تكشف قراءة الباحث المصري لرواية مكاوي سعيد الثانية (تغريدة البجعة) عن تراكب الدلالات والرؤى في الرواية، وعن معرفتها الحميمة بالواقع وثرائها بالقضايا والشخصيات.

هل هي حقا تغريدتنا الأخيرة

رواية مكاوى سعيد (تغريد البجعة)

سيد البحراوي

"مفاجأة مذهلة" قدمتها لى رواية مكاوى سعيد (تغريدة البجعة) فلأنى لم أقرأ له شيئاً من قبل. لا (فئران السفينة) ولا أياً من مجموعاته القصصية، فوجئت بتلك القدرات الفنية والمعرفية، تلك الخبرة العميقة بالحياة والناس. فى امتزاج غريب ونادر، أنتج هذه الرواية المهمة بامتياز، جعلتنى أعود إلى الكتابة النقدية.

عنوان الرواية لم يكتمل للإشارة إلى أنشودة البجعة الأخيرة والتى تأتى على لسان الراوى وصفاً لصديقه عصام: "كنت أراه كالبجعة فى أيامها الأخيرة حين تستشرف على الموت فتتجه إلى شاطىء المحيط وتنطلق فى رقصتها الأخيرة وتغرد تغريدتها الوحيدة الشجية. ثم تموت" (الرواية ص 26). إذا اعتبرنا أن البجعة هنا هى رمز لكل الشرفاء فى عالمنا، سواء فى مصر أو فى غيرها من بلدان العالم، ويبدو أنهم جميعاً فى الرواية يغردون تغريدتهم الأخيرة، فإن إهمال "الأخيرة " فى العنوان أمر يدعو إلى التساؤل عما إذا كان الإهمال، أو الحذف مقصودا أم لأسباب أخرى منها مثلا عدم إطالة العنوان، أو الاعتماد على فطنة القارىء... الخ. وهذا السؤال هو ما ستحاول هذه الدراسة الإجابة عته.

تقوم الرواية على شبكة معقدة من الخيوط الدرامية التى يشترك فيها عدد كبير جداً من الشخصيات من مختلف الأجناس والطبقات والمهن أو حتى اللامهن مثل أطفال الشوارع على سببل المثال. ورغم أن الكاتب يعتمد مبدأ توالد الحكايات الذى هو مبدأ أصيل فى تراثنا القصصى الشعبى الذى مثلته "الف ليلة وليلة" بامتياز، فإن قدرته كانت مذهلة فى سبك هذه الخيوط متماسكة فى بناء جديد ونادر. يستطيع القارىء بعد الانتهاء من قراءة الرواية أن يلم الخيوط الدرامية فى أربعة، ثلاثة منها واضحة ومركزية والرابع خفى ومحدود الحجم، لكن دوره فى الرواية فى غاية الخطورة وفى فهم إشكالية العنوان التى أشرنا إليها منذ قليل. مركز الخيوط الثلاثة هو الرواى الذى لا نعرف اسمه "مصطفى" إلا بعد ثلث الرواية. ولست أتففق مع من اعتبر هذا الراوى راوياً عليماً، بالعكس فرغم أنه يتحدث بضمير المتكلم غالباً، وضمير الغائب أحياناً، فإن وصفه لكل شخصية مهما كانت كبيرة أو صغيرة مخلص جداً لها ولصوتها، بحيث أستطيع وأنا مطمئن أن أصنف الرواية باعتبارها رواية "بوليقونية" أو متعددة الأصوات، حسب مصطلح ميخائيل باختين. وسأقدم مثلا واحداً لشخصية شديدة الهامشية ولم ترد سوى مرة واحدة فى الرواية، وجاءت فى صفحاتها ثم اختفت:

"الوقت بعد منتصف الليل بقليل، والمقهى على وشك الإغلاق. ثمة رواد قلائل لا يشغلون أكثر من منضدتين. يلعبون بروح ثأرية غير مبالين بالبرد والصقيع. كنت أحتمى بوجودهم ضد (يقصد من) كآبة الجرسون وعصبيته وهو ينظر إلى ساعته بمعدل ثابت كل خمس دقائق، ثم يهز رأسه بعصبية وغيظ... كنت أراقبه بتوتر متمنيا ألا يعلن إغلاق المقهى. كلما هم برفع كوب شاى أو فنجان قهوة ومسح بخرقته البالية سطح المنضدة، كنت أسارع فأطلب مشروبا جديدا.. جلس إلى جوارى يزفر ويدعك يديه طلباً للدفء، همست له طالباً كوباً من الكاكاو الساخن، بدون حتى أن يلتفت ناحية المقهى، ويسأل العامل الذى يعد المشاريب خلف النصبة، قال بحدة كأنه يحرضنى على الانصراف:

