يكشف تحليل الناقد والشاعر الفلسطيني لديوان الشاعرة اللبنانية رينب عساف عن التضافر الفريد بين الخاص والعام، بين الحاضر والماضي/ بين الموت والحياة في تجربة هذه الشاعرة الجديدة.

«بوّابُ الذاكرة الفظ»

جديد الشاعرة اللبنانية زينب عسّاف

نصر جميل شعث

لا أتفق مع القرّاء السريعين ـ إلا وفقَ ما يتيحه لنا الظاهر ـ بأنّ مجموعة الشاعرة اللبنانية زينب عسّاف الثانية: «بوّاب الذاكرة الفظ» (الصادرة حديثًا لدى دار النهضة، 2007)؛ تتجه للشعور وحسب؛ انطلاقًا من موضوعتي «الأمومة» و«الذاكرة» البارزتين في القصائد، واللتين تمثلان حافظتين كبيرتين تستوعبان شبكة العلاقات والروابط المتينة والواضحة بكثافة ظاهرة؛ ظهورها يُؤدّي دورَه التواصلي مع قارئ سرعان يصله المعنى الأوّل قادمًا من «هذا التجويف البربريّ للحروف»، ذلك أن الكلمات «علامات ظهور لحزني المنتظر»، تقول الشاعرة، التي تنفتح في وجهها أحزان الذاكرة والحاضر الآن. إنها تتجه للفكر، أكثر من ذلك.

ومفردة كـ«الأبواب»، كعادتها، تنادي وتستدعي كلماتٍ لوازمَ تدخل في النسيج العام للكتابة مثل: «البوّاب»، «الأقفال»، «المفاتيح» «الإطار»، وما إلى هناك من مجازاتٍ مُجسّدةٍ ندّاهةٍ ونسّاجةٍ للمعنى الأوّل القريب، في نظرِ القارئ. هذه الاستدعاءات بمثابة تناصّ لساني في اللغة المشتركة التي يعبّر بألفاظها الجميعُ عن أفكار مختلفة. إذًا، ثمّ بابان، وهما: باب «الأمومة» وباب «الذاكرة»: «كم أرغب بحرق البنطلونات الرجّالية/ المعلّقة في ذاكرتي.». هذان البابان في «خزانة» الشاعرة التي تجدها، في المقطع الثامن من قصيدة من تسعة عشر مقطعًا بعنوان «لا رغبة لي في تدمير العالم»، تقول:

«غير مهمّ
سأقول الآن
وأعلّق دمعتي في الخزانة
لن أستعمل المجفّف الكهربائي
مع الوقت يصنع جرحي زواياه
مع الوقت أزداد هشاشة
اللعنة عليك أيتها البلاد:
الآن تطالبيني بالوفاء!».

وهكذا يظهر الوقت حادّا أو صلبًا بوصفه فيزياءَ تعبره ببطءٍ حركة الجسد وتستغرقه الإجراءات الشخصية واليومية، النهارية منها. لذا نرى الشاعرة،التي هي «مع الوقت تزداد هشاشة»، تتمسّك بالتوقيت، فلها توقيت خاصّ؛ نرصده في كثرة التركيز على أوقات النوم والضجر والتجهم كالليل والقيلولة: «قبل الفجر ـ بعد الظهر ـ عند الظهيرة ـ بعد ظهر يوم أحد». ولكن ليس دائمًا ضبط الوقت، فثمة «العصفور الذي أضاع التوقيت زقزق فجرًا». والوقتُ ليسَ ضيقًا، دائمًا: «صحراء الوقت تمتد أمامي»، ولكنّ هذه الصورة كناية عن البطء الشديد؛ في مقابل سرعةٍ ثمة كفيلةٍ بخلق التحوّلات في الصورة القادمة: «عجينة بين يدي فلاحةٍ هو الوقت»؛ في إحالة على الأرض، لاسيما الجنوب اللبناني، لأنّ ثمة قصيدة طويلة بعنوان «القمر أوّل النفق» عن الضاحية الجنوبية؛ إذ تظهر صورة عنوان هذه القصيدة، في العين، كمواز دلاليّ للـ «عجينة التي بين يدي فلاحة». إذًا، الحواس رفقة الإحساس تضطلع بتناقضات وتحولات الوقت في عجينة أفكار الشعر لدى الشاعرة اللبنانية البعلبكية زينب عسّاف. حيث في قصيدة بعنوان توقيتي هو «بعد الظهر» ـ وفورًا، هو يناقض التوقيت المذكور أول القصيدة ـ تقول الشاعرة:

«في الليل
حين تعجز عن النوم
يصبح الوقت جدارًا
آه كم أكره نفاد الوقت
انتهاء بعد الظهر
والدخول في العتمة وأنا غير مستعدّة
متروكة خارج الزمن
لا أستطيع أن أُحدث فيه أي حفرة
كل شيء يحدث على شاشة تلفزيون
يبثّ في سهرة يوم عطلة مضجرة
يا قلبي العجوز
أما زال هناك عشاق يرتدون ربطة عنق
ويحضرون باقة ورد في اللقاء الأخير
بيتنا واسعٌ ولا تدخله الريح
مدننا كثيرة وأحلامنا بلا عجلات..».

على أيه حال، سيثير عنوانُ المجموعة، الذي هو عنوان قصيدة، تساؤلاً عن هوية «البوّاب»؛ لا يأخذ صيغة: مَن هو؟، و إنما: ما هو «بوّاب الذاكرة الفظ»؟ الإجابة على تساؤل ميتافيزيقي كهذا، يحتّم علينا الانتقال لمرحلة القراءة في ما قبل أو بعد بابيِ الشعور الحزين في «خزانة» أو حافظة الشاعرة الخاصة. إذ سوف تشغلنا أمور كثيرة وكبيرة تطرحها شاعرة لبنانية شابة؛ المفترض أنْ لا نلصق بها، كونها أنثى، هذه الرصانة الخشنة وهذا التجهّم الوجودي. غير أن قصائد الشاعرة تشى بامرأةٍ مكدودة، ومتجهّمة إزاء واقع العالم الآن: «أعدك أن أضحك في الصورة المقبلة». وتارة هي تجسّد صورة العالم في وجهِ الآخر الذكوريّ، وقد عبّرت عن حصارها بين مأزقين، عندما اقترحت رؤية نصاعة أسنان ذلك الآخر (الشرسة)، رغبة في رفع حاجبيه المعقودين: «أردت رؤية أسنانك/ رغبة في رفع حاجبيك». فضلاً عن أنها ترتدي سوادَ شعرها: «سأترك للأسود أن يهجر شَعري إلى ثيابي». 

تحوّلاتُ النظرة من الأفق إلى النفق:
في العادة، عندما تكون الأنثى شاعرة، ننتظر أن يَعْبر أفقَ توقّعنا قمرٌ قادمٌ من أوّل الليل الرومانسي ـ لا قائمٌ في أوّل النفق الأرضيّ الطويل طول بطء الحياة. ونتهيأ لاستقبال قصائدَ لها القدرة على التعرّي وإغوائنا وإبقائنا رهائن خيالات ملامسة الشعور اللدن عبر الجسد. لكن، الشاعرة زينب عسّاف تأبى إلا أن تكونَ قصيدتها نتاجَ تحوّلات النظرة الكلية من الأفق إلى النفق، والخروج من الحياة إلى الموت، كما في قصيدة بعنوان «طلقة»، (أي طلقة الولادة الأخيرة)، بوصفها الدخول للموت.. تقول:

«أنا نظرة المنتحرات
اللواتي أضرمن النار في جلابيبهن
ومتنَ ببطء حياة طويلة».

