عن شعر أسامة الدناصوري وكتابة الحقائق المخجلة
لم يكن أسامة الدناصوري واحدا من شعراء قصيدة النثر المصرية المتميزين، فقط، بل كان أحد المؤسسين لهذه الحالة، التي تحولت في العقد الأخير من القرن العشرين من موقع الهامش المنحّى الذي يحوطه الصمت والتجاهل إلى موقع المتن، الذي برغم عدم الاعتراف المؤسسي به إلا أن هيمنته واضحة ضاغطة حتى على الأنواع المناوؤة له. شارك أسامة في صنع هذا المناخ بانهماكه في النقاشات الحارة التي جرت طوال عقد التسعينيات، فقد كان مسكونا بقلق إبداعي يجعله دائما قادرا على السير وراء الأمثلة الصعبة التي يعوق التلقي الثقافي المحيط الشاعر الشاب عن طرحها. وهكذا بعد تدريب شعري ليس قصيرا، استطاع أسامه أن يمسك ببعض ما يلائمه من مفاهيم وخبرات وضعته على طريق كتابة تخصه، وتقدر على كتابة ما يراه جديرا بالكتابة. تقدر على اقتناص ما يراه أساسيا في الوجود. الوجود تلك الكلمة العزيزة على قلبه، حيث يستطيع الشعر أن ينسج معرفة بالعالم لايستطيعها غيره. وحيث تصبح لغته امتدادا لجسد كاتبه. لغة مراوغة صعبة القياد تغير لغة الحراس التقليديين للغة، وإيقاع يحدده الوجود في العالم، لا تلك الوصايا التي استخلصها العروضيون من زمن آخر، لعله كان "ملائما" لأزمنته، ولعل أفضله مازال قادرا على إثارة اهتمامنا وإمتاعنا، لكنها هذه الوصايا لم تعد ملائمة الآن، فهي تنتج غنائية تجعل الشعر محصورا في أرض ضيقة. فيما يستطيع الشعر أن يوسع أرضه، و"يعود" إلى ما كان عله دائما، أي فنا مؤهلا لكتابة العالم الذي يتأبّى على الفهم. سوف أقصر حديثي هنا على الشعر المكتوب في الفصحى ـ أي المجموعات الشعرية الثلاثة التي أصدرها أسامة الدناصوري تباعا: (حرافش الجهم)، ثم (مثل ذئب أعمى)، وأخيرا (عين سارحة وعين مندهشة). كتب الدناصوري ديوانا من الشعر العامي هو: (على هيئة واحد شبهي). وصدر له منذ أيام كتابه السردي الأول (كلبي الهرم ... كلبي الحبيب). هناك شعر لم يصدر بعد في كتاب، وإن نشر بعضه في الصحف. في ديوان (عين سارحة وعين مندهشة) قصيدة عن اكلاب بعنوان: "على مشارف الحقول" تتجاوب مع اهتمام قديم بالحيوانات، يتضح حتى في عناوين الديوانين الأول والثاني. أما هنا فالشاعر يتوحد مع الكلاب الرفاق: "أنا ابن ريف مثلكم / ومثلكم لا أفهم / لم أنا هنا". تلك كائنات تنتمي إلى عالم ماقبل إنساني، قبل أن يتمايز الإنسان عن السوائم. فهي كائنات خشنة، ملبدة، وعاضة، لها ظفر وناب، ومن ثم تخرج عن فضاء "الإنساني" وتهمل فتجرد من الروح، ويستطيع الشعر أن يؤشر إلى هذه الروح، ويعيدها إليها، للتآخى مع الإنسان في فضاء شعري يلوح مغلقا غالبا إلا على المصروعين والمرضى والمهمشين. هذه الحيوانات وإن انطوت على قليل من الرمزية، إلا أنها كائنات مادية، جاءتها الخيانة من أعضائها التي سجنت في حيوانيتها، مغدورة، مثل الشاعر الذي جاءته الخيانة من أعضائه، من داخله، حيث الجسد يحوّل مناعته من مناعة حامية له مضادة لما يهددة، إلى مناعة خئون مهددة للجسد نفسه، وللذات نفسها. الشاعر في هذا الفضاء كائن ذاهل عن نفسه، يفر من وكره ومن