"الأنبوبة خلصت ماعدش فيه حاجة سخنة.... " (ص5) الراوى كائن حى جداً ومشخصن جداً، ومع ذلك فهو نموذج نمطى (بالمفهوم اللوكاتشى للنمط) يقول عن نفسه:

"أنا فى حاجة إلى مكافأة إلهية ودعم سماوى.. أجاهد خلال أعوامى الأخيرة كى أظل أمام الناس كما يتصورون عنى.. ثقة بالنفس وجرأة واتزان.. يا لكل هذا الغباء.. هل مازال أحد يتصور أنه متزن نفسيا؟.. إن وجد فحله الوحيد أن يودع (فى؟) المصحة النفسية فورا.. سافرت إلى بلدان كثيرة.. سعيت وراء أوهام.. عدت بمال معقول.. لكن من ذهب وعاد لم يكن أنا.. مسخ انتحلنى.. دخل جسدى ولم يفارقه.. مسخ هو الذى عاد" (ص28).

نموذج لملايين البشر فى مصر والعالم العربى والعالم كله. طفولة مليئة بالمشاكل، أبرزها فى حالتنا عقدة الكترا التى لم تحل لأسباب اجتماعية وثقافية ليس هنا مجال تفصيلها، ويعتبره الطبيب مصابا بالشيزوفرينيا نتيجة أيضاً للخراب الذى نعيشه على كل المستويات، والذى يصفه طوال الرواية بشكل غير مباشر وشديد الحنكة، وفى كافة المؤسسات وقطاعات المجتمع وطبقاته. يعمل ولا يعمل، شاعر ولا يكتب الشعر، يدخل فى مشروع واسع التمويل ولا يكمل... الخ. هذا الراوى الذى يدرس العرببة للأجانب يقيم علاقة مع إحداهن، الأمريكية "مارشا" هى علاقة حب وعمل معا، وهو "الراوى" متشكك في الاثنين معاً وليس متحمساً لأيهما طوال الوقت، وإن كان حماسه يزداد في بعض الأحيان: "لم تنبهني أبدا.. لم تقل لي إنها كالرمال المتحركة كلما دفعت بقدمك إلي أسفل رغبة في الصعود، اقتربت من الموت الأكيد" ص36.

يرد هذا النص في بدايات الرواية و هو يجسد أزمة البطل المرتبطه بعقده النفسية ورغبة الموت الناتجة عن الاكتئاب الطاغي عليه وعلي معظم الشخصيات الشريفة في الرواية. وقد أوردت النص أيضا لتبيان طريقة الكاتب فى التشويق حيث ينسج الخيوط على مهل ملقياً إليك أحيانا بطعم يجعلك تظل متعلقاً به حتى تعرف كيف سيتحقق هذا القانون: الوهم أو الاستبصار. ومما يتصل بهذا النمط من التشويق الإشارة فى بداية الرواية إلى مشروع العمل بينه وببن "مارشا" لا نعرف الإ متاخراً هويته، وهذا المشروع هو الذى تنبنى عليه هيكلة الرواية، ولذلك اعتبرته الخط الدرامى الأول لأنه الأكبر حجماً والأكثر امتداداً وتأثيراً على نهايتها (على الأقل على المستوى الظاهرى) هذا المشروع هو مشروع فيلم عن أطفال الشوارع تسعي مارشا إلي إخراجه "هي التي لم تدرس الإخراج إلا ثلاثة أشهر" وتحصل علي تمويلات متعددة من جهات متعددة، ويقوم الراوي بجمع المادة، والتصوير أيضا، فندخل بذلك إلي عالم "كريم" وعصابته، الملئ بالفواجع والفكاهات التي هي بالتأكيد شديدة الواقعية. من خلال "مارشا" أيضا يدخل الراوي عالم الأجانب بعلاقاتهم المثيرة والمريبة أحيانا، بأنفسهم (مثلا علاقة "مارشا" ب "ديانا") أو بالمصريين، والحرية التى يتمتعون بها فى بلد محروم أهله من كافة أشكال الحياة بما فيها الحرية.

