في شهر واحد رحل ثلاثة كتاب كبار: فؤاد التكرلي ورجاء النقاش وسهيل إدريس. هنا يكشف محرر (الكلمة) عن الصلة التي تجمعهم، ودور سهيل إدريس البارز فيها.

سهيل إدريس ورحيل عصر

صبري حافظ

كنت قد بدأت الكتابة عن محنة مجلة (الآداب) التي جرها شخص يدعى فخري كريم «يصف نفسه بكبير مستشاري رئيس الجمهورية العراقية» للمحكمة، ورفع عليها بشخصيتها الاعتبارية قضية أمام القضاء اللبناني، وعلى كل من مديرتها المسئولة عايدة مطرجي إدريس ورئيس تحريرها الدكتور سماح إدريس. ويعرف الجميع أن فخري كريم قد أصبح شخصا فاحش الثراء، يستطيع استئجار أكبر المحامين لتنظيف سمعته، بينما تعاني (الآداب) من الفقر وضعف الإمكانيات في هذا الزمن العربي الرديء. وكان مقالي الذي لم أكمله يحمل عنوان «ليس دفاعا عن مجلة (الآداب)» وبدأته « ليس دفاعا عن مجلة (الآداب) لأن مجلة (الآداب) أصبحت بفضل تاريخها العريق، وإنجازاتها المشرقة التي حافظ أبناء مؤسسها وصانع مسيرتها الصديق الكبير الدكتور سهيل أدريس شفاه الله على شعلتها متقدة برغم أعاصير التردي والهوان التي تعصف بالثقافة العربية، صنو الثقافة العربية الأصيلة والشريفة والمقاومة. لذلك فإن الدفاع عن مجلة (الآداب) كالدفاع عن كل ما هو أصيل وجميل في الثقافة العربية أمر بديهي لايحتاج إلى الدفاع عنه. كما لاتحتاج الشمس إلى من يدافع عنها ضد جحافل الظلام، أو الهواء النقي إلى من يرد عنه أبخرة السوء وسمومه الزعاف» كان هذا ما بدأت به مقالي الذي لم أكمله للعمود الذي أكتبه في (أخبار الأدب). وكنت أود موضعة هذه المحنة في سياق المحنة العربية الأكبر في هذا الزمن الردئ، والتي تستخدم فيها جحافل الظلام والتردي القانون للردع الفكري وتنظيف السمعات الملوثلة ـ كعمليات غسيل الأموال القذرة ـ وإخراس المنابر الوطنية المعارضة لمخطط التبعية والهوان على طريقة الشيخ البدري في مصر، واستصداره حكما فضائحيا ببيع أثاث بيت الشاعر الكبير أحمد عبدالمعطي حجازي. أو على طريقة المتأسلمين وقضاياهم ضد نصر حامد أبوزيد والتي انتهت بالحكم بتطليق زوجة من زوجها، ونجحت في إبعاد عقل مستنير عن التدريس في الجامعة المصرية، في وقت هي أحوج ما تكون فيه إلى العقول المستنيرة والمفكرين الأحرار.

وكانت المفارقة المؤسية المرّة أن فخري كريم هذا الذي يلجأ لاستراتيجيات الظلاميين كان شيوعيا ينافح عن العقل والحرية، ويحلم حسب شعار حزبه بوطن حر وشعب سعيد. ولكنه أصبح الآن ـ كما يصف نفسه على لسان محاميه «كبير مستشاري رئيس الجمهورية العراقية» في زمن الاحتلال الأمريكي الكريه للعراق، وفي وقت وصلت فيه حرية الوطن وسعادة الشعب في العراق إلى حضيض غير مسبوق. أقول كنت قد بدأت الكتابة عن هذا السرطان الخبيث الذي أخذ ينهش روح الثقافة العربية ـ وهو استخدام القانون في تكميم الأفواه، ومطاردة الفكر الوطني والعقلي الحر، وغسيل السمعات القذرة والتصرفات المشبوهة بأحكام قانونية كان أشهرها ذلك الحكم الشهير ضد نصر حامد أبوزيد، والذي جاء بعد أن ذهب القاضي الذي اصدره للعمرة والاستخارة التي نتج عنها حكمه ـ عندما بلغني خبر رحيل صاحب (الآداب). فهل كان عبء هذا السرطان الخبيث على سهيل إدريس، وجر مجلته وقرة عينه إلى المحكمة في هذا الزمن الردئ، أكبر من عبء داء الكلى الذي عانى منه بصبر ومجالدة في سنواته الأخيرة، فلم يستطع جسده الهش الصمود أمامه؟

ظل هذا السؤال يلح عليّ خاصة وأن سهيل إدريس فارق الحياة بعد أيام قلائل من انعقاد جلسة تلك المحاكمة ـ التي لا أعرف وقت كتابتي لهذا المقال ما جرى بها. فلا يمكن الفصل بين سهيل إدريس ومجلة (الآداب) بأي حال من الأحوال، ولا يمكن تصور أن ما جرى (للآداب) لم يؤثر على سهيل إدريس. فسهيل إدريس هو (الآداب) و(الآداب) هي سهيل إدريس. ليس فقط لأنه بدأ هذا المشروع التنويري الكبير وهو مازال شابا في شرخ الشباب. فقد كان عمره وقت إصدار (الآداب) ورئاسته لتحريرها ثمانية وعشرين عاما. وظل يعمل فيها ما يقرب من نصف القرن حتى سلمها لإبنه الدكتور سماح إدريس. ولن أتحدث الآن عن (الآداب) لأنني أتناول دورها الكبير ومشروعها، أو بالأحرى جانب مهم من هذا الدور هو الجانب النقدي، في المقال الذي ألحقة بهذه الكلمات.

صحيح أن سهيل إدريس يرتبط بـ(الآداب) وترتبط به، ولكنه كاتب لبناني عربي مهم، قبل أن يكون صاحب مشروع ثقافي كبير، رعاه وسهر عليه لنصف قرن. فقد خلف الرجل مجموعة مهمة من الأعمال الأدبية المتميزة؛ ست مجموعات من القصص: (أشواق) 1947، و(نيران وثلوج) 1948، و(كلهن نساء) 1949، و(الدمع المر) 1956، و(رحماك يادمشق) 1965، و(العراء) 1974، وثلاث روايات: (الحي اللاتيني) 1954، و(الخندق الغميق) 1958، و(أصابعنا التي تحترق) 1962، ومسرحية: (زهرة من دم) 1969 والعديد من الدراسات والترجمات المرموقة. وهو إنجاز أدبي مهم بأي معيار من المعايير، ساهم في دفع مسيرة السرد اللبناني ومواصلتها والحفاظ على شعلتها متألقة بعد أنجازات الجيل الذي سبقه المبكرة: من جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة وتوفيق يوسف عواد وسعيد تقي الدين وغيرهم. وستبقى من هذا الإنجاز العريض في ظني رواية (الحي اللاتيني) التي لعبت دورا مهما في صياغة واحدة من محطات التحول في تناول الأدب العربي لإشكالية العلاقة المعقدة بين العرب والغرب.

ولكن ليس هنا بأي حال من الأحوال مجال تناول إنجاز سهيل إدريس الإبداعي الضخم، فمجاله الدراسات المتأنية التي ستأتي مع الزمن بغير شك. كل ما أحب أن أبرزه هنا هو أن إنجاز الرجل في مجال الإبداع والدراسات الأدبية ـ التي لايجب ألا ننسى منها كتابه الرائد (القصة العربية في لبنان) 1953ـ والترجمة ثم المعاجم مع معجم (المنهل) الشهير، كون له رصيدا أدبيا كبيرا رفد بلاشك مشروعه الثقافي الكبير، وكرس مكانته. وكان رأسمال سهيل إدريس الرمزي والأدبي ذاك هو الذي رفد مشروعه الكبير في (الآداب) بالجدية والمصداقية. كما أن مشروع سهيل إدريس الثقافي الكبير (الآداب) هو ما يكسب هذا الإنجاز الأدبي الشخصي أبعادا مغايرة. حيث لايمكن الفصل بين الأثنين، ولا التغاضي عن الجدل الخلاق بينهما. فهما وجهان متلازمان لرجل واحد. لأن هذا الجدل الخلاق هو الذي راد اختيارات سهيل إدريس ومواقفه في (الآداب) وهو الذي مكنه من قيادة مشروع ثقافي جاد ناجح ومستقل في عالم عربي قل فيه نجاح المشروعات الجادة المستقلة.

وقد لعب هذا المشروع (الآداب) في الحياة الثقافية العربية مجموعة من الأدوار المهمة لاتنفصل بأي حال عن مسيرة هذه الحياة، وعن كثير مما فيها من قيم ورؤى أدبية وأخلاقية نبيلة. كان رصيد سهيل إدريس الأدبي، وبصيرته النافذة في استشعار ما يمور به الواقع العربي من رؤى وحساسيات جديدة من أهم عوامل نجاح مشروعه الثقافي في (الآداب). وكان أهم إنجازات (الآداب) في رأيي أنها نجحت بعد سنوات قليلة من ظهورها في أن تكون المجلة الأدبية العربية بلاجدال. مجلة مفتوحة على المستقبل، تعلي قيمة العقل والحوار الخلاق، وتهب من صفحاتها رياح الحرية التي تسعى لتبديد الهواء الفاسد وتقويض المناخ المكتوم. وقد ساعدها في ذلك نوع من الاستقرار أو الازدهار النسبي للتجربة الليبرالية في لبنان ما قبل الحرب الأهلية. وأهم من هذا كله كانت مجلة مفتوحة على الساحة العربية الواسعة من العراق حتى المغرب ومن سوريا وحتى السودان. على صفحاتها عرفت أهم الكتابات العربية وأكثر إبداعات العقل العربي جرأة وثقافة وعمقا، وآمنت معها بوحدة الثقافة العربية رغم الحدود والمؤامرات والمحن. والتقيب بين دفتيها بكل كتاب العالم العربي من مختلف الأجيال، واكتشفت كيف تتصادى خطاباتهم وأصواتهم ورؤاهم، رغم خصوصياتها الخصبة.