القصيدة ويمضي في الطرقات، من دون أن ينتبه إلى شيء ما يطل من جنبيه، حي نابض، رخو دافئ، يخفق لامعا في الضوء حيث الزوائد الروحية التي تتساقط من جسده على الأسفلت من دون أن يشعر. لاشك في أن هذه استعارة ذات طابع رومانسي، تضع الشاعر في موضع قريب من موضع "الفادي" الذي تتغذى عليه الحياة، التي تأخذ هيئة الأصدقاء "المجانين الذين يلعبون بعنف/ ويرشقون بعضهم بجرادل الماء/ وقراطيس التراب". فيما تتحول الأنا المتحدثة في القصيدة "تحت الشجرة" إلى الضد تماما: "أنا فيلسوف الشلة/ المقعد الذي يحب الجميع/ ولايكرهه أحد". أما في قصيدة "ذكريات"، فالذات تصبح فريسة: ها أنا مخترق من صدري مرة أخرى/ أشق بظهري الأمواج/ مخلفا نهيرا صغيرا من الدماء/ ثم ها هي القروش النهمة/ تتكالب، لتبدأ الوليمة". لكن الفادي المسيحي صلب من أجل المجموع "إذ تاق الله إلى مصالحة الناس الذين خلقهم على هيأته، فتجسد مسيحا مصلوبا غسل بدمه خطايا البشر." أما "الفادي" هنا فهو "فريسة" و"ضحية"، جاءته الخيانة من أعضائه، في فعل مجرد من أي توشيات عاطفية، فقد آلم الجسد، والدم المتجلط في أجهزة غسيل الدم، ومن ثم فإن معانقة الموت ليست نتاج خطة كتاب مقدس، كما أنها ليست مظهرا من مظاهر الغبن الكوني. إنها علامة على العطب في الحياة. في الديوان السابق (مثل ذئب أعمى) كما في هذا الديوان، تجلى هذا العطب في تماهي الشاعر مع السوائم، والولع بالقبح الذي يشفي على التلذذ بالقبح الفيزيقي، وفي الترميز الأليجوري القريب المنال، وفي التدريب على كتابة الفكر. الفارق بين الديوانين أن الديوان الأخير، ينطوي على تسليم بخيانة الأعضاء فلم تعد وساما أو مزيّة، ومن ثم أصبحت متع الحياة تطلب، ويسعى إليهاز أضف إلى أن العطب في الوجود أصبح يتجلى في صور كثيرة بعيدة عن التلذذ بالقبح الفيزيقي. مقلوب الرومانسية الذي نجده في شعر الدناصوري يأخذه إلى تقشف لغوي ومعجم لايحتفي من علامات اللغة إلا بالكلمات ذات الدلالة المادية، وإلى ولع كلاسيكي بالوضوح والإحكام، والنزوع إلى التحديد الدقيق السيء الظن بالعالم، وبالتالي في الاستعارة ومزج التناقضات والإدهاش. نحن حقا في دهشة ما، لكنها ليست الدهشة التي تعبر عن نفسها في أعراس اللغة، واللجوء إلى مناجم الاستعارات، بل دهشة من احتجاب الوجود وترفعه على الوضوح والتجلي. ولذلك لا احتفاء بالحياة ولا غناء لها، ولا رفع لعناصرها كي تصبح أعلى من قامتها، وتتحول إلى ملق، بل شعرية شحيحة مقتضبة، آتية من كتابة الصغير والنسبي والمنحّى جانبا، حيث الشاعر بفكاهة مرّة يتصور نفسه ذئبا يكمن للفرائس، لكنه ذئب أعمى. أما الرحلة فهي رحلة رجل صغير يسكن على مشارف الحقول، في مدينة عتيقة، حيث المفردات العصرية: البار، المقهى، الشوارع الخانقة، المدافن، السيارات ... إلخ. توتر شعري في هذه الرحلة يكمن التوتر بين الحياة والموت والصحة والمرض، والطراوة والتشقق. فلو انتصر طرف على الآخر لانهارت القصيدة، وأصبحت غناء للألم، حيث خطر "السنتمنتالية"، أي الإسراف العاطفي. وبالفعل يكتب الشاعر إحدى قصائد هذا الديوان بعنوان "السنتمنتالية"، وهي