يترصد الناقد المغربي "حركة الوجود" في كتابات ونصوص الأمين الخمليشي، من خلال استقراء اشتباكات الكتابة في نصوص ظلت على الدوام تنتصر لآفاق التجريب الرحبة.

اشتباكات الكتابة في نصوص الخمليشي

حسن المودن

«نحن ضحايا، ذباب واقع ـ في نسيج عنكبوت ترصدنا
بشماتة وسخرية من زاويتها المعتمة. وما هذه العنكبوت
إلا القصة نفسها. وحدها الموجودة حقا: العنكبوت ـ القصة»
                                    (اشتباكات، ص 48).
 


 


الأمين الخمليشي كاتب مقلّ، بدأ النشر منذ أواخر العقد السادس من القرن الماضي، ولم تصدر بعض نصوصه في شكل كتاب إلا سنة 1990 تحت عنوان: اشتباكات. ومع ذلك، فان نصوصه تعتبر من الأعمال الأساس في حركة التجريب التي يعرفها الأدب السردي المكتوب باللغة العربية. وهي نصوص لم تنل بعد ما تستحق من العناية، لأسباب تتعلق بالسياق الأدبي والثقافي الذي ظهرت فيه، كما تتعلق بطبيعة نصوصه نفسها. تنطلق قراءتنا من الاشتباكات (وهي تضمّ نصوصا نشرت بين أواخر الستينات وأواسط الثمانينات من القرن الماضي) ومن نص نشره الكاتب سنة 1995 بمجلة آفاق، وهو عبارة عن مقاطع من كتاب لم ينشر بعد حسب علمي: حول بعض البدع المنتشرة في مجتمعنا. وإذا استحضرنا اشتباكاته وهذه المقاطع من كتاب البدع، ووضعناها في سياقها الأدبي والثقافي والتاريخي، جاز لنا أن نقول إن الأمين الخمليشي يعني شكلا قصصيا جديدا يضاد القصة التقليدية، وينتمي إلى تيار أدبي يقوم، بهذا الشكل أو ذاك، بوضع حدّ للمفاهيم التقليدية للقصة. وبهذا، فالكاتب ينتمي إلى هؤلاء الكتّاب الذين يشتغلون تبعا لمبدأ أساس: البحث المتجدد باستمرار عن أشكال جديدة، فبعد التحولات العنيفة والانتكاسات المتتالية التي يعرفها العالم العربي، من حرب 1967 إلى حرب الخليج، لم تعد الأشكال التقليدية بذات القوة التي كانت لها في المراحل السابقة، خاصة بعد تراجع أدب الالتزام واكتشاف تجارب جديدة في الآداب العالمية.                    

مع نصوص هؤلاء الكتّاب، لم تعد القصة مجرد قالب جاهز يحمل حكاية ما، ذلك لأن مبدأ القصة نفسه قد صار موضوع المناقشة وإعادة النظر، وأصبح الطموح هو كتابة قصة لا يمكن أن تكون، ولا يمكن أن تحاكى، كأن الأمر يتعلق بخلق تخييل لا يمكن إنجازه وإعادة إنتاجه. ويعني هذا أنه مع هذه النصوص الجديدة، صار فن القصة أكثر صعوبة واستحالة، وأضحت علامات التحول العميق تظهر من خلال أشكال جديدة معها تعاد مساءلة البنية التقليدية لهذا الفن الأدبي. ويهمنا أن نبرز بعض هذه العلامات من خلال بعض نصوص الأمين الخمليشي.

القصة ـ العنكبوت
مع الأمين الخمليشي، تكون القصة نفسها موضع سؤال، ففي قصة: اشتباكات ـ وهي إحدى قصص المجموعة التي تحمل العنوان نفسه ـ نجد هذا السؤال مطروحا: "ولكن ما هي القصة؟"(1). ومن خلال صفحتين متتابعتين، نجد الكاتب (المفترض) يتحدث عن إمكانيات أخرى للحكي غير التي ألفها القراء، فهو ـ أي الحكي ـ لا يخضع لمبدأ الواقع بالضرورة، كما أنه ليس مجرد نقل واستنساخ، فبإمكانه أن يلخص ويحذف ويشوّه، وخيرون الذي تتحدث عنه قصص الخمليشي "لا وجود له أصلا" ( ص48)، وهو الشخصية المحورية في أغلب نصوص الكاتب، ويبدو كأنه الشخصية التي تستحوذ عليه لا العكس. وبعبارة أخرى، ليست القصة مجرد أداة يتحكم فيها الإنسان لينقل فيها واقعه أو واقع غيره، بل إننا ـ يقول الكاتب ـ "نحن ضحايا، ذباب واقع ـ... ـ في نسيج عنكبوت ترصدنا بشماتة وسخرية من زاويتها المعتمة. وما هذه العنكبوت إلا القصة نفسها. وحدها الموجودة حقا: العنكبوت ـ القصة".(2) لم تعد القصة ضحية الكاتب، بل صار الكاتب من ضحايا القصة. فبعد أن كان الكاتب التقليدي يعتقد أنه يمتلك القصة، ويستطيع أن يفعل بها ما يشاء وأن يقول من خلالها ما يريد ، يأتي الآن الكاتب الجديد وقد فطن إلى أن القصة هي التي تمتلك الكاتب، ذلك لأنها عندما تدخله إلى نسيجها العنكبوتي فهي تجعله يقول ويفعل ما تشاء هي لا ما يريد هو. 

