هذا عرض لكتاب الناقد المغربي عبداللطيف محفوظ (آليات إنتاج النص الروائي) يتعرف على أطروحة الكتاب النظرية وسبله للتعرض لقضايا النص الروائي وآليات إنتاجه.

أفق مغاير لسؤال النقد الروائي

"آليات إنتاج النص الروائي" للناقد الدكتور عبداللطيف محفوظ

عبدالحق ميفراني

 

صدر عن منشورات القلم المغربي، كتاب د.عبداللطيف محفوظ  "آليات إنتاج النص الروائي"، يقع الكتاب في 212 صفحة، يضم الكتاب خمسة فصول الى جانب الخلفيات المحددة لإشكاليته النظرية:

1ـ نحو تحديد الخلفية الابستيمولوجية لأطروحة الكتاب.
2ـ مفهوم الدليل.
3ـ مفهوم النص.
4ـ نحو تصور ذهني لمستويات النص.
5ـ استخلاصات عامة.

1 ـ الأطروحة النظرية:
يسعى كتاب (آليات إنتاج النص الروائي) الى بلورة أطروحة نظرية هي محاولة فتح أفق جديد أمام تحليل النصوص الروائية. وتعتبر هذه الأطروحة نتيجة لمشروع فكري تصوغه منهاجية نقدية صارمة صادرة عن خلفية سيميائية ذات توجه ذريعي تداولي، ومن نتائج هذه السيرورة الذهنية الوصول الى فرضية بوجوه ثلاثة:

ـ أسئلة ترتبط بسيرورة فكرية مشروطة بمعرفة ممتلكة لمعايير علمية.

ـ أسئلة متعالية عن الموضوع المعرفي مرتبط بنسق فكري عام جاعلة الإنتاج الروائي تجليا للبنية الفكرية التي تحكم بقية المتجليات.

ـ أسئلة تجعل النص/ الموضوع ملائما للسيرورات الإجرائية المحددة من قبل الأنموذج النظري.

وكل نمط من تلك الأسئلة إلا ويرتبط بخلفية ابستيمولوجية تحكمه، وترسم أفاقه وأهدافه. ويحدد الباحث عبداللطيف محفوظ أن أطروحة هذا الكتاب لم تنجز إلا بوصفها مشروعا مستقبلي محدد المعالم. مادامت هي نتيجة طبيعية لاختلاف فعلي مع التصورات المستخلصة من النظريات المهيمنة في تحليل النص الروائي، إن هذا التصور الوليد لرؤية إنتاجية يربط النص الروائي بسيرورة ذهنية معقدة، مدروسة وموجهة. لكن مجموعة من الإجابات ساهمت في إنتاج سؤال/ موضوع هذا الكتاب ذات صبغة نظرية متعالية منها خاصية الانفتاحية الباختينية، والكلية الممتدة عند لوكاتش، على أن السؤال المؤسس لموضوع الكتاب لم ينطلق فقط من تحديدات ذات صبغة متعالية ، بل تأسس أيضا على أغلب الإجابات ذات الصبغة المحايثة، وتبقى الخلفية النظرية والمنهاجية للسؤال المؤسس مستندا على فلسفة بورس الذريعية التداولية، فهي الى جانب كونها فلسفة للإنتاج والتلقي تمتاز بعدم تقييدها للمادة الأنطولوجية للدليل.

ويتأكد من هذا الشكل المستند الى السيميائيات البورسية في إدراك سيرورة التمثل والتمثيل.. مخالف لشكل الإدراك المعطى من قبل النظريات اللسانية والسيميائية التي شكلت مراجع لنظريات تحليل الخطابات السردية وكان لا بد للباحث من إعادة تحديد بعض المصطلحات التي يمكن توظيفها إجرائيا في تحليل النصوص الروائية، قصد تحديد العلاقات القائمة بين الثلاثية العامة (العالم الفكر اللغة) المتحكمة في إنتاجها، ليختتم الباحث هذا الفصل بتحديد الخلفية الذريعية والتداولية لسيميائيات بورس.

