يتقصي الناقد الفلسطيني هنا طبيعة العلاقة بين الرواية والقومية وأدور الرواية وجمالياتها في الإفصاح عن الوعي القومي، وبلورة الذاكرة، والتعرف على مآل الأمة، والتعامل مع إشكالياتها.

الرواية والقومية

رحلة العرب من اليقظة إلي السقوط

فيصل درّاج

يحتل موضوع الرواية والقومية مكانا واسعا في الدراسات الأدبية لأسباب عديدة: أولها الربط بين تكوٌن الظاهرة القومية، في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وصعود الرواية كجنس أدبي حديث، وثانيها تأكيد دور الرواية في الإفصاح عن الوعي القومي ونشره، كان ذلك عن طريق تصوير ماضي مجيد ينبغي بعثه ومحاكاته، أو التبشير بمستقبل مشرق يعكس طموحات الأمة الصاعدة. وإذا كان هذان السببان يجدان في تاريخ الأدب حيٌزا واسعا لهما، فإن السبب الثالث يصدر عن دراسة الأساليب الأدبية، التي ترصد العلاقة بين أسلوب الروائي ووعيه القومي، معتبرة الأسلوب إفصاحا عن الوعي ومرآة له. تعيٌن هذه الأسباب الرواية حيٌزا كتابيا نوعيا، يصوغ جوهر الأمة، كما يرغب أفرادها أن تكون.

لا تأخذ دراسة العلاقة بين القومية والرواية العربية بالمنهج الذي يأخذ به مؤرخو الرواية الأوربيون، بسبب اختلاف الشروط التاريخية، التي أنتجت الرواية والقومية العربيتين. فلم ترتبط القومية العربية، في زمن ولادتها، بثورة قومية، قادتها طبقة مهيمنة منتصرة، حال البرجوازية الفرنسية علي سبيل المثال. ولم تتعرٌف الرواية العربية علي دولة قومية، تؤمن لها شروط الازدهار والانتشار. فقد صدر الوعي القومي، كما ظهور الكتابة الروائية، عن وعي حداثي سبق مجيء الدولة الوطنية. ولعل حداثة هاتين الظاهرتين هو ما حدٌد علاقتهما بالدولة العربية، بعد الاستقلال الوطني، فتطوٌرا في شروط الصعود القومي، بالمعني النسبي، وأصابهما التبدٌل والتراجع في الشروط المغايرة. وبسبب خصوصية العالم العربي الذي كان مستعمرا، وبقي هدفا استعماريا، شكٌّل حلم التحرر الوطني عنصرا داخليا في الوعي الروائي للعالم. ذلك أن الشرط الاجتماعي الحداثي، الذي لا تنهض الرواية اجتماعيا إلا به، لايستوي من دون تحرر وطني حقيقي.

تطلٌعت الكتابة الروائية، منذ البداية، إلي مجتمع عربي تتحقق فيه الحداثة الاجتماعية والتحرر الوطني في آن. أقام هذان الهدفان فرقا، في المنظور الموضوع، بين الرواية العربية والرواية الأوربية، علي اعتبار أن شروط الفرد المغترب، وهو محور الكتابة الروائية بشكل عام، تختلف من مجتمع إلي آخر ـ فإذا كان اغتراب الفرد في الرواية الغربية يعود إلي أسباب تلت تحقق الحداثة الاجتماعية وانتصار الدولة القومية، فإن اغتراب الإنسان العربي صدر، ويصدر، عن أسباب مغايرة: فلا الحداثة الاجتماعية قد تحققٌت، ولا التحرر القومي عثر علي مآله الصحيح، ولا الدولة القومية القائدة المهيمنة برهنت عن وجودها. رصدت الرواية العربية، والحال هذه، شكلين من الاغتراب: اغترابها الذاتي، ذلك أنها لا تصبح ظاهرة ثقافية اجتماعية إلا في مجتمع ديمقراطي يتمتع ببيئة ثقافية راسخة، واغتراب الإنسان العربي الذي حلم، قبل الاستقلال الوطني، بعصر عربي جديد يجمع بين الازدهار الاجتماعي، والوحدة العربية، وهزيمة المشروع الصهيوني. 