القصة ـ المتاهة
كانت القصة التقليدية تتكون من أجزاء منتظمة متتابعة، وتقدم حكاية منسجمة. وأضحت القصة الجديدة ضد هذا التقليد، تتقدم كأنها من دون انسجام، وتؤسس شكلا سرديا يقوم على المتاهة بالأساس. هكذا نجد القصة الواحدة تتكون من حكايات عديدة، تتجاور وتتداخل وتتقاطع وتتصادم. وعلى سبيل التمثيل، ففي قصة الحلزون والساحة نجد حكايات متشابكة، بعضها ينتمي إلى الحلم ( حكاية الحلزون)، وبعضها ينتمي إلى  واقع خيرون الطفولي، وبعضها ينتمي إلى واقع عائلي اجتماعي( الأب، الفقيه)، وبعضها ينتمي إلى عالم الإنسان، وبعضها الآخر إلى عالم الحيوان( الحلزون، الأرنب ). وقد نجد حكايات اعتراضية تتخلل الحكاية المحورية، كما في قصة اشتباكات حيث نجد حكاية مولاي احمد العبد تتخلل حكاية خيرون وأخيه والأزعر. نجد في قصص الأمين كلمات وأسماء أعلام غريبة ومتشابكة( خيرون، حمجيق، بورشمان)، ويتشابك الماضي والحاضر والمستقبل ( قصة: الفيل)، وتتعدد الضمائر( قصة: اشتباكات ، النص المقتطف من كتاب البدع)، وتتكاثر موضوعات النص، تتقاطع وتتصادم وتتطور، ويبدو الأمر كأننا أمام مجرى لا ينقطع، وأمام فيض عفوي مسترسل إلى ما لانهاية من الأشياء والأوصاف والوقائع والذكريات والأحاسيس والمونولوجات، كأن الأمر يتعلق بسارد قادر على خلق فوضى هي نفسها ثراء النص. هكذا نقرأ في مقطع من كتاب البدع:

«ما عجبي إلا من واحد يجرؤ على الخروج مع واحدة ظانا أنها له وحده، ألم يقرأ التاريخ؟ ألم يتعض بالقصص؟ اقطع الطريق نحو الضفة الأخرى، رائحة الببّوش. بار مسيو فولتا. قطعتك يا مسيو فولتا تشمّ من بعيد. الحلزون المسلوق بالعطرية، من ينكر فوائده للخارجين من دهاليز الإدارة في هذه الساعة والداخلين إلى دهاليز لا تتطلب منك مجهود نصف جسمك الأعلى بل مجهود نصفك الأسفل، هذا إذا كانوا من. ميشو حانوت. ميشو الصغير وبوخا. لنا عودة إليك يا بوخا، قمر الشريف. شتام بار، حانة البرامكة. جريدة العلم. محطة. أجواخ فاس. محطة الطاكسيات رقية. مازال الوقت. لن تهرب. وحتى إذا ما هربت، فبإمكان رضوان أن يدبر على رقيات أخريات. قبل ذلك اشحن البطارية وتزود عن مقربة. هاك، شوف هذه كيف تتهادى مثل عروسة بحر حمقاء، تخيلها، لا أقول باشرها يا أخ ولكن فقط تخيلها وهي تخلع عنها هذه الجلابة. ثم ما تحت الجلابة: هذه الوريقات المزوقة الملتفة حولها برقة وإتقان ورقة ورقة حتى إذا ما استوت أمام المرآة خوخة ناضجة عارية أو شبه عارية وأخذت تتحسس بحذر ثم بشغف ثم بشبق هذه الثمار التي لا تكاد تصدق أنها لها هي صاحبة البستان برزت لها فجأة في خلفية المرآة فتشهق مذعورة مستديرة باحثة عن أي شيء تستر به ثروتها قبل أن تستعيد رباطة جأشها وتدعوك إلى إغماض عينيك لحظة حتى تستكمل طقوسها وعندئد تعال وهاك ما عندي وهات ما عندك يا مراهقا زلّ قلمه»(3) .

