للأناشيد الدينية والصلوات الطويلة وقمع الفرح في كل من حولها.

الأم التي تخاف من الجسد وكأنه الشيطان. تخاف من الجسد وكأنه الغواية القنبلة الموقوتة لا تنتظر إلا من يفجرها، فكانت تخاف من جسد ابنها ومن جسدها، ومن.. وكانت تقول تسوغ نفسها: السعيد من نأى عن حقل الشبهات.

أسيمة.. أكان خطئي أم خطأها أن كان جسدها قمة لا تدرك، وسعادة لا يوصل إليها. كانت تتحنن وتتفضل حين تعطي نفسها. كانت تعطي وكأنها لا تأخذ، ولأنها كانت تعطي فقد كانت تطلب ثمن العطاء، وكان الثمن نشراً لقصة لها، أو تقريظاً متنكراً باسم آخر أو أخرى لقصة منشورة لها، وكان الثمن جمع عدد من الأصدقاء وتقديم عشاء وشراب ومنادمة لهم ليقضوا الأمسية في إطراء وتقريظ ما أبدعت. وعندئذ.. وعندئذ فقط كان تتفضل، وتتحنن، وتتكرم بهبة لا تشارك فيها، فما قرأ لها امتناناً، ولا سمع منها فرحاً، ولا شهد لها شكراناً، بل كانت المنتظِرة، المتوقِعة أن يقدَّم الشكر والمديح لما تفضلت به..

ليلى.. كانت مغايرة لكل هؤلاء.. إذ كانت البسمة سعادة لها، واللمسة بركة، والحب نعمة، وكانت تقدر النعمة تقدير من يعرف أن النعم لا تدوم.

كان أبوها وهو كهل ضخم أصاب ياسين بالذعر حين دخل عليهما البيت وهو بالكلابية فقط، فقالت ليلى ببساطة: هذا أبي.

فالتفت إليها الأب وقال: أتريدينه؟ فقالت دون أن تلتفت: نعم.

التفت الأب إلى خارج البيت حيث اجتمع عدد من الكهول الذين لا يغادرون القرية كما عرف فيما بعد. رفع كفه فوق مجلسهما مباركاً وقال: ياسين ابن ناجية، وكان قد عرف اسم أمه من ليلى، زوّجتك ابنتي ليلى بنت حواء.

والتفت إلى الرجال، قال: سمعتم؟ فضحكوا، وقالوا: سمعنا..

وصار ياسين لليلى كما أعلنته ساعة أخرجته من المستنقع. حين صار لليلى ضحك في البدء، فلم يكن يفهم ما معنى أن يصير الرجل ل.. امرأة.. ولكن ليلى.. المرأة قبل الأخلاق والأديان والمحرمات استطاعت أن توقظ فيه جسداً كان يعتقد أنه حي حتى اكتشف معها أنه كان في سبات طويل. استطاعت أن توقظ لذة اللمسة، ولذة الفحَّة، ولذة الشهقة، ولذة ما قبل الكتابة. قالت: أتمنى ألا تندم.

هل كانت تعرف أنه ما إن يمسك بالقلم، ويماسك الورق حتى يبدأ الندم، وتبدأ المعرفة، وتبدأ الرغبة في تغيير العالم بعد أن عاشا زمناً طويلاً غاطسين، غارقين في العالم..

كانت القرية جزيرة أو تكاد في المستنقع العظيم الذي صنعه النهر الأسود، وكانت هذه الجزيرة معزولة لا يعرف بها أحد وكيف يعرفها والنهر يطرد من يقترب منه بروائحه وبعوضه وجرذانه، كان إشعال النار محرماً في القرية، فإشعال النار لا يتم إلا لضرورة. والضرورة لا تزيد عن هداية ضال. أما الطبخ فلا ضرورة له إذ كانوا يصحبون طعامهم من المدينة القريبة، وأما الخَبز فمحرم، فالنار والرائحة مغناطيس الغريب والعدو، والتهديد بإزالة النعمة التي بها يحيون.

حين غادرته قائلة: الآن إلى العمل. تمدد وقال: أصيب بعض نوم، ولكن النوم حين تغادر ليلى يصبح أملاً، ولم يكن لديه الأنتي دوهرنغ، بل لم يكن لديه ما يقرأ أصلاً، فقد حرَّموا، وليس يدري كيف استطاعوا ذلك إدخال كل ما يقرأ من صحيفة أو كتاب، وحرَّموا كل ما يسمع من راديو أو غراموفون. وطبعاً لا كهرباء لديهم. فكان كل تحريم من تحصيل الحاصل.

في اليوم التالي وقد غادرت، ولم يتبق لديها حكايات يسمعها منها، ولم يتبق لديه حكايات يحكيها لها، قال أتمشى في القرية.. وتمشى ليكتشف ما كان يحدسه أن القرية جزيرة يصلها بالبر جسر من نفايات خشب وقصب، ما أسهل أن يُجرَّ لتنعزل الجزيرة عن العالم الذي لم تكن لهم به كبير حاجة.

لقي عجائز يتشمسون في استسلام، وكان يسلِّم، وكانوا يردون السلام في فرح، ثم يدعونه إلى مشاركتهم بهجاتهم، ولكنه كان يعتذر ويتابع سيره يتفحص القرية. هل كان يبحث عن مخرج، أو مهرب؟ ومن يبحث عن مخرج من السعادة؟ ليقع بين أيدي حاملي الرشاشات مصطحبي كلاب الهرير؟ ولكن جزءاً أحمق.. ولا شك.... كان يبحث.

في ذلك الحين اكتشف أن المستنقع الأسود كان يحيط بالجزيرة من كل النواحي، ولكنه اكتشف أيضاً أن الجزيرة لا حقول فيها، ولا زراعة ولا شجر إلا الصفصاف والطرفاء والقصب المغطي على بيوتها المتواضعة. فماذا يأكلون.

وجاء الجواب من ليلى: ألا ترى؟ أهل القرية يعملون، ويعملون بجد. تساءل ماذا تعملون؟ قالت وبسمة غامضة تداعب شفتيها: ستعرف! وكان يرى الكثيرات والكثيرين من الشبان يعودون ومعهم الطعام الجاهز والخبز والفواكه، وكل ما يحتاجون إليه، والغريب أنه لم يدهش لهذا كله، ثم بدأ يراه كما يراه الآخرون والعجائز من البديهيات المقبولة دون سؤال.

كان خطأ، أو سوء حظ ليلى هو أنها وقعت على ملوَّث، مريض بالمعرفة، بالثقافة، غير قادر على السعادة، أو غير قادر على قراءة كلمة السعادة على أنها سعادة.

في ذلك الحين، وقبل أن تأتيه بالورق والأقلام، وكان قد عاد إلى عادة تكرار وحفظ ما يقوله حتى لا ينساه، فلم يكن لديه من الورق ما يسجله عليه. في ذلك الحين قال ما سيظل يكرره لزمن طويل: السعادة هي الشبح لا اسم له، وإذا كان سوء حظك أن كنت لا تعرف قراءة ما لا اسم له، فستعيش تطارد الشبح وكان بين يديك فأفلتَّه.

كانت قرية بلا أحلام، وقال له عجوز منهم: الأحلام زاد البائسين وكانوا.. غير بائسين. وكانت قرية بلا أطفال، وقالت له عجوز: ولم ننجب الأطفال؟ ألنمكن القُبلان من قتلهم. وكانت تلك المرة الأولى يسمع فيها كلمة القُبلان، وكانت بضم القاف، وعرف فيما بعد أنها تعني أبناء قابيل.

قالت له سعاد وكانت قريبة من ليلى تعتني به إن ابتعدت ليلى أو مرضت: الأطفال ضمانة المستقبل لمن يؤمن أن له مستقبلاً. أما نحن..، وصمتت. فألح. فقالت: نحن الجيل الأخير.. وكل الإشارات تدل على أن القُبلان منتصرون. كان آباؤنا يؤمنون بأن رسولاً ما، رسالة ما، إشارة سماوية ما ستجعل القُبلان يتوقفون عن القتل، فتعود الأرض إلى ما كانت عليه قبل جريمة جدهم. ولما سأل من جدهم. صمتت، وانصرفت عنه باستخفاف.. باستخفاف؟ بازدراء، بازدراء؟ ليس يدري ولكن انصرافها كان فيه نوع من استغباء الراشد للطفل لا يريد أو لا يستطيع أن يفهم حكمة الكبار.

وسأل ليلى بعد ليلة حب ضمخته فيها برائحة زيت الغار: من أنتم؟ فأجابت: نحن؟ قال: نعم. فقالت ببساطة: نحن نحن. ألا يكفي؟ كانوا كما يبدو قد حددوا هويتهم في أنهم ليسوا القُبلان. فقط. نحن من ليسوا من القُبلان. ولكن من القُبلان؟

القُبلان هم القتلة أبناء قابيل، يقتلون الحيوان، ويقتلون النبات، والأنكى من ذلك كله يقتلون الإنسان. ألم تر أكوام القتلى على يد القُبلان. ألم تسمع بأخبار الملايين الذين قتلهم القُبلان.. وتنهدت وكررت حكمة سعاد، وكأنها الحكمة المنتشرة بينهم جميعاً: نحن الجيل الأخير.

في إحدى المرات عادت إلى القرية ترتجف.. من الرعب؟ من الاشمئزاز.. من الخيبة. لم يعرف، ولكنها كانت ترتجف. قالت:.. كنت أنقب في حقيبة سفر عثرت عليها بالصدفة، وما إن فتحتها حتى انفتحت عن جثة رجل.

وهتف: جثة رجل؟

قالت: نعم. كان محروقاً بالسكائر، ممزَّق الظهر بالسياط، ومقلوع الأظافر. وأخذت تبكي: إنهم القُبلان. لقد وصلوا. نحن الجيل الأخير. يا رب السماء صرخت إلى أين نرحل.

وفي إحدى المرات كان يتشمس مع عدد من العجائز، وكانت واحدة منهن تغني أناشيد ذكَّرته في إيقاعاتها بأناشيد الجدة التي كانت تتغنى بحب الله ورسول الله، وآل بيت رسول الله، ولكن العجوز ها هنا مستخدمة اللحن نفسه.. كانت تغني باكية على الجيل الأخير الذي انتقل، وانتقل، ورحل هارباً من القُبلان لا يريد أن يرفع السيف لأنه إن رفعه مرة مات، فقد تحول إلى قُبلان. وقال له عجوز إلى جواره جواباً عن سؤاله: نحن نعرف اللعنة.. ونعرف التعزيمة. السيف لعنة إذا ما وضعته في يدك مرة صرت منهم، من القُبلان، وتكون لعنة المحق قد حلت على الجيل الأخير منا، فانتصر القُبلان دون ذبحنا، وماتت رسالتنا في الحياة.

فسأل في نزق: ولكن ما رسالتكم؟
قالت: لا تقتل.

وصمتت. حاول كثيراً جرَّها إلى متابعة الحديث، ولكنها صمتت تماماً عن الكلام المنطوق، وتحولت إلى لغة زيت الغار يضمِّخ، وينقل الفرح والبهجة.

في الساعة نفسها التي كانت ليلى تدلِّك ظهره وأصابع قدميه، وكواحله.. في تلك الساعة التي كان المكان فيها يسبح في رائحة زيت الغار حضرت أسيمة.. ما الذي ذكَّره بها. ما الذي أيقظها في ذاكرته في الوقت الذي كان يسبح في بحر من ملذات الجسد. ما الذي جاء بأسيمة.

كان مغمضاً عينيه  وليلى تحمله إلى جنان خارج القدرة على الحلم حين قفزت أسيمة أمامه. لم تفعل شيئاً، لم تداعبه، ولم تقبِّله، ولم تدلِّكه، بل كانت تنظر إليه منحرفة الوجه وبسمة ازدراء على وجهها.. ازدراء.. من أعطاها الحق في ازدرائه. ألأنه يعيش في هذه القرية، ألأنه يعاشر هذه النافحة برائحة زيت الغار.

أحست ليلى ببروده وابتعاده عنها، فتوقفت، همست: ما الحكاية؟ ما يضايقك؟

لم يستطع أن يحدثها عن أسيمة، وترفّعها، وازردائها، وعتابها.. أعوذ بالله.. خلق الإنسان كنوداً، جحوداً، غير عارف بالنعمة. كيف يذكر عذابه ومعذبته وهو في حضن السعادة. كيف يذكر من سدَّت الباب بوجهه حين حاجته إليها وهو في حضن ليلى. كيف يذكر من هجرت البيت، وتركته ينعي من سكنه وهو عند من نشلته من نهر السواد، وعمَّدته بالطهارة والبياض، وأطعمته بعد جوع، وآوته بعد خوف، وضمَّخته بزيت الغار.. كيف.. تنهد..

خلق الإنسان كنوداً، وإلا فما الذي جعل رجلاً كآدم يغمض عينيه عن الجنة وأشجارها وأنهارها ونور قربها من رب العالمين وحوائها.. يترك هذا كله ويسعى إلى فاكهة الإثم والعصيان فيطرد من الجنة.. تنهد.. أهذا ما ورثت عن ذلك الرجل الكنود آدم.. منذ زيارة أسيمة له.. سكنته.. صار يراها من حوله.. يسمعها تلقي عليه بقصصها تطلب تقريظاً وتصحيحاً. صار يراها تتمطى في نحولها ورائحة عرقها خفيفة الحموضة تفوح  في المكان. وهو يقوم بطقطقة أصابعها لتستيقظ، فما تزيد عن المواء، والرجاء بتركها تنام ربع ساعة أخرى، ربع ساعة!.. ولكن الفطور جاهز.. سيبرد. دعه يبرد. سأسخنه بنفسي.. ربع ساعة إكراماً لله.

صار يراها وصفائح التراب المنكوتة أمامه على البلاط الأبيض تغيِّر نبتة بنبتة، وتراباً بتراب، ثم تترك هذا كله والبلاط الأبيض قد صار مَوحَلةً لو ترك كما هو لجعل سجاد البيت مَوحَلةً، كانت ببساطة تسقي الأصيص الجديد، ثم تمضي إلى غرفتها لتسمع الموسيقى. لم تكن تطلب إليه تنظيف البلاط، ولكنه من اعتاد السعي للحصول على رضا الأم في بسمة أو قبلة، أو نظرة رضا.. كان ينظف البلاط، ولم تكن أسيمة ترى في ذلك منَّة أو فضلاً، بل هو العمل الطبيعي يقوم به.

صار يراها في صالة البيت تلبس الأزياء الغريبة، وتمرِّن نفسها على الأدوار الغريبة في مسرحيات لم تمثلها، ولن تمثَّلها، ولكنها كانت العارفة أنها ستمثلها. صار يراها وهي تجلس أمام شاشة التلفزيون والدفتر في يدها تسجل الملاحظات والأفكار والانتقادات و.. عرف أنها ستكتب شيئاً للتلفزيون.

والغريب.. الغريب أنه لم يشعر بكراهية أو مقت لها، وهو يذكر كل هذا، بل كان الحنين.. أعوذ بالله.. أيحن الإنسان إلى جلاده.. ياسين كان يحن إليها..

صار يمشي في أطراف الجزيرة يتخيلها.. ذراعه على خصرها، ورائحة الحموضة الخفيفة المنبعثة منها مختلطة بمزيل العرق الذي ما كان يزيل رائحتها. صار يرى وجهها المزدري فيشوقه.. وتكبَّرها غير المعقول فيحسُّ بالتحدي.. صار يرى نظرات المجاملة واللهفة على وجوه الأصدقاء والزوار. فيحس بالفخر.. هذه المرأة لي.. لي أنا آه.. آه.. وهل يستطيع رجل في هذا العالم أن يقول إن هذه المرأة لي.. ما معنى.. هذه المرأة لي. هل عاش رجل يوماً في إهاب امرأة، فعرف كيف تفكر وما تشتهي. هل عاش رجل يوماً في عقل امرأة ليعرف كيف تنظر إليه وتراه خارج ما يقول اللسان المتلاعب.

أحست ليلى بتباعده، فزادت من عنايتها به. صارت تكثر من الفواكه، فقد عرفت أنه يحب الفواكه، صارت تتفنن في صنع السلطات، فقد عرفت أنه يحب السلطات، بل لقد تجرأت مرة، فجلبت معها فروجاً مشوياً لعله يرضى، وكانت تعرف أن اللحم لدى أهلها محرم، فاللحم يعني القتل. والقتل من شيم القُبلان، وليس من شيمهم. وكانت تنظر إليه وهو يأكل بلذة تساوي لذتها لو كانت الآكل، ولكنها رفضت مسَّه، أو أكل خبزه الغارق بالدهن رفضاً صارماً لم يترك له مجالاً للمجادلة أو المساومة.

في ذلك الحين لم تستيقظ أسيمة فقط، بل استيقظت الأم المرأة الأولى الرافضة، المتدللة المنبئة الأولى بفساده.. كان يحس برفضها حين كان يهرب من البيت ويتسكع بين البساتين يسرق المشمش والتوت والباذنجان والكوسا والبندورة، ويأكلها نيئة، وكان النواطير يرونه ويتجاهلون، فما يمكن لطفل أن يأكل، يذكر الأم وقد حمل لها المشمش والكمثرى والزهور البرية مرة، فلما رأتها عرفت أنها مسروقة من مال غير حلال كما أعلنت، فرمتها بعيداً، داستها بقدميها، ثم ربطته إلى شجرة النارنج الكبيرة ما بقي من النهار، وجزءاً من الليل كي لا يعيدها، ولكنه أعادها، فلم يكن هنالك من تسلية غيرها.

كان في التاسعة أو العاشرة، ولم يكن فيما فعل غريباً، فكل أولاد الحارة يقضون يومهم في البساتين في نبش أعشاش العصافير، ومطاردة الشحارير في شجيرات توت السياج، في مطاردة الضفادع والسراطين، وفي أكل ما قرب من باذنجان وكوسا وبندورة وفواكه لم تنضج. لم يكن في ذلك ما ينفِّر، ولم يكن لدى النواطير ما يجعلهم يمتنعون، إلا صرخة طويلة رتيبة يطلقونها بين الحين والآخر من عرزالهم العالي: ولو و و و و.. كان هذا كل احتجاجهم، ولكنها رأت في ذلك بداية الفساد، بداية السقوط وبداية اللحاق بأبناء عمه وأعمامه وعائلة أبيه اللصوص الفاسدين.. من أبناء الحكومة.

بعد أسبوع كانت جدته قد أودعته لدى خياط يتعلم الخياطة صيفاً، فما يدريك ربما لن يفلح في المدرسة. هل نضع البيض كله في سلة واحدة. هذا مستقبل، والولد يجب أن يعرف كيف يشق طريقه إلى المستقبل. أفئن فشل في المدرسة يتحول إلى عواطلي فاسد. وهكذا وزعت الجدة البيوض على سلتين، الخياطة في الصيف، والمدرسة في الشتاء. وخاب فألها في سلة الخياطة، فقد كان يقضي وقته في قراءة المجلات المصورة التي كان الخياط يرصفها على طاولة في منتصف المشغل يتسلى الزبائن بها افي انتظار دورهم في البروفة، أو يمضي لاستحضار الأزرار والبطائن بدلاً من تعلم الغرزة والحبكة.

يئس الخياط من جديته في التعلم، فحوَّله إلى العمل على جلب ما تحتاجه الورشة من إبر وخيوط وأزرار وعرى.. فكان يقضي الوقت في قراءة الصحف المعلقة على واجهات محلات بيع الجرائد، وفي ذلك الوقت بدأ العشق الغريب للأم. كان يراها في ثياب المانيكانات الخشبية في واجهات السوق، وكان يراها أجمل منهن.. أتراها كانت أجمل منهن فعلاً، أم أنه الصد والرغبة في الصادات؟ كان يشتهي لو يلمس المانيكان فلعلها تقرِّبه، أو لعلها تحتضنه، أو تقبِّله.

كان يشتري السكائر والعلكة والبسكوت بما يعطيه الزبائن من نقود للبقشيش، ولكنه لم يكن يأكلها، بل يحملها إلى المعشوقة الأم، فكانت تأخذها سعيدة، ولكنها ابداً لم تقرِّبه، ولم تحتضنه، ولم تقبِّله. كان حين يرى النشوة عليها بعد أناشيد ما بعد صلاة العشاء بقيادة الخال، فيرى الحب والإعجاب المبهورين، يتمنى لو يحصل على جزء منه، ثم.. اقتنع بأنه يستطيع أن يقرأ المولد كما يقرأ، وفاجأها مرة بتلاوة كشف فيها كل شهوته للإرضاء.. أكان صوته قبيحاً؟ كثير ممن سمعه يغني فيما بعد كان يحدِّث عن حلاوة صوته، فكيف لم تتذوق حلاوته. سمعت، وسمعت، وكأنها تتفحص ما تسمع، وأخيراً قالت: إه.. حلو.. ولكن.. أين السكر من العسل. وعرف من السكر، وعرف من العسل.

كانت المرأة الصدود الأول، وفيما بعد لقي صادَّات، ولقي راضيات، ولكنَّ واحدة منهن لم تشبع جوعه إليها، الصادة الأولى. ترى أيكون تعلقه بأسيمة تعلَّقه بالأم، وما كان صد أسيمة إلا الاستمرار لصدود الأم.

أتراه من علَّم أسيمة الصدود؟ أترى الإنسان يخلق عاشقه على قدِّه، ويخلق معشوقه على قدِّه، ويخلق صادَّه على قدِّه؟

خلق الإنسان كنوداً، وإلا فما الذي جعله يذكرهما، ويذكر الصدود ولا يرى الرضا، وليلى لا تشتهي إلا ومضة رضا لتعطي.

قدَّرت ليلى كما يبدو أنه سئم العزلة في الجزيرة، فعرضت عليه بعد إخفاقه في التضمخ بزيت الغار أن يصحبها غداً إلى العمل. العمل؟ هتف في شوق ودهشة ولا تصديق، فقال: نعم.

ثم انسحبت من مجلسها على الفراش لتسند ظهرها إلى الجدار وتشعل سيكارتين، كانت قد تعلمت التدخين لإرضائه. قالت: سيكون عملك في أرضهم، وعرف أنها تعني تلك النكتة التي لا يفهمها، والتي يصرُّون عليها »القُبلان« وأنا أخاف عليك منهم.

ضحك في استخفاف: ولم تخافين علي، ولا تخافين على نفسك.

وهنا فجرت قنبلتها إذ قالت: لأنك لم تحسم أمرك حتى الآن.. أنت على السراط.. عين عليهم، وعين علينا.. ما تزال تشتهيهم. أعرف ذلك.. طردوك، وطاردوك وأرادوا قتلك.. وما تزال تشتهيهم.. نشلتك من النهر الأسود، وعمَّدتك بالماء الأبيض، وغذوتك لو طلبت بدمي، ومع ذلك هذا حظي ما تزال تشتهيهم.. صمتت قليلاً، وصمت. فلقد أدرك أنها كانت على حق.

قالت: نحن نعرف أن من يصلنا منهم كبيراً يصعب عليه أن يصير منا، ـ ثم تنهدت ولكن كثيرين صاروا. فلم صاروا، ولم تصر وهتف كاذباً ولكني منكم.

تنهدت ثانية، وقالت: أتمنى. ثم بعد صمت أحرقت فيه السيكارة في نفسين طويلين أضافت: أنا أعرف أني أغامر مغامرة كبيرة، ولكن لا خيار. لا أستطيع الاحتفاظ بك ها هنا على غير رغبة منك. سأصحبك.. وسأجعلك تعمل معنا.

قال في بطء حذر: سنكون معاً؟

قالت: إن شئت، وإن شئت الانفراد، فلك ذلك، ولكن بعد قليل، بعد أن أعلِّمك العمل.

وهزَّ رأسه موافقاً، وأطفأت المصباح، وفي تلك الليلة تمنى لو كان لديه كتاب الأنتي دوهرنغ لأن الاستثارة والشوق حرماه تماماً من النوم.

كان نهاراً من تشوش وارتباك.. تركته يجول في القرية، وقامت ببعض الأعمال غير الضرورية.. جلس في مجلسه المألوف تحت الصفصافة الأخيرة. كتب ما ظنه أدباً، ولكن يا إلهي لم يعد يعرف ما الأدب. كتب أفكارأً، وكتب خواطر، وكتب ذكريات، وكتب تنكرات صاغها قصاً، وما يكتب إلا عنه، وعن أسيمة وأمه. ولكن.. كيف لك أن تعرف إن كان ما تكتب أدباً، ولم يقرأه أحد، وليس من نصوص أخرى لكتّاب آخرين تقارن معها، وتقيَّم.

ترى لو أمكن لحي بن يقظان، أو لروبنسون كروزو أن يملك وقتاً، وهذا مهم جداً، فالمنعزلون لا يملكون الوقت للتفكير، وتقطير التفكير، ثم صياغته أدباً.. لو أمكنهم هذا وملكوا الورق والقلم، فهل كانوا يكتبون الأدب.. ولماذا، ولا قارئ يمتعونه، ولا ناقد يجادلونه، ولا مجتمع يقدمون له الرسالة، أو الهداية كما يعتقد كل أديب.

أيمكن للأديب أن يكون أديباً خارج المجتمع، وخارج النشر، وخارج التبادل الاجتماعي؟ وقفز كافكا، ولكن كافكا كان يعيش في مجتمع، وكان يجادل المجتمع من خلال رفض التواصل معه. إنَّ رفض التواصل إقرار بوجود من ترفض التواصل معه، ولكن ماذا إن لم يوجد أصلاً.

أعوذ بالله.. الليلة سأخترق الأمكنة. سأمشي في طرقات الفرح. سأمر إلى جانب البيت القديم.. أيمكن أن يجدها.. أسيمة؟ يا للكنود.. أنت لم تخرج بعد من جوار ليلى، وها أنت تفكر في الخيانة.. الخيانة؟ من يخون من ؟ أخيانة أسيمة بليلى خيانة؟ أم خيانة ليلى بأسيمة الخيانة؟ ولكن من قال إن الخيانة فعل الجسد فقط، وماذا عن توق الروح.. أليس خيانة؟

قالت ليلى: أنت لم تحسم أمرك. صحيح. هذا صحيح.. لم يحسم  أمره وما يزال يحن إلى صادّته ومزدريته ومتكبرته و.. أوووف.. وماذا إن لقيها.. هل سيقول لها: أنا آسف أني افترقت عنك هذا الزمن الطويل، دعينا نجسره وننسى أنا افترقنا.

وهي. أتظنها وهي من هي.. أتظنها كانت تنتظره كل هذا الزمن واليد على الخد.. والدمع في العين تنتظر.. عودة الفارس الذي ما كان.. يوماً الفارس.

مع العتمة الأولى قالت: هيا.. ومضيا.

كانت نعمة الخروج إلى العالم كبيرة، وكانوا كثيرين بحيث لم ير في لباسه ما يعيب.. كانوا جميعاً كما كان.. في ثياب تستر العري ولا زيادة إلا في شحاطة أهدتها إليه فيما مضى، فلبسها.. تسللوا عبر الجسر الذي سرعان ما رفع بعد اجتيازهم له. كانوا وكانت يعرفون طريقهم جيداً، وكان يمشي على إثرهم، وحين كان يتعثر كانت يدها تسارع  إلى تقويم إعثاره.. كانوا وكانت وكأن لهم عيون القطط يرون في الظلام ويهتدون بضوء النجوم، وكان يرى الأشجار والتلال البعيدة والأشياء الكبيرة، وكانوا يرون الحجر، والعشبة، والبركة المائية الصغيرة و.. وصلوا إلى المدينة، فأخذوا يتفرقون.. كانوا يعرفون أحياءهم ومرازقهم، وفي أقل من أن يدرك ما يفعلون لم يكن قد بقي معه إلا ليلى. وقالت: هيّا..

توقفت عند أول منعطف راكم فيه أهل الحي زبالتهم فأخذت تنبشها نبش محترف، وأخذ يراقبها مدهوشاً: ماذا تفعل؟ كانت قد نشرت كيساً أخرجت منه أكياساً أصغر، وأخذت تختار من الزبالة ما ثمن منها،  الزجاج المكسور.. أسلاك النحاس، صحون الألمنيوم المهترئة، الخرق أو الثياب المهترئة إلى حد لا تلبس فيه، ولكنها كانت تعرف كيف يفيد منها آخرون.

كانت يدان محترفتان تعملان بسرعة، وتضعان الزجاج في كيس، والنحاس في كيس، والألمنيوم في كيس، والخرق، والبلاستيك والورق كلٌ في كيس. لم تنظر إليه، ولم تطلب عونه.. كانت الدهشة قد ملكته رغم أن شيطان شكٍ صغير في القلب كان يحدثه عن نوع عملهم، ولكنه حقيقة لم يسأل. وهم حقيقة لم يشرحوا.

كان يراقب مدهوشاً، وكانت تعمل مستغرقة حتى إذا ما نقبت الكومة حتى لم يبق فيها ما يمكن الاستفادة منه، ضمت الأكياس إلى بعضها وقالت: هيّا، فلحق بها.

نقبت خمسة أكوام من الزبالة قبل أن يحسَّ بالحرج من مراقبتها فانحنى، وأخذ ينقب معها، كان حظه طيباً، فقد كان أول ما عثر عليه ملعقة، فضحكت، وقالت: ستظل الجوعان.. الفجعان.

أخذت الأكياس تمتلئ، وصار من الصعب عليها حملها وحيدة، فتطوع لحملها معها، ويبدو أن الليل قد قارب الانقضاء حين نصبت ظهرها، وقالت: هيّا.. وعادا.

في المكان الذي افترقوا فيه وجداهم يتقاطرون، وكان هناك آخرون لم يرهم من قبل.. كانوا يفحصون الأكياس، يفحصون البضاعة، يجمعونها في عربات خاصة بهم، وكانت قطع نقدية تتنقل في صمت من أيدي اصحاب العربات إلى أيدي حاملي الأكياس التي أفرغت وطويت.. ثم انتقلوا عائدين.

وعلى الطريق وجدوا الباعة الذين يعرفون زبائنهم وما يريدون، وكانت النقود في الجيوب تتحول بسرعة إلى طعام وحلوى وهدايا صغيرة و.. رجعوا إلى الجزيرة ليناموا حتى منتصف النهار.

دخل دورة حياتهم، ولكنَّ شيطاناً صغيراً كان يهمس له في كل رحلة ليلية متى تذهب إلى حيك..، متى تحاول أن ترى بيتك..، متى تجرب أن ترى.. ها..، وكان يهز رأسه في عنف لافت للنظر. كان العنف أكبر من الخاطرة، فهل كان العنف في هزة الرأس الجواب على الاقتراح، أم الخوف من الضعف أمام الاقتراح.

لم يكن ينوي خيانة ليلى، فقد كانت نبعاً من عطاء، ولكن.. أيمكن أن يكون على مقربة من بيته، من أسيمة، من ذاكرته، من مكتبته من.. تلك الأيام الجميلة حيث السهر للصبح، والمعجبون والمعجبات والنكات والضحك، الضحك من قاع القلب، أو قاع البطن، أو قاع الروح.. الضحك.. صحيح.. هؤلاء الناس لا يضحكون كثيراً. إنهم مهمومون دائماً. أتراه قدرهم الذي يعرفونه ويعلنونه في أنهم الجيل الأخير ولكن.. ما له ولهذا.. ماله وللجيل الأخير..