ولأن الدراسة التي ألحقها بهذا المقال تتناول الجانب الخاص بالنقد الأدبي في دور (الآداب) فإنني أحب هنا أن أشير بسرعة إلى مجموعة من الأدوار الأخرى التي لعبتها في حياتنا الثقافية. فلايمكن تصور نجاح مشروع شعر التفعيلة وانتشاره الواسع في الثقافة العربية، وما حققه نجومه البارزين من إنجازات ـ (من بدر شاكر السياب ونازك الملائكة ولمعية عباس عمارة وعبدالوهاب البياتي وبلند الحيدري وحتى سعدي يوسف وحسب الشيخ جعفر في العراق، ومن صلاح عبدالصبور وأحمد عبدالمعطي حجازي وأمل دنقل ومحمد عفيفي مطر ومحمد إبراهيم أبوسنة في مصر، وخليل حاوي في لبنان، ونزار قباني وسليمان العيسى وعلى الجندي وعبدالباسط الصوفي وعلى كنعان وممدوح عدوان في سوريا، وحتى قاسم حداد في البحرين. ولاشط أنه كان لها أيضا دور كبير في وضع شعراء المقاومة في فلسطين المحتلة من فدوى طوقان ومحمود درويش وتوفيق زياد وسميح القاسم وراشد حسين وأحمد دحبور ومريد البرغوثي على الخريطة الثقافية العربية، وهو دور حاسم في مشروعهم الشعري الكبير. وعشرات غيرهم في مختلف أقطار الوطن العربي لا يتسع المجال لذكر كل أسمائهم) ـ دون دور مجلة (الآداب) لا في نشر قصائد كل هؤلاء الشعراء ودواوينهم فحسب، وإنما في إدارة حوار نقدي خلاق حوله، ونشر دراسات ضافية حول دواوينه، وأحيانا حول قصائد بعينها، كما كان الحال مع بدر شاكر السياب.

كان موقف (الآداب) مع شعر التفعيلة ودعمها له من أسباب نجاح هذا النهج الشعري واجتذاب الكثير من المواهب الجديدة له، واحتلاله مكانة بارزة على الخريطة الأدبية بالرغم مما تعرض له من هجوم شديد من أنصار التقليد ودعاة الجمود. صحيح أن حدوس صاحب (الآداب) واختياراته الصائبة لعبت دورا كبيرا في نهضة الشعر العربي، لكن هذه الحدوس كانت مرتبطة من البداية بمجموعة من الرؤى والقيم الوطنية والفكرية. وهذا ما يميز مشروع (الآداب) الشعري عن مشروع مجلة (شعر) الذي طرح نفسه كنقيض لمشروع الشعر الوطني الملتزم الحر. فهذه القيم ـ الوطنية والالتزام والحرية ـ هي التي رادت معارك (الآداب) المختلفة ووجهت اختياراتها، سواء أتعلق الأمر بمعركتها من أجل شعر التفعلية أو الشعر الحديث، أو معركتها ضد مجلة (حوار) التي لعب فيها كاتب هذه السطور مع الصديق القديم صلاح عيسى دورا مؤثرا. وأظن الآن أن موقف (الآداب) ضد شعر قصيدة النثر ـ وقد كنت من الذين أيدوا هذا الموقف لزمن طويل، وإن استثنيت وقتها إنجاز الشاعر السوري الكبير محمد الماغوط منه منذ ذلك الزمن البعيد ـ قد عرقل مسيرتها لعقود عدة. وهذا دليل على سطوة (الآداب) الكبيرة وفعاليتها المؤثرة في الساحة الثقافية لزمن طويل وقبل أن يدور الزمن دورة عكس.

وكان لـ(الآداب) أيضا دور كبير في طرح مجموعة مهمة من الرؤى والأفكار على الساحة العربية، لا رؤى الفكر القومي العربي الذي أخلص له سهيل إدريس حتى في زمن الانتكاسات فحسب، وإنما رؤى الكاتب والمفكر الفرنسي الكبير جان بول سارتر أيضا. فقد كان لسهيل إدريس شخصيا، ولدار (الآداب) كناشر، دور كبير في طرح أفكار هذا المفكر الفرنسي على القارئ العربي وترجمة الكثير من أعماله هو ورفيقة عمره سيمون دو بوفوار. وقد وضع اللغة العربية في مكانة متميزة في هذا المجال. فبينما نشرت دار (الآداب) كل سلسلة «مواقف» الشهيرة لجان بول سارتر في الستينات ومطلع السبعينات من القرن الماضي، لم تكتشف اللغة الانجليزية أهمية هذه السلسلة من الدراسات، وتنتبه إلى ترجمتها إلا مع بدايات القرن الحادي والعشرين. وبينما نشرت (الآداب) أعمال سيمون دو بوفوار في الستينات، لم تنتبه الحركة النسوية الأمريكية لها إلا في الثمانينات. ناهيك عن عدد كبير من أعلام الفكر الغربي الذين اهتمت (الآداب) بنشر أفكارهم وترجمة كتبهم. فقد كان انفتاحها على الثقافة الغربية لايقل أهمية عن انفتاحها على الثقافة العربية في مختلف أرجاء الوطن العربي.

ولايقل الدور الذي أدته (الآداب) مجلة ودار نشرها للقصة العربية والمسرحية عن دورها في الانتصار لشعر التفعيلة. فقد نشرت لأهم كتاب القصة والرواية العرب منذ بداياتها وحتى الآن. وعلى سبيل المثال لا الحصر، كان لها دور كبير في طرح أسماء قصصية عربية كبيرة لم يكن لها وجود على الساحة قبل طرح (الآداب) لها بقوة فيها، من زكريا تامر وهاني الراهب وحيدر حيدر وسعدالله ونوس وحنا مينا في سوريا، إلى يوسف إدريس ـ الذي نشرت دار (الآداب) أفضل مجموعاته القصصية في الخمسينات وهي (حادثة شرف) ـ وسليمان فياض وبهاء طاهر وأبوالمعاطي أبو النجا في مصر، إلى فؤاد التكرلي ومحمد خضير وعشرات غيرهم من العراق، وحتى محمد زفزاف ومحمد شكري ومحمد برادة ومحمد عزالدين التازي في المغرب والطاهر وطار وأحلام مستغانمي في الجزائر.

والواقع أن أدوار مجلة (الآداب) وسياقات مسيرتها الثقافية تستحق أكثر من دراسة، وقد كتبت عنها الباحثة الإيطالية مونيكا روكو رسالة للدكتوراة، نشرتها باللغة الإيطالية قبل أكثر من عشرة أعوام. وأنتظر أن تكتب عنها وعن سهيل إدريس ـ وعلى ثقافتنا أن تتعلم من حياته ومن مشروعه كثيرا من الدروس والعبر ـ رسائل بحثية ضافية في اللغة العربية إذا ما كان لثقافتنا أن تنهض من كبوتها وأن تحتفي بقيمها الأصيلة والنبيلة.

وقبل أن أترك القارئ مع دراسة متواضعة كنت قد شاركت بها في «ندوة مجلة الآداب ودورها في الحياة الثقافية العربية» التي نظمها الاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب، وانعقدت في عمان 29 ـ 3. تموز/ يوليو 1994، أحب العودة إلى ما بدأت به من إشارة إلى المحنة التي تعاني منها (الآداب) وقد جرت إلى المحكمة، وإلى العنوان الذي جعلته عتبة لمقالي وهو «رحيل عصر». هل سيصبح رحيل سهيل إدريس بعد محنة جر مجلته ومشروعه من ورائها إلى محاكم الزور رحيلا لعصر بأكمله؟ هل سنواري في الثرى مع جثمانه كل تلك الأفكار والرؤى التي نافح عنها، وناضلت من أجلها أجيال من المثقفين المستنيرين على مد الساحة العربية؟ وأعنى بها قيم العقل والعروبة والوطنية والمقاومة في زمن يسمى المقاومة إرهابا والخنوع للمستعمر وتنفيذ مخططاته المشبوهة حكمة واعتدالا. هل ستستطيع القيم والرؤى التي مثلها ونافحت عنها مجلته أن تتغلب على جحافل الظلام المدعومة بالمال وبالمستعمر الجديد معا؟ هذه أسئلة أرجو أن تفكر ثقافتنا العربية فيها مليا، وكل ما أستطيعه الآن هنا هو أن أعود مع القارئ في الدراسة التالية إلى ذكريات مضيئة عن مشروع سهيل إدريس الثقافي، ليست مجرد هروب من الموت بالعودة إلى الماضي، وكأننا نرفع الزمن في وجه الموت وندرأ به عنا صدمته، ولكنها فيما أرجو بداية للتفكير في محنتنا الراهنة وفي سبل التغلب عليها والخروج من سراديبها المظلمة. 