واحدة من قصائد تحمل عناوين مشابهة: "سنتمنتالية" "إيروتيكية"، "نرجسية"، "مازوشية" أي تلتقط مفهوما مجردا له تاريخه المفهومي في حقل من حقول المعرفة، لتحوله إلى كتابة، لاتشرح المفهوم، ولاتشعرنه في الاستعارات والتشبيهات، وإنما تلتقط مشاهد سردية واضحة الدلالة لتخضعها إلى التأمل والفكاهة والتنويع وتحولها بالتالي إلى تفاريق ومشاهد مبعثرة ملقة في الحياة، بل هي جزء من الحياة، وضع الشاعر يده عليها، لا من خلال معرفة خارجية، بل من خلال اكتشافها والتسليم بوجودها. فهي عناصر حقيقة في الوجود، ومن خلال كتابتها يوضع هذا الوجود موضع السخرية والفكاهة المرة، أي الكوميديا السودا. هكذا يفقد المفهوم مفهوميته وتجريده واختزاله للتنوع، وتبرز تجربة الحياة، ذلك أن "المفهوم" نفسه، ليس مفهوما خالصا. إنه مجاز صيغ لاحقا لاحتواء تجربة وأسرها وتحديدها وإغلاقها، ولكن الشعر قادر على كتابتها مرة أخرى، والتنويع عليها والسخرية من الذات التي تسلم بنقائصها وبقدرها. هنا سنجد مقلوب الرومانسية جد واضحا، سعيا إلى إسقاط الثنائيات ودمجها وخلط عناصرها: الروح والجسد، الشعر والفكر، الوجدان والعقل، في درب من البلاغة المرتابة الشكاكة التي تنفي الزوائد والمنمات، وتبقي على العناصر الأكثر عريا ورعبا. تقول لنا القصائد أن الوجود يخادعنا، بل هو وجود التباس، يقنع الرغبات والنوازع والكلمات. أيعني هذا أن القصائد تكتب أفكارا؟ لا، إنما القصائد تكتب ما وقعت عليه الذات في "مصيرها"، لذلك هي قصائد يكتبها شاعر يبحث عن "الفهم"، وحين يفكر، أعني حين يكتب، تأتي الكتابة من موقع الذات المنفعلة التي تفضح اللغة غليانها، لذلك تصل إلينا، على رغم السخرية المرة، لهجة تؤشر إلى كاتبها. بهذا تكشف اللغة المرض الكامن في الوجود من حيث هو وجود وتضعنا في مواجهة "الحقائق"، حقائق واضحة نعمى عنها أو لانحسن قراءتها، لأننا لانرغب في ذلك، خوفا من العدوى، وخضوعا للتطهير، وفرارا من العطب. لكن الشاعر السيء الظن بالحياة لاسبيل أمامه سوى القراءة، قراءة كتاب الحياة المكتوب بحبر أبيض، ولكي يقرأه لابد من تسويد هذا البياض عبر الشعر، ليس سعيا للكشف، فهذا سعي نبوي زائف، بل محاولة لترويض الوحش، باكتساب موهبة العيش مع عطبه، مع الإقرار بأنه لايوجد ما يؤكد أن هذا العطب مطلق. هذا الترويض يتم بالشعر الذي أعطى للشاعر مصادفة تاريخية، كما يعطي المال للآخرين، وجمال البدن وفتوته لغيرهم. إنه ـ على حد تعبير صلاح عبدالصبور ـ ما سلم للشاعر من سعيه الخاسر. وهكذا تأتي القصائد بحثا عن المعنى المتواري خلف التفاصيل. ولايعني هذا أننا مع شاعر يغيب لديه الزمان أو المكان. فإدراك العالم لايتم إلا من خلالهما أحيانا على نحو مسرف في واقعيته. الزمن له علاماته من التاريخ الشخصي للشاعر "ابن ريف" الذي يحيا على مشارف الحقول في مدينة عشوائية، يعاني المرض ويبحث عن نسائه في المصروعات والخائبات السعي، مأخوذا بالبارات والمقاهي ... إلخ. لكن هذه العلامات لاتجعلنا، أيضا، مع شاعر مشهد يومي نثري، ولا صائغ للحظات يسردها أو يغيبها، لأن المدينة ومشاهدها ونثرها