2 ـ مفهوم الدليل:
تتأسس قراءة مفهوم الدليل في هذا الفصل، في انطلاق الباحث عبداللطيف محفوظ من مقولة التباس هذا المفهوم وإشكاليته، وتحدادا على هذا الوضع الإشكالي تتأسس قراءة مفهوم الدليل عند بورس، على قراءة مفهوم الدليل في أهم النظريات السيميائية التي أثرت في نظريات تحليل الخطاب. فهذا المفهوم عند سيميائي الدلالة يعاني من قصور رغم تطوره عند يامسليف ومرونته عند بارث، أما عند التواصليين (برييطو وبويسانس ومونان) فإن المفهوم لا ينسجم مع طبيعة اللغة المشكلة للنسق الثانوي لموضوع الكتاب بحكم الخلط الملاحظ، إن هذين الاتجاهين قد أبانا عن عدة أنواع من الخلل منها عدم إمكانية احتوائها لكل المظاهر التعبيرية والتواصلية ضمن إطار دقيق ومنسجم. وهذه الثغرات المحايثة لمفهوم الدليل تفيد قدرة النسق السيميائي البوريسي الإجابة المقومة لها. وهو ما يساعد في تحقيق الخلفيات المعرفية لأطروحات الكتاب . ويرتبط تعريف بورس للدليل تقديم إجابتين في شكل تعريفين متكاملين، يرتبط التعريف الأول بسيرورة إنتاج الأدلة، ويربط الدليل أو الممثل، الذي هو أول، مع ثان يسمى موضوعه، علاقة ثلاثية أصلية يمكنها تحديد ثالث، يسمى : مؤوله، أما التعريف الثاني فيرتبط بالتلقي والتأويل.

يعتبر أساس الممثل من بين أهم المفاهيم الأساسية في تصور بورس، بدونه لا يمكن فهم الاستمرارية التي تسمح بتعدد مؤولات نفس الدليل، والتي تتيح وجود كل وجهات النظر وكل أنواع الاستعدادات الذهنية، مثلما تتيح انسجام الدليل مع مؤولاته المختلفة، لقد عمل بورس على توضيح تعريف الدليل عن طريق توزيع أجزائه على ثلاثيات منسجمة مع المقولات. ويعتبر المؤول المباشر (الدليل أو الممثل) مؤولا وممثلا في نفس الوقت، لذلك فهو أكثر مسؤولية عن توجيه وتوجه السيرورة الإدراكية، أما المؤول الدينامي الأول فيرتبط فعله "في المفعول الواقعي المنتج حول الدليل" بالموضوع المباشر فقط. وينتمي المؤول النهائي الأول الى المقولة الأولانية ويلعب دورا هاما في إدراكاتنا للأدلة، كما يعتبر من أرقى المؤولات الانفعالية. أما المؤول الدينامي الثاني فيتصل بالموضوع الدينامي للدليل، ويشاركه في الانتماء المؤول النهائي الثاني. أما المؤول النهائي الثالث فيمتاز بكونه نسقي. يضم القوانين النهائية الخاصة بكل الأدلة أو الظواهر.
ويتضح من خلال جرد لنظرية المؤولات البورسية، أن أقسام الأدلة تستوعب كل الأدلة وكل وجهات النظر المسؤولة عن تحييناتها، وذلك بشكل يجعل كل دليل قابل لأن يدرك. وقد أمكن للناقد عبداللطيف محفوظ جعل مقولات المؤولات تتمفصل الى ثلاثة أصناف متباينة:

1ـ المؤولات التجسيدية
2ـ المؤولات التعريفية التحيينية
3ـ المؤولات السننية

3 ـ مفهوم النص:
قدم الباحث عبداللطيف محفوظ في محاولة تحديد مفهوم الدليل، رؤية جامعة لإدراك كل أنواع الأدلة سواء أكانت نسقية أو غير نسقية، وسواء أكانت مقيدة بقيود الخطاب أو غير مقيدة، ويعني هذا الطرح الشروع في محاولة تحديد مفهوم النص بوصفه دليلا. أي أن الكتاب يبلوره كنوع مخصوص من الأدلة، وهو نوع يقبل الدخول ضمن قسم الأدلة التي سميت بما فوق الدليل (Hypersigne).

ويتميز هذا الدليل بكونه توليفه من الأدلة اللغوية، التي ليست سوى إظهارات تجسيدية لموضوعهما هو دليل تفكيري، ومادام التصور للنص ينبني على الفهم الذي سبق تقديمه للدليل فإن معالجة الدليل النصي هي عبارة عن توليفة لكل أقسام الدليل في علاقتها بالكيفية التي تمثلها بها مؤولاتها المختلفة. ويقدم الباحث جردا لأهم التعريفات التي تلقاها مفهوم النص وأهم ما يميز المنطق المتحكم فيها، هو قيامه على الفرع الاستكشافي وذلك لأن أغلبها ينبني على مبدأ إمكانية اختزال النص الى جملة. وهي قاعدة تتحكم في أغلب النظريات المعاصرة، وإذا كان الاختزال هو قدر كل نظريات النص، فإن مسألة وجود المعنى في النص الأدبي مثل مسألة كيفية تبرير وجوده، تفتقد الى مؤول نهائي برهاني.