(الآداب) منطلقاتها الثقافية وتحولات الخطاب النقدي العربي



تسعى هذه الدراسة/ الشهادة إلى طرح عدد من الأسئلة الأساسية حول الدور الكبير والاستثنائي الذي قامت به هذه المجلة العريقة التي نحتفل اليوم بعيدها، وإلى إثارة عدد من القضايا التي ارتبطت بها في مجال النقد الأدبي وفي أفق الثقافة العربية بشكل عام. ولا تزعم هذه الدراسة استنفاد كل الأسئلة والقضايا المتعلقة بدور (الآداب) الكبير في مجال الخطاب النقدي، أو الإجابة على كل ما تطرحه من تساؤلات، ولكنها تطمح إلى إثارة الأسئلة ووضع عدد من القضايا الأساسية على صعيد البحث الذي يتناول مسيرة هذه المجلة المهمة، ومسار الثقافة العربية من خلالها. لكن قبل طرح أي من هذه الأسئلة أو القضايا أود في البداية أن أشير إلى أن ديني الشخصي لهذه المجلة المهمة هو الذي يدفعني إلى استخدام اصطلاح «الدراسة/ الشهادة» لأن ارتباط الذات الدارسة بالموضوع المدروس ينفي عنها الحيادية الباردة والمشكوك في وجودها أصلا في الدراسات الإنسانية. حيث يجعل ارتباط الذات بالموضوع، وتمرير مفرداته عبر مرشحها، القول بالحياد المطلق نوعا من الإسراف والمبالغة. ومع هذا تظل جل اجتهادات هذه الدراسة في نطاق الموضوعية لأن صدورها عن مشارك في مسيرة المجلة يقترب بها من تخوم الشهادة الاعترافية، ولكنه يزودها في الوقت نفسه بخبرة ممارس يعرف موضوع دراسته حق المعرفة، ويتوفر له في الوقت نفسه قدر من البعد الضروري عن قضايا الإدارة اليومية لتلك المجلة، أو الارتباط المادي بها، فقد كان هذا العبء الأكبر هو عبء صاحب الآداب وعقيلته، وهذا البعد هو الذي يكسب هذه الدراسة دلالتها بقدر القرب من موقع الأحداث الثقافية فيها تماما. ومن البداية أود التأكيد على أنه برغم وجود بعد الشهادة في هذه الدراسة، فإن البعد النقد والمنهجي فيها يحتم عليها الابتعاد عن الإغراق في سرد التواريخ والوقائع التي عاشها كاتبها، والاقتراب بشكل أكبر من الدلالات العامة التي صاغت دور (الآداب) وبلورت إنجازاتها المعرفية في الواقع العربي على مد العقود الأربعة الأخيرة. وإذا ما رجعنا الآن إلى الأسئلة بعد هذه المقدمة التوضيحية وجدنا أن للإسئلة نفسها اهميتها حتى لو لم تستنفد الدراسة كل الأجوبة المطروحة عليها. فلماذا استطاعت (الآداب) أن تكون عنصرا فاعلا في الثقافة العربية من المحيط إلى الخليج؟ وما هو دورها بالنسبة لجيلي من الكتاب عامة، ومن النقاد منهم على وجه الخصوص؟ وما الذي ميزها بالنسبة لهذا الجيل عن عدد من المجلات التي توفر لها ما لم يتوفر لـ(الآداب) من إمكانيات مادية أو مؤسسية؟ ومع ذلك لم تستطع هذه المجلات أن تنافس (الآداب) على مكانتها بين القراء والكتاب، وظلت أغلبها تنفس على (الآداب) هذه الدور وتلك المكانة. وكيف استطاعت (الآداب) أن تكون في ازدهارها وفي تعثرها معا شهادة حية على مسيرة الثقافة العربية، وترمومترا يسجل ما انتابها من تحولات؟ وأهم من هذا كله ما هي مجموعة القيم الثقافية والأدبية التي ارتبطت بها هذه المجلة في الواقع العربي، ودافعت عنها طوال مسيرتها الطويلة؟ وكيف كان هذا الارتباط القوي الأصيل بها هو الذي استأدى المجلة الثمن الفادح الذي دفعته بنبل وكرامة في زمن الانحسار العربي الردئ؟ ولماذا لم تتمكن كل المجلات التي حاولت أن تحل محلها من الاضطلاع بشيئ من الدور الذي الذي قامت به (الآداب) على مر العقود؟ وخاصة تلك التي صدرت في النصف الثاني من السبعينات وطوال عقد الثمانينات، وهو زمن الحرب الأهلية اللبنانية التي كانت جزءا من سياق أوسع يستهدف ضرب المراكز العربية القديمة في القاهرة وبيروت لحساب الهوامش النفطية، وضرب حركة الاستقلال والتحرر العربية لحساب التبعية ومخططات أعداء الأمة العربية، وضرب المشروع العربي لحساب المشروع الصهيوني/ الأمريكي في المنطقة.

جدل البدايات ورؤاها
وليس غريبا أن تتأثر (الآداب) بهذا كله، فقد جاء ميلاد (الآداب) نفسه في موعد مع التحولات العربية الكبرى. كان الواقع الذي ولدت فيه (الآداب) هو واقع سنوات مابعد النكبة الكبرى التي أصابت العرب في فلسطين، بعد أن رزئوا بحكام مهدوا للنكبة وشاركوا في حدوثها. وكانت السيطرة الاستعمارية على المنطقة من أهم أسباب عجز العرب عن التصدي للمخطط الصهيوني الاستعماري الذي يستهدف الإطاحة بمستقبلهم. وبلغ التردي مع مطلع الخمسينات ذروته بصورة أصبح يرهص فيها بالتحولات القادمة، لأن استمرار واقع التردي على ما هو عليه أمر مستحيل. وأصبح الشباب خاصة على يقين بأنه لا مناص من التغيير. وهذا الواقع العربي المر هو ما عبر عنه منير البعلبكي، أحد أصحاب امتياز (الآداب)، في عددها الثالث، بأنه «واقع بشع قاتم لا يطالعك بغير الكلوح والشؤم كيفما واجهته، ومن أيما زاوية نظرت إليه. فهو في حياتهم الأخلاقية والمسلكية واقع الإثرة والأنانية، والتحاسد والتباغض، والمكيدة والزلفى، والنفعية والوصولية، والتحرر والاستهتار. وهو في حياتهم الاجتماعية والعقلية واقع البؤس والمرض، والخرافة والتقليد، والطبقية والببغائية، والوثنية والتعصب، والأمية المتعالمة، والعلم الذي هو أقرب شيئ إلى الجهل. وهو في حياتهم الاقتصادية والسياسية واقع الإقطاع والرجعية، والفساد والفوضى، والارتجال والتخبط، والفاقة تغرق في ديجورها الكثرة الكثيرة من أبناء الأمة، والنعمة تنغمس في متارفها القلة القليلة ممن يدعونهم أهل الامتياز. إنه واقع القبلية والعائلية والانقياد والإمعية. واقع الاستعمار السافر حينا المقنع حينا آخر. واقع «إسرائيل» التي أناخت بكلكلها على قلب العالم العربي فشطرته شطرين، وأزعجت مليونا من عرب فلسطين عن ديار الآباء والأجداد، ومدارج الصبا وملاعب الشباب، والتي تتهدد العرب كلما ارتفع ضحى أو هبط ليل بخزي جديد يمد في رقعتها ويبسط من سلطانها، وقد يجعل في يدها الغادرة مفاتيح هذا الجزء من العالم في وقت قريب أو بعيد»(1) هذا الواقع الذي صدرت (الآداب) عنه وطمحت إلى تغييره يوشك أن يكون بعد أكثر من أربعين عاما على صدورها وكأنه ثابت بيننا لايريم. انقشعت غمته لسنوات قليلة ثم عادت لتخيم علينا من جديد أشد حلكة وأكثر ترديا. رحل الاستعمار القديم في الخمسينات والستينات، ولكن سرعان ما عاد الاستعمار الجديد مراوغا ومتخفيا في السبعينات والثمانينات، ثم سافرا ومتغطرسا في التسعينات. ليسيطر على المنطقة، ويعربد فيها. وقد استبدل باحتلال الأرض احتلال العقول، والسيطرة على مؤسسات الحكم والقرار، وبث سمومه عبر أجهزة الإعلام التابعة والعميلة. وتهميش الأصوات الرافضة أو حصارها. واستبدل بجيوش الاحتلال فيالق «الخبراء» و«المستشارين»، وبأدوات القمع العسكري أشكال القمع المالي والتشويه الإعلامي، وبصندوق الدين القديم صندوق النقد والبنك الدولي، وبالإقطاع والقبلية القديمة أموال النفط والتخلف والقبلية الجديدة. وأحال الإخوة إلى أعداء، والأعداء إلى حلفاء، وأقام سدودا من العداوات والدماء، وإجراءات تكريس القطيعة، وبث الكراهية بين أبناء الوطن العربي، بل وبين أبناء القطر العربي الواحد، حتى يظل التفريق معراج سيادة الآخر المستمرة علينا. وأوشكت نبوءة منير البعلبكي الاستشرافية عن الكيان الاستيطاني في فلسطين المحتلة ـ حينما قال «وقد يجعل في يدها الغادرة مفاتيح هذا الجزء من العالم في وقت قريب أو بعيد» ـ أن تتحقق كلية، ودولة الاستيطان الصهيوني تفرض إملاءاتها على العرب أجمعين، وتستهين بهم يوما بعد يوم.