اليومي لاتقصد لذاتها، بل تأتي مع غيرها لتدل إلى ما تراه جديرا بالاحترام، جديرا بالكتابة، حيث اشتهاء المحارم، والتلذذ بالألم، والرغبة في سقوط الآخر والتهامه، والتغذي على رحيقه وعصارته. في هذا نتحرك في توتر الشعر بين الرغبة في الموت ومقاومته، بين إيلام الآخر وتلقي الإيلام، بين التسليم بقدرية الأدوار والتمرد على هذه القدرية، بين الاحتفال بالألم والسخرية منه، كأننا مع درب من الشعرية التي تجد في "الشر" جمالا، لأنه متهم ومرفوض بحثا عن أخلاقية أخرى غير تلك الأخلاقية السائدة المهيمنة، أخلاقية تدرك مكر العالم وخبثه وتقنعه وتبدله، لأن العالم خلّب، يفرح المتعجلون بما يصدره لهم من معان تمده بالمعاني الأخرى اكامنة في الثنايا والتجاعيد. إنها لغة متأله صغير، يرمق العالم ساخرا من كائناته الصغيرة الغارقة في التفاؤل وحسن النية والأمل، لأنها كائنات لم تصادف الخيبة، ولم تعرف خيانة الأعضاء، ولم تحيا على الحافة الخطرة. ليس الشعر هنا طريقة تحرر ذاتي من كثافات اللاوعي، بل يكاد يندمج في الحياة من دون أن يتخلى عن رفعته، أي يصبح أداة الرجل الشاعر للوصول والاتصال، لابمن سيقرأون، بل ـ أيضاـ بمن سيقعون في فضاء الحياة اليومية التي يعيشها الشاعر "الرجل" الذي ربما يعوقه عائق ما عن "مواجهة الأنثى المشتهاة"، فيلوذ بالشعر الذي يصبح "رسالة" مادية تخفي وجل الذات وخجلها. تثور الذات على "عماها" الشعري، وتضيق بضيق القصيدة الشعرية، فتطيح بهذه العقيدة، وتصبح ذاتا مغنّية، لاهجة. كأن الشعر أوسع من العقيدة التي تنظمه وتفهمه.
لم يكن أسامة الدناصوري واحدا من شعراء قصيدة النثر المصرية المتميزين، فقط، بل كان أحد المؤسسين لهذه الحالة، التي تحولت في العقد الأخير من القرن العشرين من موقع الهامش المنحّى الذي يحوطه الصمت والتجاهل إلى موقع المتن، الذي برغم عدم الاعتراف المؤسسي به إلا أن هيمنته واضحة ضاغطة حتى على الأنواع المناوؤة له. شارك أسامة في صنع هذا المناخ بانهماكه في النقاشات الحارة التي جرت طوال عقد التسعينيات، فقد كان مسكونا بقلق إبداعي يجعله دائما قادرا على السير وراء الأمثلة الصعبة التي يعوق التلقي الثقافي المحيط الشاعر الشاب عن طرحها. وهكذا بعد تدريب شعري ليس قصيرا، استطاع أسامه أن يمسك ببعض ما يلائمه من مفاهيم وخبرات وضعته على طريق كتابة تخصه، وتقدر على كتابة ما يراه جديرا بالكتابة. تقدر على اقتناص ما يراه أساسيا في الوجود.
الوجود تلك الكلمة العزيزة على قلبه، حيث يستطيع الشعر أن ينسج معرفة بالعالم لايستطيعها غيره. وحيث تصبح لغته امتدادا لجسد كاتبه. لغة مراوغة صعبة القياد تغير لغة الحراس التقليديين للغة، وإيقاع يحدده الوجود في العالم، لا تلك الوصايا التي استخلصها العروضيون من زمن آخر، لعله كان "ملائما" لأزمنته، ولعل أفضله مازال قادرا على إثارة اهتمامنا وإمتاعنا، لكنها هذه الوصايا لم تعد ملائمة الآن، فهي تنتج غنائية تجعل الشعر محصورا في أرض ضيقة. فيما يستطيع الشعر أن يوسع أرضه، و"يعود" إلى ما كان عله دائما، أي فنا مؤهلا لكتابة العالم الذي يتأبّى على الفهم.