الخيط الثانى والذى يبدو أكثر حميمية ويقدم لنا أتماطا بشرية أخرى عميقة، هو علاقة الراوى بأصدقائه المتعددين الأحياء الذين ارتبط بهم سواء فى الطفولة أو الدراسة قبل الجامعية أو الجامعية أو ما بعدها: عصام وأحمد وعوض (الألمانى) وزينب وياسمين. هذه الشخصيات مقدمة بعمق خلال ممارستها لحياتها أو عبرالتحولات العميقة التى تصيبهم، وهى رغم قسوتها وفنتازيتها (فيما يبدو) منطقية وواقعية تماماً. أحمد (أبن الحتة) والذى جند الراوى فى منظمة يسارية، شيوعى متشدد ينتهى به المطاف إلى إسلامى متشدد هو وزوجته، إلى درجة أنه، وهو المهندس العبقرى، يستقيل من العمل باعتبار أن راتبه حرام، ويكتفى ببيع البسبوسة، ولا يستجيب لآى محاولة للإقلاع عن ذلك.

عصام الرسام العبقرى يحب سامنتا سيدة الأعمال السنغافورية التى تغويه بالحياة معها والزواج فى سنغافورة، فيستجيب هو الذى لا يستطيع أبدا الحياة خارج مصر كما يقول. وفجأة تلح عليه سامنتا أن يطلقها بحجة أنها ارتبطت بشخص آخر من بلدها، فيدخل عصام فى حالة اكتئاب عميق ويتحول عن الرسم إلى التصوف. وفجأة يكتشف أن سامنتا لم تحب آخر، وانما اكتشفت قرب موتها بالسرطان، وحين ماتت كتبت كل ثروتها لعصام الذى رفض الحصول على أى مليم منها، وحبس نفسه فى شقته ليحولها إلى متحف لسامنتا، إذ رسمها فى كل أوضاع حياتها وأجزاء جسمها على كل جدران الشقة. ومن هنا تخيل الراوى، حين زاره، أنه "قد اتخذ شقته ومرسمه قبرا له ولسامنتا وأنه قد رفع مرساة سفينته وارتحل مع ذكرياته، وأنه يجاهد حثيثا لتخليص روحه من عظامه ولحمه الرممى" ص265.

عوض أو إفالد الألمانى الذى تمصر وتزوج مصرية هو الوحيد الأجنبى (مع سامنتا) الشريف فى الرواية، ومع ذلك لا يغرد تغريدة أخيرة، وإن كنا تلاحظ تحوله التدريجى إلى التصوف.

مع زينب وياسمين ندخل إلى عالم تناقضات المرأة المصرية والتى يجسدها الكاتب بكل دقة وجمال فى الفصل الثانى عشر الذى يبدأ بجملة وتنويعات على حالة شيزوفرينيا اتهمنى بها الطبيب، ويرد الراوى على الطبيب قائلا ـ الشيزوفرينيا بدأت فى مجتمعى أيها الطبيب.. أنا مجرد عرض لها.. عبرت الزمن فجأة من عصر المينى جيب والشورت الساخن إلى الإسدال والخيام السوداء التى ترفع طرف النقاب لتدخل فى فمها ملاعق الكشرى أو عصا الآيس كريم" ص93. فى هذا الفصل يجسد الراوى شخصية "هبة" التى اتصل بها صديقه ويليام من محمول الراوى لتعود هى لتتصل به وتغازله، وتذهب إليه فى منزله فإذا بها منقبة ومسدلة، تمارس معه الجنس بحرفية عالية، ثم تستحم وتصلى، ثم تعود لمحاولة النوم معه مرة أخرى، وتتمنى ـ هى التى تعرف عليها من قبطى ـ ألا يكون قبطيا.