أنا.. لا.. إياك أن تقولها، فأنت منهم منذ عبرت إليهم النهر الأسود، وغطست فيه سبع مرات، وتخلصت من أولئك المسمَّين بالقُبلان والذين طاردوك، طاردوك حتى لو أمسكوا بك لقتلوك، فما الذي يجذبك إليهم. ما الذي يغريك بهم.. أنسيت تشبيحك.. أنسيت حين مرورك بالمقهى، فلم يروك.. لقد غدوت الشبح منذ حرموك من الحقوق المدنية والسياسية.. أتظن أنك لو رجعت إليهم، فسيعيدون إليك حقوقك التي حرمت منها. عبث.. في هذا العالم ما مضى قد مضى، ولن تستطيع استعادته. وهؤلاء؟ أهل ليلى؟ إنهم لا يفكرون في نصر أو هزيمة. إن ما يفكرون به فقط هو ألا يتحولوا إلى عدوهم، ألا يتحولوا إلى قُبلان.

وإذاً. هل يمضي إليهم راكعاً يطلب الغفران، الغفران؟ عمَّ؟ عمَّ؟ عمَّ؟.. كان يفكر محزوناً.. ما الذنب الذي اقترفت فجعل أسيمة تقفل الباب في وجهه، ثم تهجر البيت وتختفي.

استيقظت أسيمة، واستيقظ الشوق، وبهدوء أخذت تتحول إلى كل شيء جميل عاشه. صارت أسيمة الأسطوانة الموسيقية تهدل في أوقات القيلولة في نعومة، وصارت أسيمة فنجان القهوة بين جنبات الغاردينيا والأرطاسيا. صارت أسيمة الجلسة على المنبر وهو يرتجل محاضرات يخلط فيها المزاح بالجد، بالشعر، بالحكمة، بالتصفيق المتحمس.

قال: يجب أن أزور البيت. يجب أن أمرَّ به، يجب أن أحاول.. لاحظ أنه يقول أحاول، ولم يقل يجب أن أراها. ترى هل غفرت؟ ولكن أي غفران، وعن أي ذنب؟ لا يعرف ولكنه يطمع إلى غفرانها. أووف الغفران. ذلك الحلم البعيد منذ ماتت الأم، ولم تغفر، ولم تصفح، ولم تستعد الابن المشتاق إلى حضنها.

كان يتقدم في العمل، ويقول سترى أنها كانت مخطئة في الإعراض عني، وهبة حبها لذلك الملتحي بائع الحبوب المحلاة المسمّى بالخال، ولكنها ماتت ولم تر خطأها، ولم تر تقدمه.

كان يرى صوره في الصحف ويتساءل: أتراها تتفاخر بين النساء من صاحباتها: هذا ابني الذي لم أعرف قيمته، ولكنَّ كلَّ ما وصله عنها قبل موتها دعاؤها: الله يهديه ويرجعه إلى الصواب. إذن فقد كان كل ما قمت به الخطأ، وهي..؟ وأخوها؟ والجدة؟ كانوا الصواب المطلق..؟

آه.. ولاحظ أن الغضب وتَّره.. أعوذ بالله. بعد كل هذه السنين أما يزال ذلك الهجر ينغل به هذا الغضب.

سمع نحنحة، فالتفت.. كانت ليلى، وكانت تحمل له بعض فواكه تسترضيه في جلسته المتوحدة مع الصفصافة والورق. قالت: هناك همٌّ يتأكلك. أتريد أن تحدثني به؟

وكيف يحدثها. يا إله  السموات. كيف يحدثها عن شهوة هجرها للالتحاق بعدوتها و.. من سدَّت الباب بوجهه وهجرته. كيف يحدثها عن شهوته إلى من حرموه من حقوقه المدنية والسياسية وشبَّحوه.. كيف يحدثها؟

ناولته خوخة.. قالت: كل.. وأكل يتلهى بالأكل عن الإجابة. تأمل ما عليه من جلابية عتيقة وشحاطة عتيقة، وما عليها من قميص بال وبنطال بال.. وفجأة قفزت الفكرة إليه: أية عجرفة، وأية حماقة يعيش هؤلاء الناس.. يرفضون القُبلان، يخطِّئونهم، ويرونهم الضد، ومع ذلك فهو لا يستنكفون عن العيش على فضلاتهم، بقاياهم.. ينقبون في زبالتهم، في مرمياتهم ليجعلوها لباسهم وطعامهم و.. أفكارهم.. نظر إليها ولم يجرؤ على القول: ولكن. ألا يحتاج الإنسان إلى وقاحة كبيرة حتى يجعل من نفسه الصواب، ومن مطعمه وكاسيه من فضلاته الخطأ.

قالت: ستمضي اليوم وحيداً.

التفت إليها مفاجأً مضطرباً والفكرة تنغل فيه: أهو الامتحان.

ولكنها تابعت: متعبة، ولا أرغب في العمل، ثم أضافت: لست مجبراً على المضي إلى العمل إن كنت لا تشتهي.

ولكنه في شهامة اعترض: ونفقات الحياة؟

قالت: لدي بعض المال سنتمكن لو شئنا من العيش أسبوعاً أو أسبوعين بلا عمل.. أخلو فيهما لك.. يبدو أني أهملتك حتى صرت تشرد مني.

قال: لا.. وحاول التفسير والاعتراض، ولكنها اقتنعت من طريقته بالحديث بالفكرة الأولى قالت: أستطيع احتمال مضيِّك. امض.. جرب أن تعمل وحيداً. أنت تعرف المنطقة المخصصة لنا.

هز رأسه إيجاباً. قالت: إنه الغروب. آن أوان مضيِّك، ثم في انكسار وهما يعودان إلى بيتهما قالت: لا ترهق نفسك. فوعدها بألا يرهق نفسه.

بدت المدينة له هذه المرة فردوساً. الطرق المزفتة المريحة للقدمين تمشيان فيهما وعليهما. بدت أضواء النوافذ والشرفات وعداً.. كانوا يتحاشون الطرقات الرئيسة. قالت مرة: من الأفضل ألا نراهم، ولا نلقاهم. ثم في خبث: ألاحظت أن لهم رائحة خاصة.. كريهة.. رائحة الدم.. وكان يتحاشاهم، يتحاشى شوارع النور والسيارات، وإذا ما مرت سيارة ناشرة نورها الفاضح كانوا يتحولون مباشرة إلى أشباح. كانوا يتنكرون، وكانوا يصدّقون تنكرهم. كانوا يتنكرون على شكل دهليز معتم، وعلى شكل باب مغلق، وعلى شكل ظل شجرة، وكان الآخرون عمياً.. لا يرون.. فلم يخطر لهم أبداً أن يروا ظل الشجرة عدوهم الذي يشتهي دمارهم، فهم النفي لهم.

وصل إلى الكومة الأولى للزبالة، وأخذ ينقِّب فيها، وجد إبريقين زجاجيين مكسورين.. ربطة أسلاك نحاسية عتيقة. كان حظه طيباً. ولكن فجأة ومن إحدى النوافذ اندفع صوت ممثلة، كان صوتاً يعرفه، صوت ممثلة صديقة كانت تهدر وتهدر في واحدة من الخطب الطويلة.

أنصت في متعة، في نشوة، في فرح.. كانت تهدر، وكان جسمه يرتعش.. لا.. ليس مبالغة، كان يرتعش.. ترك الكيس بما فيه، ودنا من مصدر الصوت يتسمع، ولكن صاحب الجهاز ولا يعرف إن كان مذياعاً، أو تلفازاً غيَّر المحطة فجأة إلى موسيقى.. إلى.. يا إلهي.. إنه يعرف هذه القطعة يعرفها.. إنها.. شوبان.

انهارت ركبتاه تحت ثقله، ووجد نفسه ينطوي على نفسه كطفل مهجور، مرعوب من العالم، وكانت موجة بكاء.. من أين يأتي البكاء.. بكاء حارق كان يخضه ويعتصره، ويحيله إلى خرقة.. أين أنت يا ياسين؟ أين أنت؟ وما فعلت بك الأيام؟ أنسيت السهرات والموسيقى والحوارات المثقفة، ونظرات الإعجاب؟ كيف انحططت إلى هذا؟ أية لعنة حلت بك حتى أوصلتك إلى هذا؟ أنسيت من أنت؟ أنسيت الوعود الكثيرة التي وعدتها لنفسك؟ كيف جعلتهم يخدعونك بتلك الجزيرة البائسة المحاطة بالنهر الأسود؟ كيف جعلتهم يقنعونك بأنهم الجيل البريء الأخير وأن هؤلاء.. هؤلاء كلهم في البيوت السعيدة، والسيارات الفارهة ومراكز الندوات والمحاضرات، هؤلاء الناس في مسارحهم ومغانيهم ومراقصهم وجامعاتهم ليسوا إلا الملعونين، القُبلان. هؤلاء الغارقون بالدم.

أنت أنت المثقف، أيمكن أن يبلغ بك الحمق حدَّ تصديق مثل هؤلاء الأميين العائشين على فضلات هؤلاء الناس، ثم يدعون أنهم الحق، وأنهم البراءة، وأنهم الموعودون برضا الرب، فلم يريقوا دماً، ولم يرفعوا سيفاً لدم.

ولكن.. فجأة رأى الآذن الضخم ورشاشه العسكري يهدد به: ممنوع.

وارتفعت الغصة في الحلق حتى الاختناق. أنا.. أنا ياسين الأرفعي يهددني آذن مسلح، ويطردني من مركز عملي. أغمض عينيه في عذاب.. وتقدمت مقهى البرازيل، ورآهم.. كان يمرق من بينهم كشبح،  كظلٍّ، كَلا مادة. كان يتحدث فلا يصغون، يلكزهم فلا يحسون، يهتف بهم، فيستمرون في ثرثرتهم ولَعِبِهم الطاولة، ولم يعد فيه طاقة على الاحتمال، فانتصب من جلسته، وعاد إلى حيث كوُم الزبالة ينقِّب وينقِّب، ويملأ الأكياس دون تمييز.

في اليوم التالي، وفي جلسته عند الصفصافة قالت ليلى: لا تبدو سعيداً.. فهز رأسه في لا مبالاة: ليس الأمر مهماً.

ـ أوجعتك المدينة؟

ونفى في قسوة: توجعني؟ لماذا.. مالي وللمدينة.. كنت مجرد منقِّب في زبالتها.

صمتت، فلقد فهمت أن غضباً ما كان يغلي فيه قالت: أتحب أن أصحبك اليوم.

قال: دعيني أجرب نفسي مرة أخرى.. وصمتت.

انفتح الباب وقالت أسيمة: هيا. قم. الغداء جاهز.

حاول القيام، ولكنَّ ساقيه كانتا منهكتين كمن مشى لأيام: ما الذي أنهكه وهو لم يمش،  ولم يعدُ، ولم يمارس أي جهد عضلي و.. كان الغداء

* * *

قالت: سأزور ثريا. أتريد اصطحابي.

ولكنه أشاح بيده في سأم، وتابع الفرجة على التلفزيون. انتظر يتنصت في حرص على وقع خطواتها على الدرج. انتظر حتى اختفى الوقع، ثم انتصب في همة، ومضى إلى المكتب، فالمكتبة، فالمزلاج، فالمكتبة السرية.. انتزع السيرة الأولى.. حملها كمن يزنها. قال في فرح منتصر: أنجزت جزءاً مهماً منها. قلَّب فيها قليلاً، قرأ بعض ما كتب، وفجأة حطَّ عليه رعب كان قد تخلى عنه منذ عودته إلى البيت. ياسين. أتعرف ما تصنع، أتعرف ما تصنع؟ أنت ترمي بنفسك إلى الذئاب. ما تقوم به ممنوع على الآخرين. فكيف وأنت المكلف بكتابة سيرة مولانا عنقاء الزمان.. كيف.. أطرق في حزن، فقد كان يعرف أن الاعتراض صحيح. كان يعرف أنَّ فيما يقوم به عجرفة كبيرة. فمن أنت في المحصلة الأخيرة. من أنت لتبتلي الناس بكتابة سيرتك. من أنت، وما قيمتك في هذه الحياة. ما الذي قدَّمت، أنت وألفٌ، مليون من أمثالك، من الرعية لو اختفيت واختفوا، هل تتغير مسيرة بني الإنسان. من أنت لتكتب سيرتك، وتريد أن تعارض فيها. لا.. صرخ.. لا.. أنا لم أتحدث يوماً عن المعارضة. لا.. أنا أكتب فقط سيرة الفتى المعذب الباحث عن حب لم ينله، وعن اعتبار لشخصه لم يحزه، وعن تقدير لمنجزه لم يحصل عليه.. لا.. وجاءه الصوت الداخلي هادئاً ليس فيه الثورة، ولا الحدة، ولا الغضب: ولكنك تعارض. أنسيت؟ تعارض سيرة الملك الظاهر، بسيرة مولانا عنقاء الزمان، و.. تعارض على غير وعي، أم عن وعي الله أعلم، سيرة مولانا بسيرة ياسين الأرفعي.

وضع رأسه بين كفيه مطرقاً على المكتب يكاد يخنقه الغضب ولكن.. أية معارضة. فحياة مولانا حافلة بالوعود والانتصارات والانتظارات، وحياة ياسين ليس فيها إلا الخيبة إثر الخيبة، الخيبة في نوال حب الأم، والخيبة في نوال رضا الجدة، والخيبة في الانتصار على الخال وعطِّر اللهم قبره الكريم بعرف شذي من صلاة وتسليم، والخيبة في جعل أسيمة تحبه  الزوج والعاشق، لا المؤسلب والمروِّج وخادم الغرام. الخيبة.. وقاطعه الصوت الهادئ: ولم نسيت ليلى.

صمت.. كان السؤال مفاجئاً، وأراد أن يردَّ متشكياً: ولكنها ليست من مستواي. صدمه جوابه.. وصدمها لو سمعته، ولكنه قاله.. تأمَّل المكان من حوله كأرنب في مصيدة، تأمل ما حوله يبحث عن مهرب.. لقد قالها.. قالها، هو من أخذ منها كل حب يمكن لامرأة أن تعطيه.. وأنكرها.. أهو الحب ما تبغي يا ياسين.. أهو الحب ما تبغي حقاً أم.. ووجد يديه تسارعان إلى إخفاء كل شيء في المكتبة السرية والاندفاع خارج البيت يمشي مشياً كالعدو لعله يُخرس السؤال الذي أخذ يتردد كصدى جرس بعيد.. أهو الحب ما تبغي أم.. أم.. أم..

هدَّأ من سرعته يلهث.. وتسلل إليه صوتها: امض يا ياسين.. امض.. جرِّب أن تعيش بعيداً عني، ثم إن رأيت الرجوع إلي خالصاً من كل شرك، فستجدني في انتظارك. و.. مضى. 

(18)

نظر إلى السماء من موقعه، فلم ير إلا السقف المسوَّد ما بين العتمة وهباب الأيام، والمتقشر قشَّرته سنين الرطوبة. نظر إلى السماء.. وتنهد..

كان هنالك مزق من صوت، وهشيم من موسيقى تتسرب عبر شقوق الباب، وكانت هذه المزق والهشيم الفتنة التي طالما عاشها، ورتع في فرحاتها. من مجلسه على الدرجة الأخيرة الضائعة ما بين عتمة خارج البناية ونور المصباح البابي.

تمنى لو يمعن في الاقتراب، فينصت إلى ما يحدِّثون، وفيم يثرثرون.. ما الذي يلبسون.. و.. هي أسيمة. ما الذي تلبسه الآن، الثوب الحريري الأسود الذي يبرز جمال كتفيها النحيلتين،  وظهرها النقي، أم الثوب الوردي بكميه القصيرين، والرقبة المفتوحة توحي بالصدر الجميل. ترى.. لا.. لا بد أنه الثوب الأبيض السكري من الجورسيه المجعَّد قليلاً والذي يوحي بجسد أكثر امتلاء، وأشد إغراء.. و.. أووف أسيمة. أسيمة.. أعوذ بالله كم أشتهي رؤيتك الآن.. كم أشتهي.. شمَّ رائحتك الخليط ما بين الشانيل والحموضة الحلوة الخفيفة التي لا يخفيها عطر.. أسيمة.. وأخذ المشهد يتجلى ويتجسد. هو يعرف أن هذه ملكة لا يستطيعها إلا من عاش طويلاً على تخوم الخيال وملك ما أسماه ياسين القدرة على بناء العالم الاستعاري الموازي للعالم الحيواني الحياتي.

أخذ المشهد ينبني أمامه، الصالون المتوسط المضاء بمصابيح خفية تضفي الظلال على اللوحات الهدايا، فقد كان ياسين يكتب في نقد الفن التشكيلي،  وكانت كتابته تخيف، وكانوا يهدونه اللوحات. رأى على الكنبات الواطئة.. رآهم جميعاً مصباح، وجابر، ونمري، ويوسف، وملك، وناديا. كانوا مسترخين في جلساتهم المريحة، وبأيديهم كؤوسهم.. و.. سمع شوبان حبيبها يتسلل خفياً عبر مضخمات الصوت الموزعة في أركان الصالون. كان جابر يهذر ويثرثر وهو يتحدث عن الإبداع المتأنق، عن الرقة في رؤية الأشياء، عن الضبابية المتعمدة المضفاة على الحدث. هذه الخواص التي لا يتقنها إلا امرأة، وهذه  المرأة هي.. أسيمة.

كان ياسين يعرف طريقة جابر في التعليق على ما تقرأ امرأة. كان يعرف  الإنشائية السهلة التي يستخدمها لتبرير وتسويغ العشاء والسهرة المجانيين.

انتبه ياسين إلى أنه استحيا المشهد بمعظم تفاصيله ما عدا أسيمة.. أراد استحضارها. ولكنها كانت تتأبى. حاول ثانية مستدعياً الثوب الديكولتيه الأسود، ولكنها حافظت على تأبيها. استدعى الثوب الوردي، ثم السكري، ولكنها كانت تتأبى. كانت دهشة محبطة، فكيف استطاع استدعاء المكان، واستدعاء شلة الأيام القديمة كلهم ولم يستطع.. فجأة تذكر.. إنَّ كل من استدعاهم كانوا مدرجين في قائمة المحرومين من الحقوق المدنية والسياسية.. وتنهد.. أتراهم استطاعوا الاحتيال على هذه المصيدة والنجاة بأنفسهم فيما لم يستطع.. تنهد.. حسن، فإن لم يكونوا هم، وهم الأصدقاء شديدو الحميمية له ولأسيمة، فمن تكون الشلة التي يسمع الآن هشيم أصواتها مخلوطاً بشوبان.. من يكونون.. أتراها استطاعت اصطناع شلة أخرى في غيابه. أعوذ بالله. أتراها فعلت. فإن فعلت فهل اصطنعت شريكاً غيري.. أتستطيع.. أيمكنها فعل ذلك. إنه لم يطلقها.. ولكن.. من يتحدث عن الطلاق والزواج هتف في إشاحة الآن.. أسيمة وتعرفها. إنها لا تستطيع العيش وحيدة، ولا تستطيع العيش دون موجّه، ومصحح، ومروّج.. ومن يحملها إلى العالم.

سمع صوت المؤذن يذكّر بأن أوان الفجر قد اقترب، فها هو يصلي على النبي وآله وأحبابه و.. صدم ياسين. لقد مضى الوقت سريعاً، وها هو الفجر يهل.. إنه يعرف العادة. سيستأذنون الآن، وسيتركونها مع الكؤوس غير المغسولة والصحون المتسخة ببقايا ما أكلوا و.. سمع ضجة جرِّ الكراسي، وأدركه الذعر.. لن يروه في موقع الشحاذ هذا. يجب أن يختفي. ليس من أجل أسيمة، بل من أجله هو.. لن يسمح لهم بالمرور إلى جانبه وتجاهله، فما لهم ولزبال في كلابية قصيرة طحينية اللون، وشحاطة تكشف عن أظافر سود لم تقصَّ، ولم تنظف لشهور.

انتصب، وسمع ضجة ما قبل الانصراف، فهرب إلى الظلمة، إلى الشارع، كان برد آخر الليل منعشاً، فانتعش.

ازداد الصرير، وصوت جر الكراسي، والحركة، وعرف أن ما توقعه كان، وها هم ينصرفون، فتحول إلى ظل لعمود الكهرباء.. قال: سأراقبهم في خروجهم لأرى إن كان فيهم نمري وجابر ومصباح وممتاز.

أخذوا ينفصلون عن النور في الدهليز إلى العتمة في المدخل، فنصف النور في الشارع، رآهم كعادتهم يدخلون في سياراتهم الصغيرة يدعو مالكو السيارات الآخرين إلى الركوب لتوصيلهم، فيتدللون قليلاً. ثم يركبون.. أحدَّ النظر ورأى مصباح  يركب مع نمري، ورأى ناديا تركب مع مصطفى، ورأى جابر يركب مع ممتاز.. أعوذ بالله. إنها المجموعة نفسها، والسيارات نفسها، والدعوات نفسها، والتدلل نفسه، لا شيء يتغير، وأخيراً رأى دلال ورأى ثريا المتخلفتين دائماً، فلا بد لهما من دخول الحمام قبل ركوب سيارة ثريا التي توصل صديقتها إلى بيتها.

هبَّت الفكرة حية بينما كانت السيارات تختفي بركابها: لم لا أحاول رؤيتها، لم أستطع استحضارها واستحياءها رغم استخدامي لكل قوة الخيال. فلم لا أراها وأزوِّد نفسي بزاد جديد منها.

كان الدهليز المضاء داعياً. وكان المصباح فوق الباب متحدياً، وكان الباب بمطرقته النحاسية.. لقد أضافها إلى الباب قبل.. إنه يذكر. لقد اشتراها مرة من سوق الأشياء القديمة، أغرته بمنظرها. كانت تخالف المطارق المألوفة في أنها رأس لباشا بشاربين ضخمين التفا حول الرأس ليصنعا عقدة عند القذال. كان مصمم المطرقة ذا روح مرحة.. أعجبته المطرقة، فاشتراها بقروش، ولكنه ما إن غادر البائع حتى أصابه الخوف. لن تدعه يثبتها في الباب. ستقول له بثقة مهددة، الباب بسيط الخشب حديث التصميم، فكيف ستضيف له هذه المطرقة العتيقة، وسيرى أنها على حق، فقد كانت دائماً ذات أفكار صائبة عن التصميم والتناسق والديكور. هه.. كاد يرميها، فلم يكن على استعداد لشجار في العشر الأخير من الشهر، ولكنه لم يسْخَ برميها. قال:  سأضعها على رف في المكتبة. إنها قطعة جميلة بغض النظر عن مواءمتها للباب. لكن المفاجأة كانت في أن أسيمة هي من أعجبت بالمطرقة، فتبنتها، وغسلتها بالحوامض حتى جددتها، ثم جاءت بنجار، فثبَّتها على الباب، وكانت جميلة أضفت بغرابتها قيمة وندرة على الباب الساذج في صناعته.

أحسَّ شهوة للمس المطرقة، رغبة حارقة في الطرق بها على الباب، والتنصت إلى إيقاع النحاس المصدي داخل الباب، تخيَّلها تعدو بنصف ثيابها، فلا شك أنها تخففت من ثوب السهرة حالما غادر آخر الضيوف البيت، وها هي تجول في البيت بشلحتها القصيرة تكشف عن ساقيها النحيلتين و.. صدمه أن مجرد ذكره لساقيها النحيلتين حرَّك فيه إثارة ما كان يتوقعها.

انتصب من مخبئه، واتجه إلى الباب ذي المطرقة المضاء بمصباح ما كان له أن يترك مضاء، ولكنه ما إن وضع قدمه على الدرجة الأولى الهابطة إلى الدهليز، ورأى قدمه بأظافرها السود الطويلة والشحاطة البلاستيكية حتى ذعر.. لا.. لا يجب أن تترك لها فرصة رفضك.. لا.. لا يجب أن تترك لها فرصة ازدرائك لا.. فأنت تعرف. لم يكن لأسيمة يوماً قلب متعاطف مع الفقر أو الإهمال أو القذارة.

تجمَّد في موقفه.. كان يعرف أنه في رأيه فيها على حق. ولكن.. يجب أن أراها.. سأموت لو عدت إلى ليلى.. ولم أرها.. يجب.. يجب أن أراها.. لا يمكن..

وبهدوء ذَكَرها.. كانا قد أضاعا مفتاح البيت، وكانا قد عادا متأخرين من سهرتهما.. ولم يكن بإمكانهما العثور على مكان آخر لقضاء الليل. قالت: ياسين.. السور المطل على حديقتنا الخلفية واطئ.. يمكنك بـ.. بعض الصعوبة والمغامرة القفز، وفتح الباب من الداخل.. أجال الفكرة في رأسه ليجد ألا حل آخر. ولكن كان عليه أن يتسلل عبر حديقة الجيران على الجانب الآخر من الشارع، ثم أن يطل على حديقتهما الخلفية.

كانت الفكرة مثيرة، واعدة، جيدة، وسرعان ما انتقل إلى التنفيذ، دار حول الحارة كلها. اخترق حديقة الجيران التي لم تكن شديدة الصعوبة، ثم.. تسلل إلى حيث السور المطل على الحديقة الخلفية لبيت هـ. ها.. هما.. كان حظه طيباً، فقد كانت الحديقة معتمة، وكان نور الصالون ما يزال مضاء، وكانت المرأة في الشلحة السوداء والساقين النحيلتين تجول جامعة صحون السكائر لتفرغها في كيس قريب. كان يتوقع الحنين، الإثارة.. الرغبة في رمي نفسه إلى الباحة ليراها. كان لديه توقعات كثيرة، ولكن ما صدمه، فأوقف كل حنين أنها كانت تتحدث مع أحدهم. أعوذ بالله. أهناك آخرون ما يزالون في البيت.. من.. من..

انحنى بقوة يريد رؤية من في البيت، ولكنه لم يستطع أن يلتقط إلا صوتاً رجُلياً غليظاً يتسرب. أحدَّ النظر.. تطاول بجسده ليراه.. كان الآخر في بنطلون بيجاما وقميص شيال داخلي، وكان يساعد في جمع المحارم الورقية عن الأرض، في جمع الأطباق المتسخة. كان يقوم بعمل رب بيت، وشريك. أعوذ بالله. هل تزوجت.. ولكن.. لا.. لن تستطيع الزواج وما تزال على ذمته وإذن.. صديق؟ لا.. لا.. لن تجرؤ.. لن تكون على هذه القدرة من الوقاحة. فالشلة، أصدقاؤه كلهم كانوا هنا قبل قليل.. لا.. لن يحتملوا الفكرة.. يعرفهم. إنهم محافظون.

تطاول ثانية مرخياً جسده متعلقاً بذراع واحدة إلى السور.. كان يشبه قرداً متدلياً من شجرة.. كما علق ساخراً.. وفجأة كوفئ على إصراره، وعلى تضحيته، وعلى مثابرته، فلقد اقترب الرجل من بؤرة الضوء، ورآه ياسين. رآه...... وشهق في صمت.. وكاد يسقط من متعلقه.. كان.. الرجل في بنطلون البيجامة والشيال الداخلي.... ياسين.. أعوذ بالله إنه ياسين.. أيمكن.. ياسين آخر؟ فمن أنا إذن؟ وتحسس بيده الطليقة اللحية الطويلة المتسخة وسقط عليه بؤس مريع.

كان ياسين الآخر في بنطلون البيجامة والقميص الشيال يتمطى، ورأى أسيمة تقترب منه، فتنتزع السيكارة من فمه في دلال، ثم تمجُّ منها مجَّة طويلة، وتعيدها إلى فمه. كان المشهد مكرراً، مألوفاً. أيمكن للحياة أن تكون على هذه الرتابة والتكرار، هذا المشهد رآه قبل الآن. عاشه قبل الآن عشرات المرات ومئات المرات. كانت الألفة والمتعة والتوحد فيه مع الآخر شيئاً يعطي للحياة نكهة خاصة. كان يخطف السيكارة من فمها، فتحتج في دلال فما يزيد عن مجَّة منها يعيدها بعدها إلى فمها، وكانت تخطف السيكارة من فمه، فتمجُّ منها مجَّة تعيدها بعدها إلى فمه. كانت الحركة أشبه بقبلة بالواسطة، وكانا كثيراً ما يعمدان إلى التحول من السيكارة إلى التقبيل المباشر، بل كانت هذه الخطفة كثيراً ما تكون الإشارة المتخفية المتدللة منهما إلى ما يعمدان إليه بعد المجَّة، وكثيراً ما كانت مجَّة السيكارة الإشارة إلى ترك البيت على ما هو.. ناقص النظافة، ناقص الكنس، بل ناقص إطفاء المصابيح الكهربائية.

ما الذي يجري؟! لقد انسحبا خارج دائرة الضوء، أهي السيكارة؟ تدلى، وأمعن في التدلي، ولكنهما اختفيا عن المرأى، وكاد يقفز إلى الحديقة، فالباحة، فالبيت ليكشف ما يجري، ولكن اللحية الطويلة والكلابية الطحينية اللون جعلته ينسحب كسيراً إلى حديقة الجيران،  فالشارع الخلفي، فالحارات تتقاذفه كالسكران.  

(19)

اتكأ بظهره إلى شجرة الصفصاف، وكان يظن أنه سيحظى بخلوة يستحقها، فليلى لم تعاتبه على عودته خاوي اليدين. عرفت أنه لم يعمل، ولم ينقِّب، وأنه قد مضى يزور شبابه وعمره اللذين تخلى عنهما حين عبر إليها النهر الأسود. كانت أمها، وصديقاتها قد حذَّرنها حتى قبل عبور ياسين النهر الأسود إليها. قالت: إنهم يحنُّون، وحين يحنُّون يصابون بما يشبه الجنون. من الأفضل لنا أن نتعلق بأبناء جماعتنا، أما أولئك العابرون معلنو التوبة فكاذبون. نصف عمرهم معلق بالقُبلان، بأيام القُبلان، وبمتع القُبلان، وبأرضية القُبلان. إياك. ولكنَّ حظَّها كما أعلنت لنفسها حين عمَّدته بالسواد، ثم طهَّرته بالبياض كان الحظ الأسمى، فقد رأت نظرات الغيرة والحسد على عيون صديقاتها ورفيقاتها. فمن منهن حظيت بشاب كياسين. الوسامة، والنضارة، والقدرة على الحب. ولكن.. ها هو تحذيرهن يتحقق، وها هو الضياع يعصف به.. أتراها أخطأت حين صحبته إلى المدينة ينقب معها. أم تراها أخطأت حين تركته يمضي وحيداً إلى المدينة، ولكن.. لا.. كان عليه أن يجرب، أن يعرف، أن يتخذ قراره بالبقاء معها حراً دون خوف، أن يرى السعادة معها أمتع وأكثر بهاءً، من السعادة مع.. الأخرى.. الأخرى؟ أهناك أخرى؟ بالطبع. إنه لم يحدثها عن أخرى أبداً. ولكن، أيمكن لمن كان على وسامته ألا يكون لديه أخرى.