يجد القارئ نفسه، منذ البداية، داخل فكر السارد، وداخل المجرى اللامنقطع لفكره، وهو مجرى يتزامن فيه الحدث والتعبير الداخلي، ويتراكب الكلام والفعل، ويتداخل العالم الخارجي والعالم الداخلي، وتأتي الأشياء الخارجية والذكريات القريبة والبعيدة والموضوعات المتقاربة والمتباعدة في نظام اعتباطي هو الذي يؤسس حركة الكتابة نفسها، فلم يعد الأمر يتعلق بخيط حكاية لها بداية ونهاية، بل إن خيط الحكاية هو حركة الكتابة هاته. وفي هذا المجرى اللامنقطع، تكون الجملة السردية غالبا مركّبة طويلة، كما في هذا النموذج:

«وعندئذ داهمه هدير البحر ورائحته النفاذة، ورغم أنه كان من الصعب في هذه الساعة المتأخرة من هذه الليلة الشتوية في هذه الزنقة المشبوهة من هذه المدينة غير المنورة التمييز بين لون البحر والسماء واستحالة رسم الحدود بينهما لتداخلهما وتمازجهما وامتداد بعضهما داخل بعض تداخل وتمازج وامتداد ما يحصل بين أطراف الشركاء في المخادع المتلاصقة أعلاه، فقد كان البحر بعويله ونفاذ رائحته قريبا إلى درجة أنك لو بذلت قليلا من الجهد ومددت يدك من خلال قضبان هذه الثغرة للامست رغوة أمواجه." حول بعض البدع المنتشرة في مجتمعنا»(4) .

وتلاحظ هيمنة الجمل الاستفهامية والتعجبية في نصوص الكاتب، مما يمكن النص من بنية انفعالية حميمية تزيد قوتها إذا أخذنا بعين الاعتبار أن النص بأكمله يبنى على أساس السؤال والتعجب والدهشة: «هذا الورياغلي القح، سليل آل بنعبد الكريم ماذا يبغي...؟،...، ألم يقرأ التاريخ؟ ألم يتعض بالقصص؟،...، ماذا تريد بالضبط؟،...، لكن ماذا أرى؟،...، ماذا تفعل يا ولد؟»(هذه بعض الأسئلة التي تتخلل مقاطع كتاب البدع). لا تحكي القصة مغامرة، بل إنها تجعل من الكتابة مغامرة إذا ركبها القارئ كان التيه في دهاليزها نصيبه من القراءة، فلا فروق واضحة بين الوصف والسرد والمونولوج، ولا حواجز بين العوالم الخارجية والعوالم الداخلية، ولا وجود لخيط سردي منطقي ينير الطريق للقارئ... وبهذا الشكل السردي المتاهي تستطيع القصة الجديدة أن تدفع القارئ إلى أبواب الوعي، إلى أقصى حدود الوعي،إلى ضد الوعي، وهذه عملية هامة لأنها تنجح في إعادة إحياء فعل القراءة.

اللغة العارية والمتكلم السوقي 
أول ما يثير في اشتباكات الأمين استعماله للغة العامية المغربية بشكل يجعلها مندمجة في اللغة العربية الفصيحة، أي أنه يعمل على تفصيح العامية من دون أن يفقد المحكي طابع المحكي اليومي الشفوي، كما في هذا النموذج: «طيلة الليل وهو يضرب. كلما زاوكت فيه غزز أسنانه وزاد. وها أنا لا أقدر على الوقوف والجلوس. فماذا فعلت لك. وهل هو ذنبي إذا كنت لا تستطيع عبور النهر والثلج يطيح وزوجتك حبلى تبول الدم من تحتها والبقرة والحمار جائعان والخماس لا يعرف الأرض جيدا. تقول أني أخور عيون كلاب الجماعة بالمسمار الذي سمرته في رأس العكاز الذي أصرف به لذلك فأنا أقتلك وسأقتلك. لم أخور إلا عينا واحدة هي عين كلب المقدم اليسرى. نعم هذه فعلتها وأنا مستعد لأخور عين المقدم نفسه إذا هاجمني. المقدم. أنت تعرفه. أو فقط رأيته، أما أنا فأعرفه جيدا. يحسب نفسه ربا مع أنه مجرد مقدم تابع للشيخ والجاري والقايد. مجرد كلب، يكرهني أكثر مما أكره كلبه. وهل كنت أتركه يعضني. عندئذ كنت تقول أيعضك كلب وأنت في طول عنق بن عوج وتضربني أكثر. ويقول رأس الحمار أخف من رأسك بينما أنا حافظ كالبرق. ويقول أنني أبسل على نساء الجماعة وخاصة امرأة ذلك الكلب الصغيرة والله والملائكة يشهدون. يقول أني أخسر سمعته أمام الجماعة بأفعالي. فأي سمعة وأي أفعال. ولكنك تبرد جنونك في. فوالله وهذه الستين اشهدي لن أسامحك حتى تكون بين يديه»(5).                 

