اعترف بأنني كنت أطلّ على الأدب السوداني من نافذة ضيقة، لم يتجاوز ذوقي في عبوره سوى على أعمال الطيب صالح، وحين انتهيت من قراءة كل أعماله، وذلك مذ سنوات اعتقدت وكم كنت قاصرة المدى باعتقادي ذاك أن الأدب السوداني انتهى عند الطيب صالح. وحين استوقف عبوري على حين صدفة قصة بعنوان: "ود أمونه متبلا" وذلك من فترة قريبة لكاتب سوداني كان مجهولاً بالنسبة لي يدعى " عبدالعزيز بركة ساكن". فإذا بود أمونه يقودني إلى "امرأة من كمبو كديس" والتي بدورها أحالتني إلى "فيزياء اللون" ثم إلى "دراما الأسير"، فإذا بكل قصة تقودني إلى أخرى، حتى وجدت أمامي غنيمة كبيرة للكاتب وهي رواية "الطواحين" تلك الرواية المدهشة التي طبخت على نار هادئة.
حين تتأمل صورة "عبدالعزيز بركة ساكن"، لا يمكن أن تسقط عن ذاكرتك ابتسامته المضيئة وهي متواطئة بطريقة مدهشة مع حكاياته، فلا تكاد تغوص في عوالمه القصصية حتى تستشعر بالابتسامة ذاتها تضيء عقلك بلذة لا تضاهى على حين غرة. هو صاحب قصص وروايات عدة، و روايته "الجنقو _ مسامير الأرض" حازت مؤخراً على جائزة الطيب صالح الروائية في دورته الأخيرة. الصفة الاستثنائية التي يتمتع بها الأدب السوداني هي أنها متوالدة، فما تكاد تفرغ من نص ما، حتى تغوص في لهاث مستحكم لمتابعة نصوص أخرى للكاتب عينه، ولا يهدأ اللهاث عند نقطة معينة بل يتجاوزها حين تتكشف حواراته عن أسماء أخرى في جغرافية البلد نفسه، وكانت ذاكرة قارئها فقيرة حيال معرفتها. هذا القاص والروائي قادني بلذة الحكايات التي عجنها إلى تفتيش وتمحيص في ردهاته، فإذا بي أرى أن النافذة التي كنت أطل عليها على الأدب السوداني ضيقة جداً، لأن قصة عبدالعزيز بركة ساكن لم تكتف بكوة النافذة الضيقة، بل شرعت أمامي أبواباً عديدة، قصصاً وروايات وأسماء شامخة في تاريخ الأدب السوداني.
وتلاحظ أن نرجسية الأنا تخبو خلف ظل لا نكاد نتحسسه من خفوته، فعلى سبيل المثال هذا الحوار الذي أجري للكاتب عبدالعزيز بركة ساكن، يعدد فيها أسماء كتاب من المعين السوداني بطريقة تلقي الضوء على تجاربهم، ويستقبلها القارئ كفلاشات وامضة: (وتعلمت من النصوص السودانية، عمق عيسى الحلو في ذات الإنسانية، عذوبة سرد الطيب صالح، سحرية إبراهيم اسحق وجنون بشرى الفاضل، وحاولت فوق كل ذلك أن أحدد بصمتي الخاصة). وحين سئل عن موقفه من المنجز الإبداعي السوداني استرسل قائلاً: (إذا تجاوزنا جيل الرواد في فترة الثمانينيات والتسعينيات، فالرواية تتأرجح ما بين الضعف الفني والمغامرة، فما بين الجدة والأصالة (أعني بالأصالة العمق) فهناك أسماء مثل: منصور الصويم وابكر أدم إسماعيل، وحمد المك والحسن البكري ومحسن خالد. هؤلاء استطاعوا أن يحفروا أنهراً كثيرة وان يشيدوا أعمالاً جميلة).
والصفة الاستثنائية الأخرى هي إلمام الكاتب بنتاج بيئته المحلية، فتجده متابعاً له بشكل مكثف يكاد يكون أشبه بالإخطبوط، وهي صفة لمستها عند معظم الكتاب السودانيين، فيقول عبدالعزيز بركة ساكن عن كتاب أضافوا الجديد إلى صفحات الأدب السوداني: (مغامرة أبكر آدم إسماعيل في استخدام الحوار الدارجي، وتوظيفه بصورة جميلة، وعالم أحمد المك الذي يشبه حكايات وأحاجي الحبوبات، منصور الصويم أستطاع أن يكتب رواية مغايرة في موضوعها، ومحمد خير عبد الله الذي كتب روايات يتولى البطولة فيها (المكان) وهي روايات ساخرة، وهو نوع جديد في كتابة الرواية السودانية، والحسن البكري له مساهمة جيدة في استلهام التاريخ في روايته "سمر الفتنة"). وسئل مرة الأديب "بشرى الفاضل" عن متابعته لما ينشر فاعترف قائلاً: (أنا متابع لما ينشر، وفي حقيبتي كتاب المبدعة الكاتبة استيلا من الجنوب، وكتاب آخرين التقيتهم هنا وفي مدني، وبعض كتابات أرسلت لي من قبل كاتبيها، ومتابع لما ينشر في الصحف، هنالك بالتأكيد كتاب لديهم مجوعات قصصية مدهشة بالنسبة لي، فمن الأنماط القصصية التي توقفت عندها، أن يكتب كاتب ما عن موته الشخصي، وتأكيداً تملك الأجيال الجديد رؤية أكثر تشعباً كنتيجة طبيعية لتضخم عدد السكان الذي يدفع للإجادة أكثر، أنا أعرف كل الروائيين الشباب ولي صله بهم، منهم حسن البكري، أبكر آدم إسماعيل، وغيرهم.).
