تمهيـد:
عرفت الساحة الثقافية العربية في مجال المسرح منذ منتصف ستينيات القرن العشرين إلى يومنا هذا مجموعة من النظريات الدرامية، ومن أهمها النظرية الاحتفالية التي أرسى دعائمها المنظر المغربي الكبير الدكتور عبد الكريم برشيد في العديد من كتبه التنظيرية وأعماله المسرحية التطبيقية، دون أن ننسى بعض النظريات المسرحية الأخرى التي لم تصل إلى شهرة النظرية الأولى كمسرح المقلداتي والحكواتي مع توفيق الحكيم وروجيه عساف، ومسرح السامر مع يوسف إدريس، ومسرح التسييس مع سعد الله ونوس ودريد لحام، ومسرح النفي والشهادة مع محمد مسكين، والمسرح الثالث مع المسكيني الصغير، والمسرح الفردي مع عبد الحق الزروالي، و مسرح المرحلة مع الحوري الحسين، ومسرح الگوال مع الجزائري عبد القادر علولة، ومسرح الصورة مع العراقي صلاح القصب، والمسرح الإسلامي مع الدكتور عماد الدين خليل وحكمت صالح ومحمد المنتصر الريسوني.
ومن أهم النظريات المسرحية الجديدة اللافتة للانتباه النظرية الاستدراكية القائمة على فلسفة التجاذب، وترتبط بمنظرها المغربي الشاب أحمد ضريف (أزاريف)، والتي وضح مقوماتها الفلسفية والجمالية في كتابه الجديد: "فلسفة التجاذب في الفن المسرحي: نظرية الاستدراك " (مطبعة الراحة، المغرب، الطبعة الأولى 2007م). وهي فعلا نظرية درامية جديدة تستحق الفحص والمدارسة والتحليل والتقويم مع الإشادة المسبقة بالكتاب والتنويه بصاحبه الذي أظهر معلومات غزيرة تتعلق بالفن المسرحي تنم عن كفاءته المحنكة وخبرته المتمرسة بالفن المسرحي ودراية عميقة بالفن الدرامي وتقنياته وآلياته النظرية والفنية والوظيفية. إذاً، ماهي حمولات (النظرية الاستدراكية) الفلسفية والفنية والجمالية؟ وما هو الجديد الذي أتى به الأستاذ أحمد ضريف في هذا الكتاب التنظيري القيم؟ وماهي أهم المآخذ التي يمكن رصدها أثناء السفر النقدي العاشق والتجوال الولهان بين متاهات كتابه التنظيري الجديد؟
الطرح الفكري والفلسفي:
ينطلق أحمد ظريف في كتابه" فلسفة التجاذب في الفن المسرحي" من مقولة فلسفية هي: "أنا معك ... لكني ... لا أنتمي إليك". ومن ثم، ترتكز هذه النظرية الفلسفية على ثلاثة مقومات جوهرية وهي: التآلف والاختلاف والاستدراك، ويعني هذا أن هذه الفلسفة تقوم على التجاذب والتأرجح بين حالتين وجوديتين مختلفتين ومتناقضتين في نفس الوقت، وهما: التعايش والاختلاف اللذين يتوسطهما الاستدراك الذي يؤشر على حالة الرفض والنفي لكل انتماء وجودي ومعرفي على الرغم من وجود حالة التأييد والمعية بالمفهوم الأنطولوجي بين الكائنين البشريين. ومن هنا، يصطلح الكاتب على نظريته المسرحية مصطلح (نظرية الاستدراك) التي تؤكدها لفظة "لكن"، أويسميها بفلسفة التجاذب التي تستلزم حالتين متضادتين، وقد حصرناهما في حالة الانتماء وحالة اللاانتماء، أو حالة الائتلاف وحالة الاختلاف، أو حالة التأييد وحالة النفي والرفض.
وقد صاغ الأستاذ أحمد ضريف كتابه في شكل بيان قصصي ومشهدي درامي يعكس لنا حالة بعض الممثلين وهم يعيشون في صراع جدلي وتمزق نفسي مع مخرجهم المسرحي المتسلط الذي يريد أن يحول أعضاء فرقته إلى آلات بيوميكانيكية تنفذ الأدوار بدون وعي ولا حرية ولا إرادة. وبهذا، يحيل كتاب أحمد ضريف على ماكتبه المخرج الروسي قسطنطين ستانسلافسكي في تدريب الممثل وإدارته وفي طريقة تقسيم كتابه وتسجيل عناوين فصوله وأبوابه.
وعليه، يبنى الكون حسب هذا المنظر الفيلسوف على التجاذب والتأرجح بين الثنائيات الجدلية، وهذا هو سبب الاتزان والتوازن في هذه الحياة، وهذا هو أيضا سبب الفوضى والنظام الذي يتكئ عليه العالم المشهود، فكل عنصر في هذا الكون العجيب يستدعي سالبه في تناقض متكامل إيجابي.
الطرح التقني والجمالي:
يعيد أحمد ضريف في كتابه التنظيري القيم تأسيس مجموعة من المفاهيم المتعلقة بالمجال المسرحي على ضوء (النظرية الاستدراكية) قصد تأسيس شعرية درامية حركية فاعلة ومبدعة وفعالة ومتقدمة. وهنا، يدعو الكاتب العرب إلى الإبداع والإنتاج والتحليل والتركيب وصياغة الأفكار وبناء النظريات وتجديدها بدلا من الاستهلاك والوصف والتصوير، واستعادة المفاهيم الغربية حول شعرية المسرح تكرارا واجترارا، أو تغريبا واستنباتا.
