تبلور قصة "صداع" للقاص السوري اجتراحات العالم واستراباته التي يؤثثها السارد من خلال شخصية مركزية تحاول أن تخلق شكلا آخر للكينونة يتحول معه الصداع إلى استعارة مترعة بالدلالات.

صداع

إبراهيم العلوش

هذا الصداع يفلق الأشياء حولي.. ما إن أنظر إلى الكرسي المقابل حتى يتفتت، الجدار المقابل، اللوحة تتحول إلى موزاييك، الناس الذين أقابلهم ينشطرون بشكل تلقائي إلى قطعتين، أربع قطع... حتى يتفتتوا تماماً، لكنهم يستمرون في حركتهم وكلامهم وكأنهم يؤدون اللحظات الأخيرة قبل أن يتساقطوا.

صرت أخشى على الناس والأشياء من التفتت، القاعات تتشرذم، الكراسي، أحاديث الخطباء يطالها التصدع... كل شيء يتصدع أمامي، كل شيء!! كلما عاودتني صورة ذلك الشقي ينفلت الصداع بهياج، يفتت رأسي إلى قطع متناهية الصغر، ثم يتجه إلى كل شيء حولي، إنه يفتت حياتي!!

يطل علي ّعائداً، يقترب مني، وجهه يضحك بحبور، ثمة أحمر شفاه على قميصه، وأكاد أن أشم رائحة البيرة التي احتساها قبل أن يذهب إلى صاحبة أحمر الشفاه الذي على قميصه، يبدو نشواناً يسير إليّ ببطء وبثقة كأنه عارف بأثر اقترابه مني، وبجنون الصداع الذي يتأجج في رأسي.. يقترب أكثر فألتمس مسدس المكاروف الذي في درج الطاولة، أضع أصابعي عليه وأنا أرقب اقترابه، سوف أقتله مرة أخرى إذا اقترب أكثر من ذلك، إنه يبتسم، يرفع صوته بأغنية فيروزية خفيفة وهو يتمايل من أثر الحب والبيرة!

*     *     *

آثار السواد على نهايات أصابعه جعلتنا نشك فيه، لم يكن ثمة أي دليل ضده غير آثار السواد على نهايات أصابعه، راجعنا حجوم بيع الورق الأبيض في المنطقة، جمعنا أصحاب السوابق الذين بقوا على قيد الحياة و مايزالون مطلقي السراح، ممن ضبطت لديهم آلة كاتبة أو آلة نسخ غير مرخصة، أو سبق أن وزعوا منشورات ولو قبل عشرين سنة، نحصر الأشياء تماماً ونتأكد منها. ويعاود فريق آخر جمع تحرياته الكاملة لتتطابق النتائج تماماً.. لكننا في الصباح نفاجأ بالمنشورات تملأ الأسواق والحارات الخلفية.. منشورات بيضاء متطايرة تطلق أحلامها السخيفة إلى كل زاوية.. فتتطاير البرقيات ودعوات الاجتماعات العاجلة لتنفلت فيها ألسنة المسؤولين الغاضبين وتهديداتهم التي تترجم ما تلقوه من تهديدات و تلويحات بمصائرهم!! يومها رأيته في حانة صغيرة، شرب زجاجة بيرة مثلجة وخرج، خرجتُ خلفه، دخل حارات ضيقة وتلوى مع تشعباتها... توقف في الزاوية واقتربت منه، ولم يكن هناك بد من الاصطدام به، كنت قد قررت تنحيته عن الطريق علنا نحل العقدة، أخرجت مسدس المكاروف وأطلقت عليه النار، كان المنعطف قريبا فابتلعني بسرعة، سقط على الأرض فرأيت جرزة الحشيش التي كان يحملها في يده تتناثر على الأرض فبدت الورود التي كانت داخل الأغصان الخضراء الغامقة، كانت ورودا صفراء وحمراء تلمع ألوانها قرب الجسد الذي بدأ يتحول إلى جثة.. بدت لحظتها كأنها ترافق رحلة الجسد المسجى قربها وتزينها ببريقها الذي لم يعد لدي الوقت لدهسه أو لإطلاق النار عليه... قفزت فوق مجرى مجرور مكشوف واختفيت في منعطف آخر يؤدي إلى منعطفات تمحو آثاري فلم يبق غير جسده وجرزة الحشيش التي تناثرت حوله!!

*     *     *

كنت قد تسرعت قليلا بتصفيته، لكنني وجدته فجأة ولا بد من التصرف معه، كان ينبغي أخذه إلى أحد الأقبية الكثيرة التي نملكها في كل زاوية، لكنني أطلقت عليه النار، استمتعت لحظتها، شعرت بالانتصار، اتصلتُ بالمركز وأخبرتهم، فرحوا كثيرا... ولكن سيل المنشورات لم يتوقف في الصباح التالي!!

تنقلتُ من مكان إلى آخر ومن منصب إلى أعلى، لكن وجهه ما يزال يقترب مني، ينظر إليّ بثقة ولامبالاة تغيظني، يقترب مني أكثر فأكثر عبر السنين، استعدت نفس المسدس الذي أطلقت النار به، سوف أطلق النار عليه ثانية، لن أتركه يتبجح أمامي بسعادته، سوف أضع حداً لهذا الصداع الذي يشع عليّ منه، يخترق حاجز الموت إليّ ليفتت حياتي والأشياء التي حولي.

*     *     *

هذه الأيام يقترب مني أكثر، كأنما اكتشف تأثيره علي ّ، آثار الطلقات على رأسه وصدره وجرزة الحشيش التي كانت متناثرة حوله أعاد تنسيقها لتعود باقة ورد من جديد، يرفع رأسه بأبهة المنتشي ويقترب مني أكثر، أمد يدي إلى المسدس أتحسس معدنه الصلب وأضع إصبعي على الزناد، يقترب على سجادة المكتب إنه لا يمشي فقط ينسحب باتجاهي كأنه لوحة طولية تتقدم نحوي، أرفع المسدس من الدرج قبل أن يمد يده إليّ، أطلق النار، أطلق مرة ثانية وثالثة، ثمة دماء على زجاج المكتب أمامي، الأوراق تدمى من أطرافها، الزجاج يسمح للدم بالمسير الهادئ على سطحه الأملس.. أنظر إليه، إنه يبتسم، آثار أحمر الشفاه على قميصه، ورائحة البيرة تعبق حوله، ولا وجود لآثار الطلقات عليه أضع يدي على جبهتي فأراها مليئة بالدم.

ـ إنه دمي!!

لقد قتلني بنفس المسدس الذي قتلته به وها هو يقف فوقي كغيمة..

أرتاع من منظر الدم الصامت على الزجاج، لعله ينتظر لفظ أنفاسي الأخيرة ليضع جرزة الحشيش التي في يده عليّ!!


قاص من سوريا