يثقل تورط بريطانيا في عملية غزو العراق ضميرها القومي والثقافي، بصورة أخذت أعراض مرض هذا التورط العضال تتجلى في انتاجها الأدبي والمسرحي كما يكشف لنا هذا المقال

المسرح الانجليزي وغزو العراق

صبري حافظ

تعجبني كثيرا الأعمال الأدبية التي أستشعر في بنيتها قبل موضوعها تغيرا جذريا في الحساسية الفنية، والتي تسعى لاقتناص أجنة هذا التغير وبلورتها بصورة فنية موفقة. فتلك الأعمال تكشف لنا الكثير عما يدور في الواقع الذي تصدر عنه بصورة لا يقدمها إلا الفن وحده، في قدرته على سبر أغوار الواقع والوصول إلى ما يعتمل في أعماقه من رؤى ودمدمات. ويزداد هذا الإعجاب إذا ما استطاع العمل أن يحقق قدرا من التواصل مع الجمهور الذي كتب من أجله، بالرغم مما ينطوي عليه من تجديد وطليعية. فطليعيته في هذه الحالة لاتكون من نوع المغامرة العقيمة التي تتجه للنخبة الضيقة، أو التي لاتفلح حتى في الإفصاح عن رؤاها إلا لحفنة من المتخصصين، وإنما من نوع القدرة على لمس العصب العاري للواقع، وللحالة الجمعية في آن دون التخلي عن قدرة الفن الاستشرافية. وعمل الكاتب المسرحي مارك ريفينهيل Mark Ravenhill الجديد (إضرب/ اقتنص الكنز/ كرر العملية Shoot/ Get Treasure/ Repeat) من هذا النوع من المسرحيات. فهو عمل مسرحي طموح يسجل في بنيته المسرحية الملحمية ـ والملحمية هنا من الأمور التي سنعود إليها بشيء من التفصيل ـ وموضوعه معا ما يمور في الواقع الانجليزي من دمدمات نتيجة تورط بريطانيا في العراق. ولكن قبل تناول هذا العمل المسرحي المركب بشيء من التفصيل لابد لنا من التمهيد له بالتعرف على سياقه العام والخاص معا.

السياق وأزمة الضمير الثقافي
يثقل تورط بريطانيا في عملية غزو العراق 2003 ضميرها القومي والثقافي، بصورة أخذت أعراض مرض هذا التورط العضال تتجلى في انتاجها الأدبي والمسرحي. ليس فقط لأنها حرب استعمارية غير قانونية، تخالف الأعراف والقوانين الدولية فحسب، بل تشكل خرقا فاضحا لها ولغيرها من القيم الإنسانية. وليس لأن الكنيسة الانجليزية ذاتها باعتبارها ممثلة القيم الدينية والأخلاقية في هذا المجتمع لم تستطع أن تصنفها على أنها حرب عادلة، وكان أقصى ما وصلت إليه وقتها أنها حرب مبررة، ولكن أيضا وأساسا لأنها الحرب التي جرت بالرغم من المعارضة الشعبية الواسعة لها، وضد كل صور التعبير الديموقراطي الحر ضدها. فقد خرجت ضدها في فبراير 2003 أضخم مظاهرة في تاريخ بريطانيا. فلم يسبق أن تظاهر أكثر من مليوني متظاهر ضد أمر من قبل، ولم يسبق أن شملت المظاهرات كل ألوان الطيف الاجتماعي والسياسي كما حدث في تلك المظاهرة الشهيرة التي شارك فيها ميلوني شخص من جميع المشارب والأعمال والخلفيات الاجتماعية والثقافية. ومع هذا حدث شاركت بريطانيا في الحرب على العراق ضد تلك الإرادة الشعبية الواسعة. وهو ما ترك آثاره الدامية شعورا بالعجز والإحباط داخل هذا القطاع الواسع والواعي من الشعب البريطاني الذي يمثل خيرة الجماعة الواعية فيه من كل الشرائح والطبقات الاجتماعية.

وما ان وضعت الحرب أوزارها، حتى ازداد الأمر تفاقما، فلم تسفر الحرب عن انتصار واضح أو نهاية مرغوبة أو معقولة، بل تكشفت بالتدريج عن وجهها الكابوسي. فسرعان ما أخذت كل الدعاوى الزائفة التي تذرع بها أنصارها ومن شنوها في التهاوي واحدة وراء الأخرى. فلم يتم العثور على أي من أسلحة الدمار الشامل المزعومة، ولم يثبت أن النظام العراقي كان على علاقة مع تنظيم القاعدة، بل العكس كان ضد هذا التنظيم الذي تفشت تكويناته في الواقع العراقي بعد الغزو ولم يكن لها وجود فيه قبله. ولم تجعل الحرب حياة المواطنين في الغرب أكثر أمنا واستقرارا كما وعد قادتها ومروجوها، بل تتابعت الهجمات الإرهابية على أسبانيا ثم بريطانيا، وتآكلت معها وبسبب ذرائع الحرب على الإرهاب الكثير من حريات المواطنين الذين أصبحوا يعيشون في مجتمع مراقب، أقرب ما يكون إلى أهجية جورج أورويل الكابوسية في هذا المجال (1984). ولم تتحقق الديموقراطية في العراق كما روج من شنوها عليه، لتخليص الشعب العراقي من حكم استبدادي جائر ومنحه الحرية. بل تكشف الواقع الجديد عن كابوس فظيع يبدو معه كابوس الاستبداد أقل جهامة وأخف وطأة. بالرغم من أنه لامماراة في أن العراق ـ مثله في ذلك مثل كثير من جيرانه ممن تحالفوا مع الولايات المتحدة وبريطانيا في حربها ضده ـ كان يعاني من الفساد والاستبداد وغياب الحريات. ولم ينعم الشعب العراقي بالحرية وإنما انزلق إلى وهاد المحاصصة الفوضى والعنف الدموي وحكم الغابة في كثير من مناطق العراق.