1 ـ مفهـوم الممثل/ الإنسان:
يثور الكاتب على المخرج ويرفض وجوده بشكل مطلق؛ لأنه يستلب الممثلين حريتهم ويستعبدهم بتوجيهاته ونصائحه وإرشاداته وأوامره التي تحد من حرية الممثل الذي ينبغي أن يكون إنسانا حرا فاعلا وليس منفعلا ومتلقيا سلبيا، يكون إنسانا مكتمل الحرية حاضر الإرادة ومالك الرغبة والاختيار والقوة. وإذا كان المخرج هو المحرك والذكاء والإنتاج، فإن الممثل في التصور التقليدي هو الآلة والذاكرة والاستهلاك، ومن ثم، يعبر المسرح عن نظرية رأسمالية إنتاجية مستلبة غير متوازنة. لذا، يدعو الكاتب إلى تحرير الممثل من إسار الاستلاب والعبودية والتدجين، والحث على ربط قدرات الممثلين بالإرادات الذاتية والحرية الشخصية الوجودية، وتجاوز فعل الذاكرة إلى تشغيل الفطنة والذكاء والعقل الذهني في عملية الإبداع والإنتاج المسرحي بدلا من الارتكان إلى القراءة السلبية واجترار أفكار الآخرين.
إذاً، يحارب الكاتب في الممثل/ الإنسان خاصية العبودية والاستلاب ويدعو على عكس ذلك إلى الحرية والإبداع الذاتي، كما يرفض الكاتب انتظار الممثلين للمخرج أثناء التدريب أو أثناء لحظة التمسرح؛ لأن الانتظار مرادف لشيخوخة النفس والجسد، وأن الشباب هو العمل والمواجهة والمغامرة، وتحويل النظرية إلى ممارسة إجرائية ميدانية مسكونة بهاجس التطبيق والتجريب والتشكيل.
ومن أول مبادئ فلسفة التجاذب هو حضور الإنسان مع نفسه حضورا قويا ومسؤولا، وهنا يتأثر الكاتب بفلسفة سارتر الوجودية التي تحث على الحرية و معايشة الوجود الذاتي، ولكن بطريقة مسؤولة وملتزمة. ويعني هذا أن الفعل المسرحي هو فعل إنساني مبني على الحرية والالتزام والمسؤولية والصدق والاحتجاج الذاتي والتركيب بين المتناقضات الجدلية المتجاذبة بين التآلف والاختلاف. ومن ثم، يعتبر العمل هو السبيل الوحيد لإثبات الذات وتحقيق الكينونة الإنسانية داخل الفعل المسرحي، وأن الذات هي المنطلق الحقيقي لإصدار الأحكام بدلا من الغير أو الآخر الذي يتحول بالنسبة للأنا أو الذات إلى وسيط متطفل وجحيم لايطاق.
ويستحب من الممثل أثناء التشكيل المسرحي أن يستخدم عقله استخداما واعيا قائما على التسجيل والتنظيم والتحليل والحكم، وأن يتأرجح عقله بين اندفاع النفس والجسد.
وإذا كان الإخراج يعتبر الممثل كائنا ميكانيكيا لايتجزأ عن الإنارة والديكور والأثاث، فإن (النظرية الاستدراكية) التي ثارت على المخرج أعادت الاعتبار للممثل وحررته وجوديا، وطالبته بأن يأخذ المبادرة مباشرة لتوكيد وجوده داخل صراع المجتمع المسرحي حتى يحول ذاته من كينونة ثابتة إلى صيرورة مستمرة. وإذا كان النص الأدبي لا حدود له، ينتمي إلى الزمن الرابع، ليس ملكا لقانون أو حضارة، يتجرد من كل محلية أو حيز زمكاني ضيق، فإن الممثل كذلك إنسان مطلق لاجنسية له سوى جنسية الإنسان، ولابد أن ينظر إليه من قبل الجميع باعتباره إنسانا مجردا من كل دلالة محلية أو توسيم ضيق أو تصنيف مسبق فوق خشبة العرض المسرحي.
2 ـ الشخصيـــة المسرحية:
حدد الكاتب مجموعة من المراحل التي يمر بها مفهوم الشخصية من لحظة تواجده في النص الأدبي المسرحي إلى لحظة تلقيه من قبل الجمهور، وحصرها في ست مراحل جوهرية وهي:
- مفهوم الشخصية في النص الأدبي المسرحي أثناء القراءة؛
- مفهوم الشخصية عند الممثل أثناء التدريب؛
- مفهوم الشخصية عند الممثل أثناء التشكيل؛
- مفهوم شخصية الممثل عند الجمهور؛
- مفهوم شخصية التشكيل المسرحي عند الممثل والجمهور معا؛
- مفهوم شخصية التشكيل المسرحي خارج المسرح.
هذا، ويصبح مفهوم الشخصية في النص الأدبي تشكيلا لمشروع كائن من مجموع الأفكار، أي إن الشخصية مجرد وعاء لأفكار الكاتب وحمولاته الإيديولوجية والمقصدية، يريد تمريرها عبر قناة الشخصية. كما تتضمن الكتابة الدرامية في النص الأدبي الذي يؤلفه الكاتب زمنا رابعا يتجاوز الماضي والحاضر والمستقبل، إنه زمن الجنون والأحلام، بيد أنه ليس من كل هذا، إنه زمن التحرر المطلق وزمن التخييل والإبداع والانزياح عن مواضعات الواقع وأعرافه. وإذا كان المؤلف يملك السلطة المطلقة في تطويع نصه بالطريقة التي يفضلها، فالممثل في ( النظرية الاستدراكية) إنسان قبل كل شيء، لاينبغي أن يكون مستلبا بفعل هذه السلطة، وعليه أن يتحرر من قبضة المؤلف وجبروته، وأن يتسلح بالفطنة والذكاء والتجاوب بدلا من الحفظ وتشغيل الذاكرة قصد خلق النص الأدبي دراميا وبنائه من جديد بروح إبداعية حداثية قوامها الإرادة والرغبة والاختيار والقدرة. وتعطي (النظرية الاستدراكية) للممثل الإنسان كامل الحرية للتحكم في النص الأدبي، كما تمنحه الحرية المطلقة ليمارس سلطته على النص الأدبي المسرحي، وبذلك يكون الممثل هو الذي يتحكم في المؤلف وليس العكس.