وقد لا يتعلق الأمر بمحاولة إيجاد مكان للغة العامية داخل المحكي، بل يبدو كأن المحكي لن يؤدي وظيفته الجوهرية إلا إذا جعل من العامية إحدى لغاته الأساس، وجعل من الحكي الشفوي اليومي سبيله إلى بلوغ لهجة سردية حميمية تتغذى من اللغة اليومية العامية كما تتغذى من اللغة الأدبية الفصيحة، وتتغذى من لغة الكتب كما تتغذى من لغة السوق، أو ما يصطلح عليه قديما في كتب البلاغة باللغة السوقية. وهكذا يبدو السارد سوقيا في كلامه، كأن الكاتب يتقصّد أن يتمرّد على السارد العالم المتعالم المتعالي، ويعيد الاعتبار لسارد يتكلم لغة سوقية، ويفجّر إمكاناتها البلاغية. هو سارد لا يمارس الرقابة، ولا يطهّر خطابه من البذاءة والفجور والسفه، بل هو يتكلم لغة عارية تقول بشكل ساخر مكشوف الوضع الإنساني لشخصياته، وتفضح تناقضها ونفاقها وضعفها، وتجعل أصواتها الممنوعة مسموعة، وتكشف النقاب عن عوالمها الداخلية والحميمية، وتستنطق رغباتها المكبوتة، وتقول ما لا يقال: تقول الكبت والحرمان والجنس والمرأة وعوالم الخمرة والدعارة، كما في هذا النموذج: «أو هي هذه الفراشة التي خرجت من حانوت الذهب فجأة: يا للثقة في النفس والقوام الممشوق. متعالية متعجرفة سابحة في ملكوتها ـ ... ـ متحدية الجن والإنس أن يحاولوا مسها، مصّها. صحيح؟ يكفي إذن أن تغمض عينيك وهاهي تحتك ( مفروس فيها) متشبثة به تشبت الأعمى بعصاه مستزيدة متضرعة أن يخترقها ويغلغل أحشاءها ويضرب النقبة حتى يخرج من الظهر. فأين قناع العفة والوقار يا مدام؟»(6). وأحيانا يبدو السارد أو الشخصية أو السارد ـ الشخصية، كأنه يبحث عن لغة مستحيلة، عن اللالغة واللاتواصل، لغة تستخدم اللغات كلها، وتخترق القواعد والمعايير واصطلاحات التواصل، كما في المقاطع المقتطفة من كتاب البدع:

«كان خيرون يصغي بانتباه إلى ما يقولون، وعوض العامية، قرر أن يجيبهم بالفصيح وشرع في ذلك فعلا، غير أنه ما أن رأى استحسانهم للعملية، حتى قرر تبديلها فعلا، وهذه نماذج مما اختتم به أقواله: "يو ار سبيك انجليزك"، بات يور نايم هندوش، دي يور غام، بارس جو كيورو. كيين بولي مي حانو، جولومانوا، سي دي ألفونصوا نادا. فلاحي 99 ـ وووفم ، زبّي، البحث، تحليلها، ما عرفش ، باحث زراعي ـ فلاح ـ تحسين المعيش، تقنيات جديدة لا يعرفها الباحث الزراعي، الأمن الغذائي، لكن ماذا عن الجزائر، بلد هام في الواقع، للأسف، مناطقها ليست في مناطقنا الزراعية، ترقبوها، إذن مستقبلا ودمتم مع تحياته ونسائه في رحاب مكة، أو نواكشوط، أو الخرطوم والجزائر وليبيا. خيرونة حتى وعودة إلى حمجيق وفي جيب من جيوبه النادرة، عثرنا ( والبادئ أظلم)»(7) .