وتمخضت الحرب عن مجموعة من النتائج المأساوية التي لم تخطر لمن شنوها على بال في أكثر كوابيسهم تشاؤما. فقد قوت الحرب عدو الغرب اللدود ـ إيران ـ ولم تضعفه. ووسعت نفوذه في العراق بالرغم من الولايات المتحدة، وضد كل استراتيجياتها هي وربيبتها الصهيونية. ولم تجلب الديموقراطية والحرية للشرق الأوسط، بل جلبت له الثيوقراطية والتطهير العرقي والمحاصصة الطائفية. ولم تجهز على الإرهاب بل غذته وزادته اشتعالا، ولم يتوقف سيل الدماء الذي بدأ منذ طلقاتها الأولى عام 2003 حتى اليوم، فقد راح ضحيتها حتى الآن أكثر من مليون عراقي، وعشرات آلاف الجنود الأمريكيين والبريطانيين بين قتيل وجريح، كما تم تشريد خمسة ملايين عراقي في أربعة أرجاء المعمورة. وأخذ هذا كله يثقل كاهل الضمير الانجليزي الذي يعزي نفسه بحرصه التاريخي على احتلال الموقع الأخلاقي الأرقى، حيث وجد نفسه في درك أخلاقي لايستطيع منه نهوضا. إلى الحد الذي شكا معه كثير من جنرالات الجيش الانجليزي وقادته من انهيار معنويات الجنود، لأنهم حتى بعد عودتهم من الجبهة العراقية لا يلقون تعاطفا من الجمهور العادي مع إنجازاتهم أو معاناتهم أو محنتهم. ولا اعترافا بتضحياتهم من أجله، وهو وهم حرصت المؤسسة العسكرية على رعايته طوال حروبها العديدة على مد تاريخها. فقد أخفقت الآلة السياسية الضخمة، وتحالف قطاعات واسعة من الإعلام الانجليزي معها في اقناع الشعب الانجليزي الذي يتسم بقدر كبير من البساطة والبراجماتية، بأن هؤلاء الجنود الذين يموتون أو يجرحون، أو يعانون في العراق يفعلون ذلك من أجله. فقد كان شعار المظاهرة المليونية الضخمة التي خرجت لمعارضة الحرب في فبراير 2003 هو لاتشنوا هذه الحرب باسمنا. وها هي المؤسسة العسكرية تشكو من أن من تتصور أنها تحارب باسمه ـ أي الإنسان العادي ـ لم تعد تنطلي عليه أكاذيبها.

وإذا كان هذا هو حال الإنسان العادي والجنود العائدين بعد أن سحبت الحكومة معظمهم، بالرغم من تحالفها الوثيق مع الولايات المتحدة الأمريكية، فإن الضمير الثقافي كان أسرع تململا وأقوى تعبيرا عن الموقف الجمعي المتذمر من تلك الحرب. فقد أخذ يعبر من البداية في شتى صيغ التعبير الأدبي والفني عن رفضه للحرب، ويعري سوءاتها، ويحذر من عواقبها. ولأن موضوعي هنا هو المسرح، فلابد من الإشارة إلى أن المسرح كان من أسرع الأشكال الفنية تعبيرا عن هذا القلق والتململ. فلم يكن المسرح في حاجة إلى انتظار كتابة أعمال جديدة، وإن جاءت هذه الأعمال بعد أقل من عام من انتهاء الحرب ثم توالت بعد ذلك، وإنما لجأ بسرعة إلى كلاسيكيات المسرح الكبيرة يعيد عرضها بتأويل إخراجي لا يخطئ الجمهور دلالاته بالنسبة لحرب العراق. وقد شاهدت في السنوات القليلة الماضية العديد من تلك العروض من مسرحيات شكسبير التاريخية التي كانت تنفذ وكأن حروبها تدور في الساحة العراقية، إلى رائعة يوربيديس الشهيرة (الطرواديات أو نساء طروادة) التي قدمها المسرح القومي وكأنها تجسد اليوم معاناة نسوة العراق، بسبب حرب لاتقل عبثية عن الحرب الطروادية التي شنت بسبب أمرأة تركت زوجها لأنها وقعت في هوى شخص آخر. إلى مسرحيتى برنارد شو (القديسة جون) و(الميجر باربارا) وقد منحا تأويلات عراقية جديدة، خاصة في (الميجر باربارا) التي تبرز دور صناعة الأسلحة، والتي تحالفت مع صناعة النفط في شن تلك الحرب الجائرة على العراق. كان هذا في العامين الأولين ثم تتابعت بعدها المسرحيات التي تتناول هذه الحرب بشكل نقدي مباشر، لا في بريطانيا وحدها وإنما في الولايات المتحدة كذلك التي كانت مسرحياتها من هذا النوع تحظي بإخراج بريطاني وهي لاتزال تعرض في أمريكا. ولا أستطيع هنا أن اقدم حتى مجرد قائمة بأسماء تلك المسرحيات، دون الخروج عن موضوعي، فهي كثيرة ومتتابعة كما قلت. فمنذ عام 2005 وحتى الآن لايمضي موسم دون أن تظهر فيه عدة مسرحيات جديدة تتناول حرب العراق، لا في المسرح التجريبي أو الهامشي وحده، وإنما على خشبة المسرح القومي نفسه الذي كان أول من قاد هذه الموجة بإخراجه لريتشارد الثالث على خشبة المسرح القومي، وقد ارتدي الملك وجيشه ملابس الجنود العصرية فور تورط بريطانيا في الحرب، وبتقديمه مسرحية دافيد هير (تلك الأشياء تحدث Stuff Happens) التي مسرحت أحداث شن الحرب وكشفت عن أكاذيبها، وعرت تناقضاتها. وقد توالت تلك الأعمال حتى بلغت ذروتها في تلك الملحمة المسرحية التي تتكون من ست عشرة مسرحية قصيرة عرضت طوال شهر أبريل 2008 في أربع مسارح وهي المسرحية التي اود أن أتوقف عندها بشيء من التفصيل.

