هذه مراجعة لكتاب حديث ينطلق كاتبه من أطروحات المفكر الكبير إدوار سعيد ويتتبع وثائق الخطاب الاستشراقي ومسيرته حتى كتابة الاستلاب العربي المعاصرة وهي تبرر السيطرة الأمريكية على منطقتنا.

تاريخ الاستشراق وسياساته

ثائر دوري

مؤلف هذا الكتاب أمريكي من تيار مناهض للسياسات الكولونيالية، القائمة على الهيمنة، والتمييز العنصري، وتعميم الصور النمطية الخاصة بالعرب وبالمسلمين، ولأن ما يسمى بالشرق الأوسط، بالتعبيرات الأمريكية،هو قلب العالم ومحور السياسات العنصرية فإن الكاتب يختار هذا المكان ليشرح كيفية نظر الغرب له وعمليات إنتاج الصور النمطية، التي استمرت لقرون من أجل إدامة السيطرة الغربية وإعادة إنتاجها. لذلك يختار حقلاً لعب دوراً محوريا بتاريخ السيطرة الغربية على هذه المنطقة نعني "علم الإستشراق". ولا يكتفي الكاتب بإيضاح العلاقات المشبوهة بين هذا الحقل وبين السياسات الاستعمارية إنما يتتبع تفاصيل تطوره العلمي داخل الجامعات ومعاهد الأبحاث.

يبدأ الكاتب بتفكيك مصطلح اليونان القديمة، التي كانت تتألف جغرافياً من عدد كبر من الجزر والمدن والبنادر والقرى التي يتحدث أغلب سكانها اللغة يونانية، وكانت تشمل جغرافيا اليونان الحالية والأناضول. وفي القرون الوسطى اعتبر الغربيون أنفسهم أحفاد اليونان القديمة في عصرها الذهبي (400 ـ 500 ق. م)، واعتبرت الحضارة اليونانية المكون الرئيس لما أطلق عليه مصطلح "الحضارة الغربية". لكن الكاتب لا يوافق على هذا التماهي الغربي باليونان القديمة، فيذّكر الكاتب أن اليونان القديمة استعارت كثيراً من حضارتها من الفينييين ومن مصر القديمة، ويحيل بأحد الهوامش إلى كتاب "أثينا السوداء" الذي يقول بالجذور الأفرو ـ آسيوية للحضارة اليونانية الكلاسيكية، فثقافة اليونان القديمة لم توجد في فراغ بل اعتمدت على ثقافات الشعوب الأخرى (مصر ـ حضارة الرافدين  بلاد الشام). ثم يتابع الكاتب تطور فكرة شرق/ غرب وصولاً إلى الفكر الغربي الحديث، فيشير إلى أنه بعد انقسام الإمبراطورية الرومانية، التي يعتبر الغرب نفسه سليلها «لنتذكر أن أكثر التشبيهات شيوعاً اليوم هو تشبيه الإمبراطورية الأمريكية المعاصرة بالرومانية البائدة».

بعد انقسام الإمبراطورية الرومانية، إلى شرقية مركزها القسطنطينية، وغربية مركزها روما، تم استبعاد الشرقية من الفكر الغربي واعتبرت شرقية، أما الرومانية فاعتبرت وريثة لليونان القديمة، وهي سلف للغرب المعاصر، كما وُضع في أوربا تصنيف للعروق البشرية يعتمد على الأناجيل، فنُسبت القارات إلى أبناء نوح، فيافث وذريته مع أوربا، وسام مع آسيا، وحام مع أفريقيا. واندمج هذا التصور مع تصور التفوق الأوربي "ليفتح الله ليافث فيسكن في مساكن سام"  (العهد القديم 9:27). "ملعون كنعان عبد لعبيد يكون لأخوته" 9:25. ومن هنا بدأ تصنيف الحضارات والشعوب بشكل هرمي. فوضعوا أوربا على قمة الهرم.

ثم يبدأ المؤلف بمناقشة صورة المسلمين في أوربا، فظهور الإسلام اعتبر كارثة مطلقة، وفي البداية اعتمد الأوربيون على المنقولات الشفهية، والنتيجة قدر كبير من التخيلات والأوهام والتشويه والصور النمطية. كما فشلوا بإدراك ان الاسلام ديانة توحيدية بل ظل المسلمون في المخيلة كوثنيين. ثم جاءت الحروب الصليبية، وبدأ معها مفعول عبارة "اعرف عدوك"، لكنها معرفة من اجل السيطرة والإبادة، فنُقلت النصوص العربية إلى اللاتينية، وتُرجم القرآن، وبدأ اشتباك مع تراث العرب والمسلمين في الطب والفلك والرياضيات والفلسفة، وأهم شخصية حازت على إعجاب الغرب هو صلاح الدين، فصور كفارس وإنساني، لكن وجدت أساطير تقول إن أمه كانت مسيحية،أو أنه تحول إلى المسيحية وهو على فراش الموت.