سوف أقصر حديثي هنا على الشعر المكتوب في الفصحى ـ أي المجموعات الشعرية الثلاثة التي أصدرها أسامة الدناصوري تباعا: (حرافش الجهم)، ثم (مثل ذئب أعمى)، وأخيرا (عين سارحة وعين مندهشة). كتب الدناصوري ديوانا من الشعر العامي هو: (على هيئة واحد شبهي). وصدر له منذ أيام كتابه السردي الأول (كلبي الهرم ... كلبي الحبيب). هناك شعر لم يصدر بعد في كتاب، وإن نشر بعضه في الصحف. في ديوان (عين سارحة وعين مندهشة) قصيدة عن اكلاب بعنوان: "على مشارف الحقول" تتجاوب مع اهتمام قديم بالحيوانات، يتضح حتى في عناوين الديوانين الأول والثاني. أما هنا فالشاعر يتوحد مع الكلاب الرفاق: "أنا ابن ريف مثلكم / ومثلكم لا أفهم / لم أنا هنا". تلك كائنات تنتمي إلى عالم ماقبل إنساني، قبل أن يتمايز الإنسان عن السوائم. فهي كائنات خشنة، ملبدة، وعاضة، لها ظفر وناب، ومن ثم تخرج عن فضاء "الإنساني" وتهمل فتجرد من الروح، ويستطيع الشعر أن يؤشر إلى هذه الروح، ويعيدها إليها، للتآخى مع الإنسان في فضاء شعري يلوح مغلقا غالبا إلا على المصروعين والمرضى والمهمشين.
هذه الحيوانات وإن انطوت على قليل من الرمزية، إلا أنها كائنات مادية، جاءتها الخيانة من أعضائها التي سجنت في حيوانيتها، مغدورة، مثل الشاعر الذي جاءته الخيانة من أعضائه، من داخله، حيث الجسد يحوّل مناعته من مناعة حامية له مضادة لما يهددة، إلى مناعة خئون مهددة للجسد نفسه، وللذات نفسها.
الشاعر في هذا الفضاء كائن ذاهل عن نفسه، يفر من وكره ومن القصيدة ويمضي في الطرقات، من دون أن ينتبه إلى شيء ما يطل من جنبيه، حي نابض، رخو دافئ، يخفق لامعا في الضوء حيث الزوائد الروحية التي تتساقط من جسده على الأسفلت من دون أن يشعر. لاشك في أن هذه استعارة ذات طابع رومانسي، تضع الشاعر في موضع قريب من موضع "الفادي" الذي تتغذى عليه الحياة، التي تأخذ هيئة الأصدقاء "المجانين الذين يلعبون بعنف/ ويرشقون بعضهم بجرادل الماء/ وقراطيس التراب". فيما تتحول الأنا المتحدثة في القصيدة "تحت الشجرة" إلى الضد تماما: "أنا فيلسوف الشلة/ المقعد الذي يحب الجميع/ ولايكرهه أحد". أما في قصيدة "ذكريات"، فالذات تصبح فريسة: ها أنا مخترق من صدري مرة أخرى/ أشق بظهري الأمواج/ مخلفا نهيرا صغيرا من الدماء/ ثم ها هي القروش النهمة/ تتكالب، لتبدأ الوليمة". لكن الفادي المسيحي صلب من أجل المجموع "إذ تاق الله إلى مصالحة الناس الذين خلقهم على هيأته، فتجسد مسيحا مصلوبا غسل بدمه خطايا البشر."
أما "الفادي" هنا فهو "فريسة" و"ضحية"، جاءته الخيانة من أعضائه، في فعل مجرد من أي توشيات عاطفية، فقد آلم الجسد، والدم المتجلط في أجهزة غسيل الدم، ومن ثم فإن معانقة الموت ليست نتاج خطة كتاب مقدس، كما أنها ليست مظهرا من مظاهر الغبن الكوني. إنها علامة على العطب في الحياة. في الديوان السابق (مثل ذئب أعمى) كما في هذا الديوان، تجلى هذا العطب في تماهي الشاعر مع السوائم، والولع بالقبح الذي يشفي على التلذذ بالقبح الفيزيقي، وفي الترميز الأليجوري القريب المنال، وفي التدريب على كتابة الفكر. الفارق بين الديوانين أن الديوان الأخير، ينطوي على تسليم بخيانة الأعضاء فلم تعد وساما أو مزيّة، ومن ثم أصبحت متع الحياة تطلب، ويسعى إليهاز أضف إلى أن العطب في الوجود أصبح يتجلى في صور كثيرة بعيدة عن التلذذ بالقبح الفيزيقي.