مسيرة الكاتب وطبيعة العمل
مسرحية الكاتب المسرحي مارك ريفينهيل الجديدة (إضرب/ خذ الكنز/ كرر العملية Shoot/ Get Treasure/ Repeat) عمل مسرحي طموح بكل معنى الكلمة، لكاتب جديد من أكثر كتاب المسرح ا لانجليزي الجدد جرأة وحيوية. فقد وضعه عمله الأول (الاستبضاع والنكاح Shopping and Fucking) عام 1996 والذي قدمه مسرح الرويال كورت العتيد في مصاف النجوم من العمل الأول، ليس فقط لنجاح هذه المسرحية الواسع، وانتقالها للويست إند، وهو أمر نادر مع عمل مسرحي أول، ولكن أيضا لأنه استطاع أن يقتنص منذ عمله الأول باقتدار وتمكن درامي، وسخرية إنسانية ومضمونية موجعة، جوهر وضع الإنسان الانجليزي الذي اختزله عقد التسعينات في القرن الماضي إلى كان يستبضع ويمارس الجنس، في محاولة ناجحة لنفي كل حاجاته الإنسانية الأرقى، وتحويله إلى أداة طيعة ومسحوقة معا في آلة العولمة الجبارة. وعمل ذلك بطريقة استطاعت أن تجمع النقيضين: العمق الدرامي والنجاح الشعبي والجماهيري الواسع. ثم تتابعت مسرحياته بعد ذلك ونالت نجاحا مشابها. من (فاوست مات Faust is Dead) 1999و(حقيبة يد Handbag) عام 2000 إلى (بعض صور البولارويد الفاضحةSome Explicit Polaroids ) عام 2001 التي عرضت هي الأخرى في الويست اند، حي المسارح الناجحة، ثم (بيت الأم المرحMother Clap s Molly House) التي عرضها المسرح القومي عام 2002، بالصورة التي كرسته ككاتب مسرحي مرموق يفتتح عمله الجديد في المسرح القومي، بعد أقل من عشر سنوات من بدايته، بالرغم من جرأة مسرحياته ونغمتها الفاضحة في بعض الأحيان. وحتى مسرحيتيه (مغرم بك بشكل واضح Totally Over You) عام 2003 و(منتج Product) عام 2004 و(القطع / الجرح The Cut) و (المواطنة Citizenship) عام 2005. فهو من الكتاب القلائل الذين تمكنوا من التفرغ لعملهم المسرحي بسبب نجاح عملهم الأول، وواصل العمل منذ ذلك الوقت بهمة كبيرة وجدية واضحة. كما أن نجاحه الواسع ذاك لم يمنعه من العمل مع الفرق التجريبية، لأنه حريص على ارتياد أصقاع مسرحية جديدة وعلى التجريب المستمر في عمله المسرحي. وقد بدأ عمله الجديد ذاك الذي يتناول أثر حرب العراق على المجتمع الانجليزي كعرض تجريبي في مهرجان أدنبرة المسرحي في العام الماضي 2007 مع فرقة (بينزبلاو) التجريبية الشهيرة في المسرح الانجليزي بعد نجاح عرضه معها في (بركة بلا ماء Pool No Water) عام 2006.

ويستمد عمله الجديد الذي نتناوله هنا اسمه من عمليات برمجة الألعاب الرقمية الجديدة على الكومبيوتر وغيره من آلات اللعب المشابهة التي يدمنها قطاع واسع من الأحداث واليافعين. وقد استقى العنوان من اجتماع لمسوقي ومنتجي هذه الألعاب لمناقشة الشكوى من كثرة الكلمات بها. وفي هذا الاجتماع طلب أحد المديرين من المبرمجين الاهتمام بجوهر اللعبة وهو (اضرب، اقتنص الكنز، وكرر العملية). وتلخص هذه الألعاب في بنيتها الدائرية السيالة معا جوهر هذه البرامج الكثيرة التي تدر على أصحابها الملايين، وهو كما يقول العنوان بحق (اضرب، اقتنص الكنز، وكرر العملية) من جديد في نوع من دورة العبث التي لاتنتهي. وهو عنوان دال حيث أنه يومئ إلى مبدأين أساسين في اللعبة: لعبة الحرب على العراق، ولعبة البرامج الكومبيوترية معا، فغاية كل ضرب فيها هو الحصول على الكنز/ اقرأ النفط في حالة العراق، لكنك ما أن تحصل على الكنز حتى يفتح الأمر شهيتك لمزيد من اللعب/ العدوان، في دورة جهنمية لا نهاية لها، تؤدي إلى نوع من السعار الممزوج بالعمى. وقد بدا العمل بحفنة من المسرحيات في مهرجان إدنبرة المسرحي في العام الماضي، ولكنه واصل العمل على مسرحيات جديدة حتى بلغ عددها ست عشرة مسرحية، مما جعله يدعوها بدورة ملحمية من مسرحيات قصيرة An Epic Cycle of Short Plays. وهي بالفعل دورة ملحمية من المسرحيات المتجاورة والمتحاورة، لا بالمعنى السائد للملحمة باعتبارها عملا بطوليا، لأن هذا العمل المسرحي هو بالدرجة الأولى عمل لنفي البطولة بمعناها التقليدي القديم. ولكن بالمعني البريختي للمسرح الملحمي الذي يتوجه للمشاعر من خلال العقل ويطلب من المشاهد قدرا كبيرا من الفاعلية لا التلقي السلبي. وهو عمل يسعى فيه المسرح للقيام بدوره في كشف الوجع الاجتماعي العميق من ناحية، وفي خلق عمل يناظر في بنيته الإبيسودية طبيعة هذا الوجع وتفتته وتشتته وتشظيه.