وقد ترك كل من التحول والانتكاس أثره على (الآداب) وتفاعلت بدورها معه. ويصوغ هذا التفاعل سؤالا مهما من أسئلة هذه الدراسة حول أسباب الدوران في فلك هذه الحلقة الجهنمية المغلقة، وكيف تتعلق الإجابة على هذا السؤال بـ(الآداب) بنفس درجة تعلقها بالواقع العربي نفسه. لأن (الآداب) بدأت مسيرتها المشرقة مع بداية إرهاصات التغيير والتحرر من الاستعمار القديم. إذ ولدت في مطلع عام 1953، بعد شهور قلائل من ثورة يوليو (تموز) عام 1952، وبعد توقف المجلتين الأدبيتين (الرسالة) و(الثقافة) اللتين عبرتا عن أفضل ما في المرحلة السابقة من إنجاز ثقافي وفكري، وكأنما جاءت لتكون أداة التعبير عن التغيير الفكري والثقافي، بقدر ما كانت ثورة جمال عبدالناصر أول أشكال التعبير السياسي عن التغيير الذي تاق شباب العرب إلى تحقيقه في كفاحهم الطويل من أجل الاستقلال، والتخلص من الاستعمار والفساد والتبعية. وسجلت افتتاحية العدد الأول منها هذا الوعي الثقافي والمعرفي الذي يريد أن يرود التغيير ويمهد له: «في هذا المنعطف الخطير من منعطفات التاريخ العربي الحديث، ينمو شعور أوساط الشباب العربي المثقف بالحاجة إلى مجلة أدبية تحمل رسالة واعية حقا. وصدور (الآداب) منبثق عن وعي هذه الحاجة الحيوية، أما تلك الرسالة التي تحملها، فتقوم على الأسس الكبرى التالية: تؤمن المجلة بأن الأدب نشاط فكري يستهدف غاية عظيمة: هي غاية الأدب الفعال الذي يتصادى ويتعاطى مع المجتمع، إذ يؤثر فيه بقدر ما يتأثر به. والوضع الحالي للبلاد العربية يفرض على كل وطني أن يجند جهوده للعمل، في ميدانه الخاص، من أجل تحرير البلاد ورفع مستواها السياسي والاجتماعي والفكري. ولكي يكون الأدب صادقا، فينبغي له ألا يكون بمعزل عن المجتمع الذي يعيش فيه. وهدف المجلة الرئيسي أن تكون ميدانا لفئة أهل القلم الواعين الذين يعيشون تجربة عصرهم، ويعدون شاهدا على هذا العصر. ففيما هم يعكسون حاجات المجتمع العربي، ويعبرون عن شواغله، يشقون الطريق أمام المصلحين لمعالجة الأوضاع بجميع الوسائل المجدية. وعلى هذا، فإن الأدب الذي تدعو إليه المجلة وتشجعه، هو أدب «الالتزام» الذي ينبع من المجتمع العربي ويصب فيه».(2) وتكشف هذه الجمل الافتتاحية عن عدة أمور مهمة: أولها أن المجلة تعبر عن حاجات فئة معينة في المجتمع وهي فئة الشباب العربي المثقف الذي يحمل رسالة واعية بكل ما ينطوي عليه هذا الوعي من دلالات. وثانيها وعي المجلة بالسياق التاريخي والسياسي والفكري الذي تصدر فيه، وبالمنعطف التاريخي الذي تريد أن تلعب دورها به. وثالثها إدراكها للجدل بين كل مكونات الواقع الحضاري الذي تصدر عنه وبين المجلة التي تطمح للتعبير عنه، والتأثير فيه، وريادة مسيرته نحو الأفضل. وهو جدل ينهض على «التصادي والتعاطي» حسب تعبير سهيل إدريس الفريد، وليس على مجرد الانعكاس الآلي أو التبعية لأولي الأمر، لأنه يطمح إلى التأثير بقد ما يعي ضرورة أن يتأثر وأن يستوعب. ورابعها مبادرة المجلة لأخذ زمام المبادأة في معركة أرهصت بها وأدركت أنها تشهد بداياتها التي ستبلغ ذراها في السنوات التي شهدت مجد (الآداب) وصنعته، وهي معركة «تحرير البلاد ورفع مستواها السياسي والاجتماعي والفكري». ومن هنا كانت مناداتها بضرورة ألا يكون الأدب في معزل عن المجتمع، وهي التي صدرت على أنقاض المرحلة التي شهدت جدلا طويلا حول الفن للفن. وخامسها أن (الآداب) انحازت منذ بداياتها الأولى، وبسبب صدورها عن صبوات الشباب ومطامحهم، لرؤى التجديد ولفئة أهل القلم الواعين الذين يعيشون تجربة عصرهم، ويعدون بحق شاهدا على هذا العصر بكل ما يعد به من تحولات. وسادسها وعيها بريادة الأدب لحركة الإصلاح الحضاري في كل مناحي الحياة. لهذا كله دعت (الآداب) منذ البداية إلى أدب «الالتزام» الذي ينبع من المجتمع العربي ويصب فيه. «والمجلة إذ تدعو لهذا الأدب الفعال تحمل رسالة قومية مثلى. فتلك الفئة الواعية من الأدباء الذين يستوحون أدبهم من مجتمعهم يستطيعون على الأيام أن يخلقوا جيلا واعيا من القراء يتحسسون بدورهم واقع مجتمعهم، ويكونون نواة الوطنيين الصالحين. وهكذا تشارك المجلة، بواسطة كتابها وقرائها، في العمل القومي العظيم، الذي هو الواجب الأكبر على كل وطني».(3) وتربط الافتتاحية هنا هذا «الالتزام» الأدبي الذي دعت إليه، بالبعد القومي وبالدور الفكري للمجلة، بشقيها الفاعلين: الكتاب والقراء، في بلورة هموم الواقع والتعبير عن آماله ورؤاه، وفي صياغة أشكال العمل القومي الأكبر الذي تعده الواجب الأول على كل وطني. وهذا الربط الواضح بين البعدين الوطني والقومي، وكأنهما وجهي عملة واحدة في مصطلح المجلة الفكري، هو الذي أكسب دعوة (الآداب)، على مر سنوات عمرها، تلك الأهمية التي أثارت الجدل بين الكتاب، وربطت الأدب بالتحولات الفكرية والسياسية التي شهدتها الساحة العربية منذ البداية. وهو الذي جعلها أداة فعالة في صراع الواقع العربي من أجل بلورة مشروعه ومن أجل الدفاع عن رؤاه الوطنية والقومية. وقد كانت المجلة واعية من البداية بضرورة أن يكون لهذا العمل القومي العربي بعده الإنساني. ومن هنا أكدت في افتتاحيتها تلك: «على أن مفهوم هذا الأدب القومي سيكون من السعة والشمول حتى ليتصل اتصالا مباشرا بالأدب الإنساني العام. مادام يعمل على رد الاعتبار الإنساني لكل وطني، وعلى الدعوة إلى توفير العدالة الاجتماعية له، وتحريره من العبودية المادية والفكرية، وهذه غاية الإنسانية البعيدة. وهكذا تسهم المجلة في خلق الأدب الإنساني الذي يتسع ويتناول القضية الحضارية كاملة، وهذا الأدب الإنساني هو المرحلة الأخيرة التي تنشدها الآداب العالمية في تطورها».(4) فالبعدان الوطني والقومي في رسالة (الآداب) هما التعبير المحلي لديها عن رسالة الأدب الإنسانية الأوسع. وهما وثيقا الصلة في هذا المجال بقضية العدالة الاجتماعية، ورد الاعتبار الإنساني لكل مواطن في عالم كان العربي فيه يشعر بالمهانة في وطنه الذي كانت السيادة فيه وقتها للأجنبي المحتل. وكان هم (الآداب) من البداية أن تساهم في خلق الأدب الذي يكرس هذه القيم الإنسانية ويرد الاعتبار للمواطن ويشعره بالكرامة في وطنه، وبالاعتزاز به والسيادة به وفيه. فأين نحن الآن من هذه القيم التي استهدفت (الآداب) تكريسها في الواقع العربي؟ لقد تحققت هذه القيم في بعض اللحظات، وفي بعض الأقطار، وتحققت معها (الآداب) وازدهرت، ثم أطيح بها، وعانت (الآداب) من آثار هذه الإطاحة وترنحت معها. فقد كانت (الآداب) جزءا من مرحلة ومن مشروع ومن حلم عربي عزيز، لايزال بعد أربعين عاما في منطقة الأحلام العصية بعد أن شارف التحقق في لحظات قليلة من تاريخنا العربي القريب. وقد كان دور الأدب في هذا الحلم العربي القومي المشروع هو أكثر القضايا التي استأثرت بالجدل والنقاش في العام الأول من عمر (الآداب). فقد كتب الناقد الراحل أنور المعداوي، والذي كان ألمع نقاد المرحلة السابقة على صدور (الآداب) وأحد نجوم مجلة (الرسالة) السابقة عليها، في العدد الثاني من (الآداب) مقالا ضافيا بعنوان «الأدب الملتزم» يناقش فيه هذه القضية. ويركز على نقاط الاختلاف بين أدب «الالتزام» الحر الذي تدعو له (الآداب)، والأدب الاشتراكي الذي يدعو إليه الشيوعيون. لأن:

«الأدب لكي يكون ملتزما في رأي سارتر لابد له أن يتنفس هواء الحرية بملء رئتيه. لابد من حرية الكاتب فيما يكتب، ولابد من حرية القارئ فيما يقرأ، ليتحقق ذلك الهدف المثالي لمبدأ الإلتزام. أما حرية الكاتب فلن تتوفر له إلا إذا تخلص من الخضوع لتيارات حزبية معينة، تملي عليه ما يتفق ووجهة نظرها من آراء وأفكار. وأما حرية القارئ فتتمثل في عدم إرغامه على قبول لون بعينه من الانتاج الأدبي الذي يتجه إلى غاية محدودة وهدف مرسوم».(5)