كانت في جزء من قلبها تتمنى، وكانت تعرف أن في أمنيتها هذه عجرفة كبيرة، كانت تشتهي، وتتمنى أن يفضلها على الأخرى مختاراً، أن يمضي إلى الأخرى أياً من كانت الأخرى والتي ربما لم تكن أنثى. بل ربما كانت المدينة نفسها، حياة القُبلان، ومتعهم الدنيئة. كانت تتمنى لو لم يجبره الرصاص على العبور إليها، لو لم تعمِّده بيديها، بل أن يخترق النهر الأسود إليها مختاراً، وأن يتعمَّد مختاراً معلناً أنه فضلها على العالم، على القُبلان.. ولكن.. كانت تعرف أن في هذه الأمنية عجرفة أكبر من حظوظها، فهي تعرف أن هذا لا يحصل إلا لامرأة واحدة في كل جيل أو جيلين، فلِمَ يحصل لها ولم يحصل لكل رفيقاتها؟

رأته يدخل متهدل الكتفين، فعرفت أنه مثقل بالهم، ففضلت ألا تسائله ولا تطلب تبريره، وتظاهرت بالإغراق في النوم. راقبته بنصف عين تغلفها العتمة يستلقي على الاسفنجة القريبة. أنصتت إلى تنفسه المضطرب، وكادت تتخلى عن تحفظها، وتسأله عما يعذبه، ولكنها تغلبت على ضعفها، وحافظت على استلقائها وانتظام تنفسها. راقبته ينتصب من رقدته، ينظر إليها متوسلاً، أكان متوسلاً فعلاً، أم حذراً من يقظتها. لا.. بل كان يتوسل أن تتحدث إليه. كان بحاجة إلى من يفتح له قلبه. يحدثه عن عذاب الشباب والماضي المهاجمين، عن المدينة، مدينة القُبلان بإغراءاتها تدعوه إليها. كانت تتشهى أن تسمعه، فتعرف ما الذي يشدهم إليها. مدينة القتل والدم والمطاردات والهجمات الليلية والسجون لا تعرف الضوء. ما الذي يشدهم إليها، مدينة العقوبة والأذى والألم. كانت في جزء صغير منها تتمنى أن تسمعه يتحدث عن دخائله ورغباته وإغراءات المدينة بدمها، وسيفها، وقتلها و.... تغلُّبه على كل هذا وتفضيله البساطة والحب الصافي معها.

قالت: لن أدفعه. سأتركه يتخلى عن تحفظه مختاراً. لن أعمَّده قسراً كما فعلت في المرة الماضية. سأتركه يتعمَّد من آثام المدينة مختاراً وراغباً ومعلناً أنه فضلني على القُبلان ومدينتهم.

ولكن.. كانت تتحفز متشهية سماع كلمة: ليلى. أأنت مستيقظة؟ لتندفع إليه معلنة أنها ليست مستيقظة فحسب، بل هي المتمنية المتشهية، المستميتة إلى سماع ما في قلبه، ولكنه.. لم يقلها. بل أكمل نهوضه.

كان نور حليبي خفيف يغلف النافذة، ويتسرب من فتحة الباب، ورأته يتجه إلى الباب، فتركته ينفذ اختياره. كانت تعرف أنه سيمضي إلى صفصافته. قالت: إنه مخاض المتردد، الواقع بين عالمين لا يعرف إلى أي منهما ينتسب.

تركته يمضي، سمعت دبيب خطواته على الحصى تبتعد، وما كادت تطمئن إلى ابتعاده حتى انسحبت من فراشها.

وقفت في فتحة الباب، ورأت شبحه يبتعد. هزَّت رأسها في ثقة: إلى الصفصافة. لا مكان آخر له.

كان السؤال الملح لا يتوقف عن الترداد. كيف. كيف. أأنا ياسين، أم الآخر ياسين؟ تحسس لحيته بما يشبه الرغبة في نتفها، إزالتها. لانتزاع ياسين من تحتها، ولكنها كانت كثيفة قوية متحدية.. كان في بيجامتي، وفي صالوني، يدخن، وتمد أصابعها المداعبة لانتزاع السيكارة من فمي.. فمي؟ فمه؟.. أي ارتباك؟ أي تشوش. أنا واثق أني ياسين. أنا أعرف أني ياسين. كل العالم يعرف أني ياسين، وإذن فمن هو. من الآخر. ولكنه في بيتي وثيابي، ومع امرأتي، ويستقبل أصدقائي. أعوذ بالله. إنه ياسين. وإذن، فمن أنا.. ألعله كابوس طويل. هذه الجزيرة، والمستنقع والناس، وليلى.. أكل هذا كابوس، وذلك المقيم في بيتي، مع امرأتي، يلبس بيجامتي، ويدخن سيكارتي، ويقرأ في مكتبتي، أهو ياسين. وأنا الظل الكابوسي، أم أنا ياسين وهو ظلي الكابوسي.. كيف؟

قرص نفسه، فصرخ متأوهاً. حكَّ ظهره بجذع الصفصافة فآلمته خشونتها على لحمه تحت الكلابية طحينية اللون. قال: يجب أن أحلق هذه اللحية وهذا الشعر. يجب أن أرى الرجل المختبئ تحتهما، فلعلي لستني. لعلي لست ياسين، لعلي خادع ومخدوع. يجب أن أحصل على ثيابي التي جئت بها وعلى أوراقي التي تثبت هويتي. يجب أن أخرج من هذه الدوامة..

وبعد تردد مرعوب قال: يجب أن أقابله.. ذلك الآخر. يجب أن ألقاه ليعرف، وأعرف من ياسين فينا.  

(20)

تنهد وهو يدخل البيت عبر الباب المنسي مفتوحاً. سمع حركة في المطبخ. فأدرك أنها أسيمة. مضى إليها ليفاجأ بأكوام المواد المشتراة لحوم.. مشروبات.. خضار سلطة.

وتمتم: ما هذا؟

ارتعبت لسماع صوته، فانطلقت تعاتبه: أرعبتني. لم لم تقرع الجرس؟ لم لم تتنحنح؟ كيف تدخل كالحرامي؟ كيف؟

ورفع كفه يوقف تدفقها: ما هذا؟
ـ هذا ما كنت أحاول إخفاءه عنك.
ـ ولماذا؟
ـ لأنَّه المفاجأة.
ـ هاه.. أخيراً قررت.
ـ ولن تمانع. هه.. نحن في حاجة إلى بعض المرح.

واستسلم كعادته، والتفتت عنه تتفحص ما اشترت، وفجأة انتصبت غاضبة: أرأيت. هذا ما كنت أخاف منه.

ـ خيراً ـ قال ببرود ـ ماذا نسيت لدى البائع؟.
ـ بهارات الرز بالكاري.. عن إذنك.

خرجت كالعاصفة، وأصغى إلى الباب ينصفق بعنف. مضى إلى غرفة النوم، وقف أمام المرآة يتأمل: من هي؟ من هي هذه المرأة. إنها ليست أسيمة التي لم تتقن طبخ طبق يوماً.. من هي هذه المرأة.. أسيمة لم تشتر رغيف خبز يوماً. فتح الخزانة.. أخذ يتفحص محتوياتها بحثاً عماذا.. عماذا؟ كان يقلب في ثيابها كالمحموم. ما الذي تسعى وراءه.. ما الذي تبغي. ووجد الجواب أثر.. أثر.. أي أثر يدلني عليها.. فتح الباب الثاني. كانت ثيابه المعلقة. وفجأة وجد نفسه يفتش في جنون، في الرف العلوي، في الأدراج السفلى، فـ: توقف. ياسين. هذه خزانتك. عم تبحث. حاول تجاهل السؤال، فابتعد عن الخزانة، ولكن السؤال استمر في الإلحاح. عم تبحث. عم تبحث. عن أثر للآخر. لياسين الآخر. هه. أنت أحمق لن يتركوا وراءهم أثراً، فهذا ليس من شيمهم. أنسيت؟

رنَّ جرس الباب الخارجي. أغلق أبواب الخزانة بسرعة: رجعت بسرعة.

فتح الباب و.. رآها.. كانت دلال. ليست دلال الأناقة، بل دلال الحاجبين الأشعثين والشاربين على الشفة. قالت وقد دلفت إلى الصالون: ياسين احذر. أنت آخر شاهد على عالمنا الذي يريدون أن يقولوا إنه اندثر.

أراد الرد، أراد سؤالها أين اختفت منذ هروبها، ولكنه سمع وقع خطوات تهبط الدرج، فشحبت حتى الموت، ودفعته إلى الداخل، ثم اندفعت كالمجنونة حتى الباحة. فتعلقت بالصقالة، ثم بالجدار، ثم قفزت كالقردة إلى سور حديقة الجيران المطلة على بيت ياسين. أخرسته بحركاتها غير المتوقعة، فاكتفى بالمراقبة غير الفاهمة، وحين كادت تختفي انطلق لسانه يريد سؤالها أين يلقاها إن أراد، ولكن الجرس الخارجي انقرع، واختفت دلال في حديقة الجيران، فعاد إلى الباب ليلقاه، ويفاجأ بالوجه الآخر للعالم. كان الوجه اللحيم والشفتين الرقيقتين، كبير الأمناء.

أحس ياسين بقلبه وقد توقف، ثم لم يكتف بالتوقف، بل أخذ في الهبوط والانحطاط حتى السرة، فالعجان. رعب بارد سرى فيه لم يكن له به سابقة، رعب أن اكتشف أن هذا الفردوس الذي عاش فيه خلال الأيام الفائتة مع أسيمة والمكتبة، والموسيقى، والنزهات إلى جانب النهر، ومناجيات الليل. كل ذلك لم يكن إلا سراباً، وهماً، أما الحقيقة، فها هي.. رجل الكيس الأسود، و.. الحرس الأسود، و.. ممنوع.

دفعه الوجه اللحيم بلطف، ودخل، فاندفع ياسين عاجزاً عن المقاومة أو التمنع. اتجه إلى الصالون، فباب الصالون المفضي إلى الباحة الحديقة، تفحَّصها بسرعة، وأدرك ياسين أن الرجل يعرف أن دلال مرت من هنا، وتنملت ساقاه وانكمشت خصيتاه. قال: الآن اطرد من الفردوس ثانية تنهد ما الخطوة التالية؟.. رآه يتفحص الصقالة، فسور حديقة الجار، ورأى ابتسامة غامضة على وجهه.. لقد عرف كل شيء.. التفت إليه ثانية، ثم في تهذيب بارد قال: الحمد لله. زوجتك  ليست في البيت.

وجامله ياسين مكرراً في بلاهة: الحمد لله.. الحمد لله.

وتابع الوجه اللحيم يحاول التلطف: لم تدعُني إلى الدخول، ولكني دخلت دون إذن منك.. أعتذر.

فقال ياسين في أريحية: لا.. لا بأس.. البيت بيتك.

تأمل المكتبة بنظرة شاملة سريعة: قال:  ها هي مكتبتك كاملة لم تنقص ذرة غبار!! ثم صفَّق في بهجة: ماذا تنتظر. هيا.. أرنا موهبتك أرنا عبقريتك. ثم همس بما يشبه التآمر: أنت تكتب سيرة ستخلدك. صدقني.

رأى شهادة جائزة القصة المعلقة في إطارها: أنت تحب الجوائز الأدبية؟ طيب.. سنعطيك أعلى الجوائز. فقط أقنعنا أنك تستحق.. اكتب يا ياسين.. اكتب.

نظر إلى ساعته: يجب أن أمضي. لدي اجتماع. ثم.. ربما لا تحب أسيمة أن تراني.. اقترب من ياسين متآمراً: ودلال.

فصرخ ياسين مفزوعاً: مالها دلال. لا أعرفها. لا علاقة لي بها. لم أرها.

ربت على كتفه مهدئاً: اهدأ.. اهدأ.. البنت متعلقة بك، وأنا أجزم أنها ستحوم وتحوم حتى تصل إليك.

تنفس ياسين في ارتياح؛ إذن فهو لم يرها تدخل.

وهمس بلهجة مغرية: أتعجبك؟ ورأى حاجبي الاستنكار على وجه ياسين، فقال: طيب.. طيب.. لا تنفعل إلى هذا الحد. إن كانت تعجبك، فأخبرني، وستكون تحت تصرفك. المهم أن تقوم بما خلقت له، وتكتب.

استأذن، واختفى بسرعة لا تتناسب مع وجهه اللحيم. لم يودعه ياسين، بل سقط على الكرسي الأقرب سقوطاً أشبه بالانهيار. كانت تجربة مروِّعة.. دلال وهروبها، واللحيم وعروضه.

* * *

و.. جاؤوا.. وامتلأ البيت ضجة خافتة، وهمسات لبقة، لم يكونوا قد شربوا بعد، فيسقطوا التحفظات، ويبدأوا الرقص، والغناء الخاص والحوارات المتشنجة. جاؤوا، ولبست أسيمة ثوبها الأسود عاري الظهر والكتفين، وجاءت دلال في بلوزة من الشيفون الوردي فوق بنطال سكري منفوخ يراوح بين البنطال والشروال. كانت دلال شهوة خالصة، تأملها من مجلسه في الكرسي الموريس الذي طالما حنَّ إليه أثناء مغامراته الاختبائية. تأملها، وقارنها بدلال الأخرى. إنه على ثقة بأن دلال الأخرى هي الحقيقية، ولكن دلال السهرة هي الأنضر، والأجمل. إنها دلال المثبَّتة كما عرفها منذ خمسة عشر عاماً. دلال التي قدمت تحذِّره قبل ساعات استجابت لبصمات الزمن، فكهلت، أو نَصَفَت. ودلال التي حلت محلها ثَبَتَت، وتوقفت عند السن التي يحلم الجميع بالوقوف عندها. وهناك ما هو أجمل من الاحتفاظ بنضارة وصبا أواخر العشرينات؟ كل شيء فيك شاب، العينان، والبشرة، والشعر، والأسنان، والفرح، والإقبال على الحياة.

ولكن.. دلال الأولى قالت: احذر.. أنت آخر شاهد على عالمنا الذي يريدون أن يقولوا اندثر. كانوا جميعاً يتعاملون معه على أنه الناقه يستحق العناية والرعاية، ولا يطلب منه بذل الجهد، أو التعب، ولكن دلال النضرة اقتربت منه، وقالت: ياسين أريد أن أرقص. تعال. لم يستطع الرفض. رمق أسيمة، فوجدها المتسامحة السعيدة. لا. ليست أسيمة الغيور التي يعرفها. اندفعت الموسيقى شابة قوية صاخبة تطالب كل عضو فيك بأن يندفع للرقص مستقلاً، و.. اندفع. كانت تلتصق به، فتثير شهوات غير محدودة، ثم تنفصل، فيذعره الخوف من أنه لن يمسها من بعد. كانوا يراقبونهما في جنونهما الرقصي، ولكنهم ما لبثوا أن اندفعوا يشاركونهما الجنون الجميل. في واحدة من الالتصاقات العنيفة عضَّت أذنه، ولم يصدق نفسه، دلال تجرؤ على هذا؟. ولكنه حين حدَّق فيها لدى اقترابها منه ثانية، رأى الشهوة تنزُّ منها. أفتشتهيه كما يشتهيها؟ ولكن، ياسين إكراماً للملائكة.. من تشتهي؟ وما هذا الجوع غير المحدود للنساء الذي لم تكن تعرفه.

أسيمة التي عشتَ معها جحيم اللذة منذ رجوعك وأنت تعرف في قرارتك أنها ليست أسيمة التي فارقت، وهؤلاء الذين ينطُّون ويحطُّون من حولك ليسوا من عرفت. وتوقف فجأة متجمداً. ودلال؟

وتسرب صوت الوجه اللحيم ذي الشفتين الرقيقتين: إن كانت تعجبك فأخبرني. ستكون تحت تصرفك. المهم أن تصنع حياتك وتكتب.

نظر إليها من مجلسه على الكرسي الموريس. كانت ترقص في اندفاع، في عصبية، في شباب، وحيدة، وتساءل: أتراها تنفذ تعليما... ته. واعتصر قلبه هم حزين: لا بد أنها تنفذ تعليماته. هو من قال: أشر، ولكني.. لم أشر. نظر إلى الآخرين. رأى فرحهم، رقصهم، انغماسهم الكامل في سعادة اللحظة، وتساءل: أتراهم ينفذون تعليماتـ..ـه. وتنهد في انجراح يرى اسيمة تحمل إليه كأس شرابه: وأنت أيضاً. أتراك لست إلا منفذة تعليمات ـه.

اسودَّ المشهد. انقبض قلبه. غرق في عالم من اشمئزاز. ها هي الأم الرافضة تعود ثانية.. أعوذ بالله.. إذن، فهو ليس الحب، ليست أسيمة الحب، ودلال الشهوة، ولا شلة الصداقة. ليسوا كلهم إلا منفذي تعليمات. الكورس المكلف بالغناء وراء المغني الكبير.. ليطربوني، أنا ياسين المسكين الحالم بمن يحبه لأنه يستحق الحب.. وقفزت ليلى إلى مقدمة الذاكرة. كانت تحدِّق فيه ونظرة عتب حزينة تدمع عينيها: أنت على الصراط.. عين عليهم وعين علينا. ما تزال تشتهيهم. نشلتك من النهر الأسود وعمَّدتك بالماء الأبيض، وغذوتك لو طلبت بدمي. ومع ذلك وهذا حظي ما تزال تشتهيهم.

انتصب ياسين وقد أحس أنه يجب أن يراها: لا.. هذا حرام. أراها مرة واحدة. أفسر لها ضعفي، أستغفرها عن هجري لها.. وأعود، فأنا أنتمي إلى هنا، إلى هذه الأضواء والموسيقى، والحوارات المثقفة. انتظرهم حتى انصرفوا جميعاً. ساعد أسيمة في جمع الصحون القذرة، في لمِّ المناديل الورقية، في كنس قشور البذر والفستق المرمية على الأرض. تخاطفا السيكارة أكثر من مرة. كانا يتظاهران وهو يعرف أنهما يتظاهران بالمرح القديم. قالت وهي تتثاءب: لن أغسل الصحون الليلة. تعبانة. غداً صباحاً أغسلها. قال: لا بأس. فتش في جيوبه. كان قد أخفى كل السكائر الموجودة في البيت. قال: يبدو أنها نفدت. سأمضي لشراء بعضها.

قالت: أجِّل ذلك حتى الغد.
قال: لن أستطيع النوم لو تركتها للغد.

مضى.. كانت ليلى تستدعيه إليها. مضى في بيجامة وشحاطة. ركب تاكسي حملته إلى حيث كانوا يجتمعون آخر الليل لاستبدال كنوز تنقيبهم بشيء من طعام وشراب وهدايا. لم يكونوا هناك.. اشترى علبة سكائر وكأس شاي، واقتعد حجراً قريباً، و.. انتظر

مع اقتراب الفجر أخذوا يتقاطرون، وكان اقتعاده الحجر البعيد حجاباً كافياً عن فضولهم. كان يراقبهم، يتأملهم، و..  ينتظرها، و.. جاءت.. رآها، شم رائحة زيت الغار، و.. اقتربت.. سلَّمت كنوزها تريد استبدالها حين اقترب، فشمَّت رائحة عطره، فالتفتت، والتفتوا، ورأته، فشهقت، ولم تستطع التماسك، فارتمت عليه. احتضنها طويلاً، ففغمت أنفه رائحة زيت الغار. داعبت أصابعه ثنيات شعرها المتلبد، وأخيراً انتبه إلى ارتعاشها بين ذراعيه، فعرف أنها تبكي، ولم يرها من قبل تبكي.. اعتصرها مهدئاً، فرفعت رأسها، وقالت: أشكر الله أن أعادك إلي. تعال.

رجعا إلى الجزيرة، رجعا إلى فراش الاسفنج المتيبس، و.. انقضت عليه، وعاد إليه حس أنه الرجل المطلوب المشتهى لشخصه  وليس الواقف على باب الأم يرجو عطفاً لا يعطى، وحباً لم يوجد. أحس أنه كبير، محبوب، مشتهى لشخصه، وليس تنفيذاً لتعليمات.

اخترق نور الفجر عليهما بيتهما من الشقوق والفتحات، وأدرك أنه لن يستطيع العودة الآن، فأغفى، ولم يصغ لتوسلاتها: عدت. قل إني عدت. إكراماً لله. قل إني فضلتك على العالمين. قل إني تركت الجميع واخترتك عليهم. قل.... ولكنه تظاهر بالانغماس في بئر النوم. لم يكن باستطاعته قولها، فقد كان ينتظر العتمة ليعود.. إليهم.

وعند الغروب. قالت: وأنا؟.. أنا من انتشلك من مستنقع السواد، وعمَّدك بالبياض. أنا من كنت وما أزال على استعداد لإرضاعك من دمي الأحمر لأكون أمك إلى الأبد. ماذا عني؟

كان حزن غريب يغصُّه، وكان ألم فظيع يعتصره، وكان تمزق محسوم يسوقه، وما كان لديه من جواب إلا الصمت، وأخيراً قال: دعيني أشرب آخر حصة لي من ماء لديهم. ما يزال لي ماء عندهم. دعيني أشربه وأعود. فالقلب هنا، ولكن الظمأ هناك.

قالت في حزن ينزُّ بدموع لا تنزف: طردوك، وطاردوك، وأرادوا قتلك وما تزال تشتهيهم ـ أطرق في أسى ـ أنا أعرف والجسد لا يمكن خداعه أنك تحبني وتفضلني على العالمين، ولكن.. ولكن.. ولكنَّك ما تزال تشتهيهم.

ابتعد قليلاً، فقالت: امض، فانزف اشتهاءك لهم حتى القطرة الأخيرة، وعندئذ ربما تشتهيني.

مضى. عبر الجسر، مشى في الدروب المتربة، سوَّد أصابعه في الشحاطة، غبَّر البيجامة الحريرية، وجد تاكسي حملته إلى البيت.

نظرت أسيمة إلى بهدلته في صمت، ولم تعلِّق. تركته يمضي إلى الحمام وينزع عنه البيجامة المتسخة، ورائحة زيت الغار، وسواد الأصابع.

استلقيا في سرير واحد، ولكنهما أدارا ظهريهما كلٌ للآخر. ناما في سرير واحد، وكانت ليلى بينهما. كان ياسين يعرف أن ليلى التي استطاع بصعوبة غسل زيت غارها عن جسده تستلقي بينهما، وكانت أسيمة تعرف أن.. امرأة.. تستلقي بينهما، وما كانت تجرؤ على السؤال.  

(21)

كان الصباح الباكر جداً، وكانت الشمس لم تبزغ بعد، أخذ يهرول سعيداً بالطرقات الخالية. كان العالم جميلاً، فلا سيارات ولا بشر، ولا عواء زمامير. هدَّأ من هرولته، مشى.. أجرى بعض التمارين السويدية. قال: سأحمل إلى البيت بعض الخبز الساخن والحمص أستعيد عاداتي القديمة مع أسيمة حين أنهي مشواري الصباحي. كانت سعادة غريبة تغمره. حاول أن يجد لها تفسيراً، ولكنه لم يجد لها مبرراً إلا أنه انسلَّ من البيت مبكراً قبل أن تصحو أسيمة. فهل هذا سبب كاف للسعادة؟ انسلَّ في ثياب خفيفة، فلم يكن لديه ثياب رياضة خاصة به. قال: أحاول التريض بعيداً عنهم، وعن رغباتهم، وعنقائهم.. وما.. كاد يلفظ كلمة عنقائهم حتى تغيَّر كل شيء فجأة. فالسعادة اضمحلت.. والشمس صهدت، والدرب ازدحمت بأوائل المشاة، والسيارات المبكرة تختصر المسافات، فتترك الطريق العام إلى الدروب والزواريب، فتضايق المشاة والمتريضين.

كيف حدث هذا بسحر كلمة واحدة؟ أكانت الكلمة السحرية «عنقائهم» كافية لإزالة سحر الصباح وبرد السحر، وهدأة المكان.

قال: أختصر التريض، فلم يبق له من معنى. استدار ليعود مغمضاً عينيه عن البساتين تستيقظ، والفلاحين يحصدون الأعشاب العطرية المبكرة، والنساء يسقن الأبقار إلى حقول الفصة والبرسيم. كان المشهد مبئساً.. فالفلاحون المنحنون فوق مساكب أعشابهم حزانى، والأبقار متسخة الأقفية بروثها، والأعشاب العطرية صفراً. أغمض عينيه مبتعداً عن المشهد برمته وتساءل: فما السعادة إذن. قدمت من غير مبرر، ثم اختفت للاسبب.. للاسبب؟ للاسبب؟ كرر.. أنسيت الكلمة السحرية؟ وقفزت أسيمة: السيرة، سيرة مولانا.

وتمطَّت دلال في غنج: المهم سيرة مولانا. ياسين. هيا. إكراماً لي.. ألا تعزُّني؟

وقال الرجل لحيم الوجه: سيرة مولانا.

أراد الهرب من حصارهم، ففتح عينيه على سعتهما، ورآه، ورآها، ورآهم، ورآهن. تنهد.. قال: لنعد إلى سيرة مولانا فلا خيار.

عاد إلى مكتبه، ولا خبز طازجاً، ولا حمص، ولا استعادة عادات قديمة. نشر الدفتر أمامه. كان مولانا قائد الفصيل والضابط الصغير ظاهرياً قد نُقل حديثاً إلى الإقليم الأنضر، وكان الجميع يقدرونه ويعرفون أنه الموعود بالسلطنة، فكانوا يوقّرونه، وينصتون إليه رغم صغر سنه، فقد كانوا يعرفون أنه الموعود. قال لسائقه.. ما اسمه؟ فكر ياسين. ما اسم السائق؟ هل نكتفي بكلمة السائق؟ لا.. سأسميه عتمان. عتمان، ولم لا.. إنه اسم سايس الملك الظاهر.. هاه.. عظيم.. ضربة معلم.. ولم لا.. عتمان ابن الحبلة؟.. لا.. لا يكفي عتمان.

قال لعتمان: أريد تقريراً كاملاً عن الإقليم، الزراعة، الفلاحين، الإقطاعيين.. كل شيء.. و.. استعن بالخبرات والخبراء الذين تستطيع الاستعانة بهم. ولكن.. تقريراً كاملاً. مضى عتمان و.. غاب أياماً انشغل عنه فيها مولانا حتى كاد ينساه. ولكن التقرير الذي جاءه به كان مذهلا،ً ولما راجعه مولانا في بعض التفاصيل قال، وكانوا كلهم يؤيدونه. قال: ولكنه.. والشهادة لله استصلح الأرض بعد هجرها وتعطيلها لمئات السنين. فأطرق مولانا يفكر وهو يرى مئات الشاحنات الضخمة تنقل القمح والقطن إلى الخارج.

قال عتمان: وعلينا أن نقرّ بأنه خبيث استغلالي يترك الفلاح يعمل لديه عشرات السنين ثم لا يترك معه ليرة واحدة من أجره. لقد أقام لهم في قريته سوقاً مركزية فيها كل مغريات الشراء. الثياب الأنيقة، وأدوات الحلاقة والعطور وأدوات الزينة، والأثاث الحديث، والدراجات الهوائية. والفلاح كما تعرف يا مولانا ضعيف أمام المغريات، فما إن يرى الأضواء في السوق، ويرى الباعة لا يطلبون نقوداً. لا يحملها أصلاً، ثم يعرضون عليه شراء ما يريد، وسيسجَّل الثمن على الحساب الذي سيقتطع من أجره حين يكون له أجر، فيفكر. فليقتطعوا ما يشاؤون إن بقيت حياً، أما الآن.. ويأخذ في الشراء وفي إشباع رغبات لم تشبع منذ قرون.

نزع مولانا قبعته عن رأسه، وأخذ يحك  شعره الذي تكاثف فيه العرق تحت القبعة، ويفكر.

أضاف عتمان: لقد ضحك عليهم بعدد من الممرضين وطبيب وطبيبة يقيمون معهم في القرية يعالجونهم من أدنى الجراح وحتى أخطر الأمراض، وليس عليهم أن يدفعوا. وليس في جيوبهم ما يدفع، وكل ما يترتب عليهم من تكاليف، وأثمان أدوية كان يضاف إلى حسابهم الذي يتضخم على الدفاتر، ويتضخم.

صفَّق مولانا يطلب من وصيفه تجهيز إبريق من الشاي الأسود الخمير المحلى كالدبس، فلا بد لابتلاع أخبار كهذه من شاي كهذا.

قال: كان لديه مشروعه الناجز منذ البداية، فهو يعرف أن أرضاً بهذه المساحة الهائلة والتي لم تزرع منذ قرون لا يمكن للأيدي الفردية ونصف البدوية والغشيمة أصلاً أن تزرعها.

وهمهم مولانا بصوت حلاَّه كأس الشاي الأسود: هه.

قال: استقدم عشرات التراكتورات ليفلحها، وعشرات من الحصادات لحصاد ودرس وتذرية وتكييس القمح بعد نضجه، وأقام لهم هذه القرية الملعونة بسوقها المركزي، ومستشفاها الدنيئة، ومدرستها المعادية للشعب والتاريخ.

قال مولانا عقلة: ولكن إدارتها ومعلميها موظفون لدى الدولة. وقال من سيصبح كبير الأمناء: صحيح، ولكن الخبيث أضاف إلى رواتبهم راتباً ليقبلوا بالغربة والإقامة في قريته، فمنع الأفكار التقدمية من الدخول إلى هؤلاء الفلاحين في مدارسهم، ومنع قوى النور من إنارة ظلام حياتهم، ونسي أن مولانا وعرف مولانا أن الرجل يحاول تملقه، فاشار بيده ليصمت، ولكنه أكمل مولانا قادم قادم، قادم ليعيد عجلة التاريخ إلى سكّتها، والحق إلى نصابه. جرع مولانا آخر جرعة من كأس شاي خمَّره  التاريخ وحلاَّه الأمل، ثم أشار إلى وصيفه فصبَّ كأساً ثانياً له ولضيفه.

تنحنح الخبير الذي سيصبح سيد الإعلام، وقال: ولكن هذه الأراضي تختلف عن باقي الأراضي يا مولانا، ولا يمكن تسميتها بأراضي الإقطاع، فهي أراض بكر استصلحها هؤلاء الناس بالتراكتورات والحصادات وهي تنفع الجميع. الفلاح نصف البدوي الذي رأى الآليات للمرة الأولى في هذه الأراضي، ورأى مضخات الماء العملاقة، ورأى المستشفى، ولكنَّ مولانا عقلة الذي كان ينظر إلى البعيد قال بحكمته اللانهائية: لا استثناءات.. الكل سيكونون سواسية. ما يصح على أراضي الإقطاع والملكيات الكبيرة سيصح على الجميع، والفلاح الذي سينصف وتوزع عليه الأراضي سينصف وتوزع عليه الأراضي في كل مكان.

فقال من سيصبح كبير الأمناء: ولكن هذه الأراضي المستصلحة شاسعة، ونصف البدوي حديث العهد بالفلاحة لن يستطيع استثمارها، فمن أين له بالتراكتورات والحصادات والرساميل المشغلة.

