يسعدني أن أزف للقارئ عودة (الكلمة) لاستئناف الصدور، برغم مؤامرات أعداء الكلمة الحرة المستقلة ودسائسهم، وجشع بعض من يزعمون الاهتمام بالثقافة من أنصاف المثقفين. فقد كان رد فعل القراء والمثقفين على إعلان توقف (الكلمة) ومطالبتهم باستمرارها، حافزا للعمل الدءوب على معاودة إصدارها من جديد، وبأسرع طريقة ممكنة، بالرغم من أن ضربة الغدر التي تلقتها (الكلمة) كانت تستهدف الإجهاز على مشروعها العقلي التنويري المستقل. لكن إصرارنا في (الكلمة)، وإحساسنا بمسؤوليتنا أمام القراء الذين أخلصوا لمشروعنا والتفوا حوله، دفعنا لتذليل تلك الصعاب. فقد التف القراء حول (الكلمة) وتزايد عددهم باطراد منذ عددها الأول التي انطلق به مشروعها الثقافي والفكري المستقل في يناير عام 2007 وحتى العدد الأخير من سنتها الثالثة، ديسمبر 2009، والذي أعلنت فيه توقفها المؤقت. حيث تراوح عدد القراء في أعدادها الأخيرة ما بين ثلاثمئة ألف وأربعمة ألف في الشهرالواحد، بالرغم من أنها مجلة أدبية فكرية جادة، وليست محلاة بالصور. وكان هذاالاهتمام من القراء هو المردود الحقيقي والوحيد للجهد الكبير الذي تبذله أسرة تحرير (الكلمة) الصغيرة والمكونة من الكاتبة السورية الدكتورة أثير محمد علي، والشاعر والناقد المغربي عبدالحق ميفراني، والقاص والروائي المصري منتصر القفاش. وكان التزام هذه الأسرة الصغيرة الجاد والمخلص بالمشروع، وتفانيهم في العمل على النهوض به من عثرته بعد هذا التوقف الاضطراري، هو الحافز الأساسي على تذليل كل الصعاب والبدء من جديد وبأسرع ما يمكن، بالرغم من كثرة تلك الصعاب. لذلك لا يمكنني التعبير هنا عن امتناني لهؤلاء الأصدقاء الثلاثة، وشكري وشكر القراء الذين ينتظرون (الكلمة)، ولم يتوقفوا طوال الشهور الأربعة التي احتجبت فيها عن السؤال عن موعدعودتها، لهم من جديد.
واليوم تعود (الكلمة) لتواصل مسيرتها التنويرية العقلية المستمرة، تعود بالعدد 37 الذي تواصل به ما انقطع بعد صدور عددها السادس والثلاثين في ديسمبر الماضي. تعود بنفس بيانها التأسيسي وموقفها الفكري الذي اعلنته في عددها الأول، ولا داعي لتكراره من جديد هنا، من أنها مجلة للكلمة الحرة المستقلة، وللثقافة العربية الواحدة الممتدة من المحيط إلى الخليج، ومن سوريا إلى السودان. مجلة لحراس الكلمة القابضين عليها كالجمر في زمن القهر والاستبداد والهوان، والحريصين على شرفها ومصداقيتها، وليست لكلاب الحراسة الذين يملأون الساحة بالخلط والتخليط في هذا الزمن الردئ. تعود وقد ازدادت إيمانا بأهمية استقلالها، وبأنه ـ كما ذكرت أكثر من مرة في افتتاحيات سابقة ـ لا استقلال فكريا دون استقلال اقتصادي.
وقد كان حرص (الكلمة) على استقلالها الفكري، وعلى قاعدته الاقتصادية، هو الذي تسبب في هذا التوقف المؤقت، حينما تعرضت (الكلمة) للسطو على أرشيفها الرقمي الكبير بعد أن تجاوز عدد ما به من دوريات الثلاثين. وهو الأرشيف الرقمي للدوريات العربية من أسلاف (الكلمة) والذي بلورته فكرة وتنفيذا، كي يكون عماد استقلالها الفكري، حينما كان من المقرر إتاحة هذا الأرشيف بإمكانيات البحث الأليكترونية باشتراك مالي محدد للجامعات ومراكز البحوث في مختلف بلدان العالم. وهو الأمر الذي سيضمن استمرار (الكلمة) واستقلالها الاقتصادي كي تظل قادرة على التطور ومتاحة لقرائها بالمجان على الإنترنت. كنت أعرف من خلال دراستي الموسعة لتاريخ المجلات الثقافية العربية ومسيرتها، وعملي في بعض تلك المجلات واقترابي الحميم من بعضها الآخر، أن استمرار المجلة الأدبية او الفكرية المستقلة يوشك أن يكون مستحيلا في ثقافتنا العربية، ما لم تقف وراءه حكومات، مهما كانت توجهاتها فإن اعتماد المجلة على تمويلها ودعمها ينال من استقلالها، وحتى من مصداقيتها. وكنت أدرك من خلال عملي الطويل في الجامعات الغربية، ومتابعتي لما جرى للدوريات المكتوبة بلغاتها من عمليات ترقيم واسعة تتيح لها الانتشار عبر الحواجز والحدود اللغوية، وتيسر على الباحثين والطلاب مهمة البحث فيها، أهمية أن تتاح نفس تلك الإمكانيات ـ في سرعة الانتشار والحركة والبحث ـ للدوريات العربية. ومن خلال جماع الخبرتين ـ خبرتي في المجلة الثقافية العربية، وعملي الطويل ولأكثر من ربع قرن في الجامعات الغربية ـ ولد مشروع (الكلمة) وتبلور كمشروع ثقافي متكامل يخدم الثقافة العربية ويستطيع في الوقت نفسه أن يضمن استمراره واستقلاله.
ولأن المشروع كان يحتاج إلى إمكانيات ترقيمية كبيرة، وليس فقط إلى أمكانيات ثقافية وتحريرية، كان لابد من البحث عن شركة تقوم بعملية الترقيم تلك. ومن بين الشركات المتاحة برزت شركة «صخر» لأن صاحبها مولع منذ سنوات طويلة بالتحويم حول المثقفين في مصر والمغرب خاصة، كما أن الشركة قد أشاعت حول نفسها الكثير من الدعاية حول جهودها في مجال الرقمنة والتي تبين لي فيما بعد، ومن خلال تجربة (الكلمة) معها أنها تقوم ـ ككثير من الدعايات التجارية ـ على أسس واهية. ولأن مالكها كان يدّعي أنه مهتم بالثقافة ويسعى لعمل مشروع لخدمتها، فقد عرضت عليه الشراكة في مشروع (الكلمة)، وتم التعاقد معه في هذا الشأن بعقد مكتوب. واستمر العمل في (الكلمة) وبناء أرشيفها لمدة ثلاث سنوات، التف فيها حولها القراء، وتنامى حجم الأرشيف حتى تجاوزت المجلات المرقّمة به الثلاثين مجلة. ولما تأكد صاحب «صخر» بعد أول رحلة تسويقية للمشروع ـ أصر على أن يصحبني فيها ـ أن المشروع سيدر عائدا كبيرا، كان المقصود منه تمويل (الكلمة) ومكافأة كتابها، وضمان استمرارها منارة للفكر الحر والكلمة المستقلة، قرر صاحب «صخر» بجشع تاجر لا خلاق له السطو على الأرشيف، ونقله إلى شركة «صخر» تلك، كي ينحرف به عن هدفه الرئيسي، ويحيله إلى مصدر للثراء. دون أن يعبأ بأن حق ترقيم الكثير من هذه المجلات قد قدمها أصحابها لـ(الكلمة)، بوثائق يعرفها وسبق أن أطلعته عليها، وليس له أو لشركته. وزعم أنه، وقد استولى على مصدر استقلال (الكلمة) الاقتصادي، مستعد لأن تواصل شركته برمجة المجلة مقابل السكوت على سرقته لأصولها. لذلك كان لابد من إيقاف المجلة ونقلها من «صخر» التي سرقت أصولها، بل ورفضت حتى إعطاء (الكلمة) اسم وصلتها على الإنترنت، وهو الإسم الذي اقترحته بنفسي، وبالهجاء الذي عرفه القراء له ابالحروف اللاتينية، وفق قواعد كتابة الكلمات العربية بالحروف اللاتينية في اللغة الإنجليزية. كما رفض حتى نقل أعداد (الكلمة) السابقة لموقعنا الجديد، فقد تبين لنا أنها كانت تتم ببرمجة عتيقة ومتخلفة وغير قابلة للنقل من سيرفير إلى آخر. دون أن نعيد برمجة جميع الأعداد من جديد. لذا كان لابد من اللجوء للقضاء كي تسترد (الكلمة) أصولها وحقوقها. وحينما تحصل (الكلمة) على حقوقها ستكشف للقراء عن الكثيرمن التفاصيل المهمة حول من سرق أرشيفها ومشروعها، وحول شركته المسماة «صخر» وما يحيط بها من شبهات، لأن القضية التي ترفعها (الكلمة) عليها الآن ليست القضية الأولى التي رفعت على «صخر»، ولن تكون الأخيرة ما لم يُكشف للرأي العام عما تخفيه وراء دعاياتها المكذوبة.
ولأن هذا الأمر قد يستغرق وقتا قد يطول ـ فحبال القضاء طويلة ـ وقارئ الكلمة في شوق لعودتها، اشترت (الكلمة) اسما جديدا على الإنترنت، حتى تسترد بحكم القضاء اسمها وأرشيفها. كما استغلت (الكلمة) هذه الوقفة الاضطرارية، وما تبعها من بداية جديدة، لتجدد مظهرها، وتحدث آليات برمجتها، خاصة بعدما اكتشفت أن ما اعتمدت عليه من برمجة في إصدارها الأول كانت من النوع البدائي والمتخلف. فلم تنجح شركة «صخر» بالرغم من الدعايات التي أحاطت نفسها بها في ملاحقة ما يدور في مجال البرمجة من تطورات. لذلك طال الجدل والخلاف مع شركة «صخر» حتى حول نقل أعداد المجلة القديمة لموقعنا الجديد، حيث تبين صعوبة ذلك لبدائية البرمجة. ورب ضارة نافعة، فقد كشف لنا السطو على أرشيف (الكلمة) ومشروعها أنها كانت تنهض برمجيا على تقنيات «صخر» المتخلفة، فعملنا على تحديثها بصورة تجعل البحث في (الكلمة) أكثر دقة وكفاءة وفاعلية. وتجعل تصميمها الجديد يتماشى مع آخر تقنيات التصميم في هذا المجال. لذلك غيرت (الكلمة) من تصميمها، وإن حافظت على شعارها وعلى هويتها وتبويبها. ولأن علينا إعادة برمجة اعداد (الكلمة) الستة والثلاثين السابقة، فإننا قررنا ألا ننتظر حتى تتم إعادة البرمجة تلك، ووضعنا فقط العدد الأخير، عدد 36، على موقعنا الجديد، وسنواصل منذ اليوم العمل على محورين: أصدار عدد جديد كل شهر كما اعتدنا من قبل، كي تواصل (الكلمة) مسيرتها، وتسترد جمهورها، وإعادة برمجة ما نستطيع من الأعداد السابقة حتى يكتمل أرشيف الأعداد السابقة منها على الموقع الجديد.
في الحوار الجميل الذي تنشره (الكلمة) في هذا العدد للكاتب البرتغالي الكبير خوسيه ساراماجو، والذي لجأ ـ قبل عام ـ لكتابة مدونته على الإنترنت، اعترافا منه بأهمية هذا الوسيط الجديد، ورغبة في التواصل مع قرائه الجدد، يقول ساراماجو ـ وهو الكاتب الكبير لا بإبداعه الجميل فحسب، وإنما ككل كاتب كبير حقا، بمواقفه الإنسانية والسياسية الصارمة مع العدل والحق والحرية ـ يقول إن «الإنترنت هي المكان الذي يقدم فيه الجهل التام وكأنه مثال يحتذى. نحن بصدد أسطرة الإنترنت». وكانت رغبته في الكتابة على الانترنت بنت الرغبة في التصدي لهذا الجهل الذي يقدم وكأنه مثال يحتذي، التصدي له في عقر داره الجديدة، وتبديد الهالة الأسطورية التي يحيط نفسه بها. وطرح القيم الإنسانية الخالدة التي عرفها الإنسان منذ عرف الكتابة المسمارية، والنقش على الحجر، والتدوين على أوراق البردي، في مواجهة هذا الجهل والتخليط. وهي نفس الرغبة التي حدت بـ(الكلمة) قبل أكثر من ثلاثة أعوام إلى طرح مشروعها العقلي التنويري المستقل على الإنترنت. كي تجلب لساحة النشر عليها كل القيم والمعايير الأدبية والفكرية والجمالية التي حكمت قواعد نشر المجلات الثقافية العربية، منذ أطلق رفاعة رافع الطهطاوي مجلته الرائدة (روضة المدارس) وحتى أوقف الشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش مجلة (الكرمل). فطرح (الكلمة) لمشروعها ضمن رؤية استمرارية تواصلية لمسيرة الثقافة العربية العقلية الحرة والمستقلة، لا ينفصل عن وعيها بأهمية أسلافها، وبإتاحة ميراثهم العظيم لقراء هذا الوسيط الجديد. لذلك ستواصل (الكلمة) رغم كل شيء مشروعها، على الجبهتين: جبهة إصدار مجلة أدبية فكرية حرة ومستقلة للثقافة العربية، تؤكد وحدتها ورؤاها التنويرية، وجبهة إعادة ترقيم المجلات التي سرقت منها، وإضافة المزيد من المجلات الجديدة لأرشيفها، حتى يفصل القضاء بينها وبين من سرقوا أرشيفها.
وأخيرا أيها القراء والقارئات الأعزاء الذين تعتمد (الكلمة) على دعمهم ووقوفهم بجانب مشروعها، ها هي المجلة تعود إليكم. تعود بنفس حرصها على استقلالها في زمن التبعية والهوان، وإن كان مشروعها قد تلقى ضربة غدر كانت تسعى لأيقافه، وإجهاض توجهاته العقلية التنويرية المستقلة. وهيهات أن يطفئوا نور الحقيقة بأفواههم المشبوهة. وبمساعيهم التي تريد ان تكرس التبعية والهوان في عالمنا العربي الذي يأبي الاستسلام لتلك المشاريع المشبوهة. فانشر ياقارئنا الكريم وقارئتنا الكريمة خبر عودتها ووصلتها الألكترونية الجديدة بين الأصدقاء والقراء. أما كتاب (الكلمة) فإننا ننتظر إسهاماتهم وعودتهم لمجلتهم التي افتقدها الكثيرون منهم.