وليس مفهوم شخصية الممثل أثناء التدريب سوى مجرد مشروع كائن من خلفيات المجموعة أفكار، والمقصود من هذا أن الممثل المتدرب يروض نص المؤلف متمثلا أفكار النص وخلفياته المباشرة وغير المباشرة.
وترفض (النظرية الاستدراكية) مصطلح العرض المسرحي والإخراج المسرحي والإنجاز المسرحي،وتستبدل كل ذلك بالتشكيل المسرحي الذي " هو الجو الخير الذي يكون جاهزا وجاهزا تماما للتقديم أمام الجمهور في أية لحظة".( ص:44) وتصبح الشخصية أثناء التشكيل المسرحي مشروع كيان من مجموع أسرار خلفيات الأفكار، وهذا هو مفهوم الشخصية عند الممثل أثناء التشكيل الدرامي. أما المرحلة الرابعة فهي تتعلق بمفهوم شخصية الممثل من طرف الممثل والجمهور معا أثناء الفضاء المسرحي الذي يستوجب ردة فعل خارجية.
ويلاحظ أن هناك فرقا بين الجو المسرحي الذي يرتبط بالتشكيل المسرحي دون الجمهور، و الفضاء المسرحي الذي يستدعي حضور الممثل في علاقة مع الجمهور. كما أن الجو المسرحي "مناخ جاف يضع الممثلين في عزلة عن التساؤلات الرهيبة التي تبحث عن جواب...الجواب هو ردة الأفعال التي يثيرها الجمهور إما بالقبول والرضى وإما بالرفض وإما بالمحايدة، وهنا يكتمل الطقس المسرحي... وتستقل فيه شخصيات المجتمع المسرحي... فكل شخصية تأخذ استقلالها ومركزها الوجودي والسلطوي والرمزي... هنا يتحول مفهوم الشخصيات إلى كيان... كيان بكل ما تحمله كينونته الحياتية من معنى ومن دلالات...كيان يتحمل مسؤوليته الكاملة كإنسان في تبرير وجوده انطلاقا من الحرية التي ينعم بها تدريجا من القراءة إلى التدريب والغزو والتشكيل.
إذاً، فمفهوم شخصية الممثل والجمهور معا أثناء الفضاء المسرحي أو التشكيل المسرحي هو الكيان ليس إلا" (ص:45) يعطي الكاتب ـ إذاً، في كتابه تصنيفا جديدا للشخصية الدرامية اعتمادا على مواقفها وبنائها للتشكيل المسرحي الحر من لحظة التدريب إلى لحظة الانتهاء من تقديم الفرجة الدرامية.
3 ـ تطـــور المسرح:
تطور المسرح البشري كما تطورت الطبيعة من البساطة إلى التركيب إلى التعقيد، كما تطورت الكائنات ذات الخلية البسيطة إلى الكائنات ذات الخلية المركبة، لتنتقل بعد ذلك إلى الكائنات ذات الخلايا المعقدة، ويعني هذا أن المسرح خضع لقانون التطور على غرار تطور الطبيعة وتغيراتها. وعلى أي، فقد انتقل المسرح من المسرح الفردي مع الممثل الواحد الذي يمثله الممثل اليوناني" تسيپس" ( حالة البساطة)، ويعد أسخيلوس أول من اشتغل على ممثلين في مسرحياته ( حالة التركيب)، بينما سوفوكلوس شغّل أكثر من ثلاثة ممثلين (مرحلة التعقيد). وإذا كانت جميع الشعوب قد عرفت المسرح باعتباره ظاهرة شعبية طقوسية، إلا أن اليونانيين عرفوا بالتأريخ والتنظير والتدوين والتقعيد كما عند أرسطو في كتابة " الشعرية".
أما المخرج فلم يظهر إلا في منتصف القرن التاسع عشر، وبالضبط في 1874م مع الدوق الألماني ساكس ميننجن، أما المخرج في اليونان فقد كان يجسده الشاعر والكاتب والراوي، في حين نجد في بريطانيا أن الممثل الأكثر تجربة هو الذي يتولى الإخراج المسرحي. لكن ( النظرية الاستدراكية) تقصي دور المخرج وتعلن إفلاسه وموته؛ لأن المخرج يستلب الآخرين ويمارس سلطته على الممثلين ويخنق حريتهم الإبداعية، كما يفرض سلطته التوجيهية حتى على الجمهور. وبعد فشل فكرة الإخراج الفردي، جاءت فكرة الإخراج الجماعي لدمقرطة الحوار، وكانت هذه الفكرة وليدة التحولات الاجتماعية الاقتصادية والثقافية التي عرفتها أورپا إبان سنوات القرن التاسع عشر و بداية القرن العشرين.
4 ـ النـــص والجســـم:
يشبه النص المسرحي الجسم الإنساني، فإذا كان الجسم يتكون من عدة أعضاء، والعضو يتشكل من عدة أنسجة، والأنسجة تتكون من عدة خلايا، فإن النص يتكون من الحروف والكلمات والجمل والفقرات. وإذا كانت اللغة سلطة والنص سلطة، فإن الممثل يتحول بدوره إلى سلطة، وتتفاعل سلطته مع سلطة اللغة عن طريق التجاوب والتفاعل والتحايل والذكاء والفطنة والغزو. ومن ثم، فالذكاء إنتاج والذاكرة استهلاك.