عندئذ قال مولانا بحكمة قاطعة لا تقبل الجدل: سننشئ مصرفاً خاصاً للفلاحة والفلاحين يقرضهم، فيشترون الآليات الضخمة، ويعيدون استثمار الأراضي التي ستوزع  عليهم.

صمت الجميع، فقد كان القول أحكم من أن يجادل.

قرأ ياسين ما كتب. صحَّح بعض الأخطاء فيه، وفكَّر: هذا فصل لا يمكن البت فيه دون عرضه على اللجنة.. هه.. وتنحنح منادياً أسيمة التي استجابت، وكأنها كانت تقف خلف الباب تنتظر الإشارة.  

(22)

انتفض من سريره بعد أن قلب فنجانه كاملاً في حلقه وقال: احملي لي الصحف إلى الحديقة.. و.. أشتهي فنجان قهوة آخر. نظف نفسه، ومضى إلى الحديقة ليرى صحفه وقهوته الجديدة وقد سبقته إلى مجلسه عند نبتة الغاردينيا. استرخى بمقعده إلى الخلف، وتنهد: الله.. ما أحلى العز. قلّب في الصحف.. لم يكن فيها ما يثير، أو يجعلها حراماً على الشارع, تنهد: إنها مظاهر السيادة، ثم ركبته لحظة تفلسف. الأديان ترتقي كلما ازدادت كمية المحرمات فيها. ترى ألسياسة تشبهها في هذا؟ ترتقي بقدر ازدياد المحرمات والممنوعات فيها؟

رنَّ الهاتف. واندهش كلاهما، فليس من المعتاد أن يهتف لهما أحد في هذا الوقت. رفعت أسيمة سماعة الهاتف، وصدمت حالما سمعت صوت الآخر، فحملت السماعة في احترام مرعوب إلى ياسين.

كان اللحيم على الجانب الآخر من السماعة، فحيَّاه في انشراح وتحبب، واستجاب ياسين بالانشراح والتحبب نفسه. كان يوماً بهيجاً. فكَّر ياسين، سأله عن صحته، وعن بهجته وعن قراءاته، وعن الصحف إن أعجبته، وأخيراً نقل إليه الخبر الهام. نقلوك أخيراً من وزارة التربية إلى وزارة الإعلام.

ـ هه.. قال ياسين.

لم تغمره الفرحة التي كان يتوقعها لو حملوا إليه هذا الخبر قبل مروره بكل هذه التجارب القاسية. وتابع اللحيم: إلى الصحيفة المركزية، ستكون المسؤول عن شؤون الثقافة فيها. وصفَّر ياسين صفرة داخلية في دهشة ليتابع اللحيم:  طبعاً. الكبار أصحاب المهمات الخطيرة لن يطلب إليهم الدوام ومتابعة الشؤون الصغيرة. يمكنك أن تمر على الصحيفة اليوم لترى مكتبك والخدمات والتسهيلات الموفورة فيه، ويمكنك أن تقابل الأصدقاء والمثقفين فيه، ولكن عملك.. هه.. أرجو أن تنتبه. عملك الأساسي سيكون في الكتابة الاستراتيجية. حلوة. الكتابة الاستراتيجية. قال مازحاً.. ولكن فكر فيها.. أتحب أن ألقاك اليوم في الصحيفة.

ووافق ياسين على أن يلتقيا ظهراً في الصحيفة.

كانت الشوارع مضاءة بشمس معذبة بالغيوم، فأحبها، وقرر المشي إلى الصحيفة. كان قد مضى عليه  زمن طويل لم يمش فيه في طرقات المدينة. قال: أتأمل الناس الحقيقيين بعد كل هذه السنين، أتأمل تبدلاتهم، ما الذي تغيّر فيهم. كانوا يتحاشون الشمس. يبتعدون عن السيارات. ينأون بأنفسهم عن المحارس المرصوفة أمام البنايات إشارة إلى أن رجلاً مهماً يسكن في هذه البناية. تأملهم يمشي، يحاول قراءة كيف يفكرون. ولكنهم لا يفكرون. إنهم يحاولون إنقاذ أنفسهم من الأخطار الخارجية، شمس حارقة، وسيارة داهسة، ومحرس مسلح، وعيون حاقدة.. فكَّر.. أيمكن لهذه الأفكار أن تكتب، ولكن اللحيم قال له: نحن لا نريدك للكتابة اليومية. أنت منذور للكتابة الاستراتيجية. هه.. الكتابة الاستراتيجية. وجاءه صوت اللحيم من الذاكرة. نعم.. نحن في حاجة إليك للكتابة الاستراتيجية. أنت قارئ التاريخ والكاتب الذي طالما حاور التاريخ.

وكانت المفاجأة التي تنتظره في مكتبه.. دلال.. لم يصدق عينيه، ولكنها انتصبت ترحب به. وعيناها تبرقان بآلاف الوعود، أرته جهاز الكومبيوتر والتلكس، والآلة الطابعة، والهواتف الكثيرة، قالت بوجه مشرق: أنا السكرتيرة الجاهزة لكل التعليمات. كان ما يراه أكثر مما يتمنى ويفكر، ولكن حساً داخلياً فيه طلب منه الترازن، فرزن. وفتح الباب الذي أشارت إلى أنه غرفة مكتبه، فدخل ليجد اللحيم في انتظاره. كان أمامه ملفات محتقنة بقصاصات الصحف الكثيرة التي لم يعرف ياسين سبباً لوجودها ها هنا. ولكن اللحيم الذي انتصب يحييه قال: ستسامحني إن طلبت قهوة في غيابك، ولكني سأشرب قهوة ثانية معك. لم يحتج الأمر إلا أن ينظر إلى دلال لتمضي لتجهيز القهوة. لاحظ اللحيم أن ياسين يتأمل الملفين أمامه، فقال: آه.. ستفاجأ.

وقال ياسين المتعب من مشي طويل لم يعتد عليه: بم؟

فقال اللحيم: إنها كل ما كتبت في الصحف قبل.. قبل.. الغياب.

وفهم ياسين ما يريد اللحيم قوله، فلم يستفهم.

شرب اللحيم قهوته التي قدمتها دلال المنحنية أمامهما لتكشف عن صدر عرم وابتسامة واعدة، ثم استأذن فقد كان ياسين المتعب عضلياً من مسيرته إلى الجريدة، وروحياً منذ مفارقته ليلى وزيت الغار، ولكنه قبل أن ينصرف قال: لم لا تراجع كتاباتك القديمة، وذكرياتك القديمة، فلعلها تشعل فيك الشرارة.. و.. مضى.

تناول ياسين الملفات.. قلَّبها واستيقظ ياسين الشاب محاور التاريخ ومسائله. قرأ عن الحكام الطغاة مماليك وعثمانيين، وقرأ عن الغطاء الديني والجهادي، ودهش ياسين من الموقف النقدي المبكر من كل هذا. اكتفى بقراءة العناوين وبعض سطور من بعض المقالات، ليكتشف أنه يذكرها كاملة. يذكرها، وكأنه كتبها بالأمس.

تناول الملف الثاني وضحك، فهذا هو الملف الذي جعل منه طاغية الصحافة، المقالات النقدية النارية التي كان يرفع بها قوماً، ويخفض آخرين، المقالات التي عوَّضته عن حياة التفاهة التي عاشها المدرس المغمور، والزوج المصدود، والعاشق لا يجرؤ على التصريح بعشقه، فأسيمة بالمرصاد. كانت مقالات ـ لنقل الحق ـ ليست نزيهة تماماً، فقد كانت وسيلته للتواصل الاجتماعي مع أناس لم تكن هناك وسيلة أخرى للتواصل معهم، وكانت مقالات للانتقام وتحقير أناس لم يكن لديه وسيلة أخرى يستطيع بها الانتقام منهم وتحقيرهم.

وضع الملف عابساً، سنوات الشباب.. ترى لو رجع العمر به إلى ذلك الحين. أكان يكرر ما فعل في ذلك الشباب.. تناول الملف الثالث وصدم. كان معظم الملف صوراً له.. صوراً مع الخال في دكانه، صوراً له يركب وراء الخال على الموتوسيكل. صوراً له ينقِّب في الزبالة، ورأى صوراً يحتضن فيها ليلى. في عودتهما من التنقيب. وضع الصور في الملف.. استند بظهره إلى المقعد. وانكفأ يفكر.

طرق الباب طرقات خفيفة، ودخلت دلال. قالت: هذا رقم هاتفي بالمنزل.. إن احتجت إلي في أي وقت، فأنا متفرغة تماماً للعمل معك.

نظر إليها صامتاً ودهشة خفيفة تسائله: ما الذي تريد هذه المرأة؟ إن كانت دلال النَصَف ما تزال تحمل الراية، وتصمم على اعتبار هذا الزمن أزيف.. فماذا تريد نظيرتها النضرة هذه.

قالت: انقضى وقت الدوام، وأنا مضطرة إلى المضي إلى البيت.. أأستطيع تقديم أية خدمة قبل رحيلي.

هز رأسه بالنفي، فاستدارت ومضت تهتز بكل أعضائها ورغباتها، وشوقه المرعوب منها.

تركها تمضي، ثم انتصب، فحمل الملفات، وحين حملها سقط مظروف منها، فانحنى يرفعه ليفاجأ بمحتويات الظرف.. قرأ بعضاً منها وشحب، ولكنه تماسك وحمله ومضى.. لم يكن من الممكن ركوب الباص.. فمضى يمشي إلى البيت.

كانت تقارير غريبة أذعرته حتى الخفقان قال: أعوذ بالله إنهم يعرفون كل شيء.. كانت تقارير تتحدث عن طفولته غير السعيدة، وتقارير تتحدث عن إصراره على الخروج من حفرة العائلة التي وهبت نفسها لحياة ما بعد الموت، فقد كانت هذه الحياة لا نصيب لها فيها، وقد صدمه اقتباس معدِّ التقرير عن ابن خاله الفتى وهو يقول متنهداً: إه.. عجَّل الله بيوم القيامة، فلقد سئمت من هذه الحياة. ثم اقتباس آخر: ممر صعب هذه الحياة.. متى ينتهي لنصل إلى ملكوت الله ونعيمه.

أرعبته دقة كُتَّاب هذه التقارير. سأل: كيف وصلوا إلى العالم الداخلي لهؤلاء الناس؟ أكان لديهم آلات تسجيل وكيف زرعوها، أم أنها تقاطعات التقارير وتحميل تقارير البعض على البعض الآخر، فالجميع سواسية ما داموا ينتمون إلى الثقافة نفسها والظروف الاقتصادية السياسية نفسها. كانت تقارير عن ظروف لقائه بأسيمة، وظروف لقائه بليلى، تقارير اعتقد للحظة وهو يقرأها أنها كانت أشبه بالمذكرات. إنها تقارير من كتابته هو، تقارير مكتوبة بضمير الأنا، وتتحدث عن لحظات طيشه، ولحظات تخطيطه للإيقاع بأسيمة.. وكان هنالك نسخ دقيقة عن مقالاته يهاجمها ممثلة، ونسخ عن مقالاته يمتدح كتاباتها القصصية، مقالات ـ يا لخجله، أوعرفوا ذلك أيضاً ـ موقعة بأسماء أخرى، أسماء ابتكرها ونسبها في حينها، وأسماء لنساء سعدن أن وقعت أسماؤهن مقالات ما كنَّ  يستطعن كتابتها وكلها تتغنى بإبداعات أسيمة.

لكن التقرير الذي صعقه كان تقريراً يتحدث عن ظروف تحوله من كاتب قصة  اتفق الجميع ـ خوفاً من لسانه السائط، وتقرباً من لسانه المطري ـ على أنه الكاتب الواعد، الكاتب الذي سيحمل فن القصة والقص عالياً، ولكنه تحول إلى ناقد. عاد إلى التقرير وأرعبه كتابته بضمير الأنا.. ترى أأكون كاتبه.. أأكون قد قدمت إليهم تقريراً عني أنا ـ ضحك في تسخيف، ولكن الضحكة باخت بهدوء: ما يدريك ربما كتبته في زمن لم تعد تذكره.

الكتابة ضعف، فهي التقدم بما كتبته للآخرين ترجوهم الموافقة عليها والقبول بها. الكتابة ضعف سيحرز قوته من تقارير الرقيب الذي سيضعها على سرير بروكوست ليرى مدى تطابقها مع الأهداف المحددة مسبقاً للكاتب.

الكتابة ضعف سيحرز قوته من قبول المحررين الموجودين لدى الناشر يضعون موافقتهم على نصك، ومباركتهم لك، وتطويبك كاتباً.

الكتابة ضعف بها تقدم نفسك بعد النشر والطبع إلى سلسلة من الصحفيين اللذين تنطحوا لعرض الكتب المنشورة حديثاً، وبعرضهم هذا يدخلونك إلى جنة القبول، أو جحيم الإهمال.

الكتابة ضعف يقويه رجل سمّى نفسه الناقد، رجل يحمل كل مظاهر الضعف البشري وعاهات بني الإنسان، رجل يحمل الحسد إن كان النص لخصم لا يقرُّه على رأي سياسي، أو ثقافي، أو مذهبي، أو ببساطة حسد أنه لم يكن كاتب ذلك النص، رجل يحمل الغيرة من نجاح الآخرين كأي بشري عادي.

وضع التقرير من يده يفكر: أيعقل.. أيعقل.. هذه أفكاري السرية.. لم أكتبها يوماً، ولم أُدِل بها لأحد، فكيف وصلت إليهم.. كيف؟ أأكون جاسوسهم عليَّ ولا أعرف؟

قلب الصفحة وقرأ: النقد قوة، النقد سلطة. النقد حكم وقضاء ومستبد عادل.

أحمق من يقبل أن يكون الكاتب، ويكون الرعية، ويكون طالب الرضا والقبول في الوقت الذي يستطيع فيه أن يكون الناقد والحاكم والقاضي والمستبد العادل.. المستبد العادل.. ما أجمل هذا التعبير. ترى من ابتكره.. من أدخله إلى معجمنا.. المستبد.. تعبير جديد؟ لا.. فالشاعر قال:

واستبدت مرة واحدة  إنما العاجز من لا يستبد.

العاجز من لا يستبد. العاجز هو الكاتب، هو المبدع، هو الفنان، والناقد هو المستبد.

هز ياسين رأسه في موافقة: التقرير على حق.

هو يذكر أنه رآهم في الندوات، في المحاضرات، في السهرات.. الكتّاب والشعراء والمبدعون يحومون حول الناقد حومان النحل حول السكر، والناقد يتدلل ويتغنج ويتعازز، ويترفع وكأنه الحسناء بين عشرات الخاطبين، ورأيتهم.. الكتاب الصغار والمبدعين الصغار ممن تأبّوا لعبة النحل والسكر. وقد أزيحوا جانباً وانغلقوا على أنفسهم بائسين حزانى متكبرين تكبر المجروح لا يطلب الشفقة.. ه ه.. سيظلون على تكبرهم وجرحهم حتى يتقدم بهم العمر والإبداع، وليس من معترف بهم. استعار مصطلح كاتب التقرير، فالمستبد لن يلحظهم ولن يرأف بهم.. فجأة هز ياسين رأسه رافضاً: أتراه القانون الأبدي في كل الثقافات.. في كل  اللغات.. في كل المجتمعات، أم هو ظاهرة خاصة بدول المستبد العادل.

نفض ياسين رأسه في خوف: أفلم يكن كافياً درس الجزيرة وليلى، والتشرد بعد؟ أفلم تنل كفايتك من الخوف والتخفي والقذارة والخوض في مستنقع الجنس الأسود. أما آن أوان العودة إلى العقل ومعرفة مركزك الحقيقي.

وضع التقرير جانباً وتنهد: صاحب التقرير بغض النظر عمن كتبه على حق، وأنا على حق حين تخليت عن كتابة القصة والدوران بها على المجلات فرادى لنشرها، ومجموعات تبحث عن ناشر يرضى بنشرها. كنت على حق حين قررت أن أكون القاضي والحكم والمستبد العادل، فإذا بالموازين كلها تنقلب، وإذا بي أصبح النجم بعد أن كنت النيزك، والتابع الباحث عن مقر له  ومعترف به.

* * *

كانت أسيمة قد قررت بعد زواجها بشهر واحد أن تضيف إلى أمجادها في الرقص والتمثيل مجد الكتابة، فبدأت كتابة القصة القصيرة، وهكذا كان عليه أن يبدأ يومه وقبل المضي إلى المدرسة وأثناء شرب القهوة بقراءة إبداعات يوم الأمس. كانت كاتبة مكثرة، وكانت تكتب قصة كل يوم، وإن كان الموضوع واحداً. كانت كلها تدور حول البنت الأرستقراطية التي تضحي بكل شيء في سبيل الحب، وكانت القصص تسجيلاً حياً لمشاعرها اليومية، فقد كانت في قصصها الأولى تهنئ بطلة القصة على شجاعتها في اتخاذ قرارها وتكافئها بسعادة لا تنتهي، ثم أخذ الشك في صواب القرار يعلو قصة.. إثر قصة. كان شكاً ينبع من توتر داخلي، من إحساس بمحدودية متع الحب والزواج واستشراف أحلام أخرى أكبر وأسمى.. ولكن الحب والزواج يضعان العوائق أمام الآفاق المرجوة.

وحين نشر لها القصة الأولى، وكان قد أجرى عليها عدداً من التعديلات البنائية واللغوية وهبته ليلة حب وفرح لم يذقها حتى في أيام زواجهما الأولى، وكان له أن يتساءل: أمتعة الإبداع تساوي متعة الحب، أم تفوقها؟ البعض يعتقد أنها تفوقها، وإلا فلم قرأنا وعرفنا الكثير عن الفنانين والكتّاب الذين تخلوا عن الحب في سبيل الإبداع. أتراها عرفت هذا الطريق وهذه المتعة، ولكن.. تنهد آسفاً.. أنا لم أعرف هذه المتعة.

أتراني لم أكن المبدع الحقيقي حتى تخليت عن الإبداع واخترت الاستبداد.. العادل.. النقد..

كان نشره القصة الأولى لها مجاملة، وكان نشره الثانية رشوة أراد بها استعادة ليلة الحب الخارقة التي وهبتها له، ولكن سيكتشف فيما بعد أن ليس كل ما يخطَّط له يُنال.

ولما سألها عما يحبطها. قالت: أفكر. قال: فيم تفكرين؟ قالت: في أسر اللحظة هذه للكتابة عنها غداً.! و.. صدم.. أفيمكن لأسيمة أن تفعل به هذا. أفيمكن لها أن تحوله إلى موضوع أدبي؟ أفيمكن لهاـ وقهقه حتى ما قبل الإغماء ـ أفيمكن للرشوة أن تكون قاتلاً للرشوة. صححت القصة، ونشرتها لأحصل على المكافأة ـ حبها. فأتحول إلى موضوع للكتابة جديد يجب علي أن أنشره، وأنتظر المكافأة. أعوذ بالله أيقتل الحبَ مراقبةُ الحب.. ما زال الوقت مبكراً عليك يا فتاتي حتى يقتل الإبداعُ فيك الحب.

أبعد التقارير مصفرَّاً يفكر..  نظر إلى فنجان القهوة المليء لم يذقه، وإلى دولة القهوة إلى جواره. أنا متأكد أني لم أكتب هذا رغم صدقيته العالية.. فكيف كتبوه؟ كيف كتبه من كتبه؟ كيف دخل إلى العمق من روحي، وكشف الغامض الذي لم أستطع مواجهت؟ أنا.. شخصياً كنت أتحاشى التفكير فيه حتى لا.. أصدم. فكيف كتبه من كتبه.. من؟

وسمع صوت الباب الخارجي يفتح، فأدرك أنها عادت من لدى اللجنة بعد أن أقرأتهم ما أضاف إلى السيرة، وفجأة فحَّ، أيعقل أنها من كتب كل هذا.. ولكن.. لا.. لا يمكن فأسيمة غير أسيمة.

فُتح باب مكتبه. فأغلق المصنف وانتظر خدها ليقبله، فقبله وقالت: جلبت معي بعض اللحم المشوي. قم نتغد.
وقام 

(23)

كانت مفاجأة حقيقية لياسين، فهو حينما مضى للمشي بعد العصر يبحث عن وحي يكتبه لسيرة مولانا لم يكن يخطر بباله أن يرجع إلى البيت فيجدهم في انتظاره. كانوا جميعاً كبير الأمناء وسيد الإعلام ومؤرخ القصر، وأسيمة، وكان بين يديهم النص المنسوخ مما كتب من سيرة مولانا.. كانت مفاجأة لأنه حين وجد الباب مفتوحاً، والنور فوق الباب مضاء. امتعض، فها هي تعود ثانية إلى العادة المذمومة في ترك المصباح البابي مضاء. دخل عابساً، فقد تخلى عن الشجار منذ العودة، ولكن لا بأس ببعض امتعاض وعبوس، ولكن مفاجأته بوجود اللجنة جميعاً في انتظاره أنسته الامتعاض، ووضعته فجأة في حالة الرعب التي ما تمنى أن يعرفها منذ ركوبه على الموتوسيكل وراء خاله يتوقع إطلاق النار عليه في كل لحظة.

نظر إليهم في لحظة سيذكرها طويلاً، وسيتمنى لو يستطيع وصفها بالكلمات، فقد كانت زمناً إعجازياً، زمناً لو حسبته بالساعة الآلية، والزمن المحسوب بالدقائق والثواني لما تجاوز بضع ثوان، ولكنه في الآن نفسه وخضوعاً لبعد ثان غير بعد الساعة الآلية كان زمناً يحسب بالشهور وبالسنين وبالرعب، وبالدهشة. وبدفق الذكريات، زمناً رأى فيه المستنقع والقصب والطلقات تقصف القصب. وبرئتيه المتماسكتين تحت الماء القذر تحتميان به من الطلقات العمي، زمناً رأى فيه الآذن ممنوع، والأستاذ جمال المفكر عبر الزجاج لا يرى كفه تموج أمام عينيه  ترجوان الانتباه، زمناً رأى فيه الأم تقصفه بنظرات تبث الإخزاء والإخجال؟ ها أنت تأكل من مال البورصجي، فتختلس الفواكه والحلويات المرمية إلى جانب البحرة. زمناً سمع فيه سعال مدينة تحاول تنظيف حلقها من شوك طال لبثه، زمناً رأى فيه الضباب يغطي المدينة، ويفصلها عن العالم، زمناً كان يمكن له أن يستمر إلى الأبد مستدعياً كل لحظات الخوف والرعب والشك والريبة التي عاشها لو لم يقطعها الرجل ذو الوجه اللحيم: هاه الأستاذ ياسين. حمداً لله أن جئت.

همس في حشرجة: خيراً

ـ صمموا على السلام عليك. قالوا من يستطيع كتابة مثل هذا الجمال عن مولانا تنين الزمان وعنقاء الأيام لا بد أن نتعرف إليه.

قاموا جميعاً يصافحونه في حرارة: مبروك.. مبروك.

ـ ولكن.

لم يفهم ما الذي أعجبهم بالضبط، فما كتبه كان قليلاً بالنسبة إلى سيرة معارضة لسيرة الملك الظاهر، ثم هو لم يبالغ في المدح ولا الإطراء ولا صنع البطولة.. شدوه إلى الكرسي في صدر الصالون في احترام: تفضل.. تفضل.

ـ أهلاً أستاذ ياسين.

التفت، وكانت دلال، وكانت المفاجأة في اكتشافها بين الحاضرين تجلس في ركن نصف معتم.

ـ أصرَّت على اصطحابنا.

ـ أهلاً وسهلاً. رحّب ياسين بدلال في تهذيب.

قدمت أسيمة القهوة الجديدة، فكسرت الجو المصطنع للترحيب الاحتفالي. وقال سيد الإعلام: ولكن الصورة التي قدمتها عن الإقطاع ليست دقيقة أهي دقيقة؟

فقال ياسين: أنا لم أتحدث عن الإقطاع، والإقطاع كمفهوم عالمي لا وجود له في بلادنا، فلا سهول كبيرة يملكها إقطاعي واحد يديرها من قلعته المفارقة، ولا أسر إقطاعية تاريخية ورثت، وأورثت، فالأرض كانت دائماً لمولانا السلطان يهبها لمن شاء وينزعها عمن يشاء.

تبادلوا نظرات دهشة متعجلة، ثم تابع: أما هؤلاء الذين انقضّوا على الأراضي المهملة يستصلحونها ويستزرعونها بالآلات والتراكتورات والحصادات، فلا أدري إن كان يمكن تسميتهم بالإقطاعيين.

ـ ومن قال إنا نهتم بالتسميات. على العكس نحن سعداء أنك أوضحت هذه النقطة. أنت تعرف أن الهمَّ الأساسي في سيرة الملك الظاهر والذي أشرت إليه كثيراً في دراساتك السابقة واللاحقة هو أن الأمة وثرواتها وإمكاناتها كانت منذورة لشيء واحد، الملك الظاهر بطل حروب التتار والصليبيين.

غمغم ياسين وكأنه يوافق على ما قالوا رغم شدة انزعاجه من إصرارهم على فهمه على عكس ما أراد، فلجأ أخيراً إلى الاستسلام، فبما أنهم فهموا الأمر على هذه الصورة، فلا بد أنه على هذه الصورة. وتابع سيد الإعلام: وأنت في الفصل الذي قرأناه مؤخراً تحدثت عن الأرض المهملة البائرة غير المستزرعة منذ أيام مولانا الملك الظاهر.

وتدخل ياسين مندفعاً: أنا لم أذكر أنها مهملة منذ أيام الملك الظاهر. وهدَّأه الرجل ذو الوجه اللحيم: لا بأس.. لا بأس. ليس هذا هو المهم، ثم تابع سيد الإعلام: المهم أنها مهملة منذ.. زمن طويل.. أتعرف لماذا؟

فقال مؤرخ السلطان: لأنها منذورة لمولانا السلطان.

وقال سيد الإعلام: وتعرف لم تبرع هؤلاء الناس باستصلاحها واستخراج أفضل ما فيها.

فقال مؤرخ السلطان: ليستعين بها مولانا السلطان على الزمان، وليستطيع تحقيق مشاريعه الكبرى في رفع راية الوطن عالياً.

وقال سيد الإعلام: نشكرك. نشكرك يا أستاذ ياسين نريد أن نرى من هذا ـ ولوَّح بالوريقات في يده ـ الكثير. نحن بحاجة إليه والأمة والملة بحاجة إليه.

أصغى ياسين مفتوح العينين، ثرثروا، خطبوا، تهلل وجه أسيمة.. أشرق وجه دلال، وكان كل شيء يوحي بسعادة لا نهائية وكان ياسين ينصت.  

(24)

كانت الشمس مختبئة، وكان غيم خفيف لا يوحي بالمطر وإن استطاع نشر الظل والكآبة. كان ياسين يمشي باتجاه مكتبه الجديد. عرضوا عليه سيارة لتنقلاته، ولكنه رفض قال: أنا بحاجة للمشي. مشى، وكان يحاول هضم حوارات الأمس مع اللجنة الأقوى والأشد قدرة على النفع والضر في البلاد. كان يحس بنوع من الفخر أنهم جاؤوا لزيارته وإطرائه وشكره، ولكن شيطان المثقف كما اعتاد أن يسميه، والذي لا يترك له فرصة المتعة والاستمتاع بالمتعة كان يلكزه: لا ليس هذا ما أردت. أنت تفخر بمتعة مغشوشة. هم أرادوا شيئاً وأنت أردت شيئاً. لِمَ لم تقف في وجههم وتحتج: لا. ليس هذا ما أردت. على العكس لقد طنَّشت وبهجت وأخذت تستقبل نظرات دلال المعجبة والمهنئة والمتواطئة، وتأكل من الكاتو الذي قدمته اسيمة.. آه. صحيح. كيف حضر الكاتو؟ أكانت تعلم بقدومهم مسبقاً. هاه.. صحيح لا بد أنها كانت تعلم، ولكنها لم تعلمه.. صحيح.. لم تعلمه.. آه.. تنهد.. أسيمة الجديدة الماكرة المتكتمة المتواطئة.. لا.. أسيمة الأولى ما كانت تقدر على كتمان سر كهذا عنه. أسيمة الصدود.. والـ.. وفجأة لطمته كتف قوية أسقطت محفظته على الأرض، فالتفت ليحتج، ولكنها كانت قد ابتعدت، ورأى امرأة محجبة تبتعد بسرعة دون أن تمكّنه من الاحتجاج.

انحنى على المحفظة يرفعها، فوجد إلى جانبها ورقة لا بد أنها انزلقت منها. كاد يدسها في المحفظة وهو ينتصب حين خطر له أن يتفحصها، فنشر انثناءاتها وشهق. كانت رسالة من دلال، عرف ويعرف وسيظل يعرف الخط: ياسين. أنت آخر من نتكل عليه. ياسين إكراماً لكل الأيام الماضية الجميلة لا تسقط.. لا تعبث بالتاريخ.. ياسين.. أنا أعرف ما يجرونك إليه، أن تكون الشاهد من الماضي، والرسالة إلى المستقبل على عدالة ما يفعلون.. ياسين.. لا تسرق حلم الغد من أبنائنا. أرجوك.

ملاحظة: ياسين. يجب أن ألقاك. يجب أن نناقش الخطوة التالية. أنا أراك، وأنت لا تستطيع أن تراني، ولو رأيتني، وعرفتني لضيعوني. ارفع ذراعك محيياً لمن تشاء، وسأراك، وأعرف أنك تريد أن تلقاني، وسأتدبر كيف ألقاك.

لم تكن الرسالة موقعة، ولكنه عرفها. مزَّق الرسالة مزقاً صغيرة جداً و.. قرر أنه يريد أن يراها.

رفع ذراعه عالياً يحييها ويعلنها أنه يريد مقابلتها. تفحص الناس على الرصيف، وعلى الرصيف المقابل، تمعَّن فيهم يحاول تخمين من تكون دلال فيهم، ورآها، كانت في ملاءتها المتخفية تتظاهر بالوقوف عند الإشارة الضوئية المقابلة. أهي دلال فعلاً؟ نزل عن الرصيف مسرعاً يحاول الوصول إليها حين شحطت سيارة مندفعة بقوة جعلت قلبه يخفق، وعرقه يتصبب، ورأسه ينحني بين كتفيه كمن يتحاشى موتاً رآه رأي العينين. نظر إلى السيارة التي توقفت على مسافة شبر منه يريد الشجار، يريد العتاب، يريد الاحتجاج، ولكن باب السيارة انفتح، ونزلت دلال: أستاذ ياسين. أنا شديدة الأسف، شديدة الانزعاج، شديدة الخوف، ولكن.. يعني نزولك المفاجئ عن الرصيف.

كان اندفاعها في الحديث مخرساً، ولكنها دلال، دلال النضرة.. دلال المشعة، دلال الوعد بكل ما هو لذيذ في الحياة. تنفس يهدئ قلبه الجامح، ونظر إلى الجانب الآخر، إلى الإشارة، إلى المرأة في الملاءة السوداء، ولكنها كانت قد اختفت، فالإشارة الضوئية انفتحت، والزحام تلاشى.