وينهض مشروع كتاب الباحث عبداللطيف محفوظ على محاولة نحت خطاطة مناسبة لتحليل النص الروائي، تراعي الفوارق بين الإنتاج والتلقي، كما تراعى قواعد الجنس وذلك انطلاقا من الخلفية النظرية لسيميائية بورس لأنها الخلفية النظرية ـ حسب الباحث ـ الأكثر ملاءمة لتحديد النص.

ويعرج الباحث على أهم نظريات النص: بنيات إنتاج وتلقي النص السردي عند إيكو، وعند غريماس، وآليات تلقي النص عند راسيتي ومفهوم النص عند مانكونو، ليستخلص الباحث في الأخير أن هذه النماذج التي تم انتقاؤها تنطلق جميعها من الرؤية التلقائية من أجل صياغة خطاطات مزدوجة للإنتاج والتلقي. إنها خطاطات ما وراء نصية مجردة، فكون مستويات ومحتويات الموسوعة (إيكو)، أو المناظرات السياقية (غريماس)، أو التناظرات الكبرى (راسيتي)، أو المعرفة بالعالم (مانكونو)، أو الذخيرة (إيزر)، أو الأفق (ياوس)، كلها غير قارة وغير قابلة لأن تدرك في كليتها، إن النزوع لسيميائية بورس تساهم في طموح الكتاب الانطلاق من تجربة ذهنية ممارسية لقلب وجهة النظر الى النص وآليات انسجامه، كما ينطلق من التخلي عن فرضيات القارئ المجرد، بمقابل تبني قارئ/ منتج موضوعي قابل لأن يمتلك كل أنواع الوعي الممكنة، وكل ذلك، انطلاقا من فلسفة التمثل والتمثيل البورسية.

وفق هذه الرؤية يحاول الباحث تجاوز هذا التصور الإنتاجي الأحادي المجرد والموجه لمحاولة بلورة تصور إنتاجي يستند الى الخلفية الفلسفية البورسية وتحديدا الى سيميائياته التي تهتم أساسا بقضايا الإدراك والتمثيل المناسبين لكل تفكير في الإنتاج، سعيا لخلق تصور ذهني لمستويات إنتاج النص، إن الخطاطة المقترحة، كونها تسعى الى وصف أشكال الإنتاج الروائي، تتألف من أربع مراحل كبرى (مفهوم الواقع، الموسوعة والقاموس، المدار والمدار السياقي، المدار النصي).

4 ـ الخلفية المعرفية ومراحل إنتاج النص:
إن الخلفية التي استند عليها كتاب (آليات إنتاج النص الروائي) هي الفلسفة الذريعية البورسية، المتحكمة بكل سيروراته الدلالية، سواء تلك التي بفضلها تم إنتاج بعض الأدلة النظرية المستنبطة من نظريات النص المدعمة لقائمة المصطلحات البورسية حتى تصبح مسعفة حتى في تحليل النصوص الروائية، وتكشف محاولات الكشف عن آليات إنتاج الدليل الروائي إدماج المؤولات السننية الأجناسية الضرورية من أجل تمييز النص بوصفه تحيينا لقواعد جنسه، وفي تحليل مستوياته (الحكاية السردية والإظهار). تعتبر هي في ذاتها تجسيدات للدليل.

فالإظهار يقدم بوصفه المعطى المادي للدليل النصي، متشاركا مع كل الأدلة المركبة، أما السردية فتشكل دليلا مؤولا يقوم بتجسيد الحكاية وإعطائها الشكل، وتعتبر الحكاية بما هي تجسيد لنهاية سيرورة تفكيرية تجسيدا لمؤول سنني أجناسي. وهكذا يشير الباحث على ضرورة الاحتفاظ بالمراحل الثلاث من أجل تمييز الأدلة النصية نفسها، ومن ثمة ضرورة إضافة المرحلة الرابعة التي هي في الواقع المرحلة الأولية التي تتحكم في إنتاج المراحل السابقة. 

إن كتاب الباحث عبداللطيف محفوظ يرسم أفقا مغايرا لسؤال النقد الروائي، بما يتضمنه من نقاش نظري عميق ومؤسس لاستراتيجية هامة تجدد آليات تحليل الخطاب الروائي والرؤية إليه.