"فعلى ذوي البصائر أن يستأنفوا النظر ويشتدوا في البحث والتفتيش عن رجال أذكياء، فضلاء، تصرفت بهم الأيام، وتقلبت عليهم الأحوال، ونظروها نظر اعتبار فاستحسنوا واستقبحوا وأخذوا وتركوا، وظهر للناس جودة اختيارهم، ليسلموهم هذه الخطة، أي خطة التربية، ليستأنفوا عملاً جديداً ويسعوا سعياً حميداً، بملاحظات دائمة وأعمال مستمرة وتلطفات موصلة لأجمل الأحوال؛ فلن يلبثوا أن يجدوا في ذلك الصنف من يكونوا بمنزلة البذر، فإن لم يفعلوا فكأنهم بأوطانهم وقد صاروا عبيداً لغيرهم"
الشيخ حسين المرصفي من "رسالة الكلم الثمان"
|
في عام 1908 بلغ خط السكة الحجازية محطة المدينة المنوّرة، وفي ذات العام شهد العرب قيامة تنظيم "الاتحاد والترقي" ضد السلطان عبد الحميد الثاني لإعادة الحياة الدستورية إلى الدولة العثمانية. لعل في مشروع الخطوط الحديدية الحجازية عروة وثقى حاولت أن تشدّ ما تبقى من آماد الامبراطورية إلى مركزية آوتوقراطية، ولكنه على مستوى غلس الكواليس شروعٌ في حتمية احتضار أخير، فعلى خط موازٍ كانت رحلة القافلة المتدرجة من الجامعة الإسلامية إلى الجامعة العثمانية تتقدم إلى محطة الحس القومي بتعبيراته المتنوعة في كل من مصر، وما عُرِف حينها بالديار السورية.
ويسجل عام 1908 تاريخ وفاة مصطفى كامل (1847 1908)، وافتتاح الجامعة المصرية بجهود وأموال أهلية؛ وكأن في تأريخ موت الفرد والولادة المضمرة لجيل كامل يكمنُ جَدلُ السبيل إلى الاستقلال الوطني، وإلى احتمال مصر أخرى لها الحق بأن تحكم نفسها بنفسها(1) .
يبدو أن تطور التعليم في القرن التاسع عشر، وتحولاته الواعية من السكونية الريفية للكتاتيب إلى حداثة علوم مدارس الأفندية، ترافق مع بناء الدولة القومية العصرية منذ أيام محمد علي باشا؛ وليس بخاف على أحد ما كان لهذه المدراس من أثر إصلاحي في المعايير التربوية والأخلاقية والجمالية، وفي الحياة الوطنية. لذلك يمكن القول أن إنشاء الجامعة المصرية لم يكن فعلاً تنويرياً لأصحاب المعايير الحداثية لانتاج المعرفة فقط، وإنما كان إلى جانب ذلك موقفاً سياسياً وتعبيراً عن مشاعر القومية المصرية؛ فالأسماء التي حملت على عاتقها مسئولية تأسيس الجامعة تشي بريادة المثقف الأستاذ للخطاب الوطني الليبرالي، وانفتاحه على ناسه ومجتمعه(2) .
و لهذا العدد من الكلمة ألصقت أربع مواد صحفية لا يجمعها مناخ زمني واحد، وتشكل بمجملها مشاهد مفتتة، لا يهم الحدث فيها بقدر ما يهم فيض الأفكار الكامن في عمقها. وقدرتها على اقتناص لحظات مفصلية دالة في مسيرة الجامعة وترسيخ مفهومها. نصوصٌ مليئة بأصواتٍ لا تربطها نغمية متسقة، بل هي أشبه ما تكون بالأنغام الاثنتي عشرة؛ لذلك يبدو للبعض أن تجاور مشاهدها الصوتية منفر ومتناقض، بل ومضاد للجمالية القائمة على وحدة الرؤية للموضوع. ولكن يظل برغم هذا التنافر البادي مجموعة من الأواصر الدالة. في كل الأحوال تتداعى الإيحاءات أثناء القراءة، فتجعل كل نص يعتمد على النص الأخر ويتكافل معه، لإنشاء القول والخروج بمعنى ما عند نقطة النهاية.