جرَّته إلى السيارة، فانجرَّ فقد بلغ به الإرهاق والإعياء مبلغاً لم يكن يستطيع معه متابعة السير حتى الجريدة. مضى إلى مكتبه مستنداً إلى الذراع النضرة لدلال. كان عطرها يفعمه وكانت لدونة ذراعها وثديها يداعبانه. كانت متعة مؤجلة وقد أتيحت. قالت:

ـ إن شئت المضي إلى البيت لترتاح أوصلتك.
ـ لا. لا بأس. سأقرأ بعض الصحف أولاً.

فتابعت: وإن شئت الخروج إلى مقصف أو متنزه تروِّح عن نفسك، فأنا جاهزة لإيصالك.

نظر إليها، وقرأ المعنيين في كلامها، ولكن الرسالة الممزقة كانت ما تزال في جيبه: أن تكون الشاهد من الماضي، والرسالة إلى المستقبل على عدالة ما يفعلون. لا تسرق حلم الغد من أبنائنا.

وضحك في أعماقه: ليس لديَّ أبناء، وليس لديك أيضاً.

التفتت إليه دلال النضرة: آه. الحمد لله، لقد عادت إليك البسمة.. أتحب أن أعدَّ لك شيئاً تشربه.

كانت تتحدث وتثرثر بكل عضو من أعضائها، بعينيها، بخديها الضاحكين بحاجبيها المتراقصين، بفمها الوردي، بالوعود اللانهائية بالفرح والنشوة والشهوة. كانت تعرض عليه ما تمناه لسنين؛ أن يصحبها إلى المقصف و..

قالت: هه.. ما رأيك. أليس خيراً من المكوث في هذا المكتب المغمِّ.

ثم اقتربت منه في رفع تكلف شديد. اقتربت حتى كادت تلامسه قالت: أعرف مقصفاً هو الجنة على الأرض، نهيرات صغيرة تخترق المكان، وأشجار صفصاف منحنية وملتفة تكاد تصنع معتزلات لـ.. لـ.. وتابعت في خجل متأتئ ـ لمن يريد التفرغ للـ.. كتابة ما رأيك. هه.. كانت قد عثرت على الكلمة المناسبة ـ هل أدلك عليه.

كان الإغراء أقوى من احتماله. وما كان شديد الاهتمام بالمقاومة ولم يقاوم؟ ما مكسبه من المقاومة؟ المرأة تنز بالشهوة والوعد، وهو يشتهيها منذ دهور. صحيح أنه يعرف أنها ليست هي ولكن ما يدريك. فربما تكون الأخرى المتقشفة ذات الحاجبين المهوشين والشاربين غير النتيفين هي الدخيلة.. وهذه هي الأصل. تذكر جيداً. من دلال التي اشتهيت؟ النضرة هذه، أم المتقشفة تلك؟ كانت الأدلة مقنعة والإشارات هادية، وكان قد أخذ بالاستعداد للموافقة على المضي إلى المقصف حين انفتح الباب بلا استئذان، ودخل علاء الذي انقض عليه معانقاً ولائماً وعاتباً: فما هكذا تكون الأخوة، ولا كذا يكون الدم.. كيف.. كيف تتجاهل أخاك وتنساه، ولا تهتف بمكالمة صغيرة تسأله فيه عن حاله. كانت الأسئلة تأتي متلاحقة، رمق ياسين دلال بسرعة، فرأى الغضب والكراهية على وجهها، وأدرك أن دخول علاء هدم مشاريعهما، فتضايق ياسين لضيقها. تناسى.. تجاهل علاء له طيلة سني ضياعه وتوهانه، تناسى أنه قصده في بيته. بعد هجر أسيمة له لعله يجد نجدة، فلم يفتح الباب، بل تجاهل هاتفه، فلقد اصبح  طريد الحكومة.. كان قد عرف بأنه ممن حرموا من حقوقهم المدنية والسياسية. وصاروا الأشباح. لم يملك معاتبته، ولم يملك صده، فتنهد، واستجاب لعناقه فهو أخوه الأصغر. قال لدلال: أخي علاء.

فقالت في حياد أقرب إلى الجفاء: الأستاذ علاء معروفٌ في البلد.

طلب ياسين فنجاني قهوة، وأصغى لعلاء وثرثرته، فحدثه عن المطعم الناجح الذي تديره لبنى في بيتهم القديم، وحدَّثه عن مديرية الإسكان التي يرأسها.. مدير عام. ياسين.. تخيل.. مدير عام. ثم في مسارَّة مازحة: ولكن ليس مثل المدراء العامين الذين تعرفهم لا.. أخوك يعرف كيف يكون مديراً عاماً.. هه..

كم موظفاً لديك؟

قدمت دلال لهما القهوة، فأنقذته من حرج الاعتراف بأنه ليس مديراً عاماً، ولا موظفين لديه. طلب علاء من دلال في جفاء أن تضيف ثلجاً إلى كأس مائه. فحنت رأسها، وحملت الصينية والكأس لتضيف إليه الثلج، وكاد ياسين يعاتبه على طريقته في الحديث إليها لولا أن علاء هو من شرح له كيفية التعامل مع الموظفين تحت إمرتك. اترك فاصلاً من خوف بينك وبينهم. أشعرهم بأنهم مقصرون في كل ما يفعلون. لا تسمح لهم برفع الكلفة معك أبداً.. لا.. وعادت دلال ومعها الكأس المثلج، فأراحت ياسين من نصائح علاء.. رشف علاء من فنجانه في تذوق من يستعد لإبداء رأيه في القهوة وصنعها، و.. ولكن ياسين اختصر الأمر، فقال: اشرب قهوتك بسرعة فأنا في طريقي إلى مشوار هام.

ـ مشوار؟ ورأى دلال تحدق فيه في دهشة.
ـ اجتماع.
ـ هه.. قال علاء: طيب. وجرع قهوته: هيا بنا.

ولم يجد ياسين مفراً من اصطحابه.. قاما، ورمق ياسين دلال في خيبة فهزَّت رأسها في تواطؤ.

في الشارع المشمس ذكر دلال في الملاءة، فمسح الشارع بعينيه يأمل رؤيتها، ولكن الازدحام وحر الشمس منعا الناس من التريث لمراقبتهم.. فكر. لعلها تراني، فرفع ذراعه يحيي من لا يرى ولا يعرف، ونظر إليه علاء في استغراب: اثقل. اثقل.. من هذا الذي تحييه بهذا الاهتمام. ولم يجب ياسين، بل تابع التلويح بذراعه محيياً وهو يتمنى أن تكون هنا، وأن تراه. وأن تعرف أنه معها، وأنه لم يتخل عنهم. ولكن من هم؟ سأل نفسه في حيرة، ثم هزَّ رأسه لا مبالياً: معهم.. معهم.. مع الشلة القديمة.. مع دلال. ألا تكفي دلال؟ لقد أيقظت بحديثها القصير معه، ورسالتها المبتسرة كثيراً من الأشياء الحارة في أعماقه.

شدَّه علاء إلى المرسيدس: اطلع.
ـ ولكن..
ـ اطلع.. سأوصلك حيث تشاء.

ولما لم يكن لديه مكان حقيقي آخر للمضي إليه، فقد وافق بعد بضع مناورات لفظية صغيرة على اصطحابه إلى مديريته التي يرأسها مديراً عاماً، وكان حريصاً على تكرار هذه التسمية في كل مناسبة ممكنة.  

(25)

كان مبنى متواضعاً من الواضح أنه مستأجر من واحدة من البنايات السكنية، ولكن اللافتة المعلقة عليه كانت ضخمة مصنوعة من البلاستيك الأبيض المضاء داخلياً، وقد كتب عليها بالأسود الصغير وزارة الأوقاف، وكانت تقرأ بصعوبة، وتحتها بالأسود الكبير مديرية الإسكان، وأحس ياسين أن اللافتة ينقصها شيء. لم يعرف ما الناقص فيها.. ولكن السائق رصف السيارة في مكان خال وضعت إلى جواره شاخصه صريحة: المدير العام. نزل علاء، وأشار إلى ياسين بالنزول، ولم ينسَ أن يهمس في أذنه: ليتك لبست بذلة صيفية. وعندئذ فقط تذكر ياسين أن ما ينقص اللافتة كان؛ لصاحبها علاء الأرفعي. أمام مدخل البناء كان هنالك كشك صغير من الخشب المسقوف بالقرميد، وقد رأى موظف الاستعلامات في الكشك يرتبك لرؤيتهما، ويسارع إلى كبس عدد من الأزرار كما خمَّن ياسين، ثم فاجأه موظف الاستعلامات حين خرج من الكشك يحمل بندقية روسية، ثم انتصب أمام الكشك في احترام مشدود الظهر والصدر ينظر إلى الأمام، وما إن اقتربا حتى أدَّى لهما التحية العسكرية مقدماً السلاح، ضارباً الأرض بقدمه في قوة. نظر ياسين من حوله يتساءل: إلى من كانت تقدم التحية المسلحة هذه، ولكن لم يكن في المشهد رجل آخر غيرهما.

وكزه علاء يأمره بالصمت، فصمت، ودخلا إلى المديرية وكانت أبواب الغرف مفتوحة والموظفون يقفون في مداخلها في استعداد مشدودي الظهر والصدر ينظرون إلى الأمام دون أن ترف لهم عين.

همس ياسين: السلام عليكم. ولكنَّ واحداً منهم لم يجرؤ على ردِّ السلام بينما لاحظ ياسين ازدراء وجه علاء.

مضى علاء إلى الأمام يضرب الأرض بقدميه في مشية عسكرية لم يستطع ياسين أن يجاريها، ثم أدهش ياسين حين لم يصعد الدرج حيث وضعت لافتة صريحة تقول: مكتب المدير العام، بل نزل إلى الطابق السفلي، فتبعه ياسين ليرى الغرف مفتوحة الأبواب والموظفين في فتحاتها مشدودي الصدر والظهر، والعيون تنظر إلى الأمام بلا رفيف. تفحصهم علاء بعينيه بلا اكتراث أقرب إلى الازدراء، وبدا كمن يعدُّهم يتأكد من وجودهم جميعاً، ثم استدار. كان ياسين قد حفظ الدرس فلم يلق السلام، ولم ينتظر رداً على السلام، بل لحق بأخيه يتسلق الدرج في وقار إلى الطابق الثاني حيث مكتب المدير العام كما تشير اللافتة الضخمة.

فتح الآذن الباب بدلفتيه في احترام، ووقف، وقد ضم كفيه إلى بعضهما، وحنى رأسه في احترام، فدخل علاء دون تحية، ولحق به ياسين الذي أنهكته الدهشة والحيرة، فما الذي يجري، وما هذا الجفاء والتجاهل في العلاقة بين الموظفين. تبع علاء وكانت الدهشة الحقيقية. كان المكتب بمساحة طابق كامل. لا بد أن جدران غرف كثيرة قد أزيلت حتى ضمَّ المكتب هذه المساحة، وقد نشر في المكتب عدة أطقم من الكنبات، وطاولة اجتماعات تتسع لثلاثين مجتمعاً.

كان علاء قد اندمج في دوره الجديد، فقد تخلى عن مجاملاته لياسين، ومضى إلى مكتبه الضخم بحيث لا يستطيع علاء أن يتناول الهواتف الموجودة على أطرافه إلا لو مشى بكرسيه المدولب إليها. لم يشر لياسين بالجلوس. وتساءل ياسين:  شهدنا المسرحية وعرفنا أبطالها، أيريدني من الممثلين أيضاً. اختار الكنبة الأكبر متصدرة المجلس، فجلس، ووضع ساقاً على ساق، ثم ضحك لنفسه: ها أنت ترجع إلى مناكدات الأخوة فيمن تكون له الصدارة.

جذبت التماعة نور مفاجئة بصره، فالتفت ليرى مسطحاً عليه عدة شاشات تلفزيونية وقد اشتعلت، ثم أخذت الصورة بعد بعض تخبط في الاتضاح، واستطاع علاء إدهاشه هذه المرة، فلقد كانت الشاشات تعرض مكاتب المديرية كلها وموظفيها وما يفعلون، ورأى بعضهم يرمقه.. يرمقه، أم يرمق الكاميرا؟ في خوف وريبة، و.. ربما بعض كراهية.

ترك علاء ياسين يتمعن في المشهد جيداً وحس بالفخر يغمره، ثم أدرك أن المشهد قد استوفى دوره، فالتفت إلى مقعده الدوار في خفة، وقال:

ـ هه. ما رأيك.
ـ لم أفهم شيئاً.
ـ ستفهم الآن.

ثم ضغط على زر، فانفتح الباب بسرعة، ودخلت سكرتيرة شابة بدت دلال بالمقارنة معها متواضعة على كل المستويات. وقفت في استعداد.. فقال علاء دون أن ينظر إليها: ادعيهم إلى اجتماع.

ـ متى؟
ـ الآن.. وحالما ننتهي من شرب قهوتنا.
ـ حاضر.

دخل الآذن يحمل صينية القهوة، فقدمها في احترام متشنج، وكان الماء مثلجاً وحب الهيل يعوم فوق الفنجان. رشف علاء من فنجانه في احتفالية، فجاراه ياسين. لم يكن هناك كلام كثير بينهما، وفجأة خطر على باله سؤال لم يخطر له أن يسأله من قبل:  ترى ما أخبار الوسواس الذي ركب علاء قبل الكارثة حين صار يهجس بالملك الظاهر، ويتهم ياسين بأنه من أثار فيه هذا الهوس بكتاباته الكثيرة عنه. ولكن علاء لم يتح له أن يلقي بسؤاله، فالباب نقر والسكرتيرة دخلت تعلن أن المديرين ينتظرون الإذن لهم بالدخول لبدء الاجتماع.

* * *

دخلوا متسللين، واختاروا مقاعدهم في حزن.. كانوا غارقين في الخجل وربما الخوف الذي لم يحاولوا تغطيته. كانوا جميعاً شباناً في أواخر العشرينيات، أو أوائل الثلاثينيات. وكان هذا ما أدهش ياسين. إنهم المديرون، ولم يرهم في جولته مع علاء، أو لم ينتبه إليهم، فأولئك الواقفون على مداخل الغرف في استعداد مشدودي الصدور كانوا أكبر من هؤلاء بكثير، كانوا كهولاً في الخمسينيات، أو يزيد، أو كانوا على أبواب التقاعد، لكنَّ هؤلاء المديرين المستدعين للاجتماع كما أعلن علاء، رافضاً اعتذار ياسين للانسحاب من الاجتماع المفترض، أصرَّ على بقائه، وعرف ياسين أن علاء كان يريد استعراض مديريته العامة أمامه، وأنه يريد أن يريه كيف تدار المديرية، وكيف يدار الموظفون.

لم يقف علاء لتحيتهم، بل تجاهلهم متظاهراً بقراءة أوراق أمامه. كان وجهاً جديداً لعلاء أمام ياسين، وجهاً لم يألفه، ولم يعرفه، ولم يظنَّ يوماً أن علاء الخجول المهذب الطامح إلى رضا الأم والجدة كما طمح، وأخفق كما أخفق. لم يظن أنه يستطيع أن يكون على هذا الصلف، كان قد وضع قناعاً جعل ياسين نفسه يحسُّ بالحرج، فمن هذا الرجل إذن.. أخذ يراقبه وهو يقلِّب في الأوراق أمامه، ولاحظ بهدوء أنه قد سمن. كان وجهه قد أصبح مستديراً، ولاحظ أن هذه السمنة قد زادت في وسامته، وحار فيمن صار يشبه بهذه السمنة. كان الشبه  يلح.. لا بد أنه يشبه واحداً يعرفه، فالشبه صارخ وواضح.. من؟ من يشبه علاء في سمنته ووسامته الجديدة، وصرامته الصلفة هذه.. من..؟ كان يتساءل ويراقب جبينه المجعد وحاجبيه المعقودين وانشغاله الجديد فيما يقرأ.

وبهدوء لاحظ أن المديرين المجتمعين لم يصدر عنهم صوت، فالتفت إليهم. كانوا متجمدين، معلقي النظرات في الرجل الصارم الذي كان يعرف أنه أخوه الصغير والغارق في قراءة أوراقه، ودون أن يريد أو يطلب لعب ياسين لعبته الذهنية في تقمص الآخر، وتخيل كيف يفكر. فرأى نفسه بينهم، ورأى الخوف والارتباك يحلاَّن عليه، ورأى عينيه تتعلقان بالأوراق يقلبها المدير العام في الملف أمامه، وتساءل: أي تقرير يقرأ، وأي إدانة يتفحص، وأي مأزق سيجد نفسه فيه حين يبدأ التحقيق المحاكمة. ولم لم يستدعني على انفراد. أكان لا بد من الفضيحة، أكان لا بد أن يشهد الآخرون على مذلة هذا التحقيق ـ المحاكمة. ترى.. ما الذي بين يديه.. تقارير مالية؟ إدارية؟ وشايات سياسية؟

كان ياسين يتأمل وجوههم مسترجعاً ياسين، ثم يتقمص واحداً منهم محاولاً قراءة علاء، و.. الغريب أنهم لم يلمحوه، أو ينظروا إليه. كان ياسين أمامهم صفراً، فراغاً، لا شيء. فالموجود الأوحد كان سيدهم ومديرهم علاء، وكانوا منتحين باتجاهه انتحاء ورق الشجر إلى الضوء. تأملهم ياسين يراقبون وجه علاء، وتبدلات وجهه وهو يقرأ. الغضون المتحولة في وجهه، ولأول مرة استطاع أن يفهم التعبير العربي القديم: كأن على رؤوسهم الطير. فقد كانوا وكأن على رؤوسهم طير بري حذر يستعد للطيران عند أول نأمة، فتجمدوا خوف أن يطير.

وتساءل ياسين: ما الذي يخيفهم إلى هذا الحد؟ ما الذنب الذي ارتكبوا فهم يخافون الحساب والعقوبة؟ ما الذي جعله على هذه القوة، وجعلهم على هذا الضعف؟

وأجاب علاء على سؤاله حين رفع رأسه في بطء لئيم، وفحَّ:

ـ هاتوا المفاتيح.

التفت ياسين إليهم، ورأى الذعر الحيواني الأول لابن آوى صغير كان قد انفرد بأرنب بعد جوع شديد، فإذا بذئب صارم يقف أمامه ويشير إلى الفريسة في تعالٍ: هات الأرنب.

كان الارتباك والتعثر والأمل بتغيير الأمر القدري في آخر لحظة. وللمرة الأولى وفي بحثهم عن نجدة، عن منقذ، عن حبل يتعلقون به خارجين من بئر الرعب والإذلال الذي وجدوا أنفسهم فيه نظروا إليه، فرادى ثم مجتمعين. كان في عيونهم رجاء أشبه بالتسول، كان  في وجوههم تسول أشبه بالحبو، والتفت ياسين إلى علاء وكأنه يتوسط لهم عنده فيما لا يعرف. مفاتيح ماذا؟ ولماذا؟ وما الذي يعلقهم هذا التعلق بالمفاتيح، ولكن علاء لم يكلف نفسه عناء النظر إلى ياسين، أو التعليق على نظرته الراجية، بل وقف في ملوكية، ولم ينطق بكلمة. وفهموا وقفته على أنها الطرد، الأمر بالانصراف، فانصاعوا. ورأى ياسين: رزم المفاتيح توضع في احترام على مكتب المدير العام. رآها توضع على الزجاج دون صليل، دون ضجيج، دون صوت. كانت المفاتيح نفسها تهمس في خوف، وهي تستلقي على الزجاج المغطي للمكتب الكبير.

عاد علاء إلى جلسته، وإلى أوراقه، ولم ينظر في اتجاههم، فاتجه أولهم إلى الباب متهدل الكتفين معذَّب النظرات، بعد أن انحنى باحترام لم يره علاء، ومضى، وتبعه الآخرون واحداً إثر آخر، مجللين بالخيبة والانكسار.

انغلق الباب خلف آخرهم، فرمى علاء الملف من يديه وسقط قناع الصرامة عن وجهه، وعاد علاء الذي لقيه قبل ساعة في مكتبه، والذي قدمت له دلال الماء دون ثلج، والقهوة دون هيل يعوم على سطح الفنجان، فاحتج، وأصر على الكمال. تنهد وهو ينظر إلى ياسين في انشراح:

ـ هه. ما رأيك؟
وقال ياسين في حيرة حقيقية: رأيي؟ لم أفهم شيئاً.

جعل علاء كفه قائمة مع السطح الزجاجي، ثم جرف رزم المفاتيح إلى درج فتحه، فنزلت تصلصل، أقفل الدرج بالمفتاح، وانتصب: هيا بنا.

ـ إلى أين؟
ـ تعال. ولا تثرثر كثيراً.

ركب إلى جانبه في المرسيدس، وأحس برائحة الوثارة تطبق عليه.. نظر إلى المارة يتعثرون تحت الصهد، وتحت الوهج، يتعثرون بحقائبهم، وأكياسهم، وملفاتهم في وجوه جامدة لا تعبِّر.. وللمرة الألف تغلبه لعبته اللعينة، فيتقمص واحداً منهم متسائلاً": كيف يُنظر إليه في المرسيدس الآن، ولكن علاء الذي حدس السؤال الدائر في واعية ياسين وهو يراقب الخارج في قلق قال:

ـ الزجاج مدخن. لن يروك في السيارة، ثم أطلق قهقهته: أنت تراهم، ولا يرونك، وانفجرت القهقهة ثانية: تماماً كالملائكة يرون ولا يُرون.

لم يضحك ياسين للنكتة التي جعلت علاء يقهقه، فالتفت إليه: اضحك.. اضحك.. أنت الآن مدير عام. أنت من النخبة. من المحسودين.. اضحك. وأراد ياسين الاعتراض بأنه ليس مديراً عاما ًولا.. ولكن علاء تابع: وحكاية أنك تمشي، ولست في حاجة إلى سيارة حكاية سخيفة

ـ ولكني أحب المشي!

ـ السيارة يا أبله ليست منافية للمشي، تستطيع أن تمشي بعد العصر، في النادي، بين البساتين، لكن السيارة قيمة. أنت تركب مرسيدس، فهذا يعني أنك من طبقة المرسيدسيين، أي الطبقة الأعلى، تركب بيجو، أنت إذن من البيجويين، سيارة يابانية، يعني ـ قالها في استهانة ـ أنت من الحائرين. ثم في صرامة: غداً. أتسمع. غداً.. تطلب مرسيدس اطلبها وهم في حاجة إليك، وسيعطونها، وحين تصبح من المرسيدسيين، فأنت اجتزت مرحلة لن يستطيعوا الرجوع بك عنها.. أتسمع.. ثم..

كانوا قد وصلوا إلى المقصف، لاحظ ياسين ذلك حين خفف علاء من سرعته منحرفاً إلى حارة جانبية مزنرة بأشجار الجوز.. زمَّر علاء، فانفتح باب المقصف الحديدي، ودخلوا.. كان الزوار قلة، فتساءل ياسين: أتراهم قلُّوا لعزلة المكان، أم لحجره على رواد معينيين، فما انفتح الباب إلا لزمور المرسيدس. مشى علاء بثقة إلى طاولة جانبية قريبة من النهر، ولحق به ياسين مبهوراً من الجو الذي لم يعتد عليه، كان يحس راحة ناعمة لم يعرف لها تفسيراً، ولكنه حين أسند ظهره إلى المقعد انتبه إلى موسيقى برامز المتسللة ناعمة بين الأشجار والمعلقة مضخماتها في سرية بين الأغصان. سمع همسة ناعمة، فالتفت. كان الواقف إلى جانبه امرأة حسناء لم يستطع إلا أن يحاول الوقوف لها تأدباً، ولكن علاء ضربه بحذائه على ركبته، فتأوه، وابتسمت، فاختفى ألم الركلة، قالت تخاطب علاء: المعتاد طبعاً؟

فهز برأسه إيجاباً دون أن يكلف نفسه عناء الرد، فالتفتت إلى ياسين مبدية بسمة متكلفة لم تكن أبداً كالبسمة المعطاءة المهداة إلى علاء، وهمست: والأستاذ؟ فأجاب آلياً: المعتاد.

وضحك علاء للمرة الأولى. قال: بيرة.. ألمانية.

فانحت انحناءة خفيفة ومضت.

استند علاء بظهره إلى المقعد، ومدَّ ساقيه طويلاً في ارتياح.. كان سعيداً، وكانت أسباب سعادته جلية، فها أخوه الكبير، نجم الأيام الماضية، والمرشح لكل جليل، ها هو يتجلى عن الريفي لا يعرف الخادمة من السيدة، ولا يعرف معاملة موظفيه كما يجب.. وصمت ياسين. صبَّت الخادم الحسناء البيرة لهما، ووضعت بعض المقبلات، ومضت.. تنهد علاء. قال: أتعرف.. وتنهد ثانية.. كم أتمنى لو كانت أمك حية، أو لو كانت الجدة ما تزال تعيش. وفهم ياسين ما يريد علاء قوله، فقال بعد رشفة كحسوة: لن تفيد شيئاً. واحمد ربك أنهما ماتتا، ولو كانتا حيتين لوبَّختاك.

ـ ولكن لماذا.. البلد كلها تحسدني أقصد تحسدنا.. نحن السادة الآن.

ولكنَّ ياسين ذكر له كيف حفظ مولد البرزنجي، وكيف قرأه لهما. وكيف نغَّمه وأنشده مؤمناً بأنه سيحصل على الرضا الذي حُرِمه طويلاً، ولكنه لم ينل إلا تنهدة من الأم وقول : إه.. حلو.. ولكن.. أين السكر من العسل. اربدَّ وجه علاء فجأة اربدَّ حتى لم يعد يستطيع الحديث فقلب كأس بيرته، ثم صبَّ أخرى، وفرقع بإصبعه للخادم التي كانت تراقبه فأتته بزجاجتين. شرب وشرب دون أن يعبأ بياسين، أو بالخادم، أو بمن يراقبه. كان كما سيكتب ياسين عن هذه الحادثة: يريد أن يطفئ ناراً ما تزال تشتعل في جوفه.

كان ياسين يراقب الوجه السمين الوسيم المربدّ لعلاء، وفجأة تذكر من صار يشبه. إنه الملك فاروق ملك مصر. قال:

ـ علاء. أنت تشبه الملك فاروق.

توقف علاء عن الشرب مفاجَأً بملاحظة ياسين، ثم ضحك في مجاملة: كانت صورته جميلة فعلاً في شبابه ـ ثم تنهد ـ قبل أن يسمن ويكرّش، ويصبح المقامر لا يفيق. رفع يده للخادم وما كاد حتى اندفعت تلبي طلبه.

ـ أمرك.
فقال في اختصار: الغداء.

حنت رأسها في استجابة،  ومضت، ولم يستطع ياسين إلا أن يبدي ملاحظته: ولكن لم الجفاء.. الفتاة جميلة، وكلمة حلوة لن تؤذي.

نظر إليه علاء ملوثاً نظرته ببعض سخرية، ثم تنهد وقال:

ـ أتعرف كيف صنعت مديريتي.. أظنك أعجبت بها.. إياك أن أسمع منك أنها لم تعجبك.

وهز ياسين رأسه موافقاً، وجرع بعض بيرة، لم يكن في مزاج المجادلة.

ـ عرفت أنهم كانوا يسخرون مني حين وصلت إلى مبنى المديرية التي جعلوني مديراً عاماً لها..هاه.. كانت هذه حصتي، كان الموظفون كهولاً فيهم المهندس والحقوقي والإداري، وكانوا معتادين على تغيير المديرين، ويعرفون أن مديرية مهملة في وزارة ثانوية مهملة لن يعيِّن فيها رجل مهم، فتهيأوا للتعامل معي على هذا الأساس.

وضعت الخادم الحسناء الطعام أمامهم، وكانت حريصة على إبداء كل ود ممكن لعلاء، وعلى تجاهل ياسين الذي سخر من نفسه داخلياً: ستظل الشبح يرون الجميع ولا يرونك.

انسحبت، وأشار علاء إلى الطعام في كرم: تفضل.

وتفضل ياسين، وكان اللحم شهياً، والسلطات رائعة. لم يكن هنالك ما يشكو منه. أقبل ياسين على الطعام بينما أخذ علاء يتلهى بالمكسرات والبيرة، وكأن الحديث الذي ذكَّره بالماضي قد حدَّ من شهيته للطعام، ولكن ليس لإعطاء الدرس الواجب إعطاؤه لياسين، فتابع!

عقد علاء اجتماعاً للموظفين، فجاؤوا متثاقلين، وحيَّوا ببرود.. وكان السأم سيد الاجتماع. خطب وذكَّر، ووعد، ولكن واحداً منهم لم يتأثر، بل لاحظ علاء أن كهلين منهم تجرآ فلفَّا سيكارتين، وأخذا يدخنان في سأم. انتهى الاجتماع، وغصة كبيرة في حلق علاء، ولكن علاء الذي لم يعتد الهزيمة قرَّر قبول التحدي، طلب هيكلية المديرية الوظيفية ليكتشف أنها تدار بالبركة، فليس من مدير معروف، وليس من موظف يحترم مديره، فقرَّر البدء بالعمل، وقسّم المديرية إلى عدد من المديريات، الإنتاج، المتابعة، التخطيط، المالية، الرقابة، ثم اخترع عدداً آخر من المديريات، ومضى إلى الوزير يطلب تعيين عدد من الكفاءات الشابة، ولما كان الوزير أكثر سأماً من علاء من وزارته المملة، فقد وافق على تعيين الشبان المطلوبين، الذين لم يلبثوا أن شُكلت منهم المديريات وعيِّنوا مديرين جدداً على كل منهم أن يحسن إدارة مديريته، ولما كان كهول المديرية أكثر سأماً من الاحتجاج، فقد صمتوا وإلى من يحتجوا. وما معنى تعيين مدير تخطيط في مديرية لا يزيد عملها عن مراقبة بيوت وقفية أثرية، وقرار إن كان من المناسب ترميمها، أم أن الأمر ليس ضرورياً، فالبيوت الرثة لا ريعية لها، ولكن علاء بذكائه العملي جعل المديرين يوظفون موظفين يراقبون البيوت الموقوفة، والجوامع الموقوفة، والمدارس الموقوفة، ويراقبون ترميمها، ويقررون ترميمها، وطلب الأموال من الوزارة لتغطية التراميم، ثم اكتشف واكتشفوا أن هؤلاء المديرين الذين صنع منهم مديرين في حاجة إلى سيارات تنقلهم إلى مراكز مراقبتهم وترميمهم، ولا بأس أن يستعيروها حتى الصباح التالي. وجاءت السيارات.