الاغتراب والذاكرة القومية
عيٌن الاغتراب، في شكليه، الرواية العربية ذاكرة قومية سردت صعود الأحلام العربية وأفولها، كما لو كانت الرواية ساردا يقظا نزيها، يبشٌر بآمال واسعة ويمحوها في نهاية الحكاية. آية ذلك ثلاثية نجيب محفوظ عن ثورة مصر عام 1919، ورواية توفيق يوسف عواد (الرغيف) عن العروبة المنتصرة، بعد خروج الاستعمار العثماني، وصولا إلى رواية الثورتين الجزائرية والفلسطينية، التي حملت رايات التفاؤل وقالت، لاحقا، بتشاؤم مطلق السراح، وهذه الذاكرة، التي تحذٌر من الهزيمة قبل وصولها، هي التي تملي علي الروائي العربي أن يكرٌر مواضيعه إلي حدود المراوحة، منددا بالقمع والخراب الاجتماعي وتجدٌد الهزائم القومية، وبسلطات سياسية متكاثرة تدمٌر الكرامة وتستأنس الهوان.

انطوت الرواية العربية في القرن العشرين علي ثلاث مقولات متلاحقة : التفاؤل الطليق، الذي أعلنه توفيق الحكيم في (عودة الروح) وطه حسين في (دعاء الكروان) وتوفيق يوسف عواد في (الرغيف)، واستأنفه حنا مينة وجبرا ابراهيم جبرا والطاهر وطار إلي نهايات ستينات القرن الماضي تقريبا. بعد التفاؤل جاء نقيضه، وأخذ التشاؤم أبعادا شاسعة في أعمال كثيرة أخري. بين التفاؤل والتشاؤم ولدت وتمدٌدت مقولة الاحتجاج، التي جعلت من ثنائية الدولة الجلاد/ والمواطن الضحية قواما لها، راثية ماضييا قريبا وناعية مستقبلا لا أمل فيه. أخذت الرواية المتفائلة ببنية حكائية بسيطة، يتوسٌطها بطل رومانسي يستدعي المستقبل الذهبي إلي الحاضر، ويري في الحاضر مرضا عابرا سريع الرحيل. بيد أن هذه البنية البسيطة، التي تسرد حكاية الخير المنتصر علي نقيضه، أعطت المكان، لاحقا، لبنية روائية معقدة، تأمرها الرقابة السلطوية بالترميز وتكثير الأقنعة، ويأمر الإخفاق القومي المروٌع بالتخلي عن اليقين واللواذ بالتساؤل والأحكام المؤجلة.

أعطي عصر النهضة، أو ما دعي بذلك، الرواية العربية ولادة أولي، محيلا علي عناصر حداثية متعددة: ظهور الأحزاب السياسية، التوسع النسبي للفضاء السياسي، وانتشار الصحافة وتوسع دور المثقفين، تصاعد الترجمة والتأثر بمدارس فكرية أوربية متعددة، والحراك الشعبي الذي سبق الاستقلال الوطني وخروج الاستعمار. ظفرت هذه الرواية، في زمن دولة الاستقلال الوطني، بولادة ثانية، لا بمعني احتفاء السلطات الوليدة بالثقافة والمثقفين، بل بمعني مختلف كليا، ذلك أن السلطة الوطنية المستقلة أضعفت، تدريجيا، العناصر الحداثية التي أمدت الرواية بولادتها الأولي. دخلت الرواية في طور جديد مليء بالتناقضات: شجب الاستبداد السلطوي، والتمسك بالأحلام الوطنية، تزايد الرقابة واتساع أعداد المتعلمين، تمسك الروائيين بأحلامهم الحداثية في مجتمعات عربية انقلبت علي الحداثة، قبل أن تعيشها. سجلت الرواية هذه الوقائع موحدة بين الأحلام الروائية وأحلام الجموع الواسعة، منتهية إلي: ذاكرة قومية، سردت انتقال الشعب العربي من اليقظة إلي الخيبة المتراكمة. 