هذا الإلحاح على مبدأ الحرية: حرية الكاتب وحرية القارئ كان واحدا من المبادئ المهمة التي أرستها (الآداب) من خلال كتابها. وقد أراد أنور المعداوي أن يضع هذا الهدف ضمن أهداف المجلة منذ ميلادها، وتقبلت (الآداب) منه هذا البعد بصدر رحب، بل ورحبت به، لأنه كان يتفق مع سياستها المضمرة. ولو أعلن الكتاب ما تضمره المجلة فلاضير في هذا. لأن حرية الفرد في التفكير والتعبير لديها هي أساس «الالتزام» الذي يتيح الاختيار ويترك بابه مفتوحا على مصراعيه. ويرفض الإملاء والإذعان وكل ما يرتبط بأخلاق العبيد، كما يرفض أي شكل من أشكال التسلط التي تتم فيها سيطرة النظم السياسية على الأدب وعلى مختلف السياسات الثقافية. فقد كانت (الآداب) وكتابها الأوائل على وعي بأن الحرية مبدأ أساسي من مبادئ الالتزام الذي تدعو إليه. وعلى أن السياق التاريخي الذي ظهرت فيه، عقب الانقلاب العسكري في مصر، والذي سبقه انقلاب عسكري آخر في سوريا، يستوجب عليها الحذر وتنبيه القارئ والمؤسسة على السواء إلى أهمية هذه الحرية، وإلى ضرورة الذود عنها. وكان من الطبيعي أن تفسح (الآداب)، وهي لم تزل بعد في لفائف الميلاد، لهذا البعد أن يتبلور، وأن تتيح لأنور المعداوي أن يضع النقط على الحروف وهو يقول: «والمجلة إذ تدعو إلى هذا الأدب الفعال، تحمل رسالة قومية مثلى. فتلك الفئة الواعية من الأدباء الذين يستوحون أدبهم من مجتمعهم يستطيعون على الأيام أن يخلقوا جيلا واعيا من القراء يتحسسون بدورهم واقع مجتمعهم، ويكونون نواة للمواطنين الصالحين».(6) ثم يؤكد سهيل إدريس نفسه هذا الأمر في العدد الخامس من (الآداب) وهو يتعرض للأدواء التي يعاني منها الأدب العربي عنما قال إن: «أخطر الشكاوي التي يتبرم منها الأدب العربي الحديث موقف بعض الحكومات العربية من حرية الأديب في التعبير. فعلى الرغم من أن هذه الحكومات تدعي الحكم الديموقراطي، فهي تحرم الأديب في كثير من الأحيان من أن ينعم بحريته، فتخضعه للضغط والعسف والملاحقة والاضطهاد إن قضية حرية الأديب قضية جذرية في حياته، ولاسيما في هذه الفترة من تاريخ البلاد العربية التي يجد الأديب فيها نفسه مدعوا إلى خدمة قومه وأمته، بكل حظوظ القوة الفكرية التي يملكها. فمادامت الرقابة الفعلية قائمة في ظل نظام جائر أو نفوذ إقطاعي، فإن رسالة الأدب معطلة، وبالتالي رسالة قسم هام من حياة الأمة».(7) وما أن يفرغ أنور المعداوي من قضية الحرية حتى يعود إلى التأكيد على جزء هام ودال ورد في افتتاحية (الآداب) في عددها الأول، واستوجب منه تكراره في مقاله، وهو تكرار له دلالاته التي تركز على أبعاد العدالة الاجتماعية، ورد الاعتبار للمواطن وللإنسان، وتحريرة من شتى ألوان العبودية الفكرية والسياسية، وهو الجزء الذي تلح فيه الافتتاحية:  «على أن مفهوم هذا الأدب سيكون من السعة والشمول حتى ليتصل اتصالا مباشرا بالأدب الإنساني العام. مادام يعمل على رد الاعتبار الإنساني لكل وطني، وعلى الدعوة إلى توفير العدالة الاجتماعية له، وتحريره من العبوديات المادية والفكرية، وهذه غاية الإنسانية البعيدة. وهكذا تسهم المجلة في خلق الأدب الإنساني الذي يتسع ويتناول القضية الحضارية كاملة، وهذا الأدب الإنساني هو المرحلة الأخيرة التي تنشدها الآداب العالمية في تطورها.»(8) وينطلق بعد هذا ليؤكد أن: «هذه الدعوة الصادقة، مصبوبة في هذه الكلمات الواعية، متجهة إلى هذه الأهداف المثالية جديرة بأن يتقبلها الأدباء تقبل الإيمان الذي لا يشوبه الشك بأن الأدب تبعة ومسئولية. تبعة حين نفهم أنه رسالة توجيه، ومشعل إصلاح، وقيادة رأي، ودعوة حرية وكرامة وعدالة. ومسئولية حين ندرك أن من واجب الموجه والقائد والمصلح أن يكون أمينا في نقل آرائه، حرا في تكوين أفكاره، لأن المطلوب من الأدب كما يقول سارتر أن يخاطب الأحرار، وألا يتجه إلى العبيد»(9) . ثم يضيف أنو المعداوي إلى هذا كله بعدا مهما ينطوي عليه عنون المجلة ذاته وهو أن «الآداب» هي مناط أدب «الالتزام» ومجاله الأساسي. لأن الآداب تستخدم الألفاظ بطريقة مغايرة لاستخدام الفنون الأخرى من تصوير وموسيقى لأدواتها التعبيرية. مستشرفا هنا ما أثبتته الدراسات النقدية بعده من أن استخدام الأدب للغة يجعله لصيقا بدلالاتها ومحمولاتها الاجتماعية والثفافية والتاريخية. ويؤكد في هذا المجال، ولو بطريقة غير مباشرة، أهمية الآداب التي اتخذتها المجلة عنوانا لها بين غيرها من أشكال التعبير الإبداعي المختلفة في عملية التغيير التي يتواخاها الأدب الملتزم ويطمح إلى القيام بها في الواقع الحضاري الذي يصدر عنه. لذلك يؤكد المعداوي، آخذا بعين الاعتبار إخراج سارتر للشعر من دائرة الالتزام لسعيه لتقديم الجمالي على الدلالي:

«إننا نوافق الكاتب الوجودي على أن الفنون الأخرى أقل من الأدب قوة في الإفصاح وقدرة على التعبير حين يطلب في الفن أقصى المدى من الإيحاء والتأثير. نوافقه لأننا نؤمن مثلا بأن قصيدة من الشعر مهما حملت من خلجات النفس، ومهما نقلت من سبحات الفكر، ومهما عكست من صور الحياة، لايمكن أن تبلغ من الإحاطة بهذا كله، ومن التغلغل في أعماقه والنفاذ إلى أغواره ما تبلغه قصة من القصص أو مسرحية من المسرحيات». (10) صحيح أن تفضيل المعداوي لفنون التعبير النثري على الشعر على أساس دلالي أمر مشكوك فيه، ولكنه يقبل الجدل والنقاش، لكن المهم أنه يدعو في الوقت نفسه إلى توسيع أفق الاهتمام بالآداب من خلال استخدام شتى أدوات الاتصال التي ترهف قدرة الكاتب على الفعالية والتأثير، وتوسع من قاعدة جمهوره. «فعلى الأديب الملتزم أن يستغل كل وسيلة من هذه الوسائل لتتم الصلة بينه وبين الرأي العام على أوسع نطاق. عليه أن يؤدي رسالته على الورق، وفوق خشبة المسرح، وعلى شاشة السينما، وعلى موجات الأثير، وبخاصة إذا ما كان قصاصا أو كاتبا مسرحيا أو ما شئت من تنوع المواهب عند الأدباء وتعدد الملكات».(11)  وهذا الحرص على استخدام كل أدوات الاتصال وتبليغ الرسالة الجديدة إلى أوسع قاعدة من الجمهور له أهمية كبيرة لأنه ينطوي لا على رغبة الأديب في الانتشار والتأثير فحسب، وإنما على أن يكون له كذلك قاعدة واسعة من المواطنين الذين يتبنون رؤاه، ويحمون اجتهاداته، ويكرسون استقلاله الفكري. فقد كان صدور (الآداب) نفسها عن مبادرة فردية لعدد من الشباب، ودعوتها لشباب القراء للالتفاف حولها تعبيرا عن وعي ثقافي جديد يرى أن أحد عناصر التغيير المنشود الأساسية هي استقلالية الثقافة والمثقف عن المؤسسة، وانصرام عهد رعاة الفنون والآداب، سواء أكان هؤلاء الرعاة من الأثرياء أو السلاطين أو حتى مؤسسات الحكم، وانبثاق عهد جديد على القارئ أن يمول فيه منابره الثقافية، وأن يحميها. وبدون التفاف جمهور القراء حول المنبر الثقافي، تتعرض استقلاليته نفسها لشتى الأخطار، ويسهل احتواؤه والالتفاف عليه. ومن هنا كان حرص (الآداب) على تعميق الجدل الخصب بين الأدب والقارئ وبينهما معا والواقع الحضاري. لأن المنبز المستقل الفاعل هو الذي يتحقق به الدور المنشود للأدب الفعال الذي دعت إليه (الآداب) منذ أعدادها الأولى: «والأدب في رأس القوى التي ينبغي أن تجند في سبيل دفع دولاب النهضة واستعجال البعث. فليس كالأدب حين يستقيم على الطريقة حافزا إلى اليقظة والنهوض. وليس كالأدب حين يتردى في مهاوي التبذل داعية إلى التبلد والخمول، فهو كالأفيون أو أشد منه فتكا. من أجل ذلك قلنا في هذه المجلة بمبدأ الأدب الملتزم. ومن أجل ذلك دعونا أدباءنا إلى النزول من أبراجهم العاجية إلى أرض الناس والخوض في دنياهم الضاجة بالمشكلات. ليبدعوا لنا أدبا مسؤولا ينبع من المجتمع العربي ويصب فيه كما قال الدكتور سهيل إدريس في (رسالة الآداب) وهو يقدم المجلة إلى القراء. فنحن لانريد بعد اليوم أدبا رخوا يتغنى بالليالي الخرّد الغيد، أو يدغدغ غزائزنا الدنيا فيمسخ الحياة في أعيننا إلى غلالة وساق، ويحيلها إلى صراع من أجل امرأة. إنما نريد أدبا يعالج مشكلاتنا الأساسية الملحة، ويصور واقعنا المعتم تصويرا يكشف لنا عن مواطن الخلل فيه، ويهيب بنا إلى إصلاحه وتحسينه. نريد أدبا يحررنا من شتى عبودياتنا العقلية والنفسية والاجتماعية. نريد أدبا يخلق من أبنائنا مواطنين يؤمنون بأن الأمة فوق الطائفة، والوطن قبل الأسرة، وينفخ فيهم روح القوة والفتوة والثأر. وعندئذ يكون من حقنا أن نطمئن إلى أن العرب قد اجتازوا امتحان الحياة أو الموت الذي فرضته عليهم أحداث السنوات الأخيرة من العقد الخامس من القرن العشرين».(12) مرة أخرى ألا تزال هذه الكلمات التي عبرت عن رسالة (الآداب)، وعن نوعية الأدب الذي تدعو إليه قبل أكثر من أربعين عاما، وكأنها صرخة كاتب عربي يعيش معنا اليوم في منتصف العقد الأخير من القرن العشرين. فما أشبه الليلة بالبارحة، وأحداث العقد الخامس من هذا القرن في عالمنا العربي بويلات عقده الأخير فيه، حيث استحالت النكبة الأولى إلى نكبات تتوالد أحدها من رحم الأخرى، واستحالت جل الأنظمة العربية إلى عرابين لتلك النكبات، ووكلاء معتمدين لدى النظام الاستعماري الجديد. ينكلون بقيم الثقافة العربية الأصيلة، ويشوهون العقل العربي، ويزيفون الواقع والتاريخ. لكن دورة الواقع وعودة الاستعمار معها تجعل الرجوع إلى درس (الآداب) ودروس التاريخ العربي القريب معها ضرورية، حتى نعرف أسباب هذه الدورة من ناحية، وحتى نتلمس بصيص أمل في حلكة هذا الواقع المتردي الردئ.