صنع علاء مديريته على شاكلته، بل لنقل الحق أنه اخترعها من حيث لم تكن، فأصبحت مثار الاهتمام والغيرة، يأتي المديرون الآخرون إليها ليتعلموا كيف تبنى المديريات. أهمل الكهول، وقال: سيحالون على التقاعد أو الموت قريباً، ولا حاجة إلى الاكتراث بهم. علينا الاهتمام بهؤلاء الشبان الذين سيكونون المستقبل، وصنعهم على شاكلة المستقبل. صنع منهم مديرين منذ التعيين الأول، فكان ولاؤهم لمن صنع منهم المديرين، ولكنه حين لاحظ أن المردود والأهمية لكلمة مدير لا تغري جاءهم بالسيارات، وفجأة أصبحوا مركزاً للأهمية ليس في المديرية بل في الوزارة، ولكنه كما سيقول لياسين كان حريصاً على أن يذكرهم بين الحين والآخر برب نعمتهم. الذي أخرجهم من الظلام، فعيَّنهم مديرين، ووهبهم السيارات، فكان ـ ونظر إلى ياسين نظرة متآمرة ـ يجمعهم بين الحين والآخر، ثم يأمرهم بتسليم مفاتيح سياراتهم، تلك السيارات التي جعلت منهم أشخاصاً مهمين، وكان يعرف أن من سيعاقبهم ويعذبهم ويجبرهم على الجثو، وليس الركوع فقط، هم نساؤهم وأطفالهم الذين تعودوا على التميُّز عن اقرانهم بركوب سيارات الحكومة، وكان يعرف أن مقاومتهم لن تزيد عن يوم أو يومين سيعودون بعدها إليه واحداً، واحداً يعتذرون عن ذنب لا يعرفونه، ويطلبون غفراناً سيحصلون عليه بعد بعض التذلل، وسيستعيدون قيمتهم ومكانتهم التي يعرفون أن نورها المضيء الوحيد هو المدير العام.

انتصب علاء بعد أن لاحظ أن ياسين قد أنهى غداءه، وأنهى استماعه إلى محاضرته.

قال: تعلَّم كيف تبني مديريتك، فحياتك، وقيمتك ومستقبلك مبنية على سمعة المديرية التي منحوها لك. هيا.

ولحق به ياسين إلى السيارة يفكر كيف يقول لعلاء إنه لم يعيَّن مديراً عاماً، ولكن علاء لم يترك له فرصة واحدة يقول فيها إنه ليس مديراً عاماً، وليس لديه موظفون، ولا مديرون، ولا حتى سيارات.  

(26)

قدمت له القهوة بعد أن رفعت الغداء الذي تركته في انتظاره. لم تعاتبه على تأخره. وحين اكتفت بساندويتش أكلته على عجل أحس بالخجل، فحدثها عن الدروس التي أصر علاء على تعليمها له في كيفية بناء مديريته، وصنع موظفيه ومديريه، ولكنها كانت من فاجأه حين قالت: هل أعجبتك.

فلما سألها عما تعني وقد قفز قلبه. أتراها تعرف بمحاولات الدلالين المتقشفة، والنضرة للاستحواذ عليه، ولكنها أضافت حين لاحظت عدم فهمه: السيارة.

فقال جاهلاً تماماً ما تعني: السيارة.. آه.. سيارة علاء.

ولما كاد يستطرد في الحديث عن سيارة علاء قاطعته: السيارة في الخارج؟

ـ ماذا تعنين؟

ومضى معها مجروراً إلى الخارج ليرى تلك الحسناء البيضاء الجديدة ما تزال، وقد رصفوها في ترفع على الرصيف. أشارت إلى الفرش الجلدي، والمسجلة الأنيقة، والزجاج المدخن. كانت كما لاحظ مثل دلاّل محترف يقدم بضاعة لمشتر متردد: أتحب أن نقوم بجولة؟

وكاد يوافق حين ذكر تعاليم علاء، المرسيدس للمرسيدسيين، والبيجو للبيجويين. إنها مقامات يا عزيزي، وعليك أن تعرف مقامك.

التفت ياسين إليها في ترفع فاجأه: لا.

ـ ولكن لِمَ لا.. قالت في رجاء متلهف: لا تخف. أنا من سيسوق. تعال دعنا نمض في جولة إلى المصايف القريبة.

ولكنه استدار عنها في ترفع سيحسد نفسه عليه فيما بعد، فكيف جرؤ على رفض الحسناء الفرنسية. وقال في ترفع وهو يمضي بعيداً عنها وعن السيارة وعن البيت: لا حاجة بي إلى سيارة.

اهتفي إليهم ليأتوا ويستعيدوها.. لن ألوث بنطلوني بركوب مثل هذه.. وأشار إلى البيجو في ازدراء، ومضى.

أحس بنظراتها تلاحقه، بل تخترقه من الخلف.. عرف أنها قد فوجئت بموقفه غير المتوقع. هو ياسين الذي كان يحلم معها في ليالي الصفاء، وقبل الكارثة بفولكس فاغن، أو حتى كانا يحلمان بصندوق على أربع عجلات كما كانا يقولان ضاحكين. المهم أن يجدا ما يحملهما بعيداً عن وسائل المواصلات العامة ورداءتها المفجعة، وعن سائقي التاكسي ورذالتهم غير المحدودة، ولكن.. يرفض مثل هذه السيارة؟

مضى مبتعداً على الطريق بين البساتين يبحث عن خلوة يفكر في أحداث يومه العجيب. دلال المتقشفة وطلبها لقاءه، ودلال النضرة وعرضها السخي، وعلاء واستعراضه الإداري، والغداء في المقصف المغلق.. وأخيراً اختتام اليوم بالسيارة البيجو. أي يوم عجيب. فعل خيراً برفضه السيارة.. لا شك أن علاء سيفخر به.. ولكن ـ توقف ـ أهذا ما تبغي؟ ياسين أهذا ما تبغي؟ أن تجعل علاء يفخر بك. وقفزت دلال أمامه فجأة كانت تتلو رسالتها غيباً: أنت آخر من نتكل عليه. ياسين إكراماً لكل الأيام الماضية لا تسقط. لا تعبث بالتاريخ. ياسين. أنا أعرف ما يجرونك إليه. أن تكون الشاهد من الماضي والرسالة إلى المستقبل على عدالة ما يفعلون. ياسين لا تسرق حلم الغد من أبنائنا.

أغمض عينيه كمن يفرُّ من المواجهة، ولكنها لاحقته وقد خلعت ثوب دلال المتقشفة لتضع دلال النضرة قالت تفحُّ: أعرف مقصفاً هو الجنة على الأرض.. نهيرات صغيرة تخترق المكان، وأشجار صفصاف منحنية وملتفة.. تكاد تصنع معتزلات.

فتح عينيه يهرب من دلال النضرة ودلال المتقشفة. وقال لنفسه: دعنا نهرب من هذا كله.. دعنا نفكر فيما يريدونك له، لكتابة السيرة المعارضة، سيرة مولانا عنقاء الزمان.استحضر السيرة الأولى في ذهنه، استحضر بيت ابن باديس الأسطوري في السيرة الأولى.. البيت الذي لم يستطع فتح بابه المطلسم أحد، فقد كان مرصوداً للموعود بالسلطنة. فكَّر ياسين بالمهندس الفقير عارف اسرار القصر وكنوزه، وكيف حطّ به الزمان حتى صار تلاميذه ومشدودوه، ومتعلموه يسخرون منه، ولكنَّ الموعود بالسلطنة فقط يعطف عليه، ويستميله، فيكشف له أسرار القصر وطوابقه تحت الأرضية، تلك المستودعات المليئة بالثروات، الذهب، والفضة، والماس، والزبرجد والياقوت. كل تلك الثروات الرائعة التي اختزنها ابن باديس طويلاً، ثم كنزها، ورصدها، وجعلها لا تنفتح إلا للموعود بالسلطنة الذي سيعيد العدل إلى المظلومين، والخبز إلى الجائعين، والإسلام إلى الجاهليين.

فكر ياسين بهذا النص الجميل، فكر في كيفية معارضته، فكر بالموعود بالسلطنة، عقلة الشاب الضابط الصغير يدخل إلى بيت الدبلوماسي الكبير تحسين باشا وليس لديه إلا بنات ثلاث.. رآهن فبهر. كنَّ جمالاً لم يعرفه في بنات الضيعة، ولم يعرفهن في مواخير المدن التي مرَّ بها. كن يتكسَّرن أمامه بمشيهن وغنجهن، ولثغتهن بالفرنسية. ترى.. أكان مولانا عقلة يؤمن بأنه الصياد حين دعي إلى العشاء في تلك الليلة ليجد ضابطين آخرين من بلدين مجاورين، ضابطين صغيرين لا يوحيان بأي وعد، قدَّمهم الباشا الرقيق إلى البنات. ترك الخدم يقدمون العشاء، وترك البنات الرقيقات يرحبن بالموعودين الثلاثة. ترى أكانوا يعرفون أنهم الصيادون، أم أنهم المصيدون. قال الباشا وكان يتقدمهم إلى الصالون الكبير يريهم كنزه من اللوحات الزيتية جمعها من باريس، ومن أمستردام، من لندن، ومن فيينا. كان الباشا مغرماً باللوحات الزيتية، فكَّر مولانا عقلة، ولكن الباشا تقدمهم إلى صالون آخر ليريهم ثروته الجميلة من الموزاييك، ورث بعضها عن الباشا الوالد كما أعلن، واشترى، وصادر البعض من أسواق المدن التي كانت تغادر موزاييكها، وخشب جوزها المحفور، وبروكارها.. وأراهم البيروهات، والخزائن.. وأرفف القناديل، أراهم المحاريب والبارافانات.. أراهم المشربيات والشناشيل، ولما كادوا يسحرون بجمال ما رأوا قادهم إلى الصالون التالي ليروا فيه السجاد العجمي الممدود على الأرض طبقات خمسة.. كشف لهم الطبقة الأولى وقال هذا سجاد تبريزي، ثم كشف الطبقة الثانية، وقال: هذا شيرازي، ثم كشف الطبقة الثالثة، وقال: هذا أفغاني، وكشف الرابعة، وقال: هذا بخاري، ثم في فخر قال: أما تحفة التحف، فهو الكشميري وكشف الطبقة الأخيرة. نصب ظهره في فخر، ثم أشار إلى السجاد المعلق على الجدران، كانت لوحات من صوف منسوج سجاداً، لم يكلف نفسه عناء شرح مصدرها، بل تركهم يغرقون في تحسسها وامتصاص جمالها. لم يشرح لهم عدد عقدها في الإنش الواحد، وكان خبيراً بذلك، لم يفسر لهم سبب نضرة الألوان فيها، وما المواد التي كان يستخدمها ليجعل من الألوان على هذه النضارة، بل قادهم إلى غرفة جديدة.

توقف ياسين يفكر: ما الذي يجب أن يكون في الغرفة؟ لا بد أن يكون تحدياً كالقنطارية التي لم يستطع حملها أحد، فحملها الموعود بالسلطنة، وربما كانت سيفاً غارقاً في صخرة لم يستطع انتزاعه أحد، فانتزعه الموعود بالسلطنة. فكان المفتاح، وكان الدليل أنه الموعود. ولكن.. لا.. وتذكر ياسين ما كتبه مرة عن السلطان وكيف حصل على حق: تفضل يا خوند، فأنت صاحب العرش.. تذكّر أن الموعود بالسلطنة وبعد إحراز النصر على التتار خرج مع السلطان المنتصر إلى الصيد، وكان قد اتفق مع أصدقاء له، فتظاهر الموعود بالسلطنة أنه يريد تقبيل يد السلطان المنتصر شكراً، فلما قبض على يده طعنه، ثم انقض مع رفقائه فأجهزوا عليه الإجهاز الكامل، ورجعوا بسرعة إلى السرادق المركزي، وصرخ من سيصبح السلطان: لقد قتلت السلطان. فقام كبير المماليك في وقار وقال: من قتله؟

فقال الموعود بالسلطنة: أنا من قتله.
فقال كبير المماليك وهو ينحني في إجلال ويشير إلى العرش:
ـ تفضل يا خَونَد.. يا صاحب الجلالة.. فالعرش من حقك..

توقف ياسين مذعورأً: لا.. لا يجب كتابة مثل هذا، وحتى كُتَّاب السيرة الأصلية لم يكتبوه، بل التفُّوا من حوله. أفتريد أن تجعل من السلطان غادراً يقتل رفاقه وأصدقاءه؟.. لا.. لا.. إياك يا ياسين. إياك.. أنا أعرف أنك تريد أن تلعب بالنار، ولكن.. تذكَّر. أنت الآن تعيش في منَّتهم، تذكَّر. أين اختفيت حين طاردوك، وأي عيش عشت.. تذكَّر. وإياك والخطأ.

نفض رأسه كمن يصرُّ جسدياً على الهرب من الفكرة تضغط عليه. قال: دعنا نهرب منها إلى ما هو أبهج. واستقدم دلال ولكن دلال المتقشفة همست: إياك. لا تسرق حلم الغد من أبنائنا. فنفض رأسه في كراهية، واستقدم دلال. دلال النضرة المشتهاة تنز شهوة وشبقاً وحباً، و..  

(27)

كانت استجابتهم سريعة، وكانت مفاجأته كبيرة حين رآها مرصوفة على الرصيف، وكان لها أن تعلو الرصيف سوداء مدخنة الزجاج. تلمع وكأنها قد خرجت من المصنع لتوها، عرف أنهم استبدلوا البيجو بها، فلقد كانت مرصوفة في مكانها تماماً، ثم فجأة سخر من نفسه: ولم تعتقد أنها ما استبدلوا البيجو بها. لم لا تكون لأحد القاطنين في الجوار، أو لم لا تكون لضيف في انتظارك في البيت، فلقد كثر الضيوف الطارئون منذ عودته إلى البيت.

كاد يفتح بابها ليتأكد لولا أن تمالك نفسه وقال: إنهم يراقبونك لا بد أنهم يراقبونك. اثقل. و.. ثقل.. و.. نزل إلى القبو حيث أسيمة المنتظرة، ويبدو أنها كانت تتوقع عودته، أو أنها سمعت خطوه على الدرج، أو.. أن هناك من أبلغها بقدومه، فلقد فتح الباب قبل أن يقرعه وكان عليه أن يستقبل أسيمة في أحضانه تهنئه: لم أكن أعرف أنك على هذه القيمة لديهم. لم أكن أعرف.. تعال.. تعال. وجرَّته إلى الداخل ليجد دلال هناك: لقد أوصلت السيارة إلينا.. تصور.. وقامت دلال تحييه في ود، وأراد أن يمعن في ثقله فتساءل: أية سيارة.

ـ المرسيدس.. ألم ترها عند الباب.. ثم أطلقت صرخة نصر: لقد أصبحنا من المرسيدسيين.

وجاءه صوت علاء يصدي: المرسيدس للمرسيدسيين والبيجو للبيجويين.

ـ تعال.. تعال.. جرَّته من ذراعه، ثم أشارت إلى دلال.. تعالي. سنجربها، سنقوم بجولة في المدينة، ثم هتفت مداعبة: لا تقل لي إنها لم تعجبك.

كاد أن يندمج في اللعبة، ويمضي معهما في جولة في المدينة والمتنزهات المحيطة، فقد كان كل شيء بهيجاً حين رن الهاتف، وسارعت أسيمة للرد. وما كادت تسمع صوت المتحدث، وتقول: أهلاً.. حتى أعطت السماعة لياسين: إنه علاء.

وانطلقت الفكرة في ذهن ياسين كبرق. ما علاقة علاء بكل هذا؟ أيكون المسؤول عن استبدال السيارة؟ أتكون أسيمة من أخبره برفضه البيجو؟ ما علاقته بكل هذا؟ ولكن السماعة كانت بيده وكان قد رفعها إلى أذنه آلياً، وما كاد يقول: ألو.. حتى جاءه صوت علاء: الجماعة سعداء بك؟

ـ ماذا تعني؟

ـ ما قالوه عن تقدمك في السيرة جيد، وبالمناسبة، فحكاية الباشا وبناته الثلاثة مشوشة. اجعلها بنتاً واحدة، واجعل الضابط الشاب واحداً، وكأن علاء أحس باحتجاج ياسين فأضاف بسرعة: يجب أن يكون مولانا متفرداً.. ثم.. أضاف: سأتحول هذه المرة إلى ناقد. لا تنسخ الواقع.. اصنع واقعك الخاص، الأدبي.. لا تعتبر الواقع إماماً تقلده.. هه. ما رأيك.. أصلح ناقداً؟ وقبل أن يجيب ياسين المصعوق دهشة قال علاء: مبروك المرسيدس. إلى اللقاء. وضع السماعة. ناول ياسين السماعة لأسيمة. لاحظتا دهشته، حاولت أسيمة التغلب عليها، فأكملت ما كانت قد بدأته قبل هاتف علاء: هيا.. هيا.. السيارة والجولة. ولكن ياسين فحَّ: أقرأت ما كتبت في السيرة اليوم؟

ـ طبعاً. أفلم تطلب إلي ذلك؟!
ـ أنا؟ طلبت إليك ذلك.
ـ ليس اليوم، ولكنَّ بيننا اتفاقاً أنت من طلبه، أن أقرأ ما تكتب أولاً بأول.
ـ ولكني لم أُنهِ الفكرة.. تركتها لبعض الوقت في انتظار إكمالها.
قالت تغيِّر الموضوع: والآن؟ ألن نمضي في الجولة؟

مضى معهما، وحين اقتربوا من السيارة كادت أسيمة تسوق دلال إلى مقعد السائق لولا أن انزلق قبلها إلى مقعد السائق، فأعطته دلال المفاتيح، ومضوا بالسيارة. على الطريق تذكر علاء فجأة، وحين كانت المرأتان تشقشقان في سعادة.. ذكر أن كل ما يمكن لرجل أن يحلم به بين يديه، فها هي دلال المشتهاة تركب في سيارته.. ته؟..ته؟.. وضحك لقد صار صاحب سيارة. وها هي أسيمة بنت البندقدار إلى جواره.. بنت البندقدار.. أهي أسيمة فعلاً، بنت البندقدار؟ وصرخ داخلياً: ولكن لم تضع الشك والريبة في كل شيء. إنَّ كل ما يمكن له أن يبرهن على أنها أسيمة موجود لديها.. وهمس الشاكُّ فيه.. ودلال؟ فأخرسه: فلم يبق إلا أن تشكك في أن المرسيدس التي تركبها ليست بالمرسيدس، وأن لونها الأسود ليس بالأسود، وأن زجاجها المدخَّن ليس بالمدخَّن، وأنَّ.... ولمح امرأة في ملاءة سوداء تقف قرب الإشارة، وذكرها.. دلال الأخرى. قالت: لوِّح  بيدك لأعرف أنك تطلب لقائي، وسأتدبر طريقة ما للقائك.

ووجد يده تخرج من النافذة تلقائياً وتلوِّح للمرأة في الملاءة.. انتبهت دلال فهمست: ياسين إلى من تلوِّح؟ وقالت أسيمة: لا أرى أحداً ممن يمكن لك أن تلوِّح له.. إلى من تلوِّح؟

ضحك في ارتباك: ألوِّح؟ لا.. لم أكن ألوِّح.. كنت أجفف يدي المتعرقة. ثم أضاف: أتعرفان.. يبدو أن سواقة المرسيدس تربكني. أتريان كم أتعرق.

كان الليل قد حط، فاقترحتا المضيَّ إلى أحد المقاصف، ولكنه أجَّل ذلك إلى الغد.. وقال: نرجع إلى البيت.

كان منظر المرأة في الملاءة.. ـ أهي دلال فعلاً ـ قد نغص عليه بهجته. أمام البيت، وحين كان يرصف السيارة رآه، وصدم.. كان ابن الخال شاكر يقف في انتظاره. كان واضحاً أنه ينتظره، فترك المرأتين عند السيارة، ومضى إليه، وقبل أن يصافحه قال: لقد قبضوا على أبي..

ـ أبوك.. متى.. لماذا؟

نظر ياسين إلى المرأتين تتقدمان مندهشتين من وقفته مع شاكر في الثياب المهملة، رأتا حيرته، رأتا عناقه له، رأتا الكآبة تحل عليه، فتقدمتا، وعند تقدمهما استفاق ياسين من السحر، ومن تلويات الذاكرة. قال للفتى تعال، وشدَّه من يده ليبتعد به، ولكن دلال كانت أكثر جرأة من أسيمة: أكانت تعرف أن لها عليه دالة المعشوقة أكثر من أسيمة، صرخت: إلى أين؟ التفت إليهما وأشاح بيده أنه سيعود، ولكن دلال تعجَّلت، فصارت إلى جواره: وتتركنا؟ ما الحكاية؟

وصلت أسيمة، ولم تعرف الفتى، فلم يسبق لها أن لقيته. قالت بصوت خامد: ما الحكاية. إلى أين تمضي؟ ألم نكن نعدُّ لاحتفال؟

قال: لقد قبضوا على خالي.. ثم وضَّح الأمر: وهذا ابن خالي.

ـ هاه.. شهقت أسيمة. وقالت دلال: اعتقلوه؟ ثم متجاهلة: من؟ ولماذا؟
ـ سأرى الأمر.

وقالت أسيمة: لم لا تتصل بأصدقائك، أصدقائنا وهم يعرفون عن الأمر أكثر منك.. تعال..

شدَّتاه من ذراعيه، فاستسلم، ولكن حين نظر إلى شاكر، ورأى الخيبة والانكسار والحزن على وجهه ذكر قدومه المندفع على الموتوسيكل يعلن: لقد سألوا عنك.. ذكر اللهفة، وذكر التعاطف. وذكر الموتوسيكل والخال يخاطر بكل شيء وهو ينقله إلى بستان الأمان.. تصلَّب وقال للمرأتين: سأعود بعد قليل. لا بد ان أتحدث إليه.. ثم قال: وعلى أي حال اتصلا بأصدقائنا يستعلمون عما يعرفون عن القبض عليه. رأتا تصميمه، فوافقتا، ومضتا، وما كاد يتجه إلى حيث الفتى ينتظر حتى رأى على الجانب الآخر دلال في الملاءة السوداء، وكانت تلوِّح، فلوَّح، فانحدرت عن الرصيف لتقطع الشارع في اتجاهه. قال ياسين للفتى: انتظر هاهنا. سأتحدث إلى صديق، ثم أنضم إليك، ولوَّح لها لتنتظره على الرصيف، فعادت. اتجه إليها، وما كاد ينزل عن الرصيف حتى سمع عواء سيارات الشرطة، أعوذ بالله. من أين جاءت كل هذه السيارات، من الأمام، ومن الخلف، من اليمين ومن الشمال. طوَّقوا الرصيفين والشارع، واندفعوا وقبل أن يلتفت ليرى من يشده إلى سيارة الشرطة حيث كان ابن الخال ينتظره معتقلاً رآهم يعتقلونـ.. ها؟ لا يدري، فقد كان هناك عدد كبير من النساء في الملاءات السود ـ من أين نبعن، وقد أسدلن حجبهن؟ ولكنهم اعتقلوا كل من في الشارع، الرجال، النساء، السائقين، و.. الباعة الجوالين.

رمق المرسيدس المتوقفة على الرصيف وسيارات الشرطة تعوي به وبالمعتقلين الآخرين، ولم ير أسيمة ودلال. كان يتمنى لو أنهما رأتا ما حلَّ به، فلعلهما تتصلان بالأصدقاء لإخراجه من هذا المأزق. ولكنَّ الكيس الأسود تدلى على رأسه، وسمع صراخ ابن الخال الفتى يحتجُّ، فعرف أنهم ألبسوه الكيس الأسود، فعضَّه الأسى: لقد أرسلوا بابن الخال يستنجدون به لإنقاذ الخال الذي يعرف ياسين جيداً ألا ذنب له إلا أنه أخفاه وحماه فيما مضى، وها هو لم يكتف بأنه لم يستطع  إنقاذه، بل تسبب باعتقال الابن أيضاً، ثم دهمه السؤال الجارح: ودلال؟.. لم لوَّح لها لِمَ؟ ألم يفكر ولو للحظة أنه مراقب؟ ويمكن لمثله ألا يكون مراقباً؟ تدحرجت السيارة، وتدحرجت، وهو لا يعرف إن كان قد نام، أم أنه قد أغمي عليه.

توقفت السيارة بعنف. وجاء من جرَّه من ذراعه بقسوة، فمشى كالطفل مقوداً بيد الراشد ـ الحارس. كان معصوباً مكبَّلاً، عاجزاً عن أي فعل إلا أن يستجيب لأوامر الراشد: ارفع قدمك. درج.. انزل.. إلى اليمين.. توقف.

عرف أنه دخل إلى غرفة كبيرة، فقد كانت همسات كثيرة تتسرب إليه، عرف أنهم كثيرون، ولكن.. لم لا يسمع حديثهم؟

وقف مرتبكأً، حائراً.. والسؤال يلح: ما معنى هذا كله. ما معناه. أنا ياسين المدلل، مؤلف سيرة مولانا عنقاء الزمان هه.. لا بد أنها غلطة. سيدركون غلطهم سريعاً، وسيأتي كبيرهم يعتذر إلي.. ولكن.. دلال.. هل أستطيع التوسط للإفراج عنها، وخالك؟ وابن الخال؟ أعوذ بالله. كم من الناس عليك أن تتوسط للإفراج عنهم وأنت.. المكبل المعصوب.

سمع دبيباً قوياً يقترب منه، فتحفز: ماذا لو كانوا لا يعرفونك، فسلكوا معك كما يسلكون مع العامة، وضربوك؟ لا.. عليك أن تعرِّف بنفسك ولكن.. لمن؟ الجند العاديون؟ ولكن كيف يعرفونك، ولماذا؟ لست مطرباً، ولا ممثلاً شعبياً؟ وصرخ: ولكن يجب أن تعرِّف بنفسك قبل أن تمتد يد إليك.

سمع صوتاً قريباً منه يقول: فكوا قيوده.. وسمع صليل القيد الحديدي ينحلُّ عن رسغيه، ثم سمع الصوت نفسه يقول: الكيس! ورفع  الكيس الأسود عن وجهه، فصدمه الضوء الحاد، فأغمض عينيه وقد أوجعه الضوء. سمع الصوت يقول في حياد وعيناه مغمضتان: عطشان؟ فهز رأسه بسرعة، وما كاد حتى أحس يداً تضع في يده كأس ماء مثلج، فرفعه إلى فمه دون أن يفتح عينيه. كان الماء البارد سعادة عضوية محضة. سعادة تتسرب من الفم إلى الحنجرة، فالمري، فالمعدة، أعوذ بالله. كم مضى عليه في السيارة تتقلقل به حتى كان على هذا العطش.. ساعة؟ ساعتان؟ خمس ساعات.. سبعة؟.. ضيّق عينيه يخاتل الضوء المهاجم. كان ضوءاً مبهراً، ضوءاً جارحاً، ولكنه أكره نفسه، وتابع الفتح البطيء. إنه ضوء النهار. أهذا ممكن؟ لقد هاجموه واعتقلوه أول الليل، فكيف يكون الوقت الآن النهار؟ أتراهم سروا به الليل كله؟ أخذ الحارس الكأس الفارغ من يده، فاستطاع أخيراً أن يرى محدَّثه. كان ضابطاً صغيراً، ولكن الصرامة المرسومة على وجهه كانت تزيد في عمره. قال ياسين يحاول التعريف بنفسه: ياسين الأرفعي. ولكن الضابط انصرف عنه إلى آخرين عرف من بينهم ابن الخال شاكر المسكين. كان دامي الأنف.. أتراهم ضربوه؟ فتَّش بين الواقفين عن آخر يعرفه. الخال؟ ولكنه لم يكن بينهم.. وتمتم لنفسه: الخال في مجموعة أخرى.. هؤلاء هم القطفة الأخيرة. وفكر: دلال.. أتراهم اعتقلوها؟ وكأن الضابط عرف ما يدور في رأسه، فأشار إليه أن يتبعه، فتبعه.

قال ياسين: اسمع.. أنا لا علاقة لي بهؤلاء المعتقلين. أنتم ترتكبون خطأ. أنا ياسين الأرفعي. أنا مؤرخ السلطان وكاتب سيرة عنقاء الزمان.

ولكن الضابط الشاب استمر في تقدمه، ووجد نفسه مضطراً إلى اللحاق به. لم يستطع الصمت، فأكمل: ثم هذا الفتى، لم يفعل شيئاً. كان قادماً لزيارتي. فلم؟

التفت الضابط الشاب إليه في صرامة، ففهم أن عليه أن يصمت.. فصمت. كانا قد اجتازا القاعة الكبيرة بكل أولئك المعتقلين يحملون أكياسهم السود في أيديهم في انتظار وضعها حين يؤمرون بذلك. فتح الضابط باباً عبره، ثم توقف يدعوه للحاق به، فلحق به وهو يرمق ابن الخال شاكر في اعتذار. ولكنه ما كاد يعبر الباب حتى سمعهن. كن يشهقن ويبكين في صمت. كن عشرات النساء في الملاءات السود، ووجد نفسه يتفحصهن في حجبهن: ترى من هي دلال بينهن، وهل ستتعرف عليه. وصرخ الضابط: ارفعن المزابل السود عن رؤوسكن وشتمهن شتيمة قبيحة، فالتفت ياسين إليه يكاد يحتج، فمن أعطاه هذا الحق؟ من أعطاه حق شتيمتهن؟

رفع  البعض ملاءاتهن، وتململ البعض، ولكن زئير الضابط الشتّام جعلهن يرفعن حجبهن. تأمل ياسين المرأة الأقرب إليه منهن ورآها، فشهق جرح في القلب حزين، لم تكن دلال بل كانت.... ليلى. نظر إليها في الملاءة السوداء. من ألبسها هذه الملاءة، وما لها عادة بلبسها،  ومن أتى بها إلى المدينة في وضح النهار لتعتقل، وما لها عادة بدخول المدينة إلا ليلاً، نظر إليها، وكانت تحدِّق فيه في رجاء، في أمل، في عبادة، أتراها تنتظر الإنقاذ على يده أيضاً؟!!

تلفت ياسين من حوله يبحث عن دلال، ولكن ليلى في الملاءة السوداء شدَّته إليها. متى لبست الملاءة السوداء، كانت نظرة رجاء وشوق وحنين مذيبة تنسكب منها. كان نداء طويل خارج من عمق القلب يصرخ ياسين، ولكنها لسبب ما كانت تعرف أنها لا ينبغي أن تبادر بالتقرب منه، فالضابط والشرطيان والكيس الأسود ما يزال في يده يفسر كل شيء. بحث عن دلال.. أين هي؟ أين من كان السبب في كل هذه الفوضى والاعتقال؟ الآن فقط عرف أنهم ما كانوا يريدون سواها، الآن فقط أدرك أنهم جعلوه الطعم للقبض عليها. الآن فقط عرف أنهم فهموا التلويح أداة تعارف بينهما وكانوا ينتظرون تلويحته و.. كان ساذجاً، فلوَّح.. تنهد: يجب ألا يتعرف إليها. يجب ألا يدلَّهم عليها.. لا بد أنَّ لها شأناً كبيراً حتى طاردوها بهذه القوة.. وبآلية عجيبة كان مخه يعمل. إنها الوحيدة بين كل من يعرف التي تستطيع أن تعلن أنها مختلفة عن شبيهتها، وأنها الأصل وأن دلال النضرة التي طرحوها بين يديه دلال المزيفة وليست الأصلية، وماذا عن ياسين الآخر؟ لقد اختفى، ولا دليل لديك على وجوده، وأسيمة؟ أنت تعرف أن كل ملمح خارجي فيها يقول إنها أسيمة، ولكنك في الآن نفسه تعرف أنها ليست الأصلية. ليست الطائشة، ليست الفنانة، الكاتبة، الممثلة، الراقصة، فتلك كانت تفجُّر مواهب غير مكتملة، وأسيمة المعايشة، أسيمة الزوجة الراضية، المرضية، الـ.. سكرتيرة الملاحقة لإنجاز المطلوب منه في كتابة سيرة مولانا.