وتأبى إلا أن تُوْقِع وتُوَقّع كلماتها في فراغ ميتافيزيقي،: «آه كم كلمة أوقعتُ في الفراغ الفاصل بين نوم ويقظة»؛ وقد أكّدت على ذلك في بداية قصيدة «بوّاب الذاكرة الفظّ»، بقولها:

«هذا الحنين إلى لا شيء
إلى فراغ يشبه سقطة بلا قعر
إلى أيام لم تمرّ وأخرى لن تأتي».

وأيضًا، ما يزيد من ارتفاع هذه البناية العدمية هو انشغال قدرة خارجية للشاعرة موازية لقدرتها الداخلية في القصيدة؛ بإضافة مدماك أعلى باب البيت للوقوف عليه، ومتابعة أحداثه الداخلية المفتوحة، والمنظورة من باب الذات وباب الوطن. إذ تخاف ثمة في إثر«ما يسقط  بين قطعة آثاث وحائط». وفي قصيدةٍ «لا رغبة لي في تدمير العالم»، تقول في المقطع السابع منها:

«لم أجرؤ على إخبار الجدة
أني وحشة الفراغ بين سرير وحائط
وأني في كل حكاياتها
لم أخفْ إلا من نفسي».

وتستهل الشاعرة قصيدتها الأولى في المجموعة بعنوان هو مجازٌ مرسل علاقته جزئية بالجسد الحيّ، وشبكته داخلية؛ وهذا العنوان «أوردة»، كما نرى، هو مفردة بصيغة الجمْع. لكننا نلاحظ نزوع بداية القصيدة الأولى، لا إلى الغنائية، وإنما إلى ميتافيزيقا الفراغ، السابق على احتلال الجسد له. فالفراغ هو النسخة الأصلية الأولى. الفراغ هو العدم. وفي العدم لا جسد، لا أحد، ولا ولد. بالعودة لأمومة الفراغ، للأصل، لا تكون ثمة حاجة للموت، أو التفكير به، والخوف منه في الحياة كأعتى مشكلة وجودية. كذلك، لا تعود لنا ذريعة للبحث عنه من باب الرغبة في الخلاص، بالفناء في الصيرورة العدمية: «أنا الفراغ الذي احتله جسد يومًا/ لو رأيتُ نسختي الأولى لما احتجت إلى الموت.» وتلي قصيدة  «أوردة»، الأولى، مباشرةً، قصيدةٌ بعنوان «أمومة»؛ فيها تقول الشاعرة عسّاف:

«الرغبة في تليين أرصفة هذا العالم
في جعلها أسرّة
في إقفال كفٍّ مستجدية
بترها، ملأها
الرغبة في تدوير هذه الكرة أكثر
أمومةً أمومةً أمومة
كيف تتحمّلين أيتها الأرض أقدام الأمّهات؟
كيف لا تجهضين يا بطناً منتفخة؟».

هذا كله يتقاطع مع تساؤل للشاعرة في المقطع 5 من قصيدة «لا رغبة لي في تدمير العالم»، متبوعًا برغبة امتلاك أداة القطع المناسبة لقدرة لليد، وهي السكين، لقطع الصلات كلها. ولكنها تتخلى عن استعمال السكين مستدركة وجودَ حِبال السُّرّة (المشيمة) المتوحشة. والسرّة علامة من علامات الاختزال. إذ تتساءل الشاعرة:

«ما ذنبهما إن كانا والديّ
ولم أكن ابنة أحد؟
أحلم بسكين
أقطع به الصلات كلّها
لكن حبال السرّة نباتاتي المتوحشة».