في اشتباكات الأمين كما في بدعه، نلاحظ نزوعا إلى لغة عارية تنتهك القواعد والآداب العامة، وتتناول الموضوعات المسكوت عنها، وتتذكر عوالم الطفولة وتمارس ألاعيب الأطفال وتفضح عوالم الكبار، بإخراج قصصي تتحول معه الشخصيات والرواة إلى أصوات متعددة متدفقة تريد أن تقول كل شيء دفعة واحدة. مع نصوص الأمين، تمّّ استبدال النص الخطي المتصل والمتجانس بنص مليء بالشروخ والانعراجات والاشتباكات. ففي النص الواحد تتشابك قصص عديدة، وتتعدد الضمائر وتتقاطع، وتتداخل الأزمنة والفضاءات، ويتناوب الحلم والواقع والتاريخ والاستيهام والهذيان، وتتشابك الأسماء والأصوات واللغات، بشكل يبدو معه النص الواحد جمعا إشكاليا من النصوص يقوم على التضعيف والتجاور ولعبة المرايا، ويجعل من النص آلة توليدية لا تكفّ عن الإنتاج والتوليد، بحيث لم تعد الكتابة مجرد مرآة للواقع الخارجي، بل الأصح أنها المولد اللانهائي للمرايا المتراكبة المحكومة بتعالقات واشتباكات تضع الكتابة في منطقة الالتباس وسوء الفهم.

في نصوص الأمين تعلق شديد بالجزئيات والتفاصيل التي لا ينضب معينها، وبحث في أعماق أخرى للحياة، وتصوير لعوالم وشخصيات تبعث على الدوار، وكتابة للمدّّ المتشابك للحياة المعيشة والشعور العميق بالوجود. وهي بذلك تبدو نصوصا غير متمركزة حيث يشتغل كل شيء فوق عدة مستويات، ولم يعد هناك ما يهيئ للقارئ وجهة نظر واضحة ومنسجمة، فهو ـ أي القارئ ـ يوضع داخل فكر شخصية ميزته الجوهرية أنه متشابك، فهو فكر يخلط الماضي بالحاضر والمستقبل، ويستعمل كلمات غريبة، وقد يوقف الكلام لكي يبدأه مرة أخرى على إيقاع آخر وبلغة أخرى وحول موضوع مغاير، وقد يتحدث عن الشيء نفسه في أكثر من نص، كأنما النصوص كلها نسخ لأصل مفقود.

وإجمالا، يمكن القول انه مع نصوص الخمليشي بدأت الكتابة القصصية تستعيد حيويتها، فهي بلغتها المتدفقة المسترسلة، وقوتها الانفعالية، وثرثرتها البليغة، وسوقيتها العنيفة، وشكلها العنكبوتي المتاهي، واشتباكاتها التي تبدو مسترسلة إلى ما لانهاية، تدفع القارئ إلى إيقاظ أنشطة الأعماق وإعادة الحياة إلى المناطق السفلى، وتساعده على استنطاق ذاتيته الحيّة المقموعة والأشدّ واقعية. إننا أمام كتابة جديدة تجعل الأمين ينتمي إلى هؤلاء الكتّاب الذين خلّفوا نصوصا جدّّتها لا تنتهي، فلا يمكن أن ندرك قيمة نصوص هذا الكاتب إلا باستحضار أعمال أدبية تركت أثرا خاصا في الآداب العالمية: أعمال جويس، بيكيت، فولكنر... لقد ظهرت نصوص الأمين الخمليشي أكثر حيوية في الوقت ذاته الذي كانت تقوم فيه بوضع حدّ لمفهوم الكتابة التقليدي. فلم يعد الأمر متعلقا بتمثل معقول للحياة المعيشة، ولا بسرد ناسخ للواقع الذاتي أو الموضوعي، لأن نصوص الأمين تجعل القارئ يلامس حقيقة الوجود التي لا يمكن النفاذ إليها.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ـ الأمين الخمليشي: اشتباكات، قصص، منشورات اتحاد كتاب المغرب، 1990 
(2) ـ 21 ـ نفسه، ص 48.
(3) ـ 22 ـ الأمين الخمليشي: حول بعض البدع المنتشرة في مجتمعنا، مجلة آفاق،اتحاد كتاب المغرب،عدد56/ 1995،ص 14
(4) ـ 23 ـ نفسه.
(5) ـ 24 ـ الخمليشي، اشتباكات،ص7.
(6) ـ 25 ـ الخمليشي: حول بعض البدع...، آفاق، ص15
(7) ـ 26 ـ نفسه: ص
18