لمبدعنا الفذ نجيب محفوظ قول التصق في وجداني بمجرد أن قرأته أول مرة يقول فيه: "كلما رأيت امرأة، رأيت الحياة تسير على قدمين"، وقد كانت المرأة دائمًا وستظل, هي الهاجس الأول للرجل، والموقدة الأولى لجذوة الحياة في نفسه وجسده معًا.. ولم يفهم الرجل المرأة أبدًا, فهي في نظره دائمًا لغز بلا مفتاح, وربما كان هذا أحد جوانبها السحرية التي تشده إليها، ولأنه لا يفهمها, في نفس الوقت الذي هو أسير لها، فقد تطوح موقفه منها من النقيض للنقيض، فقد رآها ووضعها فوق قاعدة تمثال باعتبارها ملهمة وساحرة وحورية وأمًا للطبيعة وللكون والآلهة، وباعثة لعرائس الأحلام وللشعر والإلهام والحب والجمال والخيال. وفي النقيض الآخر، ولأنه لا يفهمها، راح أيضًا يراها في صورة الشيطانة الماكرة صاحبة الكيد العظيم والأحابيل والأقاويل, ناصبة الشراك والفخاخ له ليسقط فيها, صانعة الغواية التي أخرجته من الجنة والنعيم وألقته على أرض التعب والدموع, وهي صانعة السحر الشريرة الشيطانية الألاعيب، القادرة على إسقاط أعتى الرجال وأعظم الأباطرة وأقوى القياصرة ليصبحوا خواتم في أصابعها بعد أن تسلبهم قوتهم كما فعلت دليلة بشمشون الجبار, وما هو سوى تكرار أبدي لما فعلته حواء بآدم. وسلاح المرأة الذي يرعب الرجل ويرهبه هو جسدها, ذلك الكيان الفذ ذو القدرة اللامحدودة على الإغراء والغواية وإثارة أعمق وأشد المشاعر في الرجل, عاصفة بهدوئه وسلامة نفسه وقدرته على الانضباط مثيرة فيه مشاعر التأجج والتوقد وباعثة فيه الرغبة في الحياة والبقاء.
وبين هذين النقيضين في تصور الرجل للمرأة, جاء فهم نجيب محفوظ لها هو الأجمل والأكمل: فالمرأة هي الحياة نفسها تسير على قدمين.. ولأن الحياة معقدة مركبة متشعبة ومتعددة الأبعاد واسعة الآماد فهكذا المرأة أيضًا، فمن الصعب فهم المرأة لأنه من الصعب فهم الحياة. وقد لجأ الرجل على مر التاريخ إلى موقفين أساسيين تجاه المرأة يعكسان موقفه تجاه الحياة، كان الموقف الأول – وهو الأكثر شيوعًا- هو الموقف المعادي للمرأة المرتعب منها كتعبير عن رعبه من الحياة وخوفه من معاناتها، ويؤدي هذا الموقف المعادي (للمرأة – الحياة) إلى هروب الرجل من المرأة – الحياة عن طريق الزهد أو التظاهر به أو التدين المفرط لدى البعض, أو إلى المواجهة العنيفة ضد المرأة وشياطينها التي تتلبسها ومحاولة السيطرة عليها والحد من سطوتها بتجريدها من أسباب القوة وتكبيلها بقيود اجتماعية قبلية وتفسيرات متزمتة لنصوص دينية تحرمها بها من حقوق المساواة وتضعها في موضع سفلي ضعيف, ويكون ذلك عن طريق تشويهها نفسيًا بوصفها بأنها شيطانة أو مخبولة أو ناقصة عقل أو عاطفية لا تملك التحكم في نفسها, وفي نفس الوقت عن طريق تشويه جسدها (الملعون) المليء بالشياطين بوصفه أنه مبعث الخطيئة لدى الرجل وأنه الإثارة مجسدة وأنه الوعاء الفعلي لشرف الرجل، في نفس الوقت الذي هو – جسد المرأة – ليس سوى عورة لا تقع عليها عين الرجل إلا ويسقط في الخطيئة ولذلك يجب تقميطه وحجبه عن العيون وحبسه داخل جدران البيوت إذا أمكن.
بينما كان الموقف المضاد هو موقف الرجال المحبين للحياة في شغف وقوة غير الخائفين منها ولذلك كانوا دائمًا مقبلين على المرأة يرغبونها ويشغفون بها ويكتبون فيها الشعر ويغنون لها الأغاني ويسافرون لها قاطعين الوديان والجبال مقتحمين من أجلها الحصون والقلاع، كان هؤلاء هم فرسان الحياة وعشاقها من المغامرين والشعراء والفنانين والمبدعين والكتاب والمارقين الشجعان شذاذ الآفاق في كل مكان وزمان، هؤلاء رأوا في المرأة كل ما في الحياة من إثارة ودهشة وسحر وألغاز وغرائز وسمو وشموخ وبهاء وجمال باهر مثير لإرادة البقاء وحب الحياة. وقد عبر هؤلاء عن موقفهم من المرأة – الحياة تعبيرًا فنيًا, أي استطاعوا أن يفجروا مشاعرهم المتلاطمة المتوهجة تجاه المرأة –الحياة في صورة إبداعات فنية في الكلمة والموسيقى والرقص والرسم والنحت والمسرح والسينما بل وفي الإبداعات العلمية التي ما هي سوى تعبير آخر عن الفرح بالحياة والرغبة الطفولية الجميلة في فك أسرارها وامتلاك مكنوناتها المثيرة .
ولا شك أن هذا الموقف الثاني هو الذي استطاع أن يتخلص من الخوف البدائي القديم من المرأة ويحوله إلى مشاركة مثيرة معها في صنع حضارة راقية بديعة. وما دامت المرأة هي الحياة وهي ملهمة الإبداع والمحفز عليه، وما دام الفن هو لغة الرجل العاشق للحياة والمرأة، يكون من المفهوم إذن معاداة السلفيين المتزمتين للمرأة وللفن معًا. فــ (الفن – الأنثى) هو الوحش ذو الرأسين الأكثر ترهيبًا وتخويفا للسلفيين المتزمتين، فالسلفي – والمتشدد دينيًا بشكل عام – يرهب الفن ويخافه بنفس درجة رعبه من المرأة.. وقد كان السلفي الكاثوليكي في العصور المظلمة بأوروبا يرتعب من المرأة.. فنصب لها محاكم التفتيش واتهمها بالسحر والمروق والشعوذة والشيطنة وقام بحرق (شيطانها) – أي جسدها – الذي ترعبه فتنته وقوته وقدرته على ولادة الحياة بداخله. وفعل السلفي البروتستانتي نفس الشيء في 1692 فقام بحرق المرأة في قرية سالم الأمريكية الشهيرة بدعاوي الهرطقة وممارسة السحر والشعوذة –
والسلفي المتأسلم لديه نفس الرعب من المرأة ومن الفن الذي يستوحيها ويحاكيها ويتدله فيها، فالفن- الأنثى هو الصورة الأثيرية الروحية للمرأة – الجسد، وكلاهما يحمل قوة خرافية يراها السلفي مهددة لسلطانه وسطوته, وفاضحة لعنفه وضعفه ولذلك ليس غريبًا أن نقرأ أن نواب الإخوان المسلمين في مجلس الشعب المصري قد قاموا بتقديم مساءلات ومشروعات قوانين حول مسائل مثل منع مسابقات الجمال في شرم الشيخ لأنها تظهر جسد المرأة، أو منع عمل روائي أو سينمائي يقدم المرأة بشكل متحرر سواء كان نفسيًا أو جسديًا، فالوحش ذو الرأسين – المرأة والفن – هو أول أولويات الفكر السلفي. ذلك أن السيطرة الكاملة على هذا الوحش ذي الرأسين هي مدخل السلفيين دائمًا إلى السيطرة على المجتمع كله, ولا سطوة ولا سيطرة لهم إلا عن طريق السيطرة على المرأة والفن، أي على جسد الأمة وروحها المبدعة, إذ أن مجرد وجود الفن الحر, ومجرد وجود المرأة الحرة, هو تمرد على تزمت وأغلال التفسيرات النصية الجامدة لصالح المقاصد الإنسانية الرحيمة الواسعة، فالفن هو اليسر بينما الفكر السلفي المتزمت هو العسر.
لذا يبدأ السلفيون دائمًا بالسيطرة التدريجية على المرأة عن طريق تقميطها بأقماط تكاد أن تكون هي الأقماط التي استعملها قدماء المصريين لحفظ مومياءاتهم، ولكن قدماء المصريين كانوا يقمطون الجثث الهامدة, بينما كان الأحياء من المصريين –رجالاً ونساء – يتمتعون بحرية إنسانية باهرة، وتدلنا الدراسات على أن وضع المراة المصرية في مصر القديمة كان متقدمًا جدًا، وتظهرها الرسومات الفرعونية منتصبة شامخة في ملابس متحررة تعكس جمالاً جسديًا وروحيًا في آن واحد، ونعرف أن الفتاة المصرية القديمة، في فجر الإنسانية كانت تكتب أشعار الحب الجميلة المتحررة توددًا وعشقا في حبيبها.. ولدينا ترجمات هذه الأشعار، كما نعرف أن المرأة المصرية حكمت مصر بنفسها ووحدها أكثر من مرة، كما فعلت الملك حتشبسوت العظيمة.
عندما أسير في شوارع القاهرة في أحيائها الشعبية أشعر أنني أسير في استديو مدينة سينمائية كبيرة يصور فيها فيلم عن القرون الوسطى, وأن آلاف الناس حولي هم الكومبارس في هذا الفيلم، السيدات في النقاب الأسود, والكثير من الرجال مجلببون وملتحون وحفاة أو شبه حفاة، والأرصفة مكتظة وقد أصبحت بازارًا للكتب الصفراء والأحجبة والوصفات الشعبية والأعشاب (الطبية) وكل ما يساعدنا على دحض الجسد وإخراج العفاريت ومخاواة الجن ومضاجعة الحوريات!! .. وعندما زرت معرض الكتاب الدولي وقتها اكتشفت أن معظم مبيعاته هي كتب التراث الأكثر تزمتا والأقرب إلى الخرافة والسفاهة, وليس عيون تراث الفكر الإسلامي المتفتح، كأعمال ابن رشد وابن خلدون. هذه هي ثقافة الشارع المصري اليوم.. ثقافة إنسان يعيش في زمن آخر سحيق لا يمت لعصرنا بصلة... ولأن المرأة هي الحياة تسير على الأرض ستظل المجتمعات العربية التي تعادي المرأة وتكبلها بالقوانين والعادات البدانية والنظرة الدونية والسيطرة الوحشية، ستظل مجتمعات متخلفة روحًا وجسدًا وفكرًا وحضارة .
وحي المرأة
شعر: فرانسوا باسيلي
كلما رأيتُ امرأة
رأيتُ قلب الأرض سائرًا
على طريق الجوع
كلما رأيت امرأة
رأيت نهدًا فائرًا
يركض مثل حمل الربيع
كلما رأيت أمرأة
رأيت صدرًا ساهرًا
يبحث عن رضيع
كلما رأيت امرأة
بكى وهاج شيء فيَّ
عرفت أنني ما زلت حيا