كما بُذلت جهود للتحالف مع المغول ضد الإسلام، لكن المغول أسلموا في النهاية، وهذا ما أدى إلى خيبة أمل في إمكانية تدمير الإسلام عسكرياً.

وبعدها صعد العثمانيون، وكانت علاقتهم بأوربا محكومة بالسياسة وليس بالدين، واعتبر ميكافيللي هذه الدولة نموذجاً أعلى للدول، وفي هذا الوقت بدأ يظهر فرع متميز من الدراسات الإنسانية ركز اهتمامه على الشرق الذي أطلق الأوربيون عليه اسم  Levant. ومنذ القرن الحادي عشر صار الإسلام آخر أوربا، وليس الصين أو الهنود، فقد اعتبر الإسلام رغم قربه الجغرافي أكثر غرابة ومثيرا ًللاشمئزاز والعداوة. وتدريجياً بدأت جامعات ومعاهد أوربا باستحداث مناصب لباحثي  ومعلمي اللغات الشرقية، وفي العام 1539م أصبح جيلوم برستل أول أستاذ لكرسي اللغة العربية الذي أقيم في كلية فرنسا في باريس. كما نشرت دراسات وترجمات للإسلام، رغم أنها أفضل من السابق إلا أنها ظلت مشبعة بالموقف الإزدرائي تجاه الإسلام، الموروث من العصور الوسطى، وفي القرن التاسع عشر صار اسم هذا العلم الإستشراق. ويحتل الإسلام مركزاً رئيسياً في الإستشراق لأن معظم المنطقة بين أوربا والصين يغلب عليها الإسلام.

عند نهاية القرن السادس عشر بدأ يحل محل المواقف المادحة للعثمانيين، الذين اعتبروا بداية ظهورهم رمزا للفروسية والرجولة. بدأ يحل وجهات نظر أقل إيجابية، وتحول ما كان يعتبر فضائل إلى عيوب، فصار الأتراك يعتبرون أجلافاً جهلة مدعين للشرف والأخلاق. وهذا التبدل مرتبط بالتطورات العثمانية إذ تراجعت قوة الدولة. وبدأت تنهزم عسكرياً. كما أن تطورات أخرى حدثت داخل أوربا. فقد أصبحت الدول الأوربية أكثر مركزية وبقرطة وقوة تحت تأثير الإصلاح الديني، فصارت الدولة العثمانية  نموذجا أصلياً لما يسميه الغربيون "الإستبداد الشرقي". وبدأ تصور عن الغرب بوصفه حضارة متميزة، مبنيا على التأكيد على استمرارية وتماسك جوهريين عبر امتدادات شاسعة من الزمان والمكان، من الميلاد المدعى لتلك الحضارة اليونانية القديمة. وبعد عشرين قرناً وصولاً إلى إعادة بزوغها وتفتحها في العصر الحديث في أوربا الغربية في القرنين الخامس عشر والسادس عشر.

و هذا الإدعاء يفترض أن الغرب كحضارة له جوهر واحد، أو قلب ثابت لم يمسه تلوث من مصدر خارجي، وأنه كحضارة فريد ومختلف عن كل الثقافات الأخرى. حدث هذا في بداية عصر الاكتشافات الجعرافية، واكتشاف الغرب لأمريكا. وبالتالي نشوء التجارة الأطلسية، وانتقال الغرب إلى وضعية السيطرة على العالم. 