وعليه، فالجسم الحقيقي هو الذي يتحرر من قبضة السائد، ومن سلطة المؤلف والمخرج، ويتحكم جيدا في كيفية استغلال الأشياء وليست الأشياء في ذاتها، ويعي ذاته جيدا، ويضع ثقته المطلقة في قدراته العقلية والذهنية والوجدانية والحركية:" إن التحرر مرتبط بمعارف الذات أولا وليس بمعارف الآخرين..."(ص:64).
ويتشكل الجسم الحقيقي من خلال إثبات الذات والتحرر من توجيهات الآخرين والانفكاك من أوامر المخرج ونواهيه.
5 ـ الزمــــن المسرحي:
ينقسم الزمن اللامتناهي في بدايته ونهايته إلى زمن ماض وهو زمن "كان" الذي انقضى على مستوى الديمومة، يتسم بالموت والزوال، وزمن حاضر وهو زمن غير مكتمل يتميز بالصراع والاحتراق، وزمن المستقبل وهو زمن الآتي الذي يستشرف الممكن. وبصيغة أخرى، فالماضي هو امتداد للجسد، بينما المستقبل هو امتداد للروح، أما الحاضر فهو مركز التجاذب والتأرجح بين الحالتين السابقتين. كما أن الماضي حاضر بالقوة ويدل على الموت، فالحاضر حاضر بالقوة والفعل ويدل على الصراع، في حين الآتي مستحضر بالقوة ويدل على الخلاص.
6 ـ تقسيم الخشبة المسرحية:
يقسم أحمد ضريف الخشبة المسرحية تقسيما طبيعيا حسب الأشهر والفصول، إذ تدل الأشهر الأربعة الأولى من السنة الميلادية(يناير وفبراير ومارس وأبريل) على الاعتدال وتؤكد لحظة المستقبل الآتي والاصفرار اللوني. بينما تدل الأشهر الموالية( ماي ويونيو ويوليوز وغشت) على الصراع، ويشير لونها الأحمر على أوج الحرارة والاشتعال، في حين تدل الأشهر الأخيرة ( شتنبر وأكتوبر ونوفمير ودجنبر) على البرودة والموت وتتخذ لونا أزرق. وبناء على ماسبق، يمكن تقسيم الخشبة المسرحية إلى ثلاث مناطق درامية حسب هذه الفصول الطبيعية وتلوينها طبقا لألوانها التي تدل عليها، فهناك منطقة الصراع في وسط الخشبة، ومنطقة الموت في أعلى الخشبة، ومنطقة المستقبل والأحلام الآتية في أسفل الركح. هذا، وثمة ألوان أساسية تتحكم في تلوين الخشبة سيميائيا كألوان البرودة التي يحيل عليها اللون الأزرق، واللون الأحمر الذي يحيل على الصراع، بينما يشير اللون الأصفر إلى الآتي والمستقبل. وتفرع (النظرية الاستدراكية ) الألوان التي يمكن أن يستفيد منها توزيع الخشبة وتقسيمها طبقا لموجاتها إلى ثلاث مجموعات جوهرية، وهي:
- المجموعة اللونية ذات الموجات الطويلة؛
- المجموعة اللونية ذات الموجات المتوسطة الطول؛
- المجموعة اللونية ذات الموجات القصيرة الطول.
وتفضل (النظرية الاستدراكية) أن تلون الماضي بالأزرق، والحاضر باللون الأحمر، والآتي باللون الأصفر.
وتقسم الخشبة الدرامية إلى ثلاثة مناطق كل منطقة تقسم حسب كل فصل طبيعي، فالماضي يتموقع بزرقته الدالة على الموت والبرودة في أعلى الخشبة، بينما يتموقع الآتي والمستقبل في أسفل الخشبة ويتخذ لون الأصفر الدال على إنارة الاعتدال الربيعي، في حين نجد المنطقة الوسطى هي المنطقة الأكثر تهيجا واشتعالا وصراعا ويرمز لها باللون الأحمر، وهي منطقة التجاذب واللاتكامل وتتأرجح بين الموت البارد والحلم المستقبلي.
7 ـ مكـــــون الديكور:
من المعروف أن الديكور هو الذي يؤثث الخشبة سينوغرافيا، وبالتالي، فهو عبارة عن قطع هندسية تأتي لتصف أو تكشف أسرار من أسرار وخلفيات أفكار الكاتب وتبرير حالة نفسية أو جمالية أو دلالة معينة.
وتقسم ( النظرية الاستدراكية) الديكور إلى:
- ديكور كائن وهو الديكور الواقعي البسيط؛
- ديكور غير مكتمل في الكينونة وهو بذلك ديكور تجريدي معقد؛
- ديكور ممكن وهو بذلك خيالي مستقبلي.
ويتميز ديكور منطقة الصراع بكونه ديكورا غير متكامل في الكينونة، وهو لايأخذ معناه إلا من خلال تعامل الممثل معه بطريقة وظيفية وبنيوية، كما يطبعه التعقيد، إذ يفهم هذا الديكور من زاوية كوليغرافية وجمالية ودلالية وضوئية. ومن الأحسن أن يكون الديكور متعدد الأدوار ومتعدد الألوان يعتمد على الألوان الأصلية والألوان الفرعية أو المشتقة.
