هل الحبيب الذي تنسب له الصلاة في قصة الكاتب المصري هو الوطن المستباح، أم الحبيب الفعلي المشارك في تلك المظاهرة ضد كلاب الحراسة وقد أحالوا الدين إلى أداة في خدمة أعداء الوطن والحب معا.

صلاة الحبيب

يوسف أبورية

اقتربا الآن من باب المزينين، بعد أن قطعا شارع الأزهر بطوله بين صفين من عساكر الأمن المركزي. حولوا مسار السيارات من ميدان العتبة، فكان الشارع هادئا علي غير العادة.

رفعت جانيت نظرها بحذر نحو المدخل لتطالع النقوش التي تؤطر الواجهة.

ـ دوسة. هذه شجرة الحياة الفرعونية
ـ أول مرة انتبه لتفاصيل النقش
ثم قالت متوجسة وهي تخلع نعليها
ـ أنا خائفة
ـ ضعي الإشارب علي رأسك هكذا

جعلت حزمة المنشورات والأعلام تحت إبطها، وفتحت غلق حقيبة اليد السوداء لتخرج الإشارب الرمادي، سحبته علي شعرها المصبوغ باللون الذهبي الداكن، وعقدت الطرفين تحت ذقنها تماما كما فعلت فردوس التي أمسكتها من كفها ليهبطا الدرجات الرخامية الزلقة.

ـ احذري السقوط فهشاشة العظام ستحطمنا تحطيما
ـ ربنا يستر
ـ لم أدخل مسجدا في حياتي يا دوسة
ـ أنا نفسي لم أفعلها من قبل
ـ طيب. والصلاة؟
ـ افعلي كما يفعل الآخرون، لاشئ أكثر من قراءة الفاتحة بصوت خفيض، وركعتين وسجدتين
ـ وحياتك، لما أغلط اضربيني بكوعك
ـ حاضر يا جنيت

خلعنا النعلين، لم يردا تركها علي الأرفف الخشبية المعدة لذلك، كانتا حريصتين عل أن يجعلا كل شي بالقرب منهما. حتى إذا تجرأت قوات الأمن على اقتحام المسجد تكون الفرصة متاحة للفرار بالنعلين عل أن يتخلصا من المنشورات في الوقت المناسب.

وقفتا مبهورتين بالنور الذي تدفق فجاه من الصحن الرحب. كان المسجد هادئا، أجساد قليلة تتحرك هناك في ظلال الإيوان، لمحهما جورج فقطع مساحة الضوء رافعا كفه علي عينيه.

ابتسمت له فردوس بسعادة حقيقية
ـ نص المصلين من المسيحيين اليوم
ـ يا ستي حد يقدر يمنعك لو صليت في الكنيسة

مالت جانيت بوجهها المريمي إلي الأرض بخجل، أراد جورج أن يمسك بيديها مرحبا، رفعت عينيها إليه وهي تقاوم قرص الشمس الملتهب

ـ شفتني في الحجاب يا جوجو
ـ زادك جمالا يا جانى
وتلامست الأكف بحنو بهيج، تنحنحت فردوس وقالت محذرة
ـ المفروض إنكما علي وضوء
فا تقدت وجنتا جانيت في حياء
ـ صحيح. نسيت

أشار جورج إليهما قائلا: المفروض أن تتجها شمالا حيث مصلي السيدات، وأنا سأعود الآن إلي الزملاء، تشجعت جانيت ولحقت به قليلا كأنما لا تزيد مفارقته.