إنّ ما يميّز هذه المجموعة الشعرية اليقظةُ والحيويةُ الشاهدةُ على القلق الشعري الخلاق والإحساس الشعري العميق بوقع الكلمة وصفوِها المتنزّل؛ حيث تقنع الشاعرة نفسها «قبل الفجر بأنّ النومَ باب يُفتح/ يرنّ على بلاط الغرفة صوت مفتاح». فلحظة الكتابة، لدى الشاعرة، تنهض من وعلى البرزخ الفاصل بين التجريد والتجسيد، وهذا هو الأصل في اللحظة الشعرية بمنأىً عن بدعةِ اليومي والتفاصيلي وإقحام الأساطير والابتناء عليها، بشكل كولاجات متصدّعة، وغير مأمونة فنيّا. وحسبنا أن نتأمل في قصيدة: «قمرٌ أوّل النفق»، الأطول على الإطلاق في المجموعة، فما هي إلا محايثة نفق شعريّ مفتوح ومتواصل ـ أو «أوردة» ـ بين العاطفة الكبيرة بحجم كلمة «أمومة»، وبين التجريد أو الاختزال الممسوح بمسحة أبي العلاء المِعرّيِّ؛ والذي تجريه الشاعرة على الأمومة بتدويرها، والتبرؤ منها، ووصفها بالمنتفخة، بلا ثمرةٍ أو وصول. ففي إطار الواقع الموضوعي، ضمنًا، تستدعي كلماتُ: «النفق»، «الأوردة»، «الشرايين» كلماتٍ من قبيل: «الانسداد» «الانقطاع»، «الانتحار» ـ انتحار الأمل، من ثمّ الانتحار الاجتماعي؛ بمعنى العزلة. وسواء حدّدنا موقع الذات الشاعرة من القمر: هل هو فعلا بداية النفق والذات تنظر إليه من موقع النهاية، أو كان الأمرُ معكوسًا، فإنّ هذا الاختلاف ما كان ليكون مثارَ جدلٍ لو كانَ الأفقُ ولم يكنِ النفقُ! على أننا نرى القمرَ لدى هذه الشاعرة حالة نضوج في مرآة الفكر الشعري والشعر الفكري، والذي يَجعل فينا شعورين متقابلين يَملآن أفقَ قراءتنا؛ وهما: شعورُ الإعجاب بالمرآة، وشعورُ الشفقة على أنثى لها من ميتافيزيقية وعدمية جدّنا أبي العلاء المعري، قسطٌ ونصيبٌ. ولنذكر هنا هذين البيتين لشاعر المعرّة:

«يا ربّ أخرجني إلى دارالرضى *** عجلاً، فـهذا عالَـمٌ منكوسُ»
«ظلّوا كدائرةٍ تَحوَّلَ بعضُها  *** مِن بعضِها فجميعها معكوسُ» 

تحوّلاتُ النظرة من النفق إلى الأفق:
تَـرُدّ الشاعرة سببَ حرمان متعة العبور لمن اكتشف كُرويّة الأرض، وجَمَع البدايةَ بالنهاية، وأعطَى الأرضَ شكلاً دائريّا، وليس أفقيّا أو نفقي المسار:

«أذكر،
كان ثمة أماكن لها أسماء محدّدة
على طرفَي الذهاب والإياب
وثمة وسادة تقود إلى غدٍ مأمون
من اكتشف كُروية الأرض
جمع البداية بالنهاية
وحرمنا متعة العبور.»

لذلك، من المكان الذي هو، افتراضًا، بمستوى الأفق ـ وتسميه الشاعرة «شرفة» انتحار أنيقة مكلّلة بالورد، تقوم بدورها كناقدة بأسلوب بنيويّ ساخر؛ شبيه بسخرية المعرّي في «رسالة الغفران»، أو هي تحاكي في جوهر ذلك وقوف مارتين هايدغر على الجسر الأنيق والمزيّن بتماثيل للآلهة، والمعلّق في الفراغ. حيث تقول الشاعرة:

«هاهم سكان الطبقة العليا
يغطون في نومهم الهانىء تحت سدرة المنتهى
وسكان الطبقات السفلية
يلاكمون البرغش».

غير أنها تختلف مع مكتشف كُرويّة الأرض، فتفكّك جمْعَه وتكتيله واختزاله البداية بالنهاية؛ مستخدمة البعثرة والتناثر كقوى تفكيكية لتقويض الكتلة الواحدة والثنائيات:

«أيتها الحياة تناثري، تناثري
كوني قطعًا لطيفة من حُزن وفرح
ولا تتكتّلي دفعة واحدة/ في وجهي.»