ولابد أن يستفيد الديكور من الفن التشكيلي في تصميم أشكاله الهندسية واختيار مكوناته. وأثناء تموضعه في منطقة معينة ينبغي أن يلون بألوان المنطقة سواء أكانت أصلية أم فرعية، فتلون منطقة الماضي بالأزرق واللون البنفسجي والأزرق المخضر، بينما يلون الآتي باللون الأخضر والأصفر المستقل والأصفر المخضر والأصفر البرتقالي، ويناسب هذا النوع من الزمن الديكور الهندسي اليقيني، أما الماضي فيختار له الديكور الوصفي، في حين يختار لمنطقة الصراع ديكور غير مكتمل في الكينونة ينتقى حسب الحدث المسرحي الذي يعيشه الممثل. ولقد أعطت (النظرية الاستدراكية) حلا للديكور الذي يؤشر على الحاضر، فلكل شخصية:" أن تخلق عالمها كيفما تراه. فتعدد الطرق والأهداف – وباختلاف الأهداف تختلف معنائية الحياة ـ كل قطعة من هذا الديكور المعقد... تجسيم وتجسيد لمجموع رؤى الممثلين. وبتعدد الممثلين تتعدد الرؤى ... ليتكون من خلال هذا التمازج ديكور تجريدي مجنون غير مكتمل في معناه بالرغم من أنه مكتمل في صناعته وتركيبه.
الخلاصة، إذا، هي أن قطع الديكور التي تؤسس الصراع هي نتاج اختلاف وجهات نظر الممثلين" (ص:85- 86) ومن هنا، نستنتج بأن نظرة الكاتب إلى الديكور نظرة سيميائية عميقة فاحصة، تجمع بين هندسة الفضاء واستخدام اللون التشكيلي وتقنية الإضاءة البصرية قصد خلق عمل تشكيلي مسرحي جيد.
8 ـ مكـــــون الإضاءة:
تنقسم الإضاءة طبيعيا إلى إضاءة شمسية حمراء وإنارة قمرية صفراء وإنارة نجمية زرقاء، ويمكن تقسيم خشبة المسرح على ضوء هذه الإضاءات المتنوعة، فنخضع منطقة الصراع في الخشبة المسرحية للإضاءة الشمسية، ونخضع منطقة الماضي للإنارة النجمية الزرقاء، أما الآتي فيخضع للإضاءة القمرية الصفراء.
ومن المعلوم أن للألوان تأثيرا على الإنسان، إذ يسبب اللون الأحمر لون النار والدم الإحساس بالحرارة، بينما يعمل اللون البرتقالي على إذكاء حالة التوهج والاحتدام والاشتعال، ويحيل اللون الأصفر على المزاج المعتدل والسرور، ويوحي الأخضر بالانتعاش والراحة، ويوحي الأزرق بالخفة والسلام.
وتهدف الإنارة المسرحية إلى تزيين المشاهد بالدرجة الأولى، وتكثيف وتعميق الحالات الانفعالية والحركية عند الممثل من وجهة نظر الجمهور.
9 ـ الإيقاعية المسرحية:
يقصد بالإيقاعية المسرحية تلك المشاهد والحركات التي يصعب على بعض الممثلين تجديدها، والإيقاعية المسرحية" هي الأحداث التي يصعب تجاوزها أو تغييرها بسهولة؛ لأنها شكلت لغرض معين...وبقدرة معينة وبمواد معينة، أما ماتبقى من الأحداث أو الحالات...وخاصة عندما يكون الممثل على الخشبة ـ بدون فعل آني ـ فيمكن تجديدها بسرعة وتلقائية...وهذه العملية تسميها الاستدراكية بالموسيقية المسرحية." (ص:224). أما الحركة الزائدة داخل التشكيل المسرحي فهي كل حركة خارجة عن إرادة بيولوجية، لاتنفي أو تؤكد فكرة من أفكار المشاهد المسرحية الآنية.(ص:100)
وترفض (النظرية الاستدراكية) التصنع والتكلف في العمل المسرحي، وتدعو إلى تغيير الملابس حسب حالات الطقس لخلق نوع من الانسجام والمقبولية المنطقية حتى تكون العلاقة بين أحداث المسرحية والطبيعة متماثلة ومتلائمة ومتطابقة فنيا ومنطقيا. وهنا، لابد للملابس أن تنسجم مع المشاهد الدرامية وأن تكون ملابس أصيلة تعبر عن أصالة الشعب والجمهور على حد سواء، أي تكون الملابس في خدمة العرض المسرحي و تكون وظيفية في مقصديتها التشكيلية والدرامية.
10 ـ الإخــــراج المسرحي:
يعلن الكاتب منذ البداية موقفه السلبي من المخرج ؛ لكونه يخنق حرية الممثل ويستلب إرادته وفرادته الإبداعية، ويخضع النص لأهوائه الفنية وسلطته المطلقة ولشروط ومتطلبات طريقة سرير پروكوست.
ويحضر المخرج بصور عدة كمخرج وموجه ومنبه ومنسق ومرشد، ولكن هذا المخرج في الجوهر هو قتل للعمل المسرحي حسب صاحب (النظرية الاستدراكية)، وفي هذا يقول أحمد ضريف: " فالعمليات الإخراجية قتلت بالفعل حرية الممثل وبذلك قتلت حرية المسرح كفن طبيعي وكرؤية جمالية...إذ إن المسرحيات التي يتبناها الإخراج تقدم بنفس الطريقة التي انتهت إليها لأكثر من مرة...وكل الأشياء التي تعاد بنفس الطريقة يصبح فعلها ميكانيكيا...والمسرح هو أكبر عدو للميكانيكية".(ص:103)
وغالبا مايدفع المخرج الممثلين إلى التشبث بالذاكرة والحفظ والترديد الروتيني وإعادة العرض مرات عديدة بدون اجتهاد أوتجديد، حيث نجد الممثلين يقومون بنفس الأدوار ويجترونها بصيغة ممقوتة إلى أن تحول المسرح إلى فن تكراري اجتراري كالسينما والتصوير والفيديو. ومن المعروف أن المسرح أب الفنون، لذا فهو أحق بمسايرة الطبيعة في صيرورتها وتغيراتها وتحولاتها المستمرة. ومن ثم، فالمسرح هو " الفن الحي الوحيد الذي تؤكد الاستدراكية إلى الخروج به وانتزاعه من مشانق المخرجين."(ص:104)
ورغبة في الخروج من هذا المأزق الفني الاجتراري، ترى (النظرية الاستدراكية) ضرورة التخلص من سلطة المخرج والاعتماد على التشكيل الحر، وهو أول " خطوة من أجل ذلك؛ لأن التشكيل الحر هو الإنتاج الذكي المتجدد والمستمر المبني على المسؤولية والنضج، هدفه تحرير مخيلة الممثل ـ الصانع."(ص:104).