مقلوب الرومانسية الذي نجده في شعر الدناصوري يأخذه إلى تقشف لغوي ومعجم لايحتفي من علامات اللغة إلا بالكلمات ذات الدلالة المادية، وإلى ولع كلاسيكي بالوضوح والإحكام، والنزوع إلى التحديد الدقيق السيء الظن بالعالم، وبالتالي في الاستعارة ومزج التناقضات والإدهاش. نحن حقا في دهشة ما، لكنها ليست الدهشة التي تعبر عن نفسها في أعراس اللغة، واللجوء إلى مناجم الاستعارات، بل دهشة من احتجاب الوجود وترفعه على الوضوح والتجلي. ولذلك لا احتفاء بالحياة ولا غناء لها، ولا رفع لعناصرها كي تصبح أعلى من قامتها، وتتحول إلى ملق، بل شعرية شحيحة مقتضبة، آتية من كتابة الصغير والنسبي والمنحّى جانبا، حيث الشاعر بفكاهة مرّة يتصور نفسه ذئبا يكمن للفرائس، لكنه ذئب أعمى. أما الرحلة فهي رحلة رجل صغير يسكن على مشارف الحقول، في مدينة عتيقة، حيث المفردات العصرية: البار، المقهى، الشوارع الخانقة، المدافن، السيارات ... إلخ.
توتر شعري في هذه الرحلة يكمن التوتر بين الحياة والموت والصحة والمرض، والطراوة والتشقق. فلو انتصر طرف على الآخر لانهارت القصيدة، وأصبحت غناء للألم، حيث خطر "السنتمنتالية"، أي الإسراف العاطفي. وبالفعل يكتب الشاعر إحدى قصائد هذا الديوان بعنوان "السنتمنتالية"، وهي واحدة من قصائد تحمل عناوين مشابهة: "سنتمنتالية" "إيروتيكية"، "نرجسية"، "مازوشية" أي تلتقط مفهوما مجردا له تاريخه المفهومي في حقل من حقول المعرفة، لتحوله إلى كتابة، لاتشرح المفهوم، ولاتشعرنه في الاستعارات والتشبيهات، وإنما تلتقط مشاهد سردية واضحة الدلالة لتخضعها إلى التأمل والفكاهة والتنويع وتحولها بالتالي إلى تفاريق ومشاهد مبعثرة ملقة في الحياة، بل هي جزء من الحياة، وضع الشاعر يده عليها، لا من خلال معرفة خارجية، بل من خلال اكتشافها والتسليم بوجودها. فهي عناصر حقيقة في الوجود، ومن خلال كتابتها يوضع هذا الوجود موضع السخرية والفكاهة المرة، أي الكوميديا السودا.
هكذا يفقد المفهوم مفهوميته وتجريده واختزاله للتنوع، وتبرز تجربة الحياة، ذلك أن "المفهوم" نفسه، ليس مفهوما خالصا. إنه مجاز صيغ لاحقا لاحتواء تجربة وأسرها وتحديدها وإغلاقها، ولكن الشعر قادر على كتابتها مرة أخرى، والتنويع عليها والسخرية من الذات التي تسلم بنقائصها وبقدرها. هنا سنجد مقلوب الرومانسية جد واضحا، سعيا إلى إسقاط الثنائيات ودمجها وخلط عناصرها: الروح والجسد، الشعر والفكر، الوجدان والعقل، في درب من البلاغة المرتابة الشكاكة التي تنفي الزوائد والمنمات، وتبقي على العناصر الأكثر عريا ورعبا.