سجل كتابي لمآل الأمة العربية
يحرض تعيين الرواية ذاكرة قومية علي تأمل مسارها، الذي هو سجل كتابي لمآل الأمة العربية في القرن العشرين _ تدعوإلي ذلك أسباب ثلاثة: الفسحة الزمنية الشاسعة التي يؤمٌنها قرن كامل من الزمن، تغاير بداياته الواعدة نهايته الخائبة، كما لو كان التاريخ العربي الحديث يتحرك متقهقرا، منفصلا عن أزمنة الشعوب المتقدمة، ومجبرا الإنسان العربي علي مساءلة الأسباب التي رمت عليه بهزائم متواترة. يجيء السبب الثاني من المادة الوثائقية، التي أدرجتها الرواية العربية في خطابها، الموزعة علي مواضيع متكاملة، تشمل الاجتماعي والوطني والقومي، دون أن يفوتها أن تنسج حوارا بين الماضي والحاضر. تبدو الرواية، والحال هذه، مرآة صقيلة أمينة عكست، وتعكس، أحوال العرب في حاضرهم وماضيهم القريب، وفي مستقبلهم الذي لايعد بشيء كثير. ومع أنها ظفرت بدراسات كثيرة، فقد وزٌع الدارسون، غالبا، الرواية علي حقلين: أحدهما نقدي يدرس النص بصيغة المفرد، في علاقاته الداخلية المختلفة، دون أن يربط، لزوما، بين رواية وأخري. وثانيهما تصنيفي مجزوء، كأن يقرأ الرواية الجزائرية أو الفلسطينية أو المصرية، دون أن يهجس، إلا فيما ندر، بما يوحٌد الرواية العربية، ويجعلها موضوعا كليا، يقبل بأسئلة مختلفة. يأتي السبب الثالث من وضع الرواية العربية كذاكرة قومية أو من أرشيفها الواسع، الذي سجل، ويسجل، أحوال أمة محددة التاريخ والمساحة واللغة، ومحددة الخيبات أيضا.

لا تتأتي قومية الرواية العربية عن اللغة المشتركة بين الروائيين، ولا عن الثقافة الموزعة بأقساط مختلفة علي مبدعيها، إنما تجيء أولا عن مقولات مشتركة عالجت بها الرواية مجتمعات عربية مختلفة مثل الدفاع عن الفرد في مواجهة القمع السلطوي، الوقوف إلي جانب التمرد في مواجهة الخنوع الجماعي، الالتزام بمعني الوطن ورفض الاحتكار السلطوي للإرادة الجماعية، الذي يحوٌل الوطن إلي أرض، والبشر إلي رعية، والمجتمع إلي سجن، والسلطة إلي سجٌان شاسع الأطراف. حاول الخطاب الروائي، بشكل صاخب أو مهموس، النقد والتحريض والتنديد محققا ذاكرة تحتفي بالقيم الوطنية والقومية والإنسانية، وتنهي عن نسيان المراجع السلطوية التي تدمر الفرد والوطن والقومية. 