فهذا التصور الإبداعي الجديد هو الذي جعل الكاتب يستبدل مصطلح المخرج بمسمى آخر هو التشكيل المسرحي بدلا من المنسق أو المنبه أو الموجه، وهذا التشكيل المسرحي هو آخر مرحلة سيصل إليها الممثل بحريته وتلقائيته العفوية.
11 ـ المسرح بين الواقع والجمهور:
ينطلق الكاتب من فرضية أساسية وهي أن المسرح هو الصورة السالبة للواقع، وأن الجمهور هو الخبير والمختبر. ويتم اختبار العرض المسرحي ورصد الواقع الحياتي الطبيعي من خلال مجموعة من العمليات المخبرية المتدرجة كالتسجيل والتنظيم والتحليل والحكم على غرار العمليات التي تخضع لها الصورة الفوتوغرافية أثناء غسلها وتجسيدها وتحميضها وإخراجها. ومن ثم، فالمسرح حسب أحمد ضريف :" ليس تخيلا ولا خدعة، إنه الصورة السالبة للواقع والحياة، ذلك لأن الممثل عندما يصبح كيانا قائما ومستقلا يتصارع صراعا وجوديا داخل المجتمع المسرحي... وهذه الصراعات مهما تعددت أشكالها وأنواعها وقيمها، تبقى دائما صراعات إنسانية بامتياز لها طبيعتها وخصوصياتها...نقصها واكتمالها...ضعفها وقوتها... وكل هذه المتجاذبات موجودة في الواقع الحياتي للإنسان، يبقى أنه فوق خشبة المسرح تعالج بأدوات وأزمنة ليست واقعية ولكنها من الواقع نفسه"(ص:109) ونستنتج بأن المسرح له طابع فردي وجماعي، كما أنه فن مركب وشامل من شتى الفنون والأدوات يجمع بين ماهو لغوي وبصري، ينقل لنا الواقع بصورة سالبة، أي إن هذا الواقع ليس هو الواقع الحرفي، بل يخلقه المبدع عن طريق التشكيل الفني ولا يتطابق بشكل تماثلي ومتواز مع الواقع المرصود، إنه يشبه النص الأدبي الذي ينتمي إلى الزمن الرابع في لامعقوليته وتجريده وتخييله.
أما الجمهور المتواجد في الصالة فهو أنواع من حيث المشارب الثقافية والعلمية، وبالتالي، فهو يشكل بحر المسرح، بينما تشكل الخشبة يابسته الجافة، ويعني هذا أن الجمهور هو الذي ينعش العرض المسرحي عن طريق أفعال وردات الرضى والرفض والحياد، وهو الذي يخرج التشكيل الفني من حالة الصمت والموت إلى حالة الحركة والحياة. كما يقع بين الصالة والخشبة مايسمى بالتجاذب والاستدراك، ويحدث المد والجزر عبر التفاعل والإضاءة والإنارة والموسيقا. وأفضل الجمهور من يملك الوعي التام بالجوانب النظرية والعلمية والفلسفية التي تكون وراء الإبداع المسرحي، ومن ثم، فالجمهور هو الخبير والمختبر الذي يخضع العرض السينوغرافي لمجموعة من العمليات كالتسجيل والتنظيم ( التركيب) والتحليل والحكم.
12 ـ البطــــــل والبطولة:
ترفض (النظرية الاستدراكية) فكرة البطل الفردي والبطل الجماعي، وترى أن البطولة الحقيقية هي توكيد الذات وتحريرها من قيود الاستلاب والتدجين والتوجيه، ولايتم توكيد الذات إلا عن طريق الحرية والإيمان بالقدرات الذاتية والكفاءات الشخصية والانطلاق من الإرادة والاختيار الذاتي والقناعات الشخصية. وينبني الكيان الشخصي الذاتي عبر أربع مراحل وهي: التخطيط (المواقع التي يرتكز عليها الممثل فوق الخشبة طبقا لحالاته النفسية)، والتمركز( المركز الاجتماعي الذي يمسرحه الممثل)، والتموضع ( الجانب السلوكي للشخصية فوق الخشبة)، والتموقف (أحكام الشخصية على باقي الشخصيات الأخرى ).
وتعد (النظرية الاستدراكية) الصراع أو الدراما جوهر المسرح على غرار باقي النظريات النقدية والفنية المعروفة في تاريخ المسرح العالمي، فالدراما هي:" كل المشاهد التي تثير ردات أفعال قوية عند الجمهور سواء منها المشاهد الفكاهية أم المأساوية أم الفكاهة المأساوية أم المأساة الفكاهية."(ص:117)
وتنتهي (النظرية الاستدراكية) إلى الحديث عن شخصية العمل المسرحي وهي:" العصارة الفلسفية لشخصية التشكيل"، (ص:118) من خلال حديثها عن البناء الدرامي الذي يشكل العمل ويحدد هويته وخصوصياته الفنية والجمالية.