رسالة (الآداب) وطبيعة مشروعها الثقافي
والواقع أن هذه الوقفة التي طالت قليلا مع بدايات (الآداب) وسياقات مشروعها الثقافي، ونوعية القيم التي حرصت على إرسائها منذ البداية، هي المدخل الطبيعي لدراسة أي جزئية من جزئيات مشروعها الثقافي وإنجازها وتواريخ تفاعلها مع الواقع على مد رحلتها الطويلة. فبدون التعرف على طبيعة المنطلقات، ونوعية القيم والرؤى المضمرة فيها، يظل الحديث عن دور (الآداب) في أي مجال من المجالات ناقصا. وإذا كان مجال اهتمام هذه الدراسة ينصب بالدرجة الأولى على دور هذه المجلة الكبيرة في ساحة الخطاب النقدي، فإن التعرف على منطلقات المجلة الثقافية يصبح أمرا لامناص منه. لأن إنجاز المجلة في المجال النقدي يرتبط ارتباطا وثيقا بتصوراتها وافتراضاتها ومنطلقاتها الثقافية والفكرية تلك. ومن البداية نلاحظ أن المجلة سعت ما وسعها الجهد إلى وضع هذه الرؤى والمنطلقات موضع التنفيذ منذ أعدادها الأولى. فاستكتبت في سنتها الأولى أكثر الأسماء الجادة والمعروفة في هذا المجال(13)، وفتحت الباب أمام عدد من النقاد الشباب الذين كانوا غير معروفين وقتها(14)، ودعت عددا من الكتاب اللامعين الذين توقفوا عن الكتابة إلى العودة لها مثل توفيق يوسف عواد وفؤاد الشايب. ومن هنا نلاحظ أن المجلة كانت تعي من البداية ضرورة الانفتاح على مختلف الطاقات النقدية مادامت تشاركها الإيمان بمنطلقاتها. وأنها سعت منذ عامها الأول إلى إفساح المجال أمام المواهب النقدية الجديدة والاجتهادات الشابة إيمانا منها بضرورة تجديد دماء الحركة النقدية. وطرحت المجلة كذلك في عامها الأول عددا من القضايا المهمة في استفتاءاتها من تشجيع الأدباء الناشئين (عدد1) إلى طلابنا بين العلم والأدب (عدد2) وهل يؤدي الأدباء الشيوخ رسالتهم (عدد5) وأسباب ضعف المسرحية العربية الحديثة (عدد7) والشعر العربي بين التقليد والتحرير (عدد8) والنزعة الإنسانية في الأدب (عد9) وأزمة المجلات الأدبية في العالم العربي (عدد1.). وفضلا على هذا كله نجد أن المجلة حرصت من البداية على أن يكون تبويبها تجسيدا لأهدافها المعلنة. فقدمت الأعمال الأدبية الشابة، وتابعت الإنتاج الأدبي الجديد بالنقد والتحليل، وفتحت الباب أما الجدل والحوار والمناقشات الجادة لكل ما تنشره. واستحدثت باب «قرأت العدد الماضي من الآداب» الذي أدار حوارا دائما بين النقد والإبداع فيها، وراد خطوات المواهب الشابة وجنبها العثرات. كما تابعت النشاط الثقافي في العالم العربي وفي العالم الغربي معا. ومن هنا استطاعت المجلة منذ عامها الأول أن تكون نموذجا للمجلة الأدبية الملتزمة بقضايا الواقع العربي، وبادارة حوار بينها وبين مايدور في العالم الخارجي. لأن انفتاحها على الثقافات الإنسانية المختلفة، تطلب منها الحرص على النهوض بدورها المعرفي في إطلاع المثقف العربي على مايدور في عالمه العربي أولا، ثم على مايدور في العالم الخارجي ثانيا.

ولم تكن المجلة مقفولة على تيار بعينه في هذا المجال، وإنما كانت مفتوحة على عدد من التيارات التي احتضنت عبرها التعددية قبل أن تصبح التعددية شارة العصر. لكن الفرق بين تعددية (الآداب) وتعددية ما يسمى بالنظام العالمي الجديد أنها كانت تعددية في نطاق الوطنية والمشروع القومي الكبير، ولم تكن تعددية الانبطاح والتضحية بالقضايا المصيرية، والارتماء في أحضان الأعداء. كانت تعددية الصدق والكرامة لا الزيف والتبعية. وكانت تمتد من الصعيد الفكري إلى الصعيدين العمري والجغرافي، فقد تجاورت على صفحات المجلة أكثر الأقلام شبابا وأكثرها حنكة وتجربة، وألتقت في ساحتها كتابات الوطن العربي كله من المحيط إلى الخليج، وتحاورت على صفحاتها مختلف الاتجاهات والاجتهادات الوطنية، وتعانقت على صفحاتها التجارب الأدبية الجديدة في مختلف أجناس الكتابة من الشعر إلى القصة، ومن الرواية إلى المسرحية. وازدهر النقد على صفحاتها بمختلف اتجاهاته وتعدد اجتهاداته. كما اتسعت صفحاتها لكل تنويعات الخطاب النقدي من الدراسة الفكرية الجافة حتى العرض الأدبي الخفيف، ومن الاستقصاءات الجمالية حتى التحليلات المعيارية، ومن الدراسة الوصفية حتى النقد الانطباعي والتأملي.

واستمرت رحلة (الآداب) في التطور والازدهار، ولأن رصد تحولات المجلة من عام إلى عام أكبر من طاقة هذه الدراسة القصيرة، فإننا سنتوقف في محطات على مبعدة خمس سنوات في فترة الازدهار، ثم عشر سنوات بعدها. فبعد خمس سنوات نجد أن المجلة قد أصبحت في عام 1958، وهو عام الوحدة المصرية السورية وبلوغ المد القومي والتحرري ذروته، ملتقى التيارات النقدية المهمة في الساحة العربية وقتها. حيث تحاورت على صفحاتها آراء الأجيال جميعها من جيل عميد الأدب العربي طه جسين ومعاصريه(15) إلى جيل طلابه الأوائل(16) إلى جيل أبنائه المتأخرين(17) إلى الجيل الشاب(18) الذين شهدت (الآداب) خطواتهم الأولى في مجال النقد وشجعتها. فإذا ما تقدمنا خمس سنوات أخرى وانتقلنا إلى سنتها الحادية عشرة، عام 1963 سنجد أن (الآداب) واصلت نفس المسيرة وبنفس التنوع الخصب. وقد كانت هذه السنة هي التي شهدت بداية علاقتي الحقيقية مع المجلة كناقد. صحيح أنني نشرت أول ما نشرت بها في العام السابق، عام 1962، ولكن هذا العام كان عام حضوري المكثف على صفحاتها والذي استمر بعد ذلك لعدة سنوات.  