الرواية وتوحيد المجتمع العربي قوميا
قامت الرواية بتوحيد المجتمع العربي قوميا مرتين: مرة أولي وهي تبرهن عن قومية النص الروائي، كأن تكتب المصرية رضوي عاشور عن الأندلس وهي تهجس بفلسطين، أو أن يكتب السعودي عبد الرحمن منيف عن العراق وهو مقيم في دمشق، ومرة ثانية وهي تتحدث عن قومية الجماهير العربية، بعيدا عن سلطات تلفيقية الشعارات والممارسات. صيٌر الالتزام القومي الروائيٌّ مؤرخا نوعيا يسجل ما يقول به المؤرخون التقليديون، ويتدارك ما لا يستطيعون التصريح به. اتكأ الروائي العربي، الذي جعل من الرواية ذاكرة صحيحة، علي مقولات جمالية تكتب التاريخ وتؤلٌهه. فقد أقام نصه، في زمن ما قبل الاستقلال، علي مجاز: الصبي الواعد، الذي تميٌز بالطموح والنجابة والنقاء، واعدا بمستقبل يغاير الحاضر، وناشرا من الأدلة والبراهين ما يضمن تحقق المستقبل واستعجاله. تلت الصبي الواعد مقولة الفرد المغترب، التي أخذت بها رواية ما بعد الاستقلال، مشيرة إلي اغتراب سياسي، يجعل المواطن متهما جديرا بالعقاب. وبعد مجيء هزيمة حزيران وتوطٌد آثارها وأسبابها، جاءت مقولة الكائن المشوٌه، أكان ذلك في شكل صبي ممسوخ أو عاشق مجنون، أو مخلوق عميق الكآبة يتطلع إلي الموت. ومع نهاية القرن الماضي وبداية الألفية الثالثة انفتحت الرواية علي كائن بلا ملامح، أعطته الشروط الاجتماعية البائسة ولادة جديدة يساكنها الموت، مترجمة مجتمعا سديميا، يطلق مخلوقات مهزومة في اتجاهات مختلفة. ترجمت الرواية في طورها الأخير تصوٌرها المأساوي للعالم، الذي يحرٌض ولا يعد بشيء، ويطرح الأسئلة ويستبعد اليقين والإجابات القاطعة. 

جدل البعدين الجمالي والتاريخي
من الصبي الواعد الرومانسي، الذي يحتقب مستقبل أمة، إلي الفرد المغترب، إلي رفض السلطة والتمسك بالمستقبل، إلي الكائن المشوٌه، الذي يتهم السلطة والمجتمع معا، إلي كائن بلا ملامح يشهد علي مجتمع تداعي، تضمنت هذه المقولات بعدين متلازمين: بعد جمالي يوكل إلى الشخصية الروائية تجسيد الخطاب الروائي، وبعد تأريخي يصرٌح بالفرق بين الحقب الزمنية المختلفة، التي صاغت التاريخ العربي في القرن العشرين. فأنتجت الرواية في مقولاتها المتتابعة تاريخها الروائي، الذي يتداخل فيه الايديولوجي والجمالي، ويتمازج الكتابي والتقني، وأنتجت أيضا وثيقة تاريخية نوعية، تقرأ التاريخي في اليومي، وتري في اليومي الطلاق المتجدد بين المجتمع والسلطة. والسؤال الذي يطرح الآن هو التالي: إذا كان صعود الرواية قد ارتبط، نظريا، بصعود القومية، فما هو وضع القومية العربية في شرط تاريخي يفصح عن هامشية الجنس الأدبي المنتمي إليها؟

تتوزٌع الإجابة علي اتجاهات متعددة: الاعتراف بتراجع الوعي القومي العربي الصادر عن خيبات متوالية، والاعتراف بوعي قومي كامن، طالما أن الرواية تعبٌر عن الوجدان الشعبي المنفصل عن الشعارت الرسمية، الذي يقاوم الهزائم وأسبابها، الأمر الذي يجعل من المقاومة الروائية مجازا لمقاومة أكثر اتساعا هي: المقاومة الشعبية، الواضحة أو المضمرة.

انطوت الرواية العربية، في الحالات جميعا، علي ذاكرة مكتوبة واسعة، تميٌز الصواب من الخطأ وتدرج التاريخ المعيش في كتابة موضوعية، تشارك المؤرخين أقوالهم وتتدارك نواقصهم الكثيرة. فالخطاب الروائي الذي يوحٌد بين الواقعي والمتخيٌل، ينتج معرفة موضوعية ترفض واقع الاغتراب وتقترح مجتمعا جديدا. ولعل هذه المعرفة هي التي تسمح بمقارنة مثمرة بين النصوص الروائية والسير الذاتية المختلفة، مبرهنة أن النص الروائي كتابة نوعية لجملة النصوص الاجتماعية التي تتضمن ما يقول به المؤرخون وعلماء الاجتماع، وما يقول به الإنسان العادي أولا وأخيرا.