عند التجريد، والاختزال يصبح تحوّل الشاعرة من النفق إلى الأفق واضحًا؛ فـترى، في قصيدة بعنوان «سباحة»، أنّ: «الحياة نقطةٌ في نهاية الأفق/ لا تقترب منها سفينة». الحرمان الخاصّ من ثمرة الولادة ومن الوصول للقمر، هناك ما يشير إليه، في المقطع 13 من قصيدة «لا رغبة لي في تدمير العالم»، حيث تكتب الشاعرة:

«ستصحبني إلى المغرب يوماً
وسنحمل حقائب كبيرة
كالعائلات السعيدة في المطارات
يا طفلي
الذي ظلمه الحمض النووي اللعين.».

غير أنّ القراءة لا ترغب في اعتبار هذا الملمح كمعلومة شخصية، بقدر ما تتعامل مع هذه الإشارة بردّها إلى راوٍ يضطلع بذلك، كما يحدث في الرواية. فبدورها تنعكس ظلال الإشارة على لبنان وتحديدًا الضاحية الجنوبية التي شهدت إجهاضًا ودمارًا شديدًا وواسعًا إبان الحرب الإسرائيلية البربرية الأخيرة على لبنان، في تموز 2006. فهنا ترسم الشاعرة مشهد عبورها الخفيف والأسيف على آثار الحرب في الضاحية:

«سامحي عبوري الخفيف يا ضاحيتنا
يا شُعور بنات أرضي المحروقة
يا أثمار أرحامهن الممزقة».

وطلب السماح ينطوي على اعتراف البنت ـ مشروع الأم ـ بالأخطاء. وبذا يمكن رفع قصيدة «القمر أوّل النفق»، في نصّ «الضاحية» الكبير الذي سارع لكتابته غير شاعر لبنانيّ، في إثر الحرب. لذا في قصيدة اسمها «عنوان» تقول الشاعرة:

«بلغة غريبة أبكي
وأستيقظ داخل لغة أخرى
هل من أحد يترجم لي؟
لم أندم على ما اقترفت
كان كلّ شيء ردّ فعل على وجودي
كان كلّ شيء انتقاماً فاشلاً من إله
نسي أن يترك لي عنوانه!».

جملة ما سبق ستترتب عنه ردة فعل، مرّة بإشهار القطيعة، كما تبين سابقًا، ضد الأمومة. ومرّة بإضمارها، عبر اختزال هذا العالم في قبضة كفّ. هذه الكفّ لا ترغب في السيطرة على هذا العالم والانتقام منه بتدميره؛ ذلك أنّ للشاعرة نظرةً عطوفة، غير مستبدة، تجاه أيقونة الخلق: «أنظر إلى أيقونة الخلق/ في باطن يدي/ وأضمها». وإنما، الآن، هذه الكفّ أو باطن اليد، (الجزء، مجاز القدرة، بالأحرى) مستجدية بترَها ذاتيّا من الكلّ ـ العالم ـ الخارج. وملأها، من ثمّ، بشعور الراحة في الزمن والمصير المستقلين الجديدين، والخاصّين.

غير أنّ الأسرّة تشغلُ حيّزًا واسعًا، في فراغ هذا العالم، وفي الذاكرة الكبيرة كشاشة تتحرّك فيها قسوة وفظاظة الموت وأحوال الناس في أرصفة الدنيا؛ لذا تَحثّ الشاعرة، في المقطع السادس من قصيدتها «لا رغبة لي في تدمير العالم»، الناس بالكفّ عن تظاهر الجوارح، ولجاجتها، باسم الدين وعن المواليد الجدد:

«هلاّ تتوقّفون عن الصلاة
عن المواليد الجدد
عن تربيت هذا العالم بنعالكم.».