تفسير صعود الغرب و مقولات رينان
بدأ التقدم منذ عام 1500 في العلم والتكنلوجيا وحقول أخرى. وبدأ الغربيون يسودون العالم سياسياً واقتصادياً. رأى كثير من أهل ذلك العصر أن هذا دليلا على الحظوة الإلهية، أبناء يافث يحكمون أبناء سام وحام. وظهر علماء يقولون بفوارق بيولوجية بين الأعراق، فاعتبر العرق الآري أو القوقازي متفوق بطبيعته، أي أن صعود أوربا فسر، إما بالخصائص البيولوجية والعرقية المتميزة، أو بتفسيرات دينية، أو بفضائل أخلاقية، أو بالعبقرية الغربية. ويضرب المؤلف مثالاً فاضحاً عن فكر الإستشراق بمقولات أرنست رينان، التي عبر عنها بوضوح في محاضرة بالسوربون بعنوان "الإسلام والعلم"، فرغم أن رينان بدأ محاضرته منتقداً من يتحدثون عن الأعراق والأمم، كما لو كانت مقولات مصمتة وغير متغيرة، فإن مناقشته لما أسماه "التدني الواقعي للبلدان المحمدية"، وانحطاط الدول التي يحكمها الإسلام، والخواء الفكري للأعراق التي تحصل ثقافتها وتعليمها من هذا الدين، كانت غير تاريخية بوضوح، بمعنى الاعتماد على رؤية الإسلام ككيان مصمت واحد له جوهر أو شخصية غير متغيرة تسيطر بالكامل على الحياة العقلية والسلوك الاجتماعي للمسلمين في كل مكان.

ويعزو رينان عبقرية العلم والفلسفة الإسلاميين في العصور الوسطى إلى الحضارة الفارسية القديمة وإلى المعرفة اليونانية، وبالتالي فإن هذه الحضارة فارسية ـ اغريقية، وإن استعملت اللغة العربية. نلاحظ هنا أن الإستشراق احتفظ بتقييم عال لإيران بعد إعادتها إلى جذرها الفارسي لتجريدها من الإسلام، وعزلها عن الحضارة العربية الإسلامية على عكس ما فعل مع العثمانيين، وذلك لسبب سياسي واضح، وهو أن الدولة الإيرانية منذ القرن السادس عشر باتت حليفة موضوعية للغرب، بحكم العداء المستفحل بينها وبين الدولة العثمانية عدو الغرب رقم واحد، لذلك أخرجوها من العرق السامي ووضعوها مع العرق الآري، ولو اختلفت الظروف السياسية لأعاد الأوربيون تقييمها بشكل سلبي، كما حدث مع الدولة العثمانية من قبل. ويزعم رينان أن استيقاظ أوربا أعاد إيقاظ شعلة "مشعل الإنسانية" لكن العنصر التركي أعاد  نشر الانحطاط.

ويتابع رينان قائلاً: «واليوم يقمع الإسلام أجزاء واسعة من كوكبنا ويحافظ على الفكرة الأكثر تعارضاً مع التقدم، الدولة القائمة على ثورة زائفة وحكم اللاهوت للمجتمع. إن الليبراليين الذين يدافعون عن الإسلام لا يعرفون حقيقته الحقة. الإسلام هو الإتحاد الوثيق للروحي بالزمني، إنه حكم عقيدة، إنه أثقل الأصفاد التي حملتها الإنسانية يوماً... إن ما يميز المسلم حقاً هو كرهه للعلم، واعتقاده بأن البحث لا جدوى منه، تافه، ولا يتفق مع الورع». أليس هذا هو جوهر الكلام الذي نسمعه اليوم في الغرب بحجة مكافحة الإرهاب، وما هو أسوأ من ذلك أن جوهر هذا الكلام هو ما نسمعه من بعض من يسمون أنفسهم مفكرين ومتحدثين باسم الليبرالية والعلمانية، وهم يحسبون أنفسهم توصلوا لأفكار خطيرة بينما هم في حقيقة مجرد مرددين لأفكار الجناح الأكثر تطرفاً من الإستشراق. ويختتم رينان كلامه بالموافقة على استعمال القوة العسكرية في احتواء أو إخماد المقاومة ضد الاستعمار.

ويتابع المؤلف رصد الروح الاستشراقية في نظريات كبار الفلاسفة الغربيين  من ماكس فيبر إلى ماركس فيتوقف عند نظرية "الاستبداد الشرقي" لماركس، فرغم إدراك ماركس لما جلبه الاحتلال الإنكليزي من مآس للهند، ومن تمزق ومعاناة، لكنه حث قراءه على تذكر أن الاستبداد الشرقي قد سجن العقل الإنساني وحكم على من يعيشون بظله بـ "حياة خاملة ساكنة فقيرة الفكر". يقول ماركس: «ليس للمجتمع الهندي تاريخ على الإطلاق، على الأقل ليس سوى تاريخ من المتطفلين الذين أسسوا امبرطوريتهم على القاعدة السلبية لهذا المجتمع المفتقر إلى المقاومة والتغيير... لكن البريطانيين وجشعهم نحو الربح قوضوا المجتمعات القروية وحطموا الصناعات الأهلية وهذا بنظر ماركس يعادل بداية ثورة اجتماعية جوهرية في الهند، أي ثورة على النظام القديم، وتضع الأسس المادية لمجتمع غربي في آسيا».