أما الفرجة المسرحية فتتمثل في تلك العلاقة التفاعلية التي يعقدها الجمهور الخبير والمختبر مع العرض المسرحي عن طريق طرح الأسئلة والأجوبة سواء كانت هذه الأسئلة موجهة للمثل أو الواقع السالب المنقول والمرصود فنا وتشكيلا. ومن هنا، يبدأ الصراع الذاتي بين الإنسان ووعيه، وبين الإنسان والآخر، وبين الإنسان والواقع في إطار تفلسف جدلي يتعرى عن الصراع داخل الصراع. ويقول أحمد ضريف إنه :" بفعل تغيرات الطبيعة تتغير وتتحول الأشياء، فكما أن الشمس تبخر الماء ليتصاعد إلى الأجواء ويتكتل ويصبح سحابا ثم غيما ثم ماء على الأرض، فإن بتبخر الجمهور يعني بخروجه من صالة المسرح ينتهي فعل التشكيل المسرحي وتستمر قوته.
تتصاعد كل هذه التشكيلات وتتكتل في سؤال فلسفي ثم ينزل هذا السؤال إلى أرض الواقع إما مطرا وإما طوفانا، وكلاهما يساهمان في التوازن".(ص:119) ويعني هذا أن الفرجة الدرامية لا تتحقق إلا عبر تفاعل الجمهور الواعي مع التشكيل المسرحي من خلال طرح الأسئلة والبحث عن أجوبتها الدلالية والجمالية والمرجعية.
13 ـ المسرح والفنون المجاورة الأخرى:
تدافع (النظرية الاستدراكية) على خصوصيات المسرح وهويته الأصيلة بدلا من أن يتحول المسرح إلى ملتقى الفنون ويجد نفسه ممسوخا تتداخل فيه مجموعة من الفنون التي شوهته وحولته إلى جنس لقيط يستعير أثواب الآخرين و يلتقط فضلات الفنون الأخرى. ويعني هذا أنه أصبح يعتمد على الفنون الأخرى لتشكيل نفسه ووجوده الكينوني. لذا، ترفض (النظرية الاستدراكية) تقنية الراوي، وتعمل جاهدة على تغييب الجماعة التي تعبر بلسان واحد، وتستهجن تعدد الأزمنة المعروفة في فن الرواية، وترفض أيضا الحكي والحكاية وفلاش باك، وتستبعد الفقرات القصصية والكتابة الوثائقية، وتغيب سيناريو المؤلف، وتقصي من العمل المسرحي السموم الأخلاقية والإيديولوجية، ولا تستحضر المرأة جسدا، بل باعتبارها إنسانا وفكرا، وتتخلص من كل الألاعيب الشعارية التي تسقط الفن في الكذب والنفاق والتملق غير المبرر.
ومن ناحية أخرى، ينبغي أن تكون الأحداث والمشاهد آنية تحترم التسلسل السببي والمنطقي والكرونولوجي، مع تشغيل الجمالية في التركيب والصور، والانطلاق من الحكمة وصفاء الأحاسيس، وإيجاد تبرير معقول وفني لدخول الممثل وخروجه، والتنويع في الكتابة والأحداث ؛لأنه يحافظ على الاهتمام والتركيز.
النظرية الاستدراكية في الميزان:
يتبين لنا من خلال هذا العرض لمضامين الكتاب أن أحمد ضريف ينطلق في بناء تصورات (النظرية الاستدراكية) من منطلقات فلسفية وإپستمولوجية وفنية متنوعة ومتشعبة، وقد تأثر كثيرا في تنظيره الجمالي والفلسفي بالتصور الوجودي لسارتر أثناء حديثه عن الحرية والكينونة الوجودية، كما تأثر بنيتشه في توظيف كتابة الشذرات واستخدام مطرقة الرفض لتحطيم مجموعة من الطابوهات التي ارتبطت باليقين والحقيقة المطلقة. ولا ننسى أيضا أن الكاتب قد تأثر كثيرا بنظريات المخرجين العالميين كستانسلافسكي ومايرخولد وبريخت وپيسكاتور وپيتر ڤايس وگروتوفسكي، كما كان منفتحا على التنظير المسرحي المغربي بصفة خاصة و العربي بصفة عامة الذي استهدف خلق مسرح عربي أصيل.
وتتميز نظرية الكاتب بالتجديد والخلق والتميز والإبداع. لذا، نشيد بمشروعه التنظيري الذي كان يجمع بين الجوانب الفلسفية والتطبيقية والتقنية، وكان بارعا في تحليله وذكيا في طرحه، استطاع بكل جدارة واستحقاق أن يبني تصورا متناسقا على جميع المستويات، وأن يكون تقنيا أكثر من (النظرية الاحتفالية) التي بقيت أسيرة مفاهيم عامة وفضفاضة. بينما كان أحمد ضريف ينطلق من تصورات إخراجية وتقنية محضة، مستمدا تصوراته من تجاربه الخاصة وما لقيه من مشاكل في مجال المسرح، وماعاناه من جراء تسلط المخرج واستبداده وتأثيره السلبي على الفعل المسرحي والدرامي.
ويتسم كتاب أحمد ضريف هذا بالعلمية واعتماد مراجع دقيقة في مجال الضوء والإنارة والقيام بدراسة سيميولوجية جيدة في مايخص الألوان وتأثيرها على جمهور المسرح. وبالتالي، ينبغي هذا الكتاب أن يكون مرجعا ضروريا لطلاب الفن المسرحي ودارسيه. وأنا أستغرب كثيرا لعدم اهتمام الدارسين المغاربة أو العرب بهذا الكتاب التنظيري الجديد في مجال المسرح الذي قدم فيه صاحبه بيانا تنظيريا وتطبيقيا وفلسفيا يمكن الاستفادة منه واستيعابه جماليا واستثماره على مستوى الممارسة والتطبيق؛ لأنه يؤسس لجمالية شعرية مسرحية جديدة آية في الروعة والإبهار. وعليه، فلقد انطلقت (النظرية الاستدراكية ) من مهدها قوية بمفاهيمها الفلسفية والجمالية، وتستحق منا كل التشجيع والتقدير والاحترام، وتتطلب منا كذلك أن نغنيها بالدراسة والمناقشة وتكريم صاحبها الذي اجتهد كثيرا في خلق نظرية درامية متكاملة.