وفي قصيدة بعنوان «أرصفة» الشاعرة تتوجّع:

«آه كم مشّطت تلك الهنيهات
حتى فرّت من ملكيّتي
أسأل الوقت فينفي
من أين هذه الحروق إذًا؟
ثمة ما يتدلّى من عنقي
ويربطني بأرصفة الدنيا
فقط، لو كان للسماء أرصفة!»

...

«الآن تصفّقون؟
يا لتلك الولادة الغريبة
لم أشعر يوماً
بأمومة أيديكم/
لقد سقطتُ وحدي
من إحدى الأرحام
لم تمتدّ يدٌ لتقطفني
عيناي فارغتان
ولا رغبة لي
في تدمير العالم».

وفي قصيدةٍ حملت عنوان «رفّ» جسّدت الشاعرة أبا المعرّي ودانتي في كتابين، على رفّ واحد في المكتبة، وتركتهما يتبادلان الشتائم. ولكنها عادت لتنحاز لجدّها الأصيل، لتتناصّ معه، عن قصد واقتناع، أو تلخّص مواقفه العدمية في اللزوميات، بخصوص الأمومة والإنجاب:

«كوني الثريا أو خَضارِ أو الـ       جوزاء أو كالشمس لا تلدُ»
«فتلكَ أشرفُ مِنْ  مؤنّـثةٍ            نَجَلَتْ فضاقَ بنسلها  البلدُ»

وها هي، في «رف»، تقول:

«أتخدعينني أيتها الحياة
تريدين أن أنجبَ
لك ابنًا
نتعانق أنا وهو خوفًا منك؟
أيتها الصدفة المقدّسة
يا أمّنا غير المحبّة
قد أنجح في منعك من تكراري.»

بالاختزال، وحدَه، القابل للتمدد والخلق الجديد، وبالقطيعة مع العالم والاتصال بالحلم؛ أرادت الشاعرة أن تكون هي أمومة نفسها؛ أي لها ذات مستقلة عن أمومة هذه الأرض والحياة التي رحمها ليل ومقبرة. لقد عبّرت عن أوّل قصيدة بعنوان «أوردة»، عندما قالت:

«مذ قطعت أوردة النوم
(الموت بوصفه الحياة الآن)
صرت غيمة لا تمطر إلا على غسيل يجف
( تعيد غسل ما غسلته أياديهم وجفّ دون أن ينظف)
لم يعد يربطني بالفِراش سوى حبل أحلامي الطويل
( القطيعة مع العالم الواقعي والاتصال أو التعلّق الجمالي الشعري بحبل الأحلام الطويل)
ظننت للمرة الألف أنني سأستيقظ فجأة من حياتي
(إلى النوم، حيث الفراغ النسخة الأولى وأمومة العدم الذي لا يلد)
لكني أدركتُ في الثالثة عشرة
أني إلى الأبد سأحزن
أردت أمًّا لا يؤلم بكاؤها
وأبناء لا يبكون أبدًا»

لكنها في قصيدة بعنوان «انتقام»، تعود لتكشف عن وهم القطيعة واستحالة الانسحاب من هذا العالم ويأس الخلاص بالشعر منه:

«آه لو كان الانسحاب ممكنًا
إذًا لغسلت يديّ منكِ يا أنا
كأمٍ يائسة».

وفي الختام، يقول ميشل هار، في مقالة بعنوان: «هايدغر والشعر»، (منشورة في مجلة «فكر وفن»، بالعربية، في ألمانيا، العدد 47 العام 25/1988، ص13): «الشاعر لا يأتي بالخلاص غير أنه يحتفظ بعُسْر كامل هو عُسر عصره وليس عُسر حياته الخاصة، وانفعاله ناجع وليس هروباً؛ ذلك أن حزنه ومنفاه وتمرّده وعذابه أو فرحه بالمعنى العميق للكلمة كل هذه الأحاسيس تنزل إلى أعماق عصره وتتغذى من ينابيعه، وهي التدفّق الجديد للتاريخ.».