ويتكون هذا العمل الملحمي من ست عشرة مسرحية قصيرة طول الواحدة منها نصف ساعة، وتعرض كل مسرحيتين منهما معا، في أربع مسارح من مسارح لندن الرئيسية (وهي المسرح القومي، ومسرح الرويال كورت، ومسرح الجيت، وفرقة بينزبلاو PainesPlough المسرحية). يعرض كل منها زوجين من هذه المسرحيات، أحدهما تدور في العراق بينما تدور الثانية في بريطانيا عادة. وتشكف المسارح الأربعة التي تشارك في هذا العمل الملحمي أن الكاتب حريص على الموازنة بين المسارح الكبرى من المسرح القومي والرويال كورت، والفرق التجريبية التي يعد مسرح الجيت وفرقة بينزبلاو من أكثرها جدية وشهرة. إذن فنحن بإزاء عمل احتضنته أكبر مسارح بريطانيا وألمع فرقها التجريبية الجادة. وهو في الواقع عمل يستحق هذا الاحتفاء. لأنه استطاع كما قلت في مستهل هذا المقال أن يقتنص في بنيته قبل موضوعه جوهر القضية التي يتناولها، وأن يستشرف في الآن نفسه تغير الحساسية المسرحية. فنحن إذن بإزاء عمل يدور لا في مسرح واحد، وإنما في أربع مسارح مختلفة، يستطيع المشاهد الحريص أن يشاهدها جميعا على مدار الشهر، ولكن ليس من الضروري أن يفعل ذلك، لأن كل ما يشاهده له استقلاله النسبي، وهو عمل ممتع في حد ذاته. خاصة وأن كثيرا من المسرحيات التي تدور في بريطانيا تبدو وكأنها لاعلاقة لها في أغلب الأحيان بالحرب وتبدو بعيدة عنها كل البعد، ولكنها متصلة بها في الوقت نفسه، بطريقة مراوغة وماكرة. فهناك أربع مسرحيات في كل مسرح من المسارح الأربعة التي تتناثر في شتى أرجاء العاصمة البريطانية، ولأنها مسرحيات قصيرة فإن كل مسرحيتين تعرضان معا. وقد كان من الممكن أن تعرض هذه المسرحيات في عرض طويل يستغرق نصف يوم أوحتى نهار كامل، لكن كيفية عرضها بهذه الطريقة الفريدة التي تتبعثر فيها أشلاؤها في أربعة أرجاء المدينة يجعل بنية العرض تناظر بنية أثر الحرب على المجتمع الانجليزي، وهو أثر متفرق يتخلل أرجاء المجتمع كله، ويؤثر على حياته بطريقة يصعب تجميعه معها في بنية خطية أو تسلسل طبيعي أو منطقي. ويتوزع بين جبهة الحرب في العراق وساحة المجتمع الانجليزي بتنويعاتها الواسعة. بل إن برنامج المسرحيات، يقول أنه يمكن للمشاهد أن يشاهد هذه المسرحيات أو يقرأها بأي ترتيب يشاء، فلكل مسرحية استقلالها عن المسرحيات الأخرى، ولكنها جميعا تكشف لنا عن هذا الأثر المعقد والمركب والمراوغ لتلك الحرب على المجتمع الانجليزي. وكيف يتغلغل في جغرافيا المجتمع المكانية والاجتماعية والبشرية معا. ومع أنه من المستحيل الحديث بأي قدر من التفصيل عن عمل بهذا القدر من التراكب والتشابك والتعقيد، ينسج تفاصيل الوجع القومي الناجم عن شعور قطاعات كبيرة ممن عارضوا الحرب ولم يستطيعوا التأثير على قرار مجتمعهم بشأنها بالعجز والإحباط، في مقال واحد، لأن كل مسرحية من مسرحياته الست عشرة تستحق التوقف عندها وتمعن كل تفاصيلها ودلالاتها المختلفة. فأنني أود أن أشير إلى أن أكثر ما أعجبني في هذا العمل هو أنه من الأعمال الأدبية القليلة التي تستشعر في بنيتها قبل موضوعها تغيرا جذريا في الحساسية الفنية، وتسعى إلى طرح حلولها الدرامية له.

وقد استشعرت بوادر هذا التغير مع بدايات القرن الجديد في أعمال المسرحية الفرنسية الكبيرة آريان ميشكين وخاصة في عمليها الكبيرين (القافلة) الذي شاهدته في (مسرح الشمس) الشهير في ضاحية فينسان الباريسية، وكتبت عنه في حينها. وقد امتد العمل في صورته النهائية إلى ثمانية ساعات. واستطاعت بنيته الإبيسودية أن تقتنص تفاصيل معاناة المهاجرين من الفقر أو الحرب أو الاضطهاد الذين يخاطرون بكل شيء للبحث عن أرض جديدة وأمل جديد. ثم في عملها التالي (اللحظات العابرة) الذي يعتمد هو الآخر على البنية الأبيسودية ويمتد عرضه لثماني ساعات، وقد شاهدته في مهرجان آفينيون في العام الماضي 2007، وكتبت عنه لقراء (الكلمة) قبل شهور. ولكن ميشكين، وبسبب قدومها على تلك المغامرة دون سند قوي من الكتابة الدرامية ـ بعدما تخلت عن فرقتها كاتبتها المسرحية المرموقة هيلين سيكسو ـ كانت لاتزال محكومة بالبنية الخطية، وهي بنية معادية في جوهرها للبنية الأبيسودية الجديدة التي تستشرفها. وهذا ما تحررت منه ملحمة رايفينهيل المسرحية أو بالأحرى دورته الملحمية، التي أطلق عليها كاتبها اسم الملحمة، برغم أنها تعري خطاب البطولات الزائفة، ولا تصور أي بطولة، بل بالعكس تعمد إلى تجسيد غضب الإنسان العادي وقهره وأحباطاته الناجمة عن شعوره البالغ بالعجز عن وقف الحرب، وبالذنب للتورط بصروة غير مباشرة في حمل تبعاتها التي لاذنب له فيها أو جريرة.

تفتت الوجع وتشتته وتشظيه
قلت أن العمل يتكون من 16 مسرحية قصيرة، لكل منها استقلالها الدرامي كمسرحية من فصل واحد، ولكنها كلها تتفاعل وتتحاور وتتكامل في بنية غير خطية تعتمد على جدل التغاير والتجاور. ويستطيع كل مشاهد أن يخرج منها بفهمه الخاص وانطباعه الناتج عن الترتيب الذي شاهدها به وإن كان جل المشاهدين الذين تتبعوا هذا العمل وطاردوه في أنحاء لندن وأحيائها المختلفة ـ وانا منهم ـ قد شاهدوا المسرحيات الثمانية الأولى بنفس الترتيب، لأن المسرحيات الأربع التي عرضها المسرح القومي عرضت أولا، ثم عرضت بعدها في الأسبوع التالي مسرحيات الرويال كورت الأربع، أما المسرحيات الثمانية الأخرى قد تزامن عرض سبعة منها معا في الفرقتين التجريبيتين، وأذيعت المسرحية الأخيرة بعد انتهاء عرض جميع المسرحيات في البرنامج الثالث، وهو البرنامج الثقافي، في راديو هيئة الإذاعة البريطانية. وإذا كان العمل كله يحمل اسما واحدا (أضرب/ اقتنص الكنز/ كرر العملية) وهو العنوان الذي يحمله الكتاب المطبوع الذي ضم بين دفتيه المسرحيات كلها، وكان يباع بسعر مخف «أقل من نصف ثمنه» أثناء تلك العروض. فقد وقد لجأ الكاتب إلى حيلة تناصية دالة في تسمية مسرحياته القصيرة عن طريق استعارة اسماء أعمال مشهورة لأغلب مسرحياتها. فهناك (الجريمة والعقاب)، و(الفردوس المفقود) و(الأوديسة) و(بناء الأمة) و(الميكادو) و(الأم) و(الطرواديات) و(نساء عاشقات) و(الحرب والسلام) و(حرب العوالم) وهكذا. وتوشك العلاقة التناصية مع تلك الأعمال أن تكون علاقة تضاد أو مفارقة لإرهاف وعي القارئ بمدى التغيرات القيمية والموقفية التي انتابت الواقع المعاصر. ولنبدا بالمسرحيات الثمانية الأولى التي اشترك معظم المشاهدين في مشاهدتها بنفس الترتيب، بسبب توقيت عرضها في أسبوعين متتاليين، وفي مسرحين كبيرين.