زينب فتاة هربت من الصعيد (المنيا) بعد أن فض عمها بكارتها، تعيش حالة جنس شبق مع الراوى، يبدو أنها تحبه، وحين تكتشف أنه لا يبادلها نفس المشاعر، رغم اشتياقه الدائم إليها، تحب ملحقا مكسيكيا وتهاجر إليه وتنقطع أخبارها تماماً، وإن كان الراوى (الذى زاد اشتياقه لها بعد سفرها) يظن أنها تحولت إلى مومس. على النقيض من ذلك تبدو ياسمين شاعرة شابة تلجأ إلى الراوى لتعرض عليه شعرها، وتتواصل العلاقة عفيفة دون أى ملامسة جسدية، ولا تبدو لدى الراوى رغبة فى تحقيق هذه الملامسة، لأنه يرى فيها امرأة أخرى. بطلة الخط الدرامى الثالث، بل وبطلة الرواية، بالإضافة إلى الراوى، هى هند. هند فتاة عادية تماما سواء فى شكلها أو أفكارها. يحبها الراوى فى عامه الجامعى الأول ويتردد فى الاقتراب منها، ثم تحين الفرصة، ويتحابا بقوة حباً عفيفاً، دون إعلان ذلك. يذهب للمذكراة معها فى بيتها بترحيب واضح من الأهل، ويفعلان كل شىء معا، إلا النشاط، هو يسارى يشارك فى المظاهرات والاجتماعات، وهى طاللبة "نشاط" تنجح فى انتخابات اتحاد الطلبة وترأس إحدى لجانه. وفى أحد الاجتماعات تنفجر فجأة دانة اسرائيلية من مخلفات حرب 67 وتموت هند. منذ تلك اللحظة يفقد الراوى جوهر حياته، يظل يذهب إلى قبرها ويقرأ لها شعره كما كان يفعل وهى حية، ويحكى لها يومه. لا يكف عن ذلك المسلك إلا حينما تأتى حية (وفى اليقظة) لتطلب منه ذلك، وإنها هى التى ستأتيه لكنها لا تأتى كثيرا، ويظل هو يبحث عنها فى كل النساء حتى يجد ياسمين التى تشبهها فى الشكل، لكنها لا تشبهها فى الروح.

مع دانة 67 يلتحم الخط الدرامى الرابع، وهو طبنجة ابن يوسف حلمى "مدير الانتاج والمنتج السينمائى القديم" (ص38) الذى يلجأ إليه الراوى كى يستفيد من خبرته فى مجال الصحافة، وتمتد بينهما العلاقة ليصبح الراوى بمثابة قس الاعتراف ليوسف حلمى، (ص39). طبنجة الشهيد سعيد يوسف حلمى "هى السلاح الميرى لابنه الشهيد سعيد الذى استدعى فجأة (؟) صبيحة حرب أكتوبر 1973. فغادر البيت ناسيا طبنجته الميرى ولم يعد مرة أخرى قاد طائرته وحارب أربعة أيام متتالية ثم احترق معها" (ص58). ظل يوسف حلمى محتفظا معتزا بها حتى جاءه سعيد فى الحلم قبل وفاته وطلب منه أن يعطيها للرواى. تردد الراوى فى أخذها، لكن يوسف أصر. حملها الراوى إلى بيت أهله القديم، وأخفاها دون أن يدرى ماذا يفعل بها ـ أصبحت أملك طبنجة بريتا 9 مللى ولا أدرى أيضا ماذا سأفعل بها؟ لكن الشهبد سعيد يدري" (ص61) طبنجة 73 المصرية التى لم تستخدم يكاد القارىء ينساها ولا تظهر إلا فى نهاية الرواية.