لقد اختفى الجيل كله، ولم يبق من دليل عليهم إلا هو ياسين، ودلال. أما ياسين غير المكلف بكتابة سيرة مولانا عنقاء الزمان، ياسين الشبيه اختفى، ولا يملك دليلاً على وجوده، وأما دلال؟ إنها الوحيدة التي استطاع رؤيتها ورؤية الشبيهة النضرة في وقت واحد. لذلك عرف لماذا يريدونها بهذه القوة، فهم يستطيعون إنكار وجود كل من يدعيهم، ولكنهم لا يستطيعون إنكار وجود دلالين.

لكزه الضابط بنعومة، فالتفت إليه، فأشار بذقنه يدعوه للسير إلى الأمام، فسار، وكنَّ قد رفعن حجبهن جميعاً، وكان بعضهن يعمد إلى رفع تنورة الملاءة تستر شعرها خجلاً، ولكن الحارسات كنَّ يسارعن إلى شدها إلى الأسفل. كان الضابط يمشي أمامه، والجنديان من ورائه. وكأنه في موكب تحرسه جوقة شرف، ولكن هذا الموكب كان يبتذله الكيس الأسود المتدلي من يده اليسرى.

كان بعضهن ينخدع بمشيته الواثقة، فينظرن إليه في أمل: ساعدنا أرجوك. والله لم أرتكب ذنباً، وكان بعضهن ينظر في تحد: افعلوا ما تشاؤون، فلن تروا عيني تدمع، وكان بعضهن تغضي خجلاً تتمنى لو تنشق الأرض وتبتلعها، فلا يرى هذا الغريب عريها. وبآلية للذاكرة عجيبة رأى فيهن الجَدة، ورأى حرصها على ستر شعرها.. ورآها والخجل يذعرها حتى أمام حفيدها حين انكشف شعرها مختلط الملح بالفلفل، و..

كانت غارقة في مستنقع الموت، وكان يعرف ذلك، وكانت تعرف ذلك وكان كل المحيطين بها يعرف ذلك. كانت تُضرب عن تعاطي الأدوية، فلا فائدة منها إلا أنها تطيل عمراً لم يعد من فائدة في إطالته، كانت وقد انتفخت بالاستسقاء، وتفسخت بالأكزيما، وتساقط أكثر شعرها بتأثير الأدوية الكثيرة التي كانت تجبر على تعاطيها، فتمتنع عن تعاطيها، وفجأة يهاجمها خوف ما كانت ولا كانوا يعرفونه فيها، فتهجم على الأدوية تبتلعها في شهوة ونهم ومبالغة وكأنها تعتذر منها أن تشككت بفاعليتها وقدرتها على إنجائها من مأزقها الذي دفعت إليه. كانت تصلي جالسة، وتصلي مستلقية، وتتوضأ بأيدي ابنتها وابنها، وإن كان البرد تيممت فقط. كانت تصلي كثيراً، وكان يراقبها أحياناً يتظاهر بالقراءة، ويراقبها.. يالقسوة الكاتب. كان يريد تسجيل تلك اللحظة، كان يقول: سيأتي وقت أحتاج فيه إلى تلك اللحظة أكتبها.. يجب أن أسجلها، أسجل كل تفصيل، وكل تردد، وكل خوف يمر بها.

اعتادت على وجوده إلى جانبها في آخر الغرفة، واعتادت عدم مدِّه يد المساعدة لها في وضوء أو صلاة، أو تناول دواء. قالت: طفل يخاف من هذا الحائم من حولي.. ولم تكن تذكر اسمه، ولكن الجميع كانوا يعرفون من تعني، ولكن حضور ياسين الدائم كان يؤنسها.. ترى هل خطر ببالها للحظة أن الولد جاسوس يراقبها ليكتب تقريره للحياة عن الموت.

كان الجميع قد يئسوا منه الولد التقي، فقالوا: ستصفعه الأيام ويتوب، وكانوا جميعاً يرددون المثل الذي جعل الفول الطبق الأشد تنفيراً في حياته. كانوا يقولون: سيأكل الفول ويرجع للأصول.. وأصر على عدم أكل الفول.

كان يراقبها تغني أغاني ما سمعها من قبل، وما سمعها تغني أصلاً.. أكانت أغاني الطفولة تعيد الطفو بعد إغراق طويل. وكانت أحياناً تنشد أناشيد دينية سمعها كثيراً. أناشيد في مدح الرسول وآل البيت، أناشيد تخاطب الإله خطاباً أشبه بخطاب المعشوقين من البشر، وحين كانت تطلق أناشيدها هذه، كان يحس شفاهه تستجيب في آلية تردد ما كانت الجدة تقول، وكان يراقب نفسه، وكان فيه حتى في تلك المرحلة المبكرة تمرد كاف ليسخر من سقوطه هذا.

لكن المشهد الجميل كان حين تدخل الأم حاملة الدواء أو الحساء، فلم يكن للجدة من قوة على أكل شيء أقسى من الحساء، فكانت تشارك الجدة في أناشيدها العشقية، وفي ذلك الحين بدأ السؤال يلح: لماذا كانت الأرامل الأكثر تديناً بين النساء.

كن ينشدن كما عرف حين تقدم به العمر، البردة، وكن يغنين لابن الفارض، وكان العالم غريباً تموُّت وغناء. نزع وأناشيد.. لمن كانتا تغنيان؟ وكيف ملك القسوة في القلب فلم يشاركهما ذلك الغناء؟

كانوا جميعاً قد يئسوا من ضمه إليهم، أو إليهن، وكان كل انضمام إلى صلاة يعني شجاراً وبكاء، ودعوات بالموت، وتهديداً بالغضب، أو اللعن الوالدي، وكان يسايرهن حيناً ويتهرب كثيراً. أكان قلبه مصمتاً إلى هذا الحد.

استمر النزع لأسابيع كانت الجدة فيها تذوب، تنحل، وتتشبح، وكانت قد ضؤلت حتى أن الطبيب حين حاول زرقها بإبرة اضطر إلى شكها خمس مرات ليجد الوريد، وكان ياسين الجاسوس على الموت يراقب في برود، ولكن يبدو أنه لم يكن على كل هذا البرود المدعى، هو يقول إنه لم يشعر بتعاطف، ولم يحسَّ بألم، ولكن سيسأل نفسه فيما بعد، فلم أغمي عليه وسقط، فتركوا المريضة، وحملوه إلى الخارج؟ لم أغمي عليه وهو يرى الجلد الممطوط واليد النحيلة تتقلب بين أصابع الطبيب تبحث عن وريد للزرق فلا تجد.

كان النزع قد طال والغناء يخفت والأناشيد تتحول لتصبح سماعيات ينشدها الأم والخال، وتتمتم بشفتيها الزرقاوين تتابع اللحن والكلمات، وكانوا جميعاً واثقين أنها تعرف إن أخطأوا، أو تخطَّوا بيتاً أو شطراً، فقد كانت ترفع كفها المتعبة أو تزمُّ شفاهها المزرقة.

فجأة أخذت بالتحسن، فصارت تأكل، وصارت تتشهى، وصارت تطلب الطعام، وأيقن الجميع أن الله قد استجاب لدعواتهم، وأنه ردها إليهم بعد أن وضعت قدمها على الدرجة الأولى للسلم الصاعد إلى السماء. أخذت تتحسن وأخذ الازرقاق يختفي عن الشفتين، وبدأت تهمس لهم أسرارها الخاصة، فاستيقظت الطفلة فيها تتحدث عن الأسرار الأولى للجسد، وخجلت الأم، فطردتهما هو والخال عن سماع أشياء منفرة كهذه.

وسيكبر، ويكبر الحزن معه أن لم يستطع البقاء إلى جانبها يتسمع ويتجسس على هذه المرأة القوية المتكبرة وأسرارها الصغيرة التي كان الجميع يعتقدون أنها قد تخطت هموم الجسد منذ وفاة الجد. كان قد سمعها قبل الطرد تتحدث عن متعة الخوف المنتظر منها ومن أمها للطمث الأول، وكان عليه أن يسأل نساء كثيرات عرفهن فيما بعد عن متعة الخوف والفرح في الطمث الأول، ولكن واحدة منهن لم تعطه الجواب الذي كان ينتظر سماعه. كان الخجل من الآخر، من الخصم، من المنافس، من الرجل حاجزاً دون الانفتاح أمام سر كهذا.

في مجلسه في الدهليز مصراً على التجسس تاركاً الخال شاكراً طرده من عذاب كهذا يهرب من البيت سمع كلمات متقطعة عن الرجل العذاب، الرجل الألم، الرجل الضعيف بعد العودة من الحرب، الذليل لا يستطيع اعتلاء امرأة، وتساءل: أتراها عرفت رجلاً آخر غير الجد.

لم يطل التحسن، ولاحظ أن الأم كانت سعيدة بأن التحسن لم يطل، فالتحسن لم يصحب معه إلا الانكشافات والفضائح والطفولة الثانية، أو العري من الخجل قبل الموت، لم يطل التحسن إذ هجم الألم الفظيع، الألم القاسي.. الألم الصراخ لا يفيد معه المهدئات ولا المسكنات، وفي ذلك الوقت اتجهت الجدة إلى الخال الحبيب الدائم والصديق المقرب، وطلبت إليه إن كان يحبها أن يقتلها، فلم تعد تحتمل هذا الألم، والغريب أن الخال نفسه حدثه عن جوابه لها حين قبَّلت يده طالبة قتلها. قال: أنا على استعداد لإرضائك، على استعداد لإراحتك من الألم إن كان هذا ما تطلبين، ولكن.. أنت تعرفين.. لو فعلتها فسيكون مكاني جهنم خالداً فيها.. أتريدين لي أنا وحيدك المحب نهاية كهذه. وسيحدثه الخال أنها عندئذ ارعوت وتماسكت، وضمَّته إليها مقبلة، ولكن موجة ألم أشد وجعاً هاجمتها ثانية، فصرخت تخاطب الله والرسول والأنبياء والأولياء، تطلب الموت، ولا موت.

في تلك اللحظة دخل ياسين الغرفة.

نظرت إليه.. تأملته، ثم دعته إليها. اقترب.. طلبت إليه الانحناء ليسمعها، فانحنى. قالت: حبيبي. أريد منك معروفاً، فقال في أريحية: اطلبي.

قالت: أنت ماض إلى جهنم. ماض.. لا خيار لك في هذا فضحك..

قالت: لا تضحك. أنا أتمزق. الألم يعذبني. اقتلني إكراماً لله.

* * *

كان يستعرضهن وهو يعرف أنه سيجحد دلال لو رآها كما ستجحده، وكان يعرف أنه لا يجوز أن يقدِّمها لهم، فهي دليله الأوحد على أن عالمه السابق كان حقيقياً، وأنه ليس عالماً روائياً اصطنعه لإرضاء نزعة فنية فيه. لحق بالضابط يستعرضهن. كنَّ كثيرات فيهن الخارقة الصبا والجمال والخجل، وفيهن العجوز والنَصَف ولكن.. أعوذ بالله.. دلال لم تكن فيهن، لم تكن فيهن. فلم اعتقلوا كل هؤلاء النساء. إذن. إنها ليست فيهن، فمن تلك التي لوَّحت له، ومن تلك التي لوَّح لها، ومن تلك التي أرادت العبور إليه، ومن تلك التي أشار إليها أن تنتظر، فسيعبر الطريق إليها حين انبثقت سيارات الشرطة من حيث لا يدري أحد.

كان قد وصل إلى آخر الصف الطويل من النساء و.. لا دلال. استدار. كان الأمر شخصياً. صار الآن شخصياً. يجب أن تكون بينهن. سيجحدها، ولكن عليه أن يلقاها أولاً. كان يثاقل الخطا في عودته يستعرضهن ثانية، يستعرض خجلهن وتحديهن، وانكسارهن، وللحظة تساءل: هل يجرؤ على النظر في عيني ليلى حين يلقاها، وهي تطلب النجدة، وترجوا العون؟ هل يجرؤ. تسارعت خطاه يريد إلقاء نظرة عليها قبل أن يخرجوه من القاعة، فقد عرف أن دوره انتهى، وأنهم لم يعودوا في حاجة إليه. فلم يتعرف إلى دلال، ولم يستطع الدلالة عليها. اقترب من الموقع الذي رأى فيه ليلى، وأسدل على وجهه قناع البراءة واللامبالاة ولكن.. اقترب منها وتنحنح. فالتفتت المرأة في الملاءة السوداء إليه، و.. لم تكن ليلى.. غير معقول.. رآها.. منذ قليل، في التفقد الأول، فكيف اختفت.. سارع من خطواته يتفحص الباقيات، ولم تكن بينهن. التفت غير مكترث للضابط والحارسين، وعاد يتفقد النساء في الملاءات السود، ولكنها اختفت. تفحصهن جيداً. لم تكن فيهن دلال، ولا ليلى.

وأحسَّ يد الضابط الصغير تربت على ذراعه تطلب إليه اللحاق به إلى خارج القاعة، فتبعه كسيراً. حائراً. غير فاهم، أتراهم قبضوا عليها. كيف. كيف فعلوا ذلك، وهو من حاول التصامد، وهي؟ إنها لم تنطق بكلمة، بأنَّةٍ. فكيف عرفوها. أتراهم قبضوا عليها. أم.. أنها لم تكن موجودة أصلاً، وما كانت رؤيتها إلا وهماً.

عند الباب التفت مفاجئاً الضابط والحارسين بحركته غير المتوقعة يبحث عنها للمرة الأخيرة. تمالك الضابط نفسه فجأة، وأمره بوضع الكيس الأسود، وحين تردد قليلاً انقض أحد الحارسين، فألبسه الكيس الأسود وشدَّ رباطه حول رقبته، و.. اسوَّد العالم.  

(28)

كان فخاً حقيقياً، وكان عليه وهو يعرف الناس الذين يتعامل معهم أن يعرف أنه الفخ، ولكنه ببساطة وقع فيه. كان المكتب فخماً.. الأرض المفروشة بالسجاد العجمي. حتى في الصيف؟ ولكنَّ المكيف أحال المكتب من الصيف إلى الربيع، وبلمحة سريعة إلى المكتب عرف أنه من الخشب الماهوغنا.. هه.. إنهم يدللون أنفسهم، رمق الهواتف المنشورة فوقه واللوحات الزيتية على الجدران، تأملها بسرعة. إنها لأصدقائه.. إنه يعرفها، ويعرفهم، فلطالما كتب عنها، وعنهم.. وتنهَّد ركن في القلب: ما أخبارهم.. لِمَ لم يلتقِ بهم منذ عودته من المنفى. قال له الضابط الشاب وقد استحال وجهه إلى بشاشة واحترام وألفة. تفضل يا سيدي. إنك في مكتبك. ولم ينتظر جوابه، بل أدى التحية العسكرية، وانصرف.. مكتبي؟ مكتبي.. آه.. لقد عرفوا أخيراً.. اكتشفوا خطأهم.. هناك من اتصل بهم، وأخبرهم أنه ياسين الأرفعي كاتب سيرة مولانا تنين الزمان، وأن مثله لا يعامل بهذه الطريقة. أراد أن يسأله، أن يستفسر منه، أن يطلب إرسال شيء من القهوة، المياه الباردة.. آه.. الطعام.. هو لم يأكل من ذ.. منذ. أعوذ بالله منذ الغداء مع علاء.. ولكنَّ الباب انغلق دون صوت.. أسرع إلى الباب يريد اللحاق به، ولكن الباب كان موصداً بإحكام من الخارج.. ما الأمر.. (إنه مكتبك يا سيدي) ثم.. يتحول المكتب إلى غرفة سجن!!! ما الأمر. صرخ في غضب.

عاد إلى المكتب، ورأى أوراقاً وأقلاماً مرصوفة فوقه:

ـ هاه.. إنهم يريدونك أن تعمل.. ها هي الأوراق والأقلام.. أنت مكلف بمهمة، ولكنك لا تقوم بها، وها أنت تتلهى بملاحقة دلال.. و.. دلال.. و.. ليلى.. ليلى؟.. ليلى؟

تنهد وهو يجلس إلى كرسي المكتب.. ليلى.. قالت: أريدك.. خالصاً لي.. أرجوك.. كن لي.. خالصاً، كما أنا خالصة لك.. دع التفكير فيهم.. لن يجلب التفكير فيهم إلا التنغص والإحساس بالندم. واضطر إلى الاعتراف: أعطيني فرصة أخرى أراهم في مباذلهم وأخلص منهم لأخلص لكِ. قالت تتنهد وهي تعرف ألا خيار كبيراً أمامها: امض.. اختبر نفسك.. وحين تعود سأعرف أنك الخالص.. و.. مع الغروب مضى معهم، ومع العتمة.. مضى إلى.. البيت.

* * *

انفتح الباب دون صرير ولكنَّ هشيم صوت، أو اختلاط ضوء ما جعله يلتفت ليرى الضابط الشاب نفسه يدفع عربة صغيرة، وقد جللت بأطباق اللحوم والسلطات، و.. زجاجة وسكي. حاول ياسين أن يتثاقل، ويتجاهل، ولكن رائحة الطعام النفاذة بعد جوع اكتشف حدته الآن جعله يُخرِس احتجاجه وتثاقله. اقتربت العربة من المكتب. أزاح الضابط بعض الهواتف جانباً، ثم دفع الصينية حاملة الطعام عن العربة، فانزلقت إلى سطح المكتب.

ـ تفضل.

قالها الضابط الصغير، ثم انسحب كشبح، وانغلق الباب من خلفه كمزحة.

كان فخاً حقيقياً، ولكن كيف له أن يدرك أنه الفخ وهو من كان يعتقد أن كل ما جرى ويجري ليس إلا خطأ بيروقراطياً من أناس لم يعرفوا أنه ياسين الأرفعي كاتب سيرة مولانا السلطان، وها هم يعيدون إليه اعتباره: (إنك في مكتبك يا سيدي) آه.. كم حنَّ، واشتاق، وتشهّى، وانتظر أن يسمع مثل هذه الكلمات. قال له علاء: يجب أن تريهم كيف يكون المدير العام.

تأمل المكتب الفخم، إنه أكثر فخامة من مكتب علاء: (إنك في مكتبك يا سيدي).  جرَّب بعض الهواتف. فرنَّ واحد، وطقطق آخر، وسارع إلى وضع السماعة في مكانها: (إنك في مكتبك يا سيدي).

كانت الأطباق شهية، وكان الجوع قوياً، وكانت روائح المشهيات نفاذة، فانقض بشهية من لم يذق طعاماً منذ الأمس، أكل، وأكل، ولكنه لم يجهز على أكثر من ربع الطعام الفائض. رمقه في أسف، و.. لمح زجاجة الوسكي.. كانت تنتصب في إغراء.. نظر من حوله في ريبة: أهناك من يراقبه.. اطمأن.. لا رقيب. صبَّ لنفسه كأساً مضاعفة.. أضاف إليها الثلج.. جرع جرعة كبيرة، وشعر بالدبيب يغزوه مباشرة. فاسترخى ماداً ساقيه على طولهما. لمح علبة السيكار القريبة، ولم يكن من عادته تدخين السيكار إلا أنَّ الغرفة المكيفة والمقعد الوثير بعد يوم من سفر في سيارة مزعجة وكيس أسود يطبق على الروح، وبعد الطعام الشهي، ودبيب الوسكي جعله يتناول سيكاراً من العلبة الخشبية. أشعله وأمعن في استرخائه.. رشف رشفة طويلة من الوسكي، وأدركته سعادة أن العالم لذيذ ولا أهمية لشيء.. لا أهمية لوجود السجون والحراس والسجانين والكيس الأسود. العالم لذيذ.. تمتم لنفسه في متعة: العالم لذيذ، ورأى أن يلحِّن الجملة: العالم لذيذ، ثم تذكر مثيلتها: الحياة حلوة بس نفهمها. آه كم هو في حاجة إلى فهمها. ما له ولدلال، وللحمقاء ليلى.. عدوة القُبلان، وللخال الأبله رافض التعامل مع الحكومة بمالها الآثم من مهور العواهر ومكوس المكاسين. رشف رشفة أخرى، وشعر بالخفة تغزوه، خفة لم يعرفها منذ تلك الليلة البهيجة التي كان ينتظر فيها مع أصدقائه وصول القرار بتعيينه مديراً للدعاية والأنباء. إيه.. تلك الليلة التي تلاها كل سوء الحظ الذي عرفه منذئذ.

شهق نفساً من السيكار الغليظ، فاختلطت المتع معاً، الطعام الرخي، والشراب المدبُّ، والدخان المُرخي. وأعاد تمتمة الأغنية المعروفة: العالم لذيذ.. بس نفهمه. وأعجبه التحوير.. نعم.. العالم لذيذ إن فهمنا متعته، وفرحه، وبهجته، وسعادته. رشف رشفة كبيرة، ثم التقط قطعة لحم. يا إلهي.. ما أطرى هذا اللحم. كيف يجعلونه على هذه الطراوة.. كيف؟ قلَّب في الأطباق أمامه، ولم ينتبه إلى الباب يفتح، ولكن الحركة التي سببها الجسم الداخل في الضوء والظل لفتت نظره لأنه رفع رأسه ورآها.. كانت ليلى في ثياب دلال، وزينة دلال، وسفور دلال، و.... شهق: ليلى.

نظرت إليه من علٍ، نظرت في حزن لا ينسجم أبداً مع الثياب والزينة والبهرجة التي تضعها.... لم تقل شيئاً، ولكن النظرات كانت تقول كل شيء. أنت منهم إذن؟ وفهم ما معنى منهم. أنت من القتلة إذن. أنت من القُبلان، أنت من أبناء الدم؟ أنت من الذين سيجهزون علينا الإجهاز الأخير.

لسعه السيكار بين أصابعه، فطرحه على الصينية، وانتصب.. أراد أن يعتذر إليها، أن يشرح: أنا لست منهم.. صدقيني، ولكنه على عادته القديمة نظر إلى نفسه بعينها، فرآه كما تراه الآن وراء مكتبه الفخم، وأمامه اللحوم والسلطات والوسكي والسيكار الفخم. أراد أن يقول إن كل هذا مستعار.. لقد دفعوه إليه وهذا ليس مكانه، أراد أن يقول إنه معتقل مثلها، ولكنَّ نظرة الفجيعة والجرح والألم العميق في عينيها أخرسه، فمضى إليها. قال: لا تصدقي ما ترين.

ولكنها لم تجب، بل اتجهت إلى الستارة البيضاء فمسحت الألوان والأصباغ والأكحال عن وجهها، نزعت الثوب الفاضح عن جسدها غير مبالية بنظرات اللوم في عينيه، ولكنها قبل أن تكمل إزالة تنكرها الذي فرضوه عليها كما فهم منكسراً انفتح الباب، ودخل جنديان خشنان، فجرَّاها بقسوة. لم تصرخ، ولم تستنجد بزوجها، حبيبها الذي غذته بدمها كما كانت تعلن، لم تستنجد بمن عمَّدته بالبياض بعد غرقه بالسواد لتنقذه لها. بل رشقته بنظرة لوم مفجوعة، ومضت معهما في صمت.

لحق بها، ولكن الباب انقفل، تماماً كما توقع، وعاد إلى (إنه مكتبك يا سيدي). 

(29)

نزل من السيارة مشفوعاً بابتسامة محايدة دون كلمة وداع. وما إن استقرت قدماه على الأرض حتى انطلقت السيارة لتختفي وكأنها لم تكن. تنهَّد، واتجه إلى البيت حائراً، وكانت المفاجأة أنه رآهما عند أول الدرج تماماً. أعوذ بالله.. أسيمة ودلال.. كانتا تتجهان إلى الدرج الهابط إلى البيت.. نظر إلى المرسيدس، ما تزال في موقعها سوداء لماعة منادية متطلبة كأنثى تضج بالإغراء. ما الذي يجري. تأمل الشارع.. الناس كما عهدهم دائماً في رواحهم وغدوهم يحملون أكياس خضرهم وفواكههم، يحملون مصنفات ودوسيهات شكاواهم وقضاياهم ومنازعاتهم، يحملون العبوس على وجوههم كهولاً مهمومين،  مفزوعين، منطوين على أنفسهم.

نظر إلى الرصيف ليرى ابن الخال. كان واقفاً في مكانه، فاتجه إليه يستفهم منه، ولكن الشاب انطلق مبتعداً وهو يشيح بيده، فصرخ: شاكر، شاكر، التفت الفتى إليه، ثم لوَّح  في سأم، وانطلق مبتعداً. حاول أن يجري ليستوقفه ويستفهمه، ولكن الفتى اختفى في الزحام. توقف حائراً، ما الذي يجري؟ كأن الزمن لم يتحرك.. كأن سيارات الشرطة لم تحاصر المكان وتقبض على الجميع، وكأنه لم يُحمل إلى التحقيق، ولم ير ليلى، ولم ترمقه بتلك النظرة المهينة الجارحة المدينة.

أهذا ممكن؟.. أكلُّ ما عاش في اليومين السابقين وهم؟ نظر إلى الجانب الآخر من الشارع مرعوباً، حذراً، متخوفاً من رؤية دلال على الجانب الآخر تلوِّح، و.. لكنها.. تنهد.. لم تكن هناك، ولم تلوِّح، ولم يلوِّح.. والسيارات تنساب، والزمامير تختلط، والغروب يحطُّ، فاتجه  منكسراً، حائراً، مشوشاً إليهما في البيت.

يقولون إن الفن يقلد الواقع، ولكن أيمكن للواقع أن يقلد الفن.. وتنهد.. ما يراه ويعيشه أشبه بفيلم سينمائي. إنه أشبه بما يسمّونه بلغة السينما بالستوب كادر، وقد عاش ليوم أو يومين في ذلك الفراغ المسمى بالستوب كادر. أهذا ممكن، أن ينزلق عبر الزمن بهذه الطريقة ليعيش حياة كاملة، ثم يكتشف أن الحياة خارجه لم تكن تسير على الوتيرة نفسها،  بل كانت متوقفة، متوقفة تماماً. فهذا ابن الخال الفتى شاكر ما يزال في موقفه. وقد سئم من قدرته على المساعدة، فمضى، وها هي دلال التي سئمت من تلويحته التي انتظرتها لتعبر إليه اختفت. وها هما المرأتان اللتان أحبَّ تنزلان الدرج وكأن الزمن لم يمض، ولم يتحرك.. تنهد.. وليلى؟ و(إنه مكتبك يا سيدي)؟.. والفخ الذي وضعوه فيه ليتعرف إلى ليلى.. أكان كل ذلك هلوسة، أم كان الفراغ المنزلق بين زمنين.

وصل إلى الدرج، نزل مهموماً، سمع شوبان ينزلق من الباب المفتوح. لم كان الباب مفتوحاً؟ أكانتا تنتظرانه؟ بالطبع.. أفلم يستأذن منهما للحظات حتى يكلم شاكر، ولكن.. تقدم.. المطرقة النحاسية تغريه بتحسسها والطرق بها على الباب، ولكنه أنزلها دون أن يقرع الباب المفتوح. شمَّ رائحة العشاء في الصالة، أهما تستعدان لاحتفال ما.. أهناك مدعوون آخرون؟ صحيح.. دلال قالت: سنقيم احتفالاً. ولكن.. وليلى؟ والغداء الفاخر؟ والوسكي؟ والسيكار؟ رفع إصبعيه فجأة إلى أنفه لتصفعه رائحة السيكار القوية. صدم. إذن، فلم يكن الأمر هلوسة، ولكن.. لقد كانتا واقفتين حيث تركهما. والمرسيدس في موقعها بالضبط، وشاكر.. المنتظر حتى السأم في موقفه. ما الحكاية؟ شمَّ إصبعيه ثانية.. رائحة السيكار النفاذة لا تخطئ، وانبثقت دلال في مدخل الباب بهجة وصبا ومتعة ونضارة.

قالت: هيا.. وشدَّته من ذراعه. ما الذي أغراها بإطفاء البيك أب. وتشغيل المسجلة ليسمع فريد الأطرش يغني الحياة حلوة، بس نفهمها.. الحياة غنوة.

ـ بس.. صرخ.

وكانت دلال تتمايل مع أنغام موسيقى الحياة حلوة، لم تعبأ بصراخه، فقد كانت تعرف أن لها عليه دالة، وأنه لن يغضب منها غضباً حقيقياً، بس صرخ في ضعف: كيف عرفت أنه كان يغني لنفسه هذه الأغنية قبل ساعات: بس.. همس، ولكنها شدَّته من يده ليشاركها الرقص

ـ لقد وعدتنا باحتفال.. هيا من شان الله. دعنا نحتفل. أنت اليوم تقوم بخطوة كبيرة في حياتك.. هيا.

رفع إصبعيه ليشمهما، ولكنها منعته، وهتفت: أسيمة.. ياسين يريد أن يغسل يديه.. تعال. وشدته إلى الحمام. حاول أن يقاوم:

ـ لا.. لا.. لا أريد غسل يدي.
ـ لا.. بل ستغسلهما. معك حق.. السواقة توسخ اليدين.

أراد أن يمتنع. كان جزء من عقله  يعرف أن رائحة السيكار في إصبعيه هي الدليل الأخير والوحيد على أن ما جرى بالأمس لم يكن هلوسة، سمعوا صوت الخطوات على الدرج، وصراخ علاء: هيه ياسين. هل بدأتم الاحتفال؟ لقد جئنا.

وانساق أمامها إلى الحمام حيث سكبت الماء على يديه، ووضعت الصابون في كفه ليغسلهما. كانت دافئة طرية مغرية، متطلبة، وكاد ينحني عليها يقبلها لولا أن ضجتهم أخجلته. كانت تغسل يديه. نظر إلى الماء ينسكب في المغسلة مع الصابون وعرف أن رائحة السيكار دليله الوحيد على ما جرى في اليوم السابق ينزلق إلى البالوعة مع الماء والصابون. 

(30)

هدلت يمامة قريبة نبهته إلى أنه الصباح. فتح عينيه. كانتا مثقلتين بنوم لم يهنأ به، فعلى الرغم من أن السهرة طالت حتى ساعة الفجر، وأن الساهرين لم يمضوا إلى بيوتهم إلا بعد سماع الأذان، وعلى الرغم من نعاسه وتعبه، وتمنيه مضيهم إلا أنهم كان لهم مشاريعهم الاحتفالية الخاصة، فثرثروا حول كل شيء، حول التعديلات الوزارية المرتقية، حول التبادلات في مناصب المديرين العامين، حول صفقة السيارات الجديدة وعلى من ستوزع، وكان ممتاز غاضباً،  فعدد السيارات المستوردة لن يكون فيه حصة إلا للمديرين العامين الأقوياء، فهي لا تكاد تكفي الضباط الكبار، وبعض المديرين الأقوياء إلا بصعوبة.