إلا أننا نخالفه في بعض الأفكار والتصورات التي تحتاج إلى تدقيق وتوضيح وبيان كرفض الكاتب للمخرج المسرحي واستبداله بالتشكيل المسرحي الحر. ولكن، هذا التصور غير منطقي في الواقع وغير مقبول ممارسة وغير مستساغ تجربة، ولايمكن للممثل أن ينجز عرضا جماليا فنيا اعتمادا على قدراته الذاتية ومقوماته الشخصية فقط مهما أوتي هذا الممثل من فطنة وذكاء، فلا بد من حضور المخرج الذي سيوجه هذا الممثل ويساعده على الخلق والإبداع والابتكار والتجديد في أفعاله وتنويع مشاهده الدرامية. فلا يمكن أن نتصور تلاميذ يسيرون أنفسهم بدون توجيه المدرس، ولايمكن أن نترك الأغنام ترعى في الطبيعة بدون راع يحميها ويوجهها، ولايمكن أن نقبل بدولة يسيرها الشعب اعتمادا على قدراته الذاتية بدون قائد موجه. لأن الحرية قد تتحول في هذا السياق العابث والمتحرر من المسؤولية إلى خلل و فوضى وعدم اتزان، فمن قال بأن المخرج كائن سلبي؟! فهناك مخرجون يحبذون الديمقراطية والحوار، ويتقبلون وجهات النظر المخالفة، ويسمحون للممثلين بالخروج عن النص والانزياح عن سلطة العرض، ويتماشون مع آرائهم وإبداعهم الشخصي.
لذا، يصعب واقعيا وفنيا وجماليا استبعاد المخرج من مجال المسرح والاعتماد على الممثل فقط. وأرى أن استبعاد الكاتب لخصوصيات الفنون الأخرى من داخل الفن المسرحي هو إقصاء غير مقبول وغير مبرر فنيا وجماليا ونقديا، لأن الانعزال الأجناسي والاكتفاء بالخصوصيات الذاتية سيفقر العرض المسرحي ويحوله إلى نص جاف، فكيف سيتقبل الجمهور الخبير والمختبر عرضا مسرحيا بدون غناء وموسيقا ورقص وشعر وحكاية وقصة ورسم وتشكيل بصري وخياطة....، فلقد عد المسرح منذ القديم أبا لكل الفنون الجميلة بسبب هذه الخاصية التركيبية الشاملة، وإلا سيتحول المسرح إلى فن أحادي جاف يخلو من الفرجة والمتعة والإفادة والجمالية التأثيرية التي تنتج في غالب الأحيان عن تناغم الإضاءة مع الموسيقا والرقص والغناء والشعر والحكاية. وهذا التداخل والتفاعل التناصي والحواري ليس عيبا، بل هو مزية جمالية تحسب للمسرح و تميزه عن باقي الفنون الأخرى. ويمكن القول بأن الرواية مثل المسرح تستعير خصوصيات المسرح والسينما والرسم والتصوير، ولكن من قال بأن ذلك يعد عيبا يحط من قيمة فن الرواية الذي أصبح جنس هذا القرن بامتياز؟!
وإذا كان الكاتب قد تحدث عن مجموعة من التقنيات المسرحية، فإنه لم يوضح بشكل دقيق منظور (النظرية الاستدراكية) إلى السينوغرافيا لاختلافها عن الديكور الذي هو جزء منها،ولم يوضح لنا الكاتب موقفه من الكوليغرافيا والأزياء والماكياج والأقنعة والإكسسوارات، وإن كان الكاتب قد تحدث عن الأشياء بشكل مختصر. ولم يبين كذلك موقفه بوضوح نقدي من النظريات المسرحية الموجودة في الساحة المغربية والعربية وخاصة (النظرية الاحتفالية) التي اكتسحت جل المسارح في العالم العربي.
خاتمـــة :
وعلى العموم، فعلى الرغم من بعض الهنات الفكرية التي تثير الجدال والمناقشة وتسبب في الاختلاف على مستوى التصورات والمنطلقات، فإن الكتاب جدير بالمتابعة والقراءة، ويستوجب اعتماده مرجعا أساسيا في المعاهد الفنية والجامعات العربية. كما نشيد بالأستاذ أحمد ضريف الذي قدم لنا مشروعا تصوريا حول فن المسرح متكامل الجوانب ومتناسق الأطراف، يجمع فيه بين النظرية والتطبيق والتقنية، مستفيدا في ذلك من آراء الفلاسفة والمخرجين المسرحيين ونقاد الدراما ومعاناة الممثلين اليومية مع المخرجين. وأحيي أحمد ضريف كذلك على مغامرته التنظيرية القيمة وشجاعته الأدبية واقتحامه بكل جرأة وإصرار وتحد لعالم التنظير المسرحي الذي أثار منذ منتصف الستينيات من القرن الماضي كثيرا من الجدل البنّاء والجدل المضاد.
هذا، ونفتخر أيما افتخار بهذا العمل /التحفة الذي استفدنا منه كثيرا وسيستفيد منه المكونون والمخرجون والممثلون على حد سواء ؛ لما يطرحه من آراء جديدة في مجال الفن الدرامي، والتي استهدف من ورائها إخراج المسرح المغربي بصفة خاصة والمسرح العربي بصفة عامة من مآزقهما الكثيرة التي بدآ يتخبطان فيها، و الحد من عثراتهما العديدة وعيوبهما البادية على مستوى التدريب الفني والتعامل مع النص الدرامي وتشغيل السينوغرافيا وتشكيل العرض الركحي، والسير بهما نحو آفاق إصلاحية بديلة رحباء، نحو فضاء التجديد والحداثة والمرونة والخلق والإبداع والتأصيل.
www.jamilhamdaoui.net