ـ لم تقل لنا ماذا سنفعل؟
ـ عند نهاية الصلاة، وحين نردد السلام عليكم ورحمة الله مرة ذات اليمين وأخرى ذات الشمال تخرجي المنشورات والأعلام من تحت السجادة. وتبعثرينها علي المصلين في كافة الأنحاء
ـ يعني طول الصلاة نخفيها تحتنا؟
ـ طبعا. لا نضمن اقتحامهم في أي وقت
وشدتها فردوس من ذراعها لتتجه بها نحو الزميلات اللائي قدمن للتو من الباب الجانبي
ـ حبك الغرام في جامعنا؟
ـ  لم اك أتوقع آن يتعرف علي وجهي في الحجاب
ـ نورك يا ست الكل لا يقاوم
ـ الظاهر جئنا قبل الأوان بكثير
ثم سألت وهي تدعي السذاجة
ـ ولم لا يصلي الرجال والنساء في مكان واحد يا دوسة؟
ـ والله هذه مسالة خارج إرادتي، اسألي أهل الذكر
ـ عندنا الصلاة مشتركة
ـ كل شيخ وله طريقة يا جانيت.
ـ اذهبي إلية لتصلي إلي جواره، وأنا غير مسؤولة عما سيحدث لك.
ـ ولم لا يأتي هو ليصلي معنا هنا؟
ـ نهارك أسود، الزمي الصمت حتى يمر اليوم علي خير

حين اعتلي المنبر الشيخ الذي يملا شاشة التلفزيون بطلعته ليل نهار، نفر الزملاء من سحنته، وتململت الأجساد بين الصفوف المستفزة لحضوره البغيض، صعد الدرجات بثقل بدنه اللحيم، ثم قعد فترة يحدق في الوجوه، لم يخرج مرتديا الحلة ورابطة العنق مبديا مظهرا أنيقا يحرص عليه في كل لقاء، بل أطل عليهم في عباءته البنية السميكة والطاقية المخرمة البيضاء التي أكدت دكنة الزبيبة البارزة علي الجبهة.

بعد أن أنهي ديباجة الخطبة، أكد للجميع أن موضوعه اليوم يدور حول الجهاد في الإسلام، صال وجال، أقبل وأدبر، يحوم حول الموضوع مجتهدا في العثور علي ما يؤكد وجهة نظره المنافقة، فقلب الأشياء في غير موضعها، ووصف العمليات الفدائية في الأراضي المحتلة بأنها مجرد انتحار وإهلاك للنفس التي حرم قتلها بغير الحق، ثم أنها لا تنجز شيئا حقيقيا لأنها موجهة بالأساس ضد المدنيين الأبرياء.

فهاج المصلون، ورفع أحدهم أصبعه في وجهة صارخا: اخرس، فأجابه الشيخ بغضب: بل اخرس أنت يا قليل الأدب.

قام الجميع دون إرادة منهم متجهين إلي المنبر، فسبقهم رجال الأمن بالملابس الملكية، ورفعوا الشيخ علي أكتافهم ليخرجوا به من باب صغير ضيق يقع علي يمين المنبر.

لم يعد المصلون إلي صفوفهم، انطلقت الحناجر بالهتاف يتردد في جنبات الإيوان تتنقل من عمود إلي عمود ثم تحركت في موجات صاخبة إلي الصحن المكشوف، ثم إلي مصلى السيدات، واختلطت الصفوف، وصارت حلقات تدور حول الجسد النحيل لجورج الذي حُمل علي كتف أحدهم، يرفع علم فلسطين بقبضة يده هاتفا بعزم صوته الحاد: فلسطين عربية.

وانتثرت في سماء المسجد أوراق كثيرة انهالت كمطر سماوي في غير أوانه.

شدت فردوس صديقتها جانيت من ذراعها واخترقتا الأجساد المتزاحمة ليقتربا أكثر من البؤرة الهائجة التي يرتفع في وسطها جسد جورج.

كان العرق يتصبب من الوجوه.

وضاقت البنات بالإيشاربات الخانقة، سحبت جانيت إشاربها فأشرقت وردتان حمراوتان علي خديها. كانت تردد الهتاف رافعة الإشارب عاليا، تشير به نحو جورج.

وفي حميمية الزحام بين حرارة شمس لا ترحم، لم يحفل أحد بمشهد الجنود الذين وقفوا علي سطح المسجد مشهرين فوهات بنادق الغاز نحوهم.


كاتب من مصر