فمن خلال تلك الحوارات يستطيع القارئ أن يلتقط عدة أسماء سودانية مبدعة، فبجانب تلك القامات الأدبية الرفيعة نضيف محمود مدني، مختار عجوبة، علي مك، طارق طيب، نصار الحاج، مأمون التلب، محمد خلف الله، فضيلي جماع، زينب علي، نفيسة الشرقاوي، بثينة خضر مكي، رانيا المأمون، ملكة فاضل عمر.. والقائمة تطول. وحين تقرأ لكاتب سوداني قصة قصيرة أو مقطعاً من رواية، لا يتضاءل وهجها مع الأيام، بل ترى نفسك قارئاً متلبساً بها، وأروع ما يميز هذا الأدب تلك اللغة المتآمرة مع واقع يتشكل فيه روح البيئة بطريقة خلاقة، وفي الوهلة الأولى تكاد تبصم بالعشر أن ما كتب هو قطعة نثرية خلابة عرف جيداً صاحبها كيف يدير أدواته، فيتماهى العمل مع القارئ محدثاً دبيباً ما في نفسه ذات أثر صاخب.
كثير من إبداعات الكتاب السودانيين وصلت إلى أوروبا، واتسعت أفئدة الترجمة لها، ولكن الدول العربية مازلت لا تكاد تحيط إلا بالقلة القليلة من تلك الأعمال التي انتخبها ذوق ما. ولا أكاد أجزم أن يحظى أحد أدبائها بجائزة عالمية، ونقف حينها مشدوهين تجاه الكاتب وإبداعه المجهولين عن الذاكرة العربية، كما حصل مع الروائية "هيرتا مولر" التي حازت مؤخراً على جائزة نوبل، فشدق العرب حين أدركوا تقصيرهم عن ترجمة مؤلفاتها التي التهمها الغبار مذ زمن غابر! فهل السبب أن ذوق القارئ العربي في أقطار الوطن العربي دجن في مدى سنوات على أسماء بعينها، وكأن الأدب وقف عند تلك الأسماء ولم يتجاوزها؟! هذا إذا أضفنا أن بعض النصوص المبدعة للأدباء تكون سجينة سقف بيئتها المحلية ولا تكاد تتجاوزها؛ بسبب سياسة التوزيع المجحفة في حقها، إلا حين يقتنصها ناقد فذ أو حين تلقى جائزة ما بظلالها على عمل ما. أم أن غياب مؤسسات متخصصة في السودان هي السبب، وفي حوار أجري للقاص والروائي محسن خالد في عام 2005م، يقول محسن خالد في حواره بجسارة يحترمها القارئ: (بخصوص الساحة – النقدية- في السودان، هي بالتأكيد لن تفاجئ الساحة العالمية بابتكار مباغت، ربما معنا من النقَّاد العدد القليل، وهذه ليست الآفة ولا المشكلة، الآفة هي أنّ هذا العدد على قِلِّه يناقش كتاباً واحداً دون ملل، "موسم الهجرة إلى الشمال" إن أحببت أن أُسمّيه لك. هم بالطبع سينتظرون نُقّاد الخارج حتى يتناولوا أسماء جديدة مثل: (أبّكر إسماعيل) أو (بركة ساكن) أو (محسن خالد)، ليأتوا هم بعد ذلك كالبكتريا التي تعقب الطاعِم، فلا يخرجون إلا بما يخرج به متسقِّط الفضلات، وإن كانوا أذكياء بالفعل ومظلومين من قبل شخص مستهبل ومتجنّي مثلي، فليلعبوا لعبة جديدة ومعاكسة لمرَّة واحدة في حياتهم).
هذا الحوار يفتح أمامنا عدة تساؤلات عن الجهود الشخصية التي يتجشمها المبدع السوداني؛ كي ينقل أدبه من مكان إلى آخر في غياب جهود النقاد والمؤسسات. وقد يتساءل قارئها عن مدى تغير واقع الساحة السودانية مذ ذاك التاريخ. وحينما مرّ فضولي على عدة مقالات تناولت الأدب السوداني، لمست أن كلها اتفقت ورغم التباعد الزمني لكل واحدة منها، أن الأدب السوداني مهّمش وحبيس بيئته، وكان آخرها مقالة كانت منشورة في مجلة نزوى تناول فيها الكاتب أحمد شريف دراسة معنونة بـ"حول الأدب السوداني" أشار فيها إلى أن الأدب السوداني لم يأخذ حظه من الانتشار واستثنى من ذلك الطيب صالح ومحمد الفيتوري، ولكن الأسماء قبل وبعد هذين المبدعين لم تأخذ حقها حتى الآن؛ واستنتج أن ذلك عائد إلى صعوبة نشر السودانيين لأعمالهم؛ وذلك للظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية، والسبب الثاني يتوافق مع ما أورده الروائي "محسن خالد" في الحوار الذي أجري معه في عام 2005م هو اكتفاء القراء والنقاد العرب بالاسمين سالفي الذكر.
الأدب السوداني سواء كقصاصين أو روائيين الملاحظ أن الشمس أنضجت إبداعاتهم بشكل جيد، وما الدور سوى على الريح الكسول أن تنثر عبقها الرائق إلى أقطار شتى في العالم العربي، فهنالك نصوص مشبعة بالمتعة والإبداع والابتكار تستحق أن تقرأ حقاً، ومنحهم صك الاعتراف ليس فعلاً جباراً؛ لأننا بكبسة زر واحدة نجمع حصيلة لا بأس بها من قصص وروايات منشورة في خفايا الشبكة العنكبوتية، وهذا هو غرض المقال في حد ذاته.