(الآداب)... شهادة شخصية:
كانت (الآداب) بالنسبة لجيلي هي المجلة الأدبية بلانزاع، حيث تبلورت على صفحاتها قضايا الساعة، وتخلقت فوقها المواهب الأدبية القادرة على التعبير عنها. وكنت قد عرفت المجلة قبل ذلك بأعوام عندما كنت لاأزال طالبا في المرحلة الجامعية، وكانت (الآداب) بالنسبة لي ولعدد من أصدقائي وأبناء جيلي من الكتاب هي الجامعة الحقيقية التي تعبر عن نبض الواقع الأدبي، والتي تستأثر بمناقشاتنا التي لا تنتهي حول كل ما ينشر بها من دراسات ونصوص. كنا نذهب للحصول عليها من شركة التوزيع، وقبل أن تطرح على الباعة حتى لا تفوتنا نسختها، أو حتى نحصل عليها قبل الآخرين بيوم أو يومين. ولا ينقضي اليوم حتى أكون قد التهمت أهم ما بها من دراسات ونصوص. وأذكر أن أول مقال نشرته بها قد ترافق ظهوره، أو بالأحرى وصوله إلى مصر مع يوم ظهور نتيجة تخرجي بعد انتهاء دراستي الجامعية في شهر أغسطس عام .1962 وما أن حصلت على نسخة (الآداب) ووجدت اسمي منشورا على صفحاتها حتى غمرتني فرحة طاغية، ولقيني صديق في الطريق، وجذبني من يدي للذهاب والاطلاع على نتيجة التخرج. لكني كنت غير مبال بهذا الحدث المهم في حياة شاب في العشرين، لأن تخرجي الحقيق قد تم بالنشر في (الآداب). ولما وصلنا إلى مكان النتيجة كان الطلاب متكأكئين على الكشوف يقرأون أسماءهم، ولم أزاحم فقد كانت في يدي (الآداب) التي نشرت مقالي فملأتني بالفرح. ولما سمعت الزملاء يهنئونني على النجاح بتفوق كبير، من العشرة الأوائل وبمرتبة الشرف، لم أعبأ بالأمر، لأن فرحتي بالنشر في (الآداب) طغت على كل ما عداها. كنت أريد أن أنصرف عن طلاب الجامعة وأهرع إلى زملاء الحركة الأدبية من قراء (الآداب) لأبشرهم بأنني أنضممت إلى كتاب (الآداب)، حيث كان مجرد النشر فيها قيمة تفوق كل قيمة أخرى. كانت (الآداب) في هذا الوقت هي مجلة الأدب في الوطن العربي كله. يتحول كتابها إلى نجوم في الساحة العربية كلها. لأن صاحب (الآداب) كان مولعا باكتشاف المواهب الجديدة، وتحكيم القيمة الأدبية وحدها، لا الشهرة أو المكانة أو الوظيفة. وكانت المجلة ديموقراطية في جوهرها. تعامل الكتاب كلهم بنفس المعيار، وهو معيار الجودة والإخلاص لرؤى الثقافة العربية الأصيلة. فقد كان مقال ناقد شاب يلقى من الاحتفاء به في المجلة نفس ما يلقاه مقال الكاتب الراسخ الشهير. لأن القيمة وحدها هي المعيار، وكانت قيمة (الآداب) وجديتها تفرض على الساحة العربية برمتها احترام اختياراتها. ولذلك ما أن بدأت مقالاتي في الظهور في (الآداب) حتى أخذت المجلات الأدبية القاهرية تسعى إلى، بعد أن كنت أطرق أبوابها فلا تأبه بكاتب لم ينشر من قبل. وأذكر أنني ما أن بدأت نشر مقالاتي عن نجيب محفوظ بها عام 1963 حتى أخذ نجيب محفوظ نفسه يبحث عني مع أنني كنت أداوم على حضور ندوته الأسبوعية قبل ذلك بعدة سنوات فلم يسع للتعرف عليّ. وأن أستاذنا الراحل الكبير يحى حقي قرأ إحدى دراساتي في (الآداب) فطلب من مساعدة في تحرير (المجلة) البحث عني للكتابة في مجلته، فكان رده لقد أتى لنا بمقال منذ ستة أشهر، ولكننا لم ننظر فيه بعد. فقال له أحضر لي المقال على الفور وعندما يجيئ إلى (المجلة) قل له أنني أريد رؤيته، ومن بعدها أصبحت من كتاب (المجلة) ومن معاونيه في تحريرها. فقد كان لـ(الآداب) القدرة على تحويل من يكتب فيها إلى نجم أدبي بين عشية وضحاها، خاصة إذا ما حظيت كتاباته بشيئ من التقريظ في باب «قرأت العدد الماضي» في الشهر التالي. كانت لها هذه القدرة لأنها كانت تتحسس نبض اللحظة وتعبر عن أفضل ما فيها. وأذكر أنه بعد عشر سنوات من هذا التاريخ دعيت إلى الاشتراك في مؤتمر أدبي في العراق (مهرجان أبوتمام) ولما وصلت إلى مطار بغداد وجدت في انتظاري زميلان من كتاب (الآداب) هما فؤاد التكرلي ومحمد الجزائري، جاءا إلى المطار خصيصا لاستقبالي مع أننا لم نلتق من قبل إلا على صفحات (الآداب) التي عمقت الروابط بين مثقفي العربية من كل البلدان. وقد حرص فؤاد التكرلي وقتها على أن يؤكد لي أنه لا علاقة له بالجهة الرسمية التي دعتني، ولا دور له في تنظيم استقبالها لضيوفها، ولكنه جاء لاستقبالي لأنه قرأ لي في (الآداب) وأراد ان يعرفني، وأن يدعوني لبيته أثناء زيارتي الأولى تلك لبغداد. ولما التقينا كنا كأننا نعرف بعضنا البعض من عشر سنوات هي عمر معرفتنا للبعض على صفحات (الآداب).

وكان بين الوفد المصري الكبير ثلاثة من كتاب (الآداب) من جيلي ـ محمد عفيفي مطر وسامي خشبة وأنا ـ وجدوا أنفسهم موضع حفاوة الكتاب والمثقفين في بغداد مع أنهم لم يزوروها من قبل. وكان في الوفد أستاذ شاب من جامعة القاهرة أبدى دهشته الشديدة عنما وجد أن جماهير القراء والمثقفين يعرفون كتاب (الآداب) الشبان ويحتفون بهم أكثر من معرفتهم لأساتذة الجامعة «الكبار» واحتفائهم بهم. ولم يتمالك نفسه وصرخ: كيف أصبح هؤلاء الشبان أكثر شهرة وأكبر قامة بين القراء من أساتذة الجامعة الكبار. وكانت هذه الصرخة دليلا على أن (الآداب) قد أصبحت هي جامعة الثقافة العربية المفتوحة من المحيط إلى الخليج. وأنها استطاعت أن تكون صانعة للقيمة، وأن تعيد ترتيب المكانات الأدبية وفق معايير الجودة والمواكبة والتصادي مع الواقع الأدبي المتغير، والاستجابة لحساسيته الجديدة. 