كانت مسرحيتا (الميكادو) و(الأوديسة) هما ما افتتح بهما المسرح القومي هذه الدورة الملحمية من المسرحيات القصيرة في الأسبوع الأول من أبريل 2008. وتلعب أولاهما على الفهم الخاطئ الذي ينطوي عليه التناص مع عنوانها الشهير، والذي يشير إلى سهولة الوقوع في خطاء فهم الثقافة الأخرى. لكن ميكادو ريفينهيل تبدو وكأنها مسرحية لاعلاقة لها لا باليابان ولا بالصين، ولا حتى بعملية غزو العراق، ولكن هذا كله بعض من مكرها المراوغ. فهي مسرحية عن زوجين/ رفيقين مثليين يجلسان على دكة خشبية في حديقة ويتجاذبان أطراف حديث بالغ الهدوء والحميمية، يبدأ بحلمهما البسيط عن بيت ريفي بحديقة واسعة وأراض خضراء محيطة به. لكن هذا الحلم الذي عملا من أجله سنينا سرعان ما يتوارى في اللحظة التي يشعر أصغر الرجلين أنه قاب قوسين من التحقق. فقد عاد أكبرهما عمرا لتوه من عند الطبيب الذي أخبره أن السرطان الذي استأصله قبل عام عاد من جديد، وألا أمل له في الشفاء منه هذه المرة. وقد تيقن أن أيامه أصبحت معدودة، وإن كان الطبيب قد امتنع عن أن يتنبأ بالمدة الباقية له في هذه الحياة ما جعله عاجزا عن التخطيط لأي شيء في المستقبل، والانجليز ولوعون بالتخطيط المسبق لكل شيء. وكان الزوجان وقد عاشا معا لسنوات طويلة قد خططا للانتقال للحياة في فرنسا، وقد استعلم الأصغر عن ثمن بيتهما فاكتشف أنه ـ وبعد ارتفاع أسعار المنازل ـ يكفي لشراء بيت فرنسي ريفي محاط بحديقة واسعة، وللحياة الرخية بما يتبقى من ثمنه كي يرتاح الأكبر بعد نقاهته من العملية، ويعيشان حياة أكثر هدوءا وأقل توترا. لكن الأكبر وقد عاد من زيارة الطبيب بتلك الأخبار السيئة يجد نفسه وقد امتلأ غضبا وغيظا. فيقول له أن يتمنى لو كان باستطاعته أن يمد يده إليه ويلمسه، فينتقل السرطان منه إليه. فيثير هذا غضب الأصغر، ويبدأ في مساءلته عن سر تلك العدوانية، وهو يظن أنهما متحابان. فيرد عليه بأنهما متحابان بالفعل، ولكنه ومنذ أن أخبره الطبيب بنتيجة التحليل، وموته الوشيك وهو يشعر بأنه يريد أن ينفجر بين الناس، وأن يأخذهم معه. وقد استغرب هذا الشعور من نفسه ولكنه شعر به في المترو، وشعر به في الطريق إلى موعده معه، وأراد لو كان باستطاعته أن ينفجر ويأخذ كل هؤلاء السادرين عن مأساته معه. وتنتهي المسرحية دون أن تظهر فيها إشارة واحدة للعراق. لكنها في الوقت نفسه مسرحية عما جرى في العراق، وعن هؤلاء الذين انهارت حياتهم العادية بشكل لامعقول فأخذو ينفجرون بين الناس ويأخذونهم معهم. فإذا كان مريض ارتد له السرطان بعد جراحة مخفقة يشعر بتلك الرغبات الانتحارية المدمرة، فكيف بمن عصف سرطان الاحتلال بأوطانهم في العراق أو فلسطين أو أفغانستان. وكأن السرطان الذي الذي تتحدث عنه المسرحية هو استعارة درامية لسرطان احتلال العراق، أو احتلال فلسطين وتدمير كل ما كان فيها من حياة عادية بسيطة يعيشها بسطاء يحلمون بالأمن والبيت الهادئ والأرض الخضراء.

وإذا كانت علاقة هذه المسرحية بالعراق علاقة استعارية، قد لايفطن إليها غير اللبيب، فإن المسرحية التي رافقتها بالعرض (الآوديسة) لا تترك لمشاهدها أي شك في تلك العلاقة. فهي تبدأ بفرح الجنود الانجليز في العراق بأخبار عودتهم الوشيكة للوطن، وأحلامهم المرتقبة بعد خلاصهم القريب من هذا الججيم العراقي، وهي أحلام إنسانية بالغة البساطة بالنوم في البيت، أو أكل طعام الأم، أو السهر مع الحبيبة... إلخ. وأثناء ذلك تعرض علينا المسرحية شيئا مما حققوه بالقبض على الزعيم وبهدلته، والكشف عن فاعليتهم أو بالأحرى همجيتهم في التعامل مع أعدائهم. ولكن سرعان ما تأتي الأخبار بأنهم لن يعودوا إلى الوطن، بل سيرسلون في مهمة أخرى في حرب جديدة تتطلب منهم نشر الأكاذيب المعهودة والمكرورة عن الحرية والديموقراطية في مكان جديد. ومن المفارقات المثيرة للأسى في هذه المسرحية أن إحدى فتيات المنطقة التي يعسكرون فيها، وقد صادقت الجنود تحثهم عند تذمرهم من الأخبار الجديدة على الاستجابة لنداء قادتهم، فقد تلقت رسالة من صديق لها في تلك البلاد يخبرها فيها عن اعتقال سلطاتها لأبيه وتعذيبه. وأن عليهم الذهاب لأنقاذ هذا الأب ونشر الحرية والديموقراطية بتلك الأصقاع. إذن فالأوديسة الجديدة هنا ليست في تيه عوليس القدري، وإنما في أن لعبة الحرب (أضرب/ اقتنص الكنز/ كرر العملية) لعبة مسعورة لا نهاية لأوديستها التي تنهض على تتصنيع الأكاذيب لتغطية أهدافها الحقيقية.