حاول ياسين حرف الحديث إلى عملية الاعتقال الكبيرة التي كان أحد ضحاياها، ولكنهم قلبوا شفاههم في ملل، ولم يستجيبوا لتحريضه، بل صاح علاء ساخراً: أي اعتقالات. هذا جنون. لا اعتقالات في البلد. صدقني، وعاد الحديث إلى مجراه السابق حول أفضلية السيارات آلية التنقيل بين السرعات، والسيارات يدوية التنقيل، ثم إلى المكابح الآلية، وأكياس الحماية الهوائية. كانوا كنزاً من المعلومات، وأخذت دلال تتقرب منه بكرسيها، ثم همست: الجو حار. سأخرج إلى الحديقة. ولمست يده بخفة داعية. أعوذ بالله كم تملك النساء من آليات لإيصال الرسائل.

نظر إلى أسيمة في تأثم واعتذار إلا أنها كانت منصرفة عن الأمر كله في غير اكتراث. نظر إليها. كانت ما تزال تقف في المستطيل المعتم للحديقة مظللة بنور الصالون. التفتت في خفة، وكانت نظرة مشبعة بالدعوة، فخرج، والتفت إلى ملك، وإلى ثريا، وإلى.. ولكن واحدة منهن لم تكترث، وسيسأل نفسه: إن كنَّ جميعاً متواطئات على هذا، ولكنه ليبوسة في الرأس استرخى في مقعده، ولم يلحق بها. لم يكن التعفف ما منعه ولكنه الحس باللياقة. سيكون حديثهم بعد انصرافهم من بيته. سيصبح تسليتهم. بعد الكبرة جبة حمرا؟  نظر إليها في منامها. إنها أسيمة في كل تفصيل من تفاصيل الوجه والشعر والاسترخاء، بل التنفس الأقرب إلى الشخير الناعم، ولكن.. لا.. أسيمة كانت كتلة من نار وغيرة. كانت لا تستطيع تصور أن يخونها ولو في الحلم، كانت لا تحتمل نظرة، مجرد نظرة منه إلى امرأة أخرى، وكانت كثيراً ما تمسك بوجهه إذا لاحق امرأة بنظرة، فتعيده إلى الأمام متظاهرة بالمزاح، ولكنها كان يعرف ذلك كانت تعنيها. لم تكن تحتمل مجرد النظر إلى أخرى.. و.. كيف إذن تجاهلت دعوة دلال الصريحة للحاق بها إلى الحديقة الباحة و.. كيف سمحت لها بالنوم في بيتهم.

تنبه فجأة متوتراً.. تنبه بكامل توقد أعصابه.. إنها في البيت. عندهم. لم تستطع المغادرة، فقد شربت أكثر مما يجب،  وكان كل شيء يشي باستحالة مضيِّها إلى بيتها، فعرضت أسيمة عليها المبيت لديهم. تنهَّد مرعوباً. أعوذ بالله. إنها في البيت. في الصالون.. تهيَّج.. دلال الوعد المغري، المتشهي.. المتطلب.. تنام في بيته. و.. على مبعدة ذراعين منه. شكَّ في الأمر، لا بد أنها كانت مزحة، أو لعل الأمر واحد من هلوساته.. انسلَّ من السرير. راقب أسيمة. كانت ما تزال على استغراقها في النوم. وتنفسها الهادئ الخليط من تنفس وشخير ناعم. انسلَّ من الغرفة إلى الحمام، تعمَّد ألا ينظر إلى الصالون، تعمَّد ألا يتأكد إن كانت تنام في الصالون، كان يخاف المواجهة، ماذا إن كانت قد كشف النوم جزءاً من جسدها، وهذا طبيعي، كيف سيتصرف لو كانت في تقلبها قد كشفت جزءاً من ساقها، أو.. فخذها، أو صدرها. هل يستطيع تحمّل ذلك. دلال المشتهاة في بيته، صالونه، حاسرة عن بعض من أسرار جسدها.

تسلَّل إلى الحمام، أغلقه بإحكام. تنظّف، حلق لحيته، وضع بعضاً من سائل ما بعد الحلاقة و.. كان يعرف أنه قد أطال المكث في الحمام، ولا بد له أخيراً أن يخرج، فخرج. حاول أن  يتجه إلى غرفة النوم يتحاشى الصالون، ولكنه أحس بسخف ما يفعل، فلم يفعل ذلك؟ أهو فعلاً لا يريد رؤيتها نائمة. هه.. وماذا لو كان بعض جسمها الذي طالما اشتهاه مكشوفاً لناظريه.. هه.. سيكون في ذلك مزيد من البهجة. اتجه إلى الصالون، ليس بنظره، بل بكامل جسمه، ولم تكن مفاجأة كبيرة حين رآها نائمة.. كان الغطاء قد انحسر عنها، وسقط إلى الأرض، فتبدت في قميص نوم أسيمة الضيق عليها أكثر إثارة، كانت أعضاؤها.. البطن والصدر، والثديان متوثبة في قميص النوم الضيق. اقترب منها وهو يعرف أنها وقد غازلته بكل ذلك الإلحاح في الأمس لن تتضايق لو فتحت عينيها ورأته يحدق في عريها. اقترب منها، ورأى وجهها. لم تكن دلال النضرة.. إنها دلال المتقشفة.. البشرة الناشفة والعينان مجعدتا الزوايا وبعض الزغب على الشارب.. أيمكن.. أهي لعبة الكراسي الموسيقية، منذ ساعات قليلة كانت دلال النضرة، فكيف عادت دلال المتقشفة وإذا كانت دلال النضرة هي دلال المتقشفة، فمن هي تلك التي كانت في الملاءة السوداء، والتي دسَّت في يده الرسالة، وطلبت منه التلويح لها إن كان يريد لقاءها.

من.. من..

عاد إلى غرفة النوم، وكان التنفس الخليط بشخير خفيف، والشعر الأسود القصير المسترخي على الوسادة. كانت أسيمة، ولكن.. أعوذ بالله أأنا في طريقي إلى الجنون إذن؟ أسيمة.. دلال.. هاه ليلى.. إنها الوحيدة التي لم تتغير، ولا بديل لها.. فجأة انبثقت الفكرة.. ليلى والجزيرة ولكن.. ذكر أنها كانت معه في المعتقل، فهل أطلقوا سراحها كما أطلقوا سراحه. لا بد أن الأمر كذلك. يجب أن يكون كذلك. لا يمكن أن يكون غير ذلك. كان يكرر، ويلحُّ، وكأنه يقسر عقله على تنفيذ ما يرغب أن يكون.

تنهد.. قالت: تعمّدتَ بالسواد، فعمَّدتك بالبياض لتكون لي.
قال: لا بد من تعمُّد جديد بالبياض، فقد غرقت.. بالسواد.
قالت: تعال.. وسأغذوك بدمي الأحمر لتكون لي خالصاً.
قال: إنها الدليل الأخير لما قبل الجنون.
توقف. وماذا إن لم تجدها. كيف ستجيب على أسئلتهم لو سألوك عنها.
توقف حائراً، ولا جواب.

تأمل المرسيدس السوداء، كانت تدعوه، تنهّد ثانية. سأراها.. سأراها، ولكن.. ماذا إن لم تكن هناك؟ تنهد ثانية:  يكفي أن أراهم. أليس هذا كافياً. إن مجرد رؤيتهم دليل على أن عالم ليلى حقيقي، وأن ما أعيشه الآن ليس الحقيقة الوحيدة.

تقدم من المرسيدس.. لا.. لن يتفقا.. ليلى والمرسيدس متنافران. هنالك.. فاصل كبير بينهما.

ركب تاكسي، وطلب إليه المضي إلى الساحة المركزية. نزل في الساحة المركزية.. ركب تاكسي آخر، طلب إليه المضي إلى باب المدينة الغربي. نزل، استأجر تاكسي آخر، وكان يراقب في مكر السيارات من ورائه.. لا.. تنهد ليس هنالك من يلاحقه. نزل عند الباب الشرقي. ركب سيارة باص، وجلس في المقعد الأخير وعيناه على السيارات التالية. تنهد في ارتياح. لقد ضللتهم.. إن كانوا يلاحقونني. نزل من الباص. مشى على الطريق القديم الذي طالما مشى عليه مع ليلى يحملان طعامهما وفواكههما والسكائر التي تعلمت تدخينها مسايرة ومجارية له. مشى والشمس تتخذ طريقها إلى كبد السماء. فجأة انتبه إلى أنه مشى ما يكفي للوصول إلى المستنقع، ولكن لا رائحة للبيض الفاسد. ما الحكاية. أتراه أضاع الطريق؟ لا. لا يمكن.. لقد اجتازه مرات كثيرة معها، وبدونها.. ما الأمر؟

توقف قليلاً يتأكد من صحة اتجاهه.. لا.. كان على الطريق الصحيحة.. ها هي مزرعة الجوز هناك، وها هي السنديانة العجوز على الجانب الجنوبي. وإذن، فأين المستنقع، وأين الجسر؟ مشى.. ومشى.. وغابت مزرعة الجوز، واختفت السنديانة العجوز، ولكن لا مستنقع ولا جزيرة.. ما الحكاية؟ توقف.. نظر إلى الخلف، إلى حيث مزرعة الجوز، وإلى حيث السنديانة، إنها مسافة تزيد على الثلاث مئة متر.. يجب أن يكون المستنقع هنا، ويجب أن تكون الجزيرة هناك على بعد خمسين أو مئة متر. أمعن في السير. كانت الأرض قاسية، فحصها بقدمه. إنها تربة من حصى وركام، فحصها ثانية، أمسك بغصن شجرة ونكتها. لا.. ليست أرضاً زراعية، لا تراب، ولا أعشاب. إنها ركام ورديم بيوت قديمة، ولكنها قاسية، ألعلها ديست بالمداحل. مشى يميناً ومشى شمالاً، مشى إلى الأمام ومشى إلى الوراء، لا عشب برياً، ولا شوك، ولا شجيرات، بل مساحة من الردم الممهد، ولكن لا بيوت، ولا عشش، ولا خيام، ولا نحن أعداء القُبلان، ولا ليلى.. أيمكن هذا؟

أعاد السير، وابتعد عن مزرعة الجوز، كان يصر على اكتشاف أثر.. أي أثر لذلك المجتمع، لأولئك الناس، لتلك الحياة التي ضمته وليلى لشهور، ولكن لا أثر.. بلقع من ردم ولا شيء آخر، لا أثر ـ تنهد ـ لا أثر.. لقد اختفى كل شيء. اختفى آخر أثر يمكن أن يوصله لليلى. أعوذ بالله.. كأن هناك من يعابثني ويسرق مني كل أثر، أو دليل على حياة عشتها خارج إطار أسيمة والشلة وكتابة السيرة. انحنت الشمس للغروب، فاستند بظهره إلى صخرة قريبة، واسترخى يرتاح ويراجع ما مرَّ به منذ حصار سيارات الشرطة والقبض عليه فيمن قبض عليهم، وحمله إلى حيث النساء المحجبات، وإعادته وكأن شيئاً لم يكن. فهو لم يعتقل، ولم ير ليلى، ولم يحمل إلى (إنه مكتبك يا سيدي) ولم يشرب ذلك الوسكي، ولم يدخن السيكار.

رفع أصبعيه يشمهما، وأطلق نفخة سخرية: وتعتقد أن رائحة السيكار ما تزال على أصابعك! قبل أن يحل الليل بعتمته انتصب، قال: لا يجوز البقاء في هذا المكان المعزول. ومضى، وقبل أن يمشي مئتي متر تذكر. قال: أزور المزرعة والبيت حيث اختفيت حين كانت المطاردة، فلعلي أجد أثراً، شيئاً يؤكد لي أني لست بالمجنون. مشى،  ومشى، وصادفته البساتين المتطرفة. حاول أن يتعرف فيها على بستان الخال، ولكن عبثاً، فالليل ألقى بخيمته على المكان، ونباح الكلاب صار الصوت الوحيد، وظلال شجر الجوز العملاقة تُدِبُّ الرعب فيه في تحولاتها وتشكلاتها ما بين شرطة وحرامية، قطاع طريق وقوى تحمي الطريق. مشى حتى خاف الضياع، ولكن لا مزرعة، ولا بيت، ولا خال، قال: سأمر غداً في النهار، أما اليوم، فيجب أن أرجع إلى البيت.  

(31)

كان المشهد مروِّعاً، أصابه.. لا.. لم تعد كلمة الذهول كافية للتعبير. وحين يخلو بنفسه وبمراياه الكثيرة سيسأل في سخرية. أما زلت تستطيع الذهول؟ الحقيقة أنهم ما يزالون يستطيعون إذهاله، فبعد البلقع حل محل الجزيرة، والحديقة حلت محل بيت الخال، حديقة بأشجار عتيقة تسكنها العصافير، وبركة يسبح فيها البط والإوز، وأعشاب أيبسها طول العمر، والذهول الذي حاق به يفتش في الحديقة عن أثر لبيت الخال، لأصوات الأم، لأناشيد الجدة، فلا يجد إلا حديقة ليس من يعرف متى أنشئت، وأشجرت، واختفى النهير القديم منها بسراطينه وضفادعه وأعشابه الخضر الناعمة تموج مع الماء كشعر الأم عند تمشيطه.

نفض رأسه ينتزع نفسه من عذاب الذكرى، فقد كان المشهد مروِّعاً، وما كان يعتقد أن شيئاً سيروِّعه بعد كل الروع الذي حاق به. كانت أسيمة ودلال والمرسيدس السوداء اللماعة مفتوحة النوافذ، وكان وراء المقود يجلس في استرخاء والكوع على النافذة.... ياسين..

لم يصدق نفسه، فأغمض عينيه، ثم فتحهما بسرعة خيفة أن يفوته المشهد، ولكن المشهد استمر كستوب كادر طويل. كان ياسين الآخر كما يبدو يجهز السيارة للانطلاق، وكانت المرأتان تكركران في مرح، وكانت سعادة عجيبة تنبعث من السيارة كغيمة رقيقة من حلوى غزل البنات. كان المشهد مروعاً فاجأه.. فأنساه حزن تَبلْقُع المستنقع والجزيرة، وشعب خصوم القُبلان، و.. ليلى. أنساه تحول بيت الخال وابن الخال وبنات الخال إلى حديقة وأشجار عتيقة تسكنها العصافير، وبركة يسبح فيها البط والإوز.. و.. ها هو ياسين يسوق المرسيدس وإلى جانبه المرأتان الحبيبتان، بل الأكثر حبية في حياته.  قرَّر.. وليس يدري كيف واتته الإرادة والهمة أن يهشم زجاج التردد والوهم، وأن يهجم مرة واحدة، فيواجه توأمه، ونقيضه، ووهمه، و.. ياسينه، يواجه دلال النضرة، و.. يواجه أسيمة المتسامحة المتزنة الوقور.. قرر أن يفجِّر كل شيء مرة واحدة فيخرج من هذا التشتت والفوضى.

هجم على السيارة، ولكن السيارة وقد أنهت استعدادها للانطلاق انطلقت، فركض وراءها، ركض يصرخ، وليس من يسمع صراخه، ركض يلعن، وليس من يسمع لعنه، ركض.. يجب أن أفعل شيئاً.. لوضع حد لهذا التشتت، لهذه الفوضى.. لهذا الاضطراب. كيف يجري كل هذا، ولماذا؟ ابتعدت السيارة، وسمع أصوات الزمامير تركله وتشتمه.. فهو يقف في منتصف الطريق يتحدى السيارات، يقف كأحمق، كحمار، كأبله، يريد الموت؟ ابحث عن موتك الخاص، ولا تبتلنا بجريمتك.. كانوا يشتمونه ويزمِّرون، ويبتعدون.

جرَّ قدميه الثقيلتين عائداً إلى الرصيف، إلى الدرج يقود إلى البيت ـ القبو، إلى الدرجة المكسورة يتحاشاها، إلى الباب المضاء بمصباح يعلوه، إلى الباب المحلى بمطرقة نحاسية أنثوية الملمس باشوية المظهر. فتح الباب، وعلى غير إرادة منه همس: أسيمة.. أكان يتوقع وجودها في البيت.. تنهد.. ولم لا.. أفلم يكن ياسين في السيارة منذ الليل.. أفلم يختف بيت الخال ويستبدل بحديقة؟ أفلم تختف جزيرة اللاقُبلان ويحل محلها البلقع؟ أفلا يستطيعون صنع كل شيء؟ أفسيصعب عليهم وجود أسيمة في البيت؟

فجأة توقف: ياسين. ها أنت تحدِّد اتهاماتك وأسئلتك.. ها أنت تغيِّر منحى تفكيرك.. ها أنت تفترض أن هناك من يعبث بك ويعابثك، ويزاوج كل شيء من حولك. يزاوج ويضاعف دلال، وأسيمة و.. ياسين، وشلة الأصدقاء، فهو يطرح أحد الزوجين متى شاء، ويخفي الزوج الآخر متى شاء.. أعوذ بالله. أتراهم زاوجوا أيضاً شعب اللاقُبلان، فجعلوا منه وجوداً، وجعلوا منه عدماً، وكان حظك أن تلقى العدم اليوم، و.. بيت الخال؟ ربما.. كان حظك أن تلقى اليوم العدم. وصرخ فجأة في غضب: ياسين، فمن أنت إذن؟ أي الياسينين أنت؟ أيهما؟ الناقد اللامع المحروم من حقوقه المدنية والسياسية، أم ياسين العدم.. ومشاطر أسيمة السيكارة والبيت في غياب ياسين الآخر.

آه.. آه.. أخذ يهز رأسه فيما قبل الجنون. كان كل شيء يسوقه إلى الجنون، ولكنه وجد نفسه أمام المرآة في الصالون، المرآة المؤطرة بالموزاييك والتي اشترتها أسيمة في نوبة من نوبات سعيها إلى تجميل البيت ـ القبو، وتحويله إلى بيت لبنت البندقدار. كانت المرآة مضاءة بمصابيح كثيرة لا تترك مكاناً للظل، ورأى ياسين ياسين. كان ياسين حقيقياً في كل شيء. في الشكل والنظرة والتوق. ولكن التشتت لم يختف، فياسين في المرسيدس والكركرات من حوله كان أكثر صلادة.

سعى إلى الحمام، فاقتلع مرآته وثبَّتها على حامل يبدي قفاه فيجعل قذاله مجاوراً لوجهه، ووجهه مجاوراً لقذاله، ثم تلفَّت من حوله، فرأى على تسريحة أسيمة من خلال باب غرفة النوم المفتوح مرآتين صغيرتين، فجاء بهما، وثبَّتهما جانبياً على اليمين وعلى اليسار. قال: أريد أن أصل إلى المعرفة المطلقة، الصورة لا ظل فيها، ياسين الجوهر، الثابت، الحقيقي الأصلي بلا ظلال، ولا قذال. أكمل رصف المرايا الجانبية والخلفية وانعكاساتها، وفجأة دهمه السؤال وليلى؟ الآن فقط وهو ينظر إلى وجهه الحليق النضر يتساءل: أكانت ليلى حقيقة، أم أنها واحدة من شطحات خياله الكثيرة؟ أكانت الجزيرة والمستنقع وشعب اللاقُبلان حقيقة؟ أووف. كم يشتهي لو يجد الإجابات عن أسئلةٍ عرف اليوم فقط أنه لن يجد أجوبة لها!

أعاد النظر إلى المرآة.. الوجه ياسيني حقيقي. لا ريب ولا لبس، ولا وهم فيه.. ولكن.. ماذا عن هذا العدد الكبير من الياسينات، ياسين الوجه، وياسين القذال، وياسين اليميني، وياسين اليساري، وياسين القذالي في الوجه، وياسين اليميني في اليسار، وياسين.. أووف.. يا للتشوش. تسربت الفكرة جارحة: ها أنت ترى بكامل حريتك عدداً من الياسينات. تراهم، وتعرف أنهم موجودون، ولكن جرِّب لمسهم، حوارهم، جرِّب مشاجرتهم، ولن تحصل إلا على الفراغ.. والآخر؟ ياسين المرسيدس، ياسين البرازيل، ياسين مشاطرة السيكارة.. أتراه صورة أخرى كهذه الصور، أم أنه الأصل، ولست إلا الصورة،  صورة أخرى كهذه الصور. كانت الأسئلة أكبر من الاحتمال، وأكبر من قدرته على الإجابة.

حرَّك يده في عصبية كمن يريد طرد الأسئلة كلها، ولكن الحركة كانت خرقاء فحطمت مرآة الحمام، وشظَّت الصورة. هاجمته المرايا المحطمة، فجرحت يديه. نظر إلى الدم في رعب. دم حقيقي. دم حقيقي دون تشتت، دون لبس، دون أوهام، نظر إلى الشظايا في إطارها وعلى الأرض ورأى أجزاءه الموزعة بينها، وكان الدم، يقطر دون انعكاس في المرايا، كان يقطر على الأرض. تذوَّقه بطرف لسانه، كان مالحاً حديدي الطعم كما توقع. دم حقيقي لم يستطيعوا استبداله.. و.. اسودَّ كل شيء.  

(32)

قال الرجل اللحيم: يبدو أنَّ من الصعب أن تكبر لتجاري عصرنا يا أستاذ ياسين. كانت الكلمة قاسية، ولكنه رفاها حين صدَّر اسمه بكلمة أستاذ. نظر ياسين إلى المرأتين الحبيبتين في خجل، في رجاء أن تصنعا شيئاً لتخفيف الحرج الذي وضع فيه.

الرجل يقول إن من الصعب أن أكبر.. لماذا؟ كان يريد الاحتجاج، ولكنَّ وجه المرأتين الحبيبتين الصامت، الخامد، والصارم، ورافض التواصل أشعره أنه فعلاً صغير، ولا يريد أن يكبر. وتابع لحيم الوجه: قدمنا لك التسهيلات كلها، المراجع، الوثائق، و.. في الحقيقة.. كان تقدمك بعرض كتابة سيرة مولانا شيئاً مريحاً.

ـ ماذا.. أنا، ياسين من عرض كتابة سيرة مولانا؟

وكان ابتكارك لاسم تنين الزمان، وعنقاء الأيام مقنعاً بأنك حسمت أمرك أخيراً، وقررت الانضمام إلينا، ولكن.. واسمح لي أن أستعير واحداً من تعبيراتك، ونكت أوراقاً في محفظته  قرأ منها: للأسف ها أنت تعود إلى تشتت المثقف.

صعق ياسين.. ما الذي يجري.. ما الذي يقول هذا الرجل: أأنا من اقترح كتابة سيرة معارضة للملك الظاهر؟ ما الذي يدَّعيه هذا الرجل، أأنا من ابتكر تعبيري تنين الزمان، وعنقاء الأيام؟ شهق في صمت، فهو لم يعد يسمع ما يقول الرجل، ولا ما تؤمِّن عليه المرأتان. كانوا أوركسترا، جوقة متفقة على لحن واحد. وكان المستمع الوحيد. كان يسمع في غير ترابط: السيرة. مولانا نافع الزمان، العنقاء. السلطان الموعود. كان لحيم الوجه يلوِّح بالوريقات، وكان غضب على وجهه يلوِّح بتغير الأحوال، وكان وجوم على وجهي المرأتين يلوِّح بالطرد من فردوسهما، وكان.. كل شيء يتداعى، ولكن السؤال لطمه ثانية: ولكن من عرض كتابة السيرة.. من؟ أهو ياسين المنافي وليلى، ومطارد حبٍ لم يحصل عليه، أم ياسين الآخر، ياسين السيكارة المخطوفة، ونمائم السياسة في مقهى البرازيل.

كان كل شيء يتداعى حين قرر أن يكون ياسين الأرفعي بكل تفاصيله قال: سأكون خارج المرايا. لن أكون ياسين اليساري في اليمين، ولا اليميني في اليسار، لا القذالي في القدَّام، والقدَّامي في القذال. قال، ولا يعرف إن نطق لسانه بها، ولكنه قال: سأكون خارج مراياكم. سأعود إلى ليلى، إلى الخال، إلى الحياة خارج بيجواتكم ومرسيدساتكم. استدار على عقبه، عبر الصالون، فتح الباب غشيم الخشب، المحلَّى بالمطرقة النحاسية، عبر البسطة المضاءة بالمصباح البابي، صعد الدرج. كان في جزء صغير، خفي، راغب في قلبه يتمنى أن يستوقفوه. أن يلاحقوه، يرجوه الرجوع. ولكنهم لم يتحركوا، بل تركوه لقراره. صعد الدرج درجة درجة، قفز فوق الدرجة المكسورة، وصل إلى المدخل الرئيسي للبناية.

رأى المرسيدس تقف قريباً من الباب. تأملها في انكسار حاسد، راغب، ولكنه لدهشته رآها تشتغل، ورأى مصابيحها تنار. من يشغِّلها، من يركبها. نزل الزجاج الدخاني ورآه.. كان ياسين. هذه المرة، كان واضحاً، صريحاً بلا ضباب، ولا تنكرات. كان ياسين المتكئ على الباب بكوعه.

وفي لحظة تجلٍ عظيمة، في لحظة القرار الكبرى التي تحلُّ على الإنسان مرة في العمر قرَّر أن يواجهه، أن يتحدث إليه ويسأله. من أنت.. ماذا تفعل في وجهي؟ ماذا تفعل في سيارتي؟ ماذا تريد من امرأتي؟ ولكن السيارة تحركت بهدوء، ونزلت عن الرصيف، ومن الغريب أن ياسين الآخر لم يهرب، ولم يبتعد، بل نظر إليه مباشرة، وكأنه كان ينتظره، أكان يريد مواجهته وسؤاله عما يريد منه أيضاً، وتقاطرت الأسئلة مخلوطة بالسخرية. أكان يريد سؤاله عما أفعل في وجهه، وعما أريد من امرأته، وسيارته.

توقف ياسين متردداً، فقد خاف المواجهة، ولكنَّ ياسين الآخر لم يخف، بل زمَّر له، ولوَّح يدعوه للركوب.. و.. حسم ياسين تردده، ولم لا أواجهه مرة واحدة؟ وأحطم مرآة خوفي مرة واحدة؟ وأعرف  ما سر هذه التجليات والاختفاءات؟ وفي اللحظة التي حرَّك فيها قدمه يريد الخروج من فتحة البناية في اتجاهه رآهم يقتربون. لم يعرفهم في البدء، وظنَّهم عابري سبيل، ولكن نور سيارة سقط عليهم، فكشفهم له، كانوا ليلى ودلال، والخال، وشاكر.

وشهق ياسين: ما معنى هذا؟ من جاء بهم؟ ولكنهم لم يروه، ولم يكترثوا له، اقتربوا من ياسين في المرسيدس في خطوة موحَّدة صارمة. وما إن اقتربوا من المرسيدس حتى رأى الذعر على وجه ياسين الآخر، الذعر الذي تمنى ياسين طويلاً أن يراه على وجهه. فما اعتاد رؤيته إلا والبسمة الملقة على وجهه، البسمة المتبجحة الواثقة من امتلاكها للأجوبة والقرارات والصوابات كلها. حاول ياسين الآخر رفع الزجاج المدخن يختفي وراءه، ولكنَّ شاكر أمسك بمقبض الباب بقوة، وفتحه، ومدَّ الخال يده إلى ياسين، فجذبه من وراء المقود، والغريب أنه انجذب بسهولة، بطراوة، دون مقاومة، وما إن صار على الرصيف بعيداً عن قلعته المرسيدس حتى التفُّوا حوله مشكلين حلقة لا يرى ياسين منها إلا سبَّابات متهمة، ورعباً على وجه ياسين الجاثي على ركبته، كانوا يتهمون، وكان رأسه ينحني. كانوا يتهمون، وكان ياسين يبهت. هزِّ ياسين رأسه غير مصدق، ولكن ياسين الآخر كان يبهت، ويتضبب، ويغيم، ويرق، ويرق حتى شفَّ.

فرك ياسين أعلى الدرج عينيه لعلَّ فيهما دمعة أو قذاة، ولكنهما كانتا جليتين تريان كل تفصيل في ليلى، وفي دلال، وكلَّ شعرة بيضاء في لحية الخال، كل غضن في وجه دلال. وكل ظُليل في وجه شاكر، وكل عتب على وجه ليلى. أراد ياسين الاقتراب للتأكد من تحولات ياسين الآخر، ولكنه قبل أن ينقل قدميه خطوة واحدة كان الآخر يتبخر، حتى يختفي، و.. رآهم يبتعدون بالصرامة التي قدموا بها، وبالهدوء نفسه. انفتل على عقبيه، ورمى نفسه على الدرج. فتح الباب غشيم الخشب، المحلَّى بالمطرقة النحاسية نسائية الملمس باشوية المظهر. دخل مندفعاً يلهث، فرآهم ما يزالون في مكانهم، فأفأ، وتأتأ، وجمجم، ولكنهم كانوا ينظرون إليه في طيبة، وود. لم يعاتبوه، ولم يلوموه، لم يعذلوه أن تركهم وخرج، وها هو يعود ناظراً إلى وجوههم في إلحاح يريد عذلاً، غفراناً، ولوماً.

تركهم، واتجه مباشرة إلى المرآة المؤطرة بالموزاييك. أراد أن يتأكد أنه ياسين، أراد أن يتأكد أنهم لم يصطادوه في المرسيدس الفخ.  أغمض عينيه بقسوة، وفتحهما، فلم يصدق ما رأى. ولكنه حين فتحهما ثانية كان المشهد نفسه. فراغ. ليس من ياسين في المرآة، ليس من وجه مذعور يرجو الغفران. التفت إليهم.. أسيمة، ودلال والرجل لحيم الوجه، فقالت أسيمة هيا يا حبيبي. امض إلى مكتبك. نحن في انتظار دُرَّتك. وقالت دلال وهي تتمسح به: يكفي تدللاً. نحن نعرف أنك ستكتبها، ونحن كلنا في انتظار كتابتها، هيا. وقال الرجل اللحيم: الأستاذ ياسين معلمنا، ومثقفنا الكبير سيتجاهل، ونتجاهل سوء التفاهم المؤقت. هيا يا سيدي.. هيا.

أخذوا يدفعونه بلطف إلى مكتبه، وكاد يندفع لدفعهم لولا أن قرر فجأة إعادة النظر إلى المرآة. نظر، فرآهم جميعاً في المرآة، أسيمة ودلال، والرجل ذو الوجه اللحيم، ولكن.. لا ياسين.  

كتب صدرت للمؤلف
1ـ ملكوت البسطاء دمشق رواية ط1: 1975، ط2: 1984.
2ـ طائر الأيام العجيبة دمشق رواية 1977.
3ـ ليال عربية بيروت رواية 1980.
4ـ المدينة الأخرى دمشق رواية 1985.
5ـ التحولات 1ـ حسيبة دمشق رواية ط1 1987، ط2 1995، ط3 2003.
6ـ التحولات 2ـ فياض دمشق رواية ط1 1989، ط2 2003.
7ـ التحولات 3ـ هشام أو الدوران في المكان بيروت رواية  ط1 1997، ط2 2003.
8ـ الجد المحمول مجموعة قصص دمشق 1991.
9ـ التدريب على الرعب مقالات دمشق 2003.
10ـ فخ الأسماء رواية بيروت 2003.
11ـ لو لم يكن اسمها فاطمة رواية القاهرة 2005.