دور (الآداب) في تغيير الخطاب النقدي
وإذا ما تصفحت (الآداب) على مد عقد الستينات كله وخلال النصف الأول من السبعينات ستجد أنها وقد واصلت الإخلاص للقيم التي أرستها في سنواتها العشر الأولى استطاعت أن تلعب دورا نقديا بارزا في الواقع الأدبي العربي كله. وأن تكون النافذة التي ترى منها الحركة الثقافية إنجازها العربي، وتتعرف عبرها على ما ينتج من آداب، وما يدور من أحداث ثقافية في الواقع الإنساني كله. لكن ما يهمني التأكيد عليه هنا هو دورها الكبير في تغيير لغة النقد وفي إنضاج الخطاب النقدي وبلورة تياراته ومناهجه. فلا يمكن التأريخ لتحولات الخطاب النقدي العربي دون دراسة وافية لما ظهر على صفحات هذه المجلة طوال العقدين الأولين من تاريخها المديد. فقد انقذت الخطاب النقدي من الاستسهال والضحالة والسطحية، ورادت خطواته نحو مزيد من الاقتصاد والتحديد والموضوعية. وقومت الذوق الأدبي الفاسد، ونهضت به من وهاد اعتياد تلقي الأعمال الهابطة إلى مهاد الرؤية النقدية القادرة على فرز الجيد من الردئ، وعلى القيام بالتدريج بدور الرقيب الحقيقي على الحياة الثقافية. وشكلت اختياراتها النقدية الواعية القارئ وحولته إلى قوة فاعلة في الواقع الثقافي تنفي الضحل، وتشجع على تنمية الاتجاهات الثقافية الحقيقية من خلال مؤازرتها والوقوف بجانبها. وساهمت في عملية إعادة ترتيب البيت الأدبي وتمحيص مسلماته، ورد الاعتبار إلى من هضمتهم الظروف أو الممارسات النقدية الخاطئة حقهم. وترتيب البيت الأدبي الذي قامت به (الآداب) والذي أعنيه هنا عملية متعددة المحاور ومتنوعة الجبهات. تحققت من خلال تمحيص المسلمات السائدة، والتي يقبلها الواقع الأدبي كمسلمات لاسبيل إلى المماراة فيها، وإراقة ضوء الشك النفاذ عليها حتى يعاد تأسيسها على قاعدة رصينة، وإسقاط ما لا يصمد منها للمحاكمة العقلية والنقدية الصارمة. فقد أدركت (الآداب) منذ بداياتها ألا شيئ أخطر على الواقع الثقافي من تسليمه بأمور لا تنهض على أساس سليم. ولا يبقيها في الساحة سوى الكسل العقلي، وإخفاق النقد في القيام بمهامه المعيارية. كما تحققت هذه الوظيفة أيضا من خلال قيام النقد على صفحات (الآداب) بفرز المكانات الأدبية وإعادة ترتيبها حتى لا يمتلئ الواقع الأدبي بالأصنام والأوثان التي لا يجرؤ أحد على المساس بها. وإنما يحفل بالقيم الأدبية الحيوية التي يؤسس إسهامها الأدبي مكانتها، وتنال أخطاؤها من قيمتها، بل وقد تزحزحها كلية عن مكانتها إذا ما كانت هذه الأخطاء فادحة إلى الحد الذي تتطلب معه إعادة النظر من جديد في تاريخ الكاتب أو الناقد وإنجازاته ورؤيتها معا في ضوء جديد. وقد استطاعت (الآداب) أن تعطي هذه المهمة نوعا من الحركية المستمرة التي أعادت الحيوية للواقع الأدبي وكرست الجدية والموضوعيه معيارا للحكم عليه. كما استطاع الخطاب النقدي بـ(الآداب) أن يقوم بمهمة أخرى هي العمل المستمر على خلق تيار من الرؤى الجديدة والأفكار التي ترفد حركة الإبداع وتساعدها على المغامرة في استكشاف الأصقاع المجهولة، وتحثها ـ أو على الأقل تحث قطاعا منها ـ على عدم الاستنامة لدعة إنجازاتها، وعلى توسيع أفق هذه الإنجازات بشكل مستمر. فقد أدركت (الآداب) من البداية أنه ليس على النقد أن يقنع بدور التابع لما يدور في الواقع الثقافي، أو حتى المشارك في فعاليات هذا الواقع، وإنما عليه أن يطمح إلى القيام بدور ريادي فيه. ويتحقق هذا الدور الريادي إلى حد ما من خلال دراسة النقد لما يدور في شتى الثقافات الإنسانية الأخرى التي انفتحت عليها (الآداب) منذ عددها الأول وتابعتها بالدرس والتمحيص حتى عددها الأخير. لأنها تعي أن على المجلة الأدبية الفاعلة أن تقدم للقراء ما ترى أن احتكاك ثقافته به قد يفيد هذه الثقافة، أو يلهم مبدعيها، أويطرح بعض الحلول لما تواجهه من مشكلات أو صعاب، أو حتى يجنب كتابها المغامرات الناضبة العقيم. وبهذا ساهم خطاب (الآداب) النقدي لا في إثراء ثقافته وحدها وإنما في عقد حوار خلاق بينها وبين غيرها من الثقافات الإنسانية كذلك. وإذا ما تتبعنا تحولات الخطاب النقدي في (الآداب) عبر هذه المرحلة سنجد أنها استطاعت أن ترهف من فاعليته وأن تبلور لغته وتنقي مصطلحه. وأن تقترب به باستمرار من الموضوعية والتحليل، وتنأى به عن الوصفية والتسطيح. فقد برز على صفحاتها النقد الاجتماعي والنقد التحليلي الذي يركز على النص ويستكشف أنساقه وبناه قبل أن يشيع هذا الاتجاه النقدي باعتاره أحدوثة لدى البعض بأكثر من عقدين من الزمان. كما سعى هذا الخطاب النقدي، وخاصة في تجلياته الناضجة التي يمكن أن ندعوها بمدرسة (الآداب) النقدية التي تبلور خطابها في بوتقة الفكر القومي إلى تحقيق توازن حساس بين العناصر الجمالية والبنائية للعمل وبين الدلالات الاجتماعية والسياسية له. واستفاد كثيرا من الاتجاهات الاجتماعية والنفسية والجمالية على الترتيب، ومن فكر المدرسة الوجودية النقدي، وخاصة في أرقى تجلياته النقدية عند جان بول سارتر. ودعا هذا الاتجاه النقدي إلى الالتزام في الأدب، ولم يقصر الالتزام على الجانب الاجتماعي وحده، وإنما مد أثر هذا الالتزام إلى الجانب القومي ووسع من آفاقه ومدلولاته، إيمانا منه بوحدة الثقافة العربية. كما ربط الالتزام بالنضج الفني والقيمة الجمالية. فاستطاع النقد أن يكون رافدا من روافد الحساسية الجديدة وأن يساهم في صياغتها وبلورة شفراتها المختلفة، وخلق جسور مستمرة بين رؤاها وإنجازاتها وبين المتلقي. بصورة لم يعد ممكنا معها للنقد إلا أن يتقدم باستمرار إلى الأمام وأن يتبلور مصطلحه وتزداد منهجيته تحديدا وصرامة.  صحيح أن (الآداب) قد عانت من دورة الزمن العربي الردئ الذي وجد نفسه مرة أخرى في وضع أسوا من ذلك الذي انطلقت (الآداب) للرد على ما فيه من ترد. لكن سؤال هذه الدورة الرديئة والانتكاسة الثقافية والفكرية والسياسية التي صاحبتها يظل مفتوحا: لماذا حكم على الثقافة العربية أن تعيد ما بدأته كل فترة من الزمن؟ وأن تؤسس بديهياتها من جديد ولا تتراكم إنجازاتها وتتصلب في مؤسسات قادرة على المضي للأمام دون الانتكاس للوراء كل فترة؟ وهو سؤال لا نستطيع أن نجيب عنه في نهاية هذه الدراسة، ولكننا نطرحه مع ذلك لأنه ليس سؤال (الآداب) وحدها، والتي وجدت نفسها فس نهاية المطاف أمام الوضع الذي بدأت منه وقد ازداد سوءا عما كان عليه، ولكنه سؤال الثقافة العربية برمتها، وسؤال النهضة والتنوير الذي لابد من إعادة النظر فيه. وهذه هي المهمة التي أرجو أن تهض بها (الآداب) في مرحلتها الجديدة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) منير البعلبكي، الأدب الذي نريد، (الآداب)، العدد الثالث، مارس 1953، ص .1
(2) سهيل إدريس، رسالة الآداب،  (الآداب)، العدد الأول، يناير (كانون الثاني) 1953، ص .1
(3)  المرجع السابق، نفس الصفحة.
(4) المرجع السابق، ص 1و.2
(5) أنور المعداوي، الأدب الملتزم، (الآداب)، العدد الثاني، فبراير (شباط) 1953، ص .12
(6) المرجع السابق، ص .13
(7) سهيل إدريس، شكاوى الأدب العربي الحديث، (الآداب)، العدد الخامس، مايو (آيار) 1953، ص .4
(8) سهيل إدريس، رسالة الآداب،  (الآداب)، العدد الأول، وقد اقتطفه أنور المعداوي في مقالته المذكورة أعلاه، ص .13
(9) أنور المعداوي ، المرجع السابق، ص .13
(10) المرجع السابق، ص .14
(11) المرجع السابق، نفس الصفحة. (12) منير البعلبكي، الأدب الذي نريد، (الآداب)، العدد الثالث، مارس 1953، ص .2
(13) من ميخائيل نعيمة إلى رئيف خوري وأحمد زكي وعلي أدهم وأحمد أبوشادي وأنور المعداوي وخليل تقي الدين وشكري فيصل وساطع الحصري ونبيه أمين فارس ونقولا زيادة وفؤاد طرزي وجبور عبدالنور وعبدالوهاب الأمين وعبدالعزيز الدوري وإبراهيم العريض وعبدالحميد يونس وأنيس الخوري المقدسي وجورج حنا وكمال اليازجي وعبدالله عبدالدائم وعبداللطيف شرارة وعمر فروخ وقسطنطين زريق ومحمد النقاش ومارون عبود وأنيس فريحة واسحق موسى الحسيني وعمر فروخ وعبدالله العلايلي وغيرهم.
(14) من حسين مروة وجبرا إبراهيم جبرا وعبدالقادر القط ونهاد التكرلي ورضوان إبراهيم وصالح جواد الطعمة وأنطون غطاس كرم وشاكر حسن آل سعيد إلى محي الدين محمد ورجاء النقاش وعبدالعزيز سيد الأهل ومحمود العيطة ووحيد النقاش وغيرهم.
(15) مثل عباس محمود العقاد ومحمود تيمور وتوفيق الحكيم.
(16) من سهير القلماوي ومحمد مندور وعبدالستار الجواري ومحمود المسعدي وفؤاد الشايب ورشيد سليم الخوري وزكي نجيب محمود وغيرهم.
(17) من محمود أمين العالم ومحمد النويهي وكامل السوافيري ومحي الدين صابر وعبدالجبار داود البصري ومصطفى السحرتي ونازك الملائكة وأمجد الطرابلسي وسامي الكيالي وأنيس صايغ وسعدون حمادي وغيرهم.
(18)  من صلاح عبدالصبور ومطاع صفدي وعبدالجليل حسن وعبدالمحسن طه بدر وفاروق خورشيد ورجاء النقاش ومجاهد عبدالمنعم مجاهد وعبدالهادي بكار ومحي الدين اسماعيل وسلمى الخضراء الجيوسي ومحي الدين محمد وجليل كمال الدين وعايدة الشريف ومحي الدين فارس وناجي علوش وعلي شلش وعلي سعد ووحيد النقاش وسامي خشبة وعبدالعزيز محمود ومحمد البخاري وجليل كمال الدين وغيرهم.