عبر الرواية تنسج الخيوط بمهارة كاتب روائى مقتدر يمتلك أيضا حرفية كاتب الروايات البوليسية، وتتمازج الخيوط بحيث تضع القارىء فى حالة من الترقب والتصرف والاستمتاع. شغف القارىء بما ستؤول إليه مصلحة كل هذه الشخصيات. لكن الكاتب الذكى يضع بذور النهاية منذ البداية، وعبر القص المتوالد كما سبق القول، وبلغة دقيقة إلى حد كبير فيما عدا بعض الاخطاء اللغوية التى أرجو أن تصحح فى الطبعات التالية (على سبيل المثال صفحات7، 39، 45، 48، 62، 79،89، 49، 100، 142، 185، 190، 215، 216، 233، 235، 239، 250). ودون أن يخل الكاتب بالحبكة المحكمة والتشويق، يطوف بنا في كل مناطق الحياة، في القاهرة أساساً، لكن أيضا في الصعيد وأمريكا وسنغافورة، ويقدم معرفة بكل ما دار في حياتنا خلال السنوات العشر السابقة علي الأقل، وبصفة خاصة، ما نعيشه الآن، بالإضافة إلي معرفة عميقة بالتركيب الداخلي للشخصيات البشرية، رجالاً كانوا أم نساءً أو أطفالاً (وخاصةً أطفال الشوارع). وهنا أود أن أتوقف عند رأي البعض بشأن تصوير الكاتب للمرأة بطريقة عدائية. أنا لا أوافق علي هذا الرأي. في الرواية وجدت كل النساء، سواء كن شريفات مثل هند وياسمين وايفلين وجوليا وسامنثا وحتي زينب وهبة أو شريرات مثل مارشا وديانا وورد (؟) وشاهيناز، وزوجة ابن يوسف حلمي.. الخ، كلهن، رغم التناقضات الطبيعية والواقعية، أقوي من كل الرجال. هن علي الأقل يعرفن طريقهن، يخترن وينفذن ما يرين أنه الطريق المناسب لهن. يدعم هذا الرأي ما سبق أن قلته من أن هند هي بطلة الرواية الأساسية، ربما حتي أقوي من الراوي نفسه، لأنها هي التي تهيمن عليه وعلي سلوكه، منذ بداية الرواية وحتى نهايتها، وأظن أن الإهداء الثانى الأكثر حميمية ورغم أنه دون ذكر للاسم، هو لهند:   

إلى البرق الدافىء
الذى صادفته وأسرته بقلبى ولن أفلته أبدا..
رحمة بى اهدأ واستكن. (ص4)

وفى رأيى أن الكاتب محق تماماً فى تجسيده لتناقضات المرأة وقوتها فى نفس الوقت، فهى كذلك فى الواقع، نظراً للتحولات الفظيعة فى المجتمع التى تؤدى إلى تناقص الذكورة فى المجتمع المصرى (طبقا لدراسات المركز القومى للبحوث الاجتماعية والجنائية) كذلك أرى أن الكاتب قد قدم صورة رمزية لأمريكا والغرب، وما ينبغى أن ينتبه إليه يقول مثلا: "صورة نادرة نشرتها مجلة " اللطائف المصورة " عام 1943 لحديقة برلين عند افتتاحها عام 1840. والصورة ـ لكل من يهمه الأمر ـ بها قفص حديدى بالحديقة يتجمع حوله بعض زوارها وهم يلقون بالموز والفول السودانى لأسرة تضم شيخا فى السبعين من عمره وأب (1) فى نهايات عقده الثالث وزوجة وطفلا رضيعا. والقفص مكتوب عليه من الخارج "أسرة همجية تم صيدها من غابات افريقيا السوداء" (ص 233).  لكن الكاتب في نفس الوقت لا يجهل أن في الغرب شرفاء أيضاً ومنهم عوض (هل هي مصادفة أن يكون المانياً أيضاً؟).

غير أن هذه الصورة ليست بعيدة بأي حال من الأحوال عن النهاية التي ينتهي بها الخيط الأول من خيوط الرواية الدرامية. مارشا تتصل بالراوي لتطلب منه الذهاب اليها فوراً، ويذهب ليجد جوليا الخادمة القادمة من جنوب السودان مقيدة ومصابة بكدمات وطعنات واضحة تتهمها مارشا بالسرقة وتطالب برد المسروقات. يحاول الراوي استنطاق جوليا ويفك قيدها. هي تنفي تماماً التهمة، مرعوبة من "مارشا" ومن الراوي تقفز من البلكونة وتموت. استخدمت مارشا (التي تعرف جيداً ما تريد وتنفذه) الراوي المتشكك فيها منذ البداية، استخدمته كأفريقي شمالي لقتل الافريقية الجنوبية. وكانت هذه هي اللحظة التي حسم فيها الراوي قراره بعدم إكمال الفيلم معها وعدم تسليمها الصور والكتابات التي أعدها وأرسلها ـ مع كريم ـ إلي مخرج صديق. كان الراوى شبه متأكد من براءة جوليا، ويشير بشك إلى ديانا.