أما العرض التالي بالمسرح القومي فقد كان فيه مسرحيتان هما (عدم التسامح / التعصب) و(الجريمة والعقاب)، تبدو أولهما، وهي مسرحية ممثل واحد، أو بالأحرى ممثلة واحدة، وكأنه لاعلاقة لها بحرب العراق على الإطلاق. فهي عن امرأة عادية، زوجة وأم لصبي في المدرسة، تعاني من الام القولون العصبي فيما يبدو، وتحكي لنا عن مختلف محاولاتها للتغلب على هذا المرض وآلامه التي لاتطاق، والتي تضربها بشكل حاد غير متوقع وغير منتظم. ومن خلال فلتات اللسان، وتبلور شخصية المرأة وتواريخها، نعرف شيئا عن أفكارها وتعصاباتها ضد الآخرين، ونكتشف بالتدريج أن الداء الحقيقي الذي تعاني منه هو عدم التسامح ذاك، وأنها برغم عدم تسامحها وإحساسها التاريخ بالتفوق ـ وهو من مصادرات الشخصية الغربية المعاصرة ـ لا يستطيع التعايش مع إحساسها بفقدان الموقع الأخلاقي الأعلى عقب غزو بريطانيا للعراق. وإن عدم قدرتها على تعليل هذا الفعل ليس منفصلا بأي حال عن الآلام التي تفت في أحشائها الداخلية وتوهن ثقتها في نفسها، وتزعزع الكثير من رواسيها القديمة. وإذا ما انتقلنا إلى المسرحية التالية التي تعرض معها وهي (الجريمة والعقاب) سنجد أن التسمية فيها تسعى لإرهاف وعينا بأن جرائم هذه الحرب تمضي بلاعقاب. فنحن هنا بإزاء عسكري أمريكي أو بريطاني يستجوب أمرأة عراقية، كانت من النسوة اللواتي ظهرت صورهن على شاشة التليفزيون أثناء تصوير إسقاط تمثال صدام حسين عند الاستيلاء على بغداد في ذروة حرب غزو العراق، وقد اعجب بها الجندي من وقتها، وأطلق لخياله العنان في الاستحواذ عليها لو قابلها، وما أن رآها بعد أكثر من عام في الواقع حتى قبض عليها وأخذ في استجوابها بغية غوايتها، فالاستجواب واستخدام آليات السلطة وتراتبها هي أداة إغوائه، وهي وسيلته للإيقاع بها في هواه.

فقد كان كثير من عسكر الأمريكيين والانجليز تحت وقع صور ارتماء نسوة فرنسا الجميلات، وإيطاليا إلى حد أقل، على الجنود المحررين في الأفلام السينمائية، واستقبالهم بالورود والقبلات. ولذلك فهو يريدها أن تقع في هواه وتحبه، بملء إرادتها، فقد حررها وجلب لها الحرية والديمواقراطية كما يتشدق أمامها بصورة ممجوجة ومكرورة تجعلنا ندرك خواءها من فرط تكرارها. ولكنها ترفض بكياسة في أول الأمر ثم صراحة في آخره، ويكون رفضها الموارب هو الاختبار الحقيقي الملموس لما يتشدق به من حرية، حيث لا يطيق حريتها في رفض محتلها. ومن خلال التحقيق لا تتكشف أمامنا أكذوبة الحرية والديموقراطية فحسب، ولكن تكشف لنا المسرحية كذلك عن تفاصيل لنا مهزلة إسقاط التمثال في عملية أخراجية هوليودية مترعة بالاختلاقات والأكاذيب، وجديرة بجوبلز مهندس النازية والأكاذيب الكبيرة. فقد تم القبض على مجموعة من العراقيين واحتجازهم في انتظار لحظة ذروة الإرسال التليفزيوني في الغرب لأسقاط التمثال بعد أن تمت زعزعته، وأمرهم بالفرح والتهليل أمام الكاميرا. وقد قبض على هذه المرأة يومها وهي متوجهة للسوق واحتجزت لساعات مما كان له عواقب وخيمة على أسرتها بسبب غيابها غير المتوقع. ونكتشف في الوقت نفسه مدى حاجة الجنود لتعاطف الشعب العراقي معهم، ومدى كراهية الإنسان العادي مثل هذه المرأة لهم، فقد فقدت بسبب الغزو زوجها وابنها، وكانت متوجهة اليوم ـ يوم القبض عليها والتحقيق معها ـ لزيارة حماتها الجريحة في المستشفى حينما قبض العسكري عليها. وسرعان ما يفضي هذا التحقيق المهزلة إلى كارثة قتل العسكري للمرأة العراقية، بعدما ترفض كل محاولته لغوايتها، وبعدما نفد ما في جعبته من ترغيب وابتزاز عاطفي وتهديد، وتصرخ في وجهه بأنها تكرهه، تكرهه فلا يملك إلا أن يطلق النار عليها فيرديها صريعة. وتنتهي المسرحية وقد وجه العسكري مسدسه لرأسه راغبا في الانتحار، ولكن المسرح يظلم دون أن نسمع الطلقة. وتمضي جريمته النكراء بلاعقاب، فقد زور أمام المشاهدين طوال التحقيق وقائعه في جهاز التسجيل الذي كان على مكتبه كي يغطي على فعلته النكراء.