تقول لنا القصائد أن الوجود يخادعنا، بل هو وجود التباس، يقنع الرغبات والنوازع والكلمات. أيعني هذا أن القصائد تكتب أفكارا؟ لا، إنما القصائد تكتب ما وقعت عليه الذات في "مصيرها"، لذلك هي قصائد يكتبها شاعر يبحث عن "الفهم"، وحين يفكر، أعني حين يكتب، تأتي الكتابة من موقع الذات المنفعلة التي تفضح اللغة غليانها، لذلك تصل إلينا، على رغم السخرية المرة، لهجة تؤشر إلى كاتبها. بهذا تكشف اللغة المرض الكامن في الوجود من حيث هو وجود وتضعنا في مواجهة "الحقائق"، حقائق واضحة نعمى عنها أو لانحسن قراءتها، لأننا لانرغب في ذلك، خوفا من العدوى، وخضوعا للتطهير، وفرارا من العطب. لكن الشاعر السيء الظن بالحياة لاسبيل أمامه سوى القراءة، قراءة كتاب الحياة المكتوب بحبر أبيض، ولكي يقرأه لابد من تسويد هذا البياض عبر الشعر، ليس سعيا للكشف، فهذا سعي نبوي زائف، بل محاولة لترويض الوحش، باكتساب موهبة العيش مع عطبه، مع الإقرار بأنه لايوجد ما يؤكد أن هذا العطب مطلق. هذا الترويض يتم بالشعر الذي أعطى للشاعر مصادفة تاريخية، كما يعطي المال للآخرين، وجمال البدن وفتوته لغيرهم. إنه ـ على حد تعبير صلاح عبدالصبور ـ ما سلم للشاعر من سعيه الخاسر.
وهكذا تأتي القصائد بحثا عن المعنى المتواري خلف التفاصيل. ولايعني هذا أننا مع شاعر يغيب لديه الزمان أو المكان. فإدراك العالم لايتم إلا من خلالهما أحيانا على نحو مسرف في واقعيته. الزمن له علاماته من التاريخ الشخصي للشاعر "ابن ريف" الذي يحيا على مشارف الحقول في مدينة عشوائية، يعاني المرض ويبحث عن نسائه في المصروعات والخائبات السعي، مأخوذا بالبارات والمقاهي ... إلخ. لكن هذه العلامات لاتجعلنا، أيضا، مع شاعر مشهد يومي نثري، ولا صائغ للحظات يسردها أو يغيبها، لأن المدينة ومشاهدها ونثرها اليومي لاتقصد لذاتها، بل تأتي مع غيرها لتدل إلى ما تراه جديرا بالاحترام، جديرا بالكتابة، حيث اشتهاء المحارم، والتلذذ بالألم، والرغبة في سقوط الآخر والتهامه، والتغذي على رحيقه وعصارته.
في هذا نتحرك في توتر الشعر بين الرغبة في الموت ومقاومته، بين إيلام الآخر وتلقي الإيلام، بين التسليم بقدرية الأدوار والتمرد على هذه القدرية، بين الاحتفال بالألم والسخرية منه، كأننا مع درب من الشعرية التي تجد في "الشر" جمالا، لأنه متهم ومرفوض بحثا عن أخلاقية أخرى غير تلك الأخلاقية السائدة المهيمنة، أخلاقية تدرك مكر العالم وخبثه وتقنعه وتبدله، لأن العالم خلّب، يفرح المتعجلون بما يصدره لهم من معان تمده بالمعاني الأخرى اكامنة في الثنايا والتجاعيد. إنها لغة متأله صغير، يرمق العالم ساخرا من كائناته الصغيرة الغارقة في التفاؤل وحسن النية والأمل، لأنها كائنات لم تصادف الخيبة، ولم تعرف خيانة الأعضاء، ولم تحيا على الحافة الخطرة.
ليس الشعر هنا طريقة تحرر ذاتي من كثافات اللاوعي، بل يكاد يندمج في الحياة من دون أن يتخلى عن رفعته، أي يصبح أداة الرجل الشاعر للوصول والاتصال، لابمن سيقرأون، بل ـ أيضاـ بمن سيقعون في فضاء الحياة اليومية التي يعيشها الشاعر "الرجل" الذي ربما يعوقه عائق ما عن "مواجهة الأنثى المشتهاة"، فيلوذ بالشعر الذي يصبح "رسالة" مادية تخفي وجل الذات وخجلها.
تثور الذات على "عماها" الشعري، وتضيق بضيق القصيدة الشعرية، فتطيح بهذه العقيدة، وتصبح ذاتا مغنّية، لاهجة. كأن الشعر أوسع من العقيدة التي تنظمه وتفهمه.