قبل ذلك وعبر الرواية كانت شخصيات الخيط الثانى تختفى (زينب، سامنتا) وتستعد بقية الشخصيات للاختفاء (أحمد وعصام)، فيما عدا ياسمين التى تنتمى إلى الخيط الثالث باعتبارها امتدادا لهند. تمثل هذه العلاقة أسطورة الرواية المكتوبة بدقة وإحكام. فنتازية بإمتياز وواقعية بإمتياز أيضا (واقعية سحرية؟). يصر الراوى طوال الوقت على أن ياسمين هى هند، وفى إحدى اللحظات قرب نهاية الرواية يتأكد من ذلك حين يرى حسنة (ندبة) هند التى يعرفها جيداً، يحاول أن يتأكد بإزاحة حجاب ياسمين فتثور ثم يغمى عليه (دون أن تفهم ما حدث بدقة) وينقل إلى المستشفى. وحين يشفى يذهب إلى بيتها ليحاول التأكد والفتاة تصرخ. "حتى اقتحم الجيران الشقة. وأكدوا فيما بعد فى التحقيقات بأنى كنت أخنق الفتاة وأصرخ فيها كى تخرج من جسدها روح هند" (ص283). يقتادونه إلى القسم بتهمة التحرش بياسمين ومحاولة اغتصابها، لكن الراوى لم يكن مهتماً بذلك:

"كنت أتأملها بفضول. أحاول أن أستخلص ملامح هند من ياسمين.. فجأة رأيت تلون الملامح. ظهرت لى نظرة هند قوية جلية بقسمات وجهها الصلبة إذا ما أرادت شيئا. استصرخت هند ياسمين وجعلتها تهتف وتصرخ فى وجه الضابط، ثم تبكى فى حضورهم جميعاً وهى تنكركل ما أدعوه عنى.... اقتربت منى ومدت ذراعها لكى أتقدمها إلى ركن قصى. انتحت وهناك وسط دهشة الجميع. همست فى أذنى: أنا مش هاظهر لك تانى. كفاية اللى عملته ده.. كان الصوت صوت هند... صرخ الضابط فيهم كلهم أمرهم أن يرحلوا... دقائق وعادت الفتاة بمفردها. كان الضابط مشدوها لعودتها لكن فضوله أسكته. وقفت وبيننا مسافة لا تتعدى النصف متر، أحنت رأسها. وقالت: أنا أسفة. وكان الصوت ياسمين ثم قالت: مع السلامة وكان الصوت هند" (ص 284-286).

بعد كل ما حدث مع مارشا والأصدقاء وياسمين/ هند التى لن تعود إليه بعد الآن، لم يعد الراوى يرغب شيئا فى الحياة. فى هذه الأثناء كان اليوم ـ التاسع والاسرائيليون يدكون لبنان ـ لبنان الذى أصدر لى أول ديوان شعر.. لصقت.. صور أطفال الإسرائيليين وهم يقبلون الدانات التى ستنفجر فى لبنان وتقتل هند مرة أخرى.. صاحب الدانة التى قتلت هند أصبح قائدا الآن يخوض فى دمائنا بالأقدام.. ومازلت أمتلك مسدس بريتا 9 مللى" (ص 288). يقرر الراوى إذن أن ينتحر. جمع كل الأدوية وخلطها ببعضها وبدأ فى تناولها ويدخل فى غيبوبة، تبدو لنا أنها غيبوبة الموت، (على نحو يذكرنا بنهاية "اللجنة" لصنع الله إبراهيم). الشرفاء فى العالم قد غردوا تغريدتهم الأخيرة. لكنه قبل أن يفعل ذلك أنهى الخيط الدرامى الرابع، مستفيداً من علاقاته بالخيط الأول.

استدعى كريم وكلفه بتسليم ما لديه بشأن الفيلم ويسلمه أيضاً مسدس الشهيد سعيد. كريم زعيم عصابة أطفال الشوارع، تلك القنبلة الموقوتة المكونة من اثنين مليون مصرى لا يجدون مأوى ولا مأكل. نعرفهم طبعا، ونخاف ـ نحن البرجوازيين ـ منهم. قنبلة موقوتة لكنه إنسان، وعبر علاقة طويلة مع الراوى تطور وأصبح أكثر إنسانية وكاد أن يكون صديق الراوى الوحيد الباقى، والذى لن ينتحر، هو إذن وربما ياسمين وإيفالد وعوض) الذى رزق بمولود جديد، لم يغردوا تغريدتهم الأخيرة.

***

ترى هل عدت إلى الكتابة النقدية، أم أننى كتبت نصاً عن الراوية التى أذهلتنى؟ هل هذه تغريدة أخيرة؟ أم جديدة؟ 


كاتب وجامعي من مصر