بنفس منطق التضاد التناصي ذاك نجد أن مسرحية (الأم) التي بدأت بها عروض مسرح الرويال كورت لاتقدم لنا أما صلبة مناضلة كأم مكسيم جوركي الشهيرة، ولا حتى (الأم شجاعة) عند برتولد بريخت، ولكنها تطرح علينا أما بسيطة من الطبقة العاملة، عانت طويلا من الاكتئاب والإخفاق، ومن أعراض الحبوب المهدئة التي وصفها لها الطبيب، و بعدما فقدت عملها بعد ثلاثين عاما من العمل، ولم يعد لها غير البطالة والأمل في أن تربح تذكرتها الأسبوعية الياناصيب القومي الضخم، الذي يقوم بدوره في تنويم الملايين. وقد أحست أن سنوات معاناتها قد أثمرت حينما التحق ابنها «دارين» بالجيش بعد ضياع طويل. لكنها واهمة، فها هما جنديان ـ رجل وامرأة ـ يدقان بابها وقد أرسلا لإبلاغها بموت ابنها في الجبهة، فينهار مع قدومهما كل العالم الذي تصورت أنها قد شيدته. ولكنها لاتستسلم لذلك الانهيار، وإنما تريد طوال مدة المسرحية أن تدفع الخبر الرهيب عنها، وكأنها تقول بكل تصرفاتها: دع هذا الخبر يتأخر! وأن تمنعهما من إبلاغها به، وقد حدست به حينما دق الجنديان بابها. ومن المفارقات الدرامية المؤثرة في تلك المسرحية، أن الأم برغم أنها تعاملت مع الموقف الصعب بطريقتها المراوغة، ونجحت في تأجيله تصريحهما بالنبأ التعيس حتى قرب نهاية المسرحية، حولت المسرحية إلى لعبة شيقة لتبادل المراكز، وطلبت منهما أن يخبرا رؤسائهما أنها لم تتلق الخبر بسهولة، وأنها لم تجلب لهما ألبوم صوره، وإنما تلقته بأردأ شكل ممكن، وهو ما تجسده المسرحية أمامنا على الخشبة حقا. وما أن ينجح الجندي بعد لأي في التفوه بالصيغة المحفوظة التي يردد فيها العبارات المكرورة عن شجاعة الجندي وأن أمته لن تنسى تضحيته من أجلها إلخ هذا المحفوظ، حتى تعلق الأم على الأمر ساخرة، هل هذه هي الصيغة الرسمية؟ وكم عدد المرات التي كررت فيها مثل هذه الرسالة؟ ولكن ما أن ينصرف الجنديان بعد تبكيتها لهما، وسخريتها المريرة منهما، حتى تنهار الأم هي الأخرى وتنفجر في بكاء مرير.

إذا كانت هذه المسرحية الأولى قد دارت في بريطانيا فإن المسرحية التي عرضت معها (بناء الأمة) قد دارت في العراق، ولكن ليس بين عساكر الغزو، فقد تناولنا في (الأم) بعض مأساتهم، ولكن بين أربعة من الفنانين البريطانيين الذين ذهبوا إلى العراق «لبناء الأمة» المحطمة، أو بالأحرى التي دمرتها بلادهم، عن طريق الفن. وتدريب بنيها على الحياة الرخية الجديدة في ظل الحرية والديموقراطية. ومن البداية سعى الإخراج إلى قلب الموقف، فدخل الممثلون المسرح والقاعة مضاءة، وبدأوا يصفقون لنا نحن الجمهور، ثم توجهوا بحديثهم لنا مباشرة، وكأننا جمهور عراقي، بالحديث عن بلدنا المخرب وحضارتنا العريقة التي دمرت، وكيف تأثروا بمشاهد الدمار التي طالعتهم في كل مكان منذ أن هبطوا من الطائرة. لا المباني وحدها التي تحولت إلى أكوام من التراب والخرسانة وإنما البشر أيضا، فمن مات مات أما الأحياء فهم مجرد حطام. ومن هنا فقد جاء هذا الفريق من الفنانين لبناء الأمة من خلال الفن وتضميد جراحها. ويحدثنا أحدهم عن أنه كشف عن تاريخ هذا البلد في الموسوعات قبل حضوره، وهاله أنه كان مهد الحضارات، وأنه اخترع الكتابة، وكتب واحدة من أجمل الملاحم، ورسم وشيد التماثيل العملاقة، وأنه وأنه إلخ الأمجاد العراقية القديمة منذ آلاف السنين، بينما كانت انجلترا سادرة في ا لجهل والظلام، لاتسطيع إلا اصطياد الجاموس، وعلى أكثر تقدير سلخه. ولكن الآن! لاشيء سوى الدمار! صحيح ـ يقول لنا ـ أن الجيش قد انسحب، ولكن بقيت مهمة بناء الأمة، والنهوض بحطام البشر.

وقد تطوع هؤلاء الأربعة لبنائها بالفن: أولاهما رسامة تستخدم الرسم للشفاء من الأوجاع، والثاني كاتب، والثالثة راقصة، والرابع فنان تركيبي. ويشرح لنا كل منهم كيف جاء إلى هذا الفن، وكيف أنه يستطيع أن يستخدم فنه لعلاج هذا الشعب، أو بالأحرى لبناء الأمة. ونكتشف أن أيا منهم لايملك إلا خبرته الشخصية، فالمفارقة المرة هي أن المسرحية تتحول بسرعة إلى عمل عن هؤلاء الأربعة وكيف استطاع الفن أن يشكل خلاص كل منهم الفردي، الرسامة الضائعة، والفنان التركيبي الذي كان ماركسيا ثم انهار مع انهيار أوروبا الشرقية، والراقصة التي اغتصبها أبوها وهي طفلة وأمضت أعواما تتخلص من أثار هذه التجربة الدامية حتى حررها منها الرقص، وأبن عامل المناجم الذي انهار عالمه وعالم أسرته ومجتمعه كله حينما أغلقت حكومة ثاتشر المناجم، فبنى عالما جديدا بالكتابة. وأن باستطاعتهم تعميم تجربتهم تلك على العراقيين، لذلك ما أن يناشدونا بأن نتقدم منهم وأن نساعدهم كي يساعدونا، حتى لا يجيب على دعواهم أحد، وبعد لأي تجيء النهاية الكابوسية عندما تصعد ممثلة إلى المسرح من بين المتفرجين، فينقضوا عليها جميعا كالكواسر. كل يريد إنقاذها بفنه، ولكنهم يكتشفون أن حربهم القذرة قد سملت عينيها، وقطعت لسانها، وأجهزت على كل أسرتها، فتقول الراقصة ولكنها لاتزال تستطيع الرقص، والكاتب أنها تستطيع الكتابة، والفنان التركيبي أنها تستطيع مشاركته في تركيب ما، ولكنها تزيحهم جميعا، وقد تشنج جسمها، وهم يصرخون أنها ترقص: أتراها ترقص مذبوحة من الألم كما نقول؟! ويظلم المسرح علينا وعليهم معا. وقد اكتشفنا مأساة المفارقة وانتصار الكذب الفظيع، وانسداد الأفق من خلال هذا الإظلام الرمزي الذي يلف الجميع: الممثلين والجمهور على السواء.