تحمل المادة الصحفية الأولى عنوان "الجامعة المصرية في عشرين سنة" وتقدم لنا لحظة التأسيس وحلم التطور العقلي. حررها عام 1928 "الصحافي العجوز" توفيق حبيب (1880 1941) لمجلة الهلال بمناسبة تحويل "الجامعة المصرية" في القاهرة من مؤسسة تعليمية أهلية إلى حكومية. وتستحضر هذه المقالة ماضي الجامعة عام 1908 إلى حاضر سنة 1928، ويمكن أن نسمع عبرها أصداء الخطاب الرسمي لتأسيس الجامعة المصرية حينها. وفيها أيضاً يرد اسم الطالب طه حسين (1889 1973) على رأس قائمة الحاصلين على شهادة الدكتوراه من الجامعة المصرية(3) .
لعل من المناسب التذكير أثناء قراءة مقالة "الصحافي العجوز" بأن سعد زغلول عيّن وزيراً للمعارف سنة 1906، وكان مستشاره الاسكتلندي الشهير دنلوب يرى أن في إصلاح الكتاتيب كفايةً تفي بحاجة الإدارة الاستعمارية من جيوش الموظفين والكتبة.
أما المادة الثانية فهي عبارة عن مقابلة، أجريت عام 1931 مع أستاذ الجامعة المصرية العالم الفيزيائي علي مصطفى مشرفة (1898 1950)، أدلى فيها بحديثه لـ "المجلة الجديدة"، وفيه بسط رؤيته حول "البحث العلمي" ودوافعه وغاياته. وتوشك ان تكون مكملة للحظة الأولى من حيث رسمها لملامح التحقق، ونشر أساتذة الجامعة أبحاثهم في كبريات المجلات الدولية. وهو حلم تسعى جامعاتنا اليوم لتحقيقه بعد أن تراجع البحث عندنا.
نشرت المادة الصحفية الثالثة في مجلة "الصرخة" الصادرة في دمشق، وتحمل عنوان "الإضراب في الجامعة المصرية". تناول فيها مراسل المجلة حيثيات أحداث 1932 إثر إقالة طه حسين، وإبعاده عن التدريس في كلية الآداب بنقله إلى عمل إداري في ديوان المعارف في عهد حكومة اسماعيل صدقي. وقد فجّر تجاوز السلطة السياسية لهيئة الجامعة التدريسية، والإدارية، موضوع حُرمة واستقلال المؤسسة التعليمية، ودفع هذا التدخل برئيس الجامعة أحمد لطفي السيد (1872 1963) لتقديم استقالته من منصبه. هل يتعلق الأمر بمجرد إجراءات لم ترق لرئيس الجامعة، أم أن للأمر بعدا غير مباشر يضع استقلال الجامعة على المحك؟!
أما موقف أستاذ الجيل، أحمد لطفي السيد، أبو الجامعة المصرية، من الحكومة فلم يكن إلا انسجاماً مع آرائه بأن نفي التعاقد الحر، ممثلاً بالقانون، لتحل محله علاقة الأمر والطاعة يعطل من فاعلية الأجهزة الإدارية، وهو سمة من سمات الحكومة الاستبدادية (4) .
تمّ التأكيد مراراً أن خلفيات أحداث 1932 في الجامعة تعود لخلاف كان قد حصل بين طه حسين والحكومة حينما رفض طه حسين الاستجابة لطلب الحكومة بمنح درجة الدكتوراة الفخرية لبعض أنصار اسماعيل صدقي وقيادات حزبه (حزب الشعب)، إلا أن ما ضمّته دفتي كتاب "في الشعر الجاهلي" الصادر عام 1926، فتّح أعين أولي الأمر من حينها على أسلوب عميد الأدب العلمي الحر ومنهجيته الديكارتية في التدريس، رغم تعديلاته الطفيفة على بحثه في السنة التالية(5) .
صحيح أن الدكتور علي مصطفى مشرفة كان يعمل على تدريب العقل على البحث العلمي والتفكير المنطقي وطلاقة اللغة العلمية، إلا أن الصدام مع علماء الطبيعة سيؤجل للنصف الثاني من القرن العشرين، ومن قبل أولي الأمر الأجانب، أمام محاولة المستعمرات رفع رأسها، والتساوي العلمي والمعرفي المستقلّ عن تراتبية المقامات الدولية السلطوية.