ويعلق المؤلف: «من الواضح أن ماركس قد تبنى صورة عن المجمعات الآسيوية كانت مبنية في الواقع على تعميمات فجة وفهم بالغ الخطأ عن تواريخها وبناها الإجتماعية المتنوعة كثيراً، وفوق ذلك، اعتبر ماركس الإستعمار، مثل الكثيرين من معاصريه، ولو لأسباب مختلفة تماماً، عاملاً ضرورياً او تقدمياً في التاريخ الإنساني: فبرغم اعماله الوحشية مكن الرأسمالية من تحقيق "مهمتها التاريخية" في تغيير الكوكب كله، فخلق بذلك الشروط التي ستعزز البزوغ النهائي لنظام اجتماعي آخر أكثر مساواة.» فكما قرر انجلز عام 1848 تعليقاً على حادث متطرف في الوحشية إبان التوسع الإستعماري: "الغزو الفرنسي للجزائر حقيقة مهمة وسعيدة لتقدم الحضارة... كل هذه الأمم من البرابرة الأحرار تبدو شديدة الفخر والنبل والروعة على مبعدة، لكن فقط اقترب قليلاً وستجد أنهم، وكذلك الأمم الأكثر تحضراً، محكومون بشهوة الربح ولا يوظفون سوى أكثر الوسائل فظاظة وقسوة. وبعد كل شيء فإن البرجوازي الحديث الذي تأتي معه الحضارة والصناعة والنظام، وعلى الأقل درجة من التنوير، مفضل على السيد الإقطاعي أو السارق النهاب، وعلى تلك الحالة البربرية للمجتمع الذي ينتميان إليه. لم يفسر ماركس سكون المجتمعات الآسيوية بتفسير عرقي إنما بأساس اقتصادي لكن النتيجة واحدة.

بعد ذلك يناقش المؤلف العلاقة بين المعرفة الإستشراقية والسلطة الاستعمارية. فيشير أنه رغم أن الإستشراق والمستشرقين طرحوا أنفسهم كعلم وعلماء، إلا أن عدداً كبيراً منهم كانوا مستعدين بل ومرحبين بوضع خبرتهم في خدمة طموحات بلدانهم الاستعمارية، فالمستشرق سلفلستر دي ساسي قدم النصح لسياسة حكومة بلاده الاستعمارية بشأن الإسلام والشرق، كما ترجم بيان غزو الجزائر إلى العربية عام 1830. والمستشرق هورجرونج ساعد على تنفيذ سياسة الحكومة الهولندية في اندونيسيا. وكذلك فعل المستشرقون الروس أثناء اجتياح روسيا القيصرية للقوقاز ولآسيا الوسطى. يقول الكاتب: «كانت المؤسسات البحثية متورطة في المشروع الاستعماري». ويقول: «يجب أن لا نفاجأ بأن كثيرا من المستشرقين سلموا بتفوق الحضارة الغربية وحق الأوربيين في حكم الآسيويين والأفارقة».

بعد ذلك يتابع المؤلف تاريخ الإستشراق وصولاً إلى الإستشراق الأمريكي وغزو العراق. الكتاب يعتبر مرجعاً هاماً للمختصين وغير المختصين، كما أنه صادر عن صوت من الأصوات القليلة الشجاعة التي لا نسمعها كثيرا ًفي العالم المعاصر. فهو يتميز بالموضوعية ومحاولة رسم صورة غير مشوهة، في وقت يتبنى حتى الضحايا الصورة النمطية المشوهة التي رسمها الغرب لهم. يكفي أن تفتح أي صفحة رأي في صحيفة عربية لترى كتابات "استشراقية"، لكنها لا تعلن عن نفسها كذلك، إنما تقدم نفسها كفكر عربي رصين، يسعى لحل مشاكل مجتمعه. لكن هذه الكتابات تتبنى مفردات الإستشراق وتتبنى صورة الغرب عن الشرق.  

المؤلف: زكارى لوكمان
ـ المترجم: شريف يونس
ـ الصفحات: 426
ـ الناشر: دار الشروق، القاهرة
ـ الطبعة: الأولى2007