أما المسرحيتان التاليتان في عروض مسرح الرويال كورت فقد كانتا (الخوف والبؤس) و(الحرب والسلام). تدور أولاهما في بريطانيا بين زوجين من الطبقة الوسطى يتناولان عشاءهمان ويتحدثان عن الليلة التي حملت فيها بأبنهما أليكس، مدار اهتمام الأب وبؤرة حديثه، بينما ينصتان معها إلى صوت تنفس طفلهما في غرفته على جهاز الاتصال الداخلي. ثم يسألها هل كانت هادئة كلية ليلتها أم لا؟ وينزعج كثيرا عندما تخبره بأنها شعرت وكأنه يغتصبها تلك الليلة وفي غيرها من الليالي، حيث تشعر أنه لا يمارس الحب معها، وإنما يمارس نوعا من الكراهية، بالرغم من أنها تحبه. ويؤكد لها أنه هو الآخر يحبها، فهي ملاذه الأساسي في هذا العالم، وهو أيضا ملاذها كما تؤكد له. وتعترف بأنه يعمل كل ما في وسعه ليوفر لهما حياة رغيدة أمنة. لكنها لاتستطيع أن تنفي إحساسها بالخوف من عنفه أحيانا. ويحاول تغيير الموضوع بالحديث عن طفلهما وكيف يريد تنشئته وحمايته من كل الأخطار، فيحذرها من أن يعلم أن ثمة توتر بينهما، ناهيك عن شعورها بالاغتصاب ليلة حملها به. وألا تسمح له بمشاهدة الأخبار، وخاصة أخبار الغزو. وتستمر المحادثة، وكلما ازداد التوتر كلما ازدادت رغبتهما في حماية طفلهما من هذا العالم الموبوء من المدمنين، والإنتحاريين، والنساء المعتوهات، وفي توفير الأمان له، فالأمان ـ كما يتفقان معا ـ هو أهم شيء في العالم. ويبدآن بالتدريج في الكشف عن مخاوفهما، وعن مشاعرهما الحقيقية تجاه الحي الذي يعيشون فيه، والذي يتفقان في أنه ليس أفضل مكان لنشأة أليكس بالرغم من ارتفاع أسعار العقارات به، وهو الأمر الذي استفادوا منه كثيرا، لكن الزوج يريد بيئة آمنة لابنهما، ويفكر في الانتقال إلى مجتمع جديد محاط بالأسوار وتعارض الزوجة الأمر وتستبشعه لما تعنيه مثل هذه المجتمعات المسورة الجديدة من تحيز ضد الأقليات. وعندئذ يسمعان صوت بكاء طفلهما، فتسرع الأم إلى غرفته وتجده مفزوعا من رؤية جندي بلارأس، وهو الجندي الذي يمر أمامنا في المشهد دون أن يلحظه الزوجان. وعندما تعود الأم يكون فزع طفلها قد تغلب على كل اعتراضاتها، وتوافق الأب على ضرورة بحث موضوع الانتقال إلى مجتمع مسور بجدية، ويذهبان معا للنوم وقد تم الصلح واختفى التوتر.

إذن نحن هنا أمام حالة من الذعر الاجتماعي ـ «الخوف والبؤس» كما يقول العنوان ـ الذي يبرر لا الحرب وحدها، وإنما كل الإجراءات الأمنية التي تتخذها المجتمعات الغربية باسم محاربة الإرهاب، أم ترى أن المسرحية تعرض علينا حقا النتيجة الحتمية لتلك الإجراءات والتي ستقود إلى مجتمعات مسورة. وهي المجتمعات التي بدأت تظهر عندنا أيضا في المنطقة العربية لحماية من كونوا ثرواتهم بالفساد، وتسببوا في ذلك التفاوت المريع في الثروة. أما المسرحية التالية (الحرب والسلام) فتوشك أن تكون تكملة لتلك المسرحية حيث تدور بين طفل في السابعة، يظهر له جندي مدمى لا رأس له، بل إن الطفل يدعى أليكس، وكأنه بالفعل طفل الزوجين. وتأخذ شكل حكاية من حكايات الأطفال بالرغم من أنها تمثل أمامنا على المسرح، حيث لا ينطق كل من الشخصيتين بحواره، وإنما يسبقه دائما بوقال أليكس، أو وقال الجندي وهي تقنية تساهم في خلق نوع من التغريب وتأكيد المسافة بين المشاهد وما يدور أمامه على المسرح. ولكن تلك الحكاية التي تبدو وكأنها من حكايات الأطفال سرعان ما تتكشف عن كوابيس مرهقة، وتكشف لنا عن أن الطفل الذي يخطط أبواه لإنقاذه من هذا العالم الفاسد لاسبيل لإنقاذه أبدا، لأن هذا العالم الفاسد يقتحم غرفة نومه كل مساء. فلا مهرب منه، ولا براءة معه، حتى براءة الطفولة لأن المسرحية لا تنتهي إلا وقد قتل أليكس الجندي. وأصبحت يداه ملطختان بالدم مثله، بعدما كان يتغنى ببراءته وكماله، وبأن الجندي يمثل القبح والبشاعة.

والواقع أن هذه المسرحيات الثمانية التي عرضتها، والثمانية الأخرى التي لم أتطرق لها وهي (صراع شرس) و(نساء عاشقات) و(الطرواديات) و(الحب: ولكني لا أفعل ذلك) و(الفردوس المفقود) و(حرب العوالم) و(غسق الآلهة) و(أمس وقع حادث) تكمل بقية تفاصيل تلك البانوراما الواسعة التي تتبع آثار تلك الحرب الدامية على المجتمعين الانجليزي بالدرحة الأولى والعراقي بالدرحة الثانية، وتمارس معظم هذه المسرحيات تناصها مع الأصول التي أخذت عنها عناوينها إما بالتضاد والمفارقة، أو بالتماثل والحوار كي توسع أفق التجربة الدرامية، وكي تبقيها فاعلة خارج مواضعات اللحظة الحضارية والتاريخية التي صدرت عنها. وكل ما قدمته بصددها هو مجرد إطلالة سريعة على بعض تلك المسرحيات أرجو أن تستثير القارئ لقراءتها، أو حتى المترجم لترجمتها إلى قراء العربية.فهذه الدورة الملحمية من المسرحيات القصيرة تستحق الترجمة بحق، لأنها تقدم ردها البليغ على ما في الخطاب السياسي والإعلامي عن الحرب من سخف وضحالة، وتكشف عن خواء كل الشعارات التي تذرعت بها بريطانيا لتبرير حربها العدوانية على العراق، والتي يعاني منها المجتمع الانجليزي، كما عانى منها المجتمع العراقي المكلوم ولايزال.