من جانب آخر، يبدو أنها لم تكن المرة الأولى التي تحاول فيها الحكومة إبعاد المثقف الأكاديمي طه حسين عن الجامعة؛ فقد ناشد يعقوب فام، أستاذ التربية في جامعة ييل، الحكومة سنة 1931 في معرض حديثه عن كتاب "في الشعر الجاهلي"، قائلاً: "فأنا لا يعجبني منه ما توصل إليه في كتابه هذا بقدر ما تعجبني طريقته في البحث... فقد يمكن أن يتوصل كاتب إلى إدحاض جميع النتائج التي وصل إليها الدكتور ولكن الطريقة سوف تبقى، وهي الذخيرة أو الكنز الذي سوف يورّثه الدكتور للأجيال القادمة. ألا ليت الجامعة لم تشغله بالمسائل الإدارية، ليتها اختارت طريقة أخرى للتعبير عن تقديرها للدكتور بخلاف هذه التي توشك أن تنتزعه من دائرة النشاط العقلي وتضعه في دائرة النشاط البدني (...). لا أريد للدكتور إلا أن يكون أستاذاً يقوم ببعض الدروس القليلة فيستطيع أن يخدم العلم، وتستطيع الجامعة أن تزيد في مرتبه وتغدق عليه الدرجات والألقاب دون أن تستنفد وقته، فوقت الدكتور أثمن لعالم الفكر في هذا البلد من أن يضيع بهذه الصورة"(6) .
من هنا يمكن أن يُفهم إضراب الطلاب لا على أنه محض تضامن مع الهيئة التدريسية والإدارية، وإنما على أنه تعبير عقول شابة حرة تتجاوب مع الكنز الذي تحدث عنه لطفي فام في السطور أعلاه، وتكبره لدفاعه عن استقلال الجامعة، وتنزاح عن طاعة المتسلط. أما قائد شرطة القاهرة (من 1917 حتى 1948)، الذي قاد العملية العسكرية لاحتواء إضراب 1932، فهو المتأنق الانكليزي راسل كروزو الذي عرفت السجون المصرية تفننه الحداثي الفريد، وجعلته جديراً بإحراز سمة المركيز دو ساد رغم قدمها.
عند عتبة انتصاف القرن العشرين اختيرت مادة "الأديب المنفي" كخاتمة للمشاهد الصوتية. يعود تاريخ كتابة هذه المقالة لعام 1948، حبّرت بقلم الأديب توفيق الحكيم، ونشرتها مجلة "الحديث" السورية التي أصدرها سامي الكيالي في مدينة حلب. من حديث الحكيم نتلمس مناخاً طارداً، دفع طه حسين إلى الرحيل خارج مصر. وللمفارقة المؤلمة ـ حدَّ الإجبار التعذيبي على الاغتراب عن زمن التنوير العربي ـ يشير توفيق الحكيم لبلد مغرق في معاني التاريخ يدفع المثقف لشتات الخروج، بينما خلفية المشهد غير المرئية تُرَجِّع صوت بن غوريون، في متحف مصطنع في تل أبيب، يؤسس دولة ستعرف بـ "اسرائيل" يدعو يهود العالم للدخول آمنين إليها.
وما بين هذا الدخول وهذا الخروج تكمن إحدى مفارقات معاني الأمان في واقعنا العربي.
أربع تمظهرات لـ "الجامعة المصرية" في النصف الأول للقرن العشرين. ربما يرى البعض أن ما يضم عقد ثلاث منها هو تحولات طه حسين: الشيخ الطالب، والأستاذ الرائد، والمثقف "المبعد". بينما حديث المجلة الجديدة مع علي مصطفى مشرفة يكثف خلفية الأمل بعلم يواجه الروح المدرسيّة الاسكلائية، والتعبئة الكهنوتية ضد التنوير التي وضعت أسسها خارج سور الجامعة لتتسلل داخلةً إليها.
من جانب آخر تشير "مشاهد من الجامعة المصرية" بشكل من الأشكال إلى ما للفعل الاجتماعي والثقافي في بلد عربي من صدى مؤثر في البلد الآخر، فآن تبدأ مجلة "الصرخة" السورية حديثها عن إضراب 1932 بعبارة: "يتوق طلابنا إلى معرفة ما يجري في مصر وفي الجامعة المصرية"، فإنها تقول الكثير.
ربما ولّد الانتهاء من قراءة مشاهد الجامعة المصرية، في النصف الأول من القرن العشرين، الإحساس بأصداء مشاهد أخرى جرت في النصف الثاني منه. ويقصد هنا حركة الطلاب في القاهرة (1970 و 1971) وتأييد المثقفين لها. وصدى عداء حكومة الانفتاح الساداتية للثقافة والمثقف، وحضها الذرائعي، لبعض أدواتها (كمحافظ أسيوط) لتأييد الأصولية الإسلامية في الجامعات المصرية كي تشيد سوراً يقف أمام المدّ اليساري والناصري. في هذا الفضاء المنفتح على رفاه الانقياد للأصولية الرأسمالية، أو رغد الطاعة للأصولية الدينية لا يُنسى الفساد الطهراني الطارد الذي أبعد العديد من المثقفين عن أم الدنيا في عقد السبعينات من القرن الماضي.
في النصوص المجمّعة لهذا العدد، دعوة لقراءة حاضر يفيض بماض حتمي، ويضرب الخطو في مستقبل ممكن إن لم يكن محتملاً؛ مستقبلٌ نتوق فيه إلى أن يكون قول طه حسين عام 1949: "إن هذا البلد الذي خلق للحرية لا يزال مستعبداً"، قولاً بالياً مغايراً للواقع.
الجامعة المصرية
وردتنا هذه الرسالة من حضرة الكاتبة الفاضلة زينب فواز فأثبتناها بحروفها مشفوعة بالشكر والثناء:
لقد مضى عليّ ردحٌ من الزمن هجرت فيه اليراع ولكن لبثتُ أنظر من خلال تلك الحجب وأتأمل في أمور هذه الحياة وأمعن النظر فيما طرأ على مصر من التغيرات والإصلاح وما بثّ في روح بنيها من الهمة والنشاط وعقدهم الخناصر على تعديل المعوج منها ومجاراة الأمم الراقية.
فلم يهتدوا إلى طريقة تظهر لهم منها الحقيقة حتى أخرجت جريدة اللواء ذاك الاقتراح الذي طار شعاعه في الآفاق وقد ابتهجت له النساء في خدورها ورقصت له الأطفال في مهودها طرباً وأنه لو خرج من مجرى القول إلى حيز العمل لبثّ في أنحاء مصر روح العمران وأرسل على جدرانها جداول العرفان. وبما أن العلم الحديث في الشرق لم يخرج عن كونه طفلٌ لم يتعدّ سن الفطام وهو ضال لا مأوى له سوى ما بنيت عليه المدارس من العلوم الابتدائية وليس بخاف ما تتكبده الأمة بسبب إرسال أبناءها إلى مدارس الغرب لتتميم العلوم فيتعلمون ما هو أدهى وأمر...
والحاصل يجب الآن على كبار الأمة أن يتمّوا تلك النهضة ويؤلفوا اللجان ويجمعوا ما يقدرون عليه والأمل وطيد بأن لا يمضي زمن قليل من الوقت حتى يجمع ما يكفي لتأسيس تلك الكلية التي اقترحها صاحب اللواء من قبل ومن بعد. فيظهر حينئذٍ نور الشرق الساطع وتُكشف عنه غياهب الجهل المتراكمة ولعل الله يرجع له نشأته الأولى ويخرج منه رجال يضاهون تلك الأمة التي ظهر نورها من خلال أشعة شمس المشرق وقد تغلبت على أعظم دولة من دول الغرب.
والآن فلينظر شبابنا ورجالنا ذوو الألباب الواعية إلى تلك الأمة الشرقية التي لم يخطر بفكر أحد أن تأتي بمثل هذا العمل الذي يعجز عنه الجن فضلاً عن الأنس. وما كان منهم ذلك إلا بفضل العلم والمثابرة على الجد والاجتهاد ودرس العلوم النافعة كالفنون والصنائع من اختراعات الغرب الذي بينما نحن ندرس موداته ونغازل غاداته كانت اليابان تبحث عن صنائعه واختراعاته ولقد ثابرت على مجاراة الأمم الراقية حتى بلغت تلك الذروة العالية... فلتهتم الهمم ولتسعى القدم والسلام.
زينب فواز
لقد أجادت حضرة الكاتبة فيما أثبتته من انشراح الصدر لهذا المسعى الأدبي فإنه ليس أشهى إلى القلب ولا ألذ للعين من مرأى يد الكريم تبسط لمحاربة الجهل والتطوع لخدمة العلم لاسيما في بلاد طال عليها أمد التقهقر والضعف فأضحى أهلها في حاجة ماسة للاستعانة بمثل تلك الأيدي الجميلة والتعلق بأهداب تلك النفوس السامية ولقد بدا من تباشير النهضة العصرية ما يؤذن ببزوغ فجر الآمال وبلوغ مراتب طالما كانت بعيدة المنال.
فلتهنأ بلاد حوت صدور كرامها مثل هذه الأريحيّة ولتفخر عروس الوطن بحلية صاغتها يد الجامعة المصرية.
لبيبة هاشم
(فتاة الشرق، ج1، س1، القاهرة، 15 تشرين الأول 1906)
الجامعة المصرية في عشرين سنة
احتفل في يوم 7 فبراير الماضي بوضع حجر الأساس لعمارة الجامعة المصرية بحديقة الأورمان بالجيزة من ضواحي القاهرة. وقد حضر الاحتفال صاحب الجلالة الملك فؤاد الأول والوزراء والمعتمدون السياسيون ورجال الدين وكبار الموظفين والصحفيين. وألقى كل من صاحب المعالي علي الشمسي باشا وزير المعارف، وأحمد لطفي السيد بك مدير الجامعة خطبة عن الجامعة وماضيها وحاضرها ومستقبلها. ثم أمضى جلالة الملك ثلاث كراسات كتب فيها العبارة الآتية: "بقوة الله تعالى قد وضع حضرة صاحب الجلالة الملك فؤاد الأول ملك مصر المعظم الحجر الأساسي في بناء الجامعة المصرية يوم الثلاثاء 15 شعبان سنة 1346هـ ـ 7 فبراير سنة 1928م" ووضعت الكراسات ومجموعة من الصحف المحلية والنقود في جوف حجر الأساس. فرأينا بهذه المناسبة نشر هذا المقال الجامع لحضرة الكاتب الفاضل الأستاذ توفيق حبيب. |
كيف أنشئت الجامعة
كانت الجامعة المصرية أمنية من الأماني الوطنية. لجّ الكاتبون والهداة وألحفوا في الحثِّ على إنشائها إلى أن كان يوم 30 سبتمبر سنة 1906 فنشر مصطفى كامل الغمراوي بك، من أعيان بني سويف، رسالة في الصحف المحلية المصرية دبّجها بالإشارة إلى حاجة الأمة إلى جامعة. ووجوب اكتتاب كل مصري بما في وسعه لتأسيسها، ثم قال:
«لذلك، ولاعتقادي بأن على كل منا ديناً لوطنه يجب وفاؤه وعدم المماطلة فيه، بادرت للاكتتاب بخمسمائة جنيه افرنكي لمشروع إنشاء مدرسة جامعة مصرية عامة على الشروط الآتية:
أولاً ـ ألا تختص بجنس أو دين بل تكون لجميع سكان مصر على اختلاف جنسياتهم وأديانهم فتكون واسطة للإلفة بينهم.
ثانياً ـ أن تكون إدارتها في السنين الأولى في أيدي جماعة ممن يصلحون لإدارة مثل هذا المعهد العلمي الكبير وثبتت كفاءتهم للملأ.
ثالثاً ـ أن يكتتب على الأقل ألف من سكان مصر كل منهم بمبلغ لا يقل عن مئة جنيه. ويجوز أن يزيد عن هذا المبلغ إلى ما شاء كرم الواهب وحبه لوطنه والإنسانية.
رابعاً ـ أن يقام بناء هذه المدرسة الجامعة في بقعة خلوية من أجمل بقع مصر على شاطئ النيل. وتعمل لها حديقة من أجمل الحدائق وغير ذلك من الأمور التي يقررها المكتتبون إلى أن قال: "وفي الختام أقول: إذا لم يجب هذا النداء ألف من مثري مصر وهم ألوف عديدة فلنخبئ وجوهنا أمام كل الأمم، ولنعترف بأننا عاجزون عن مباراة الأجانب في مضمار الحياة الأدبية والمادية.
وها أنا في انتظار ما يكون، فلعل أغنياؤنا يقبلون بكلياتهم على هذا المشروع المفيد لأفرادهم وللأمة، حتى يكون ذكر من يشترك منهم في هذا العمل خالداً في سجلات كبار الرجال الذين كانت لهم الأيدي البيضاء في ترقية أوطانهم ويبقى لهم بين الخلق أثر جميل لا يمحى».
أول من لبى الدعوة
في يوم 4 اكتوبر سنة 1906 نشرت جريدة "المؤيد" نبذة في محلياتها ذكرت فيها من أسماء من يؤيدون المشروع ختمتها بقولها:
"وكان هناك صوتاً شريفاً عالياً قد أجاب دعوة المفضال مصطفى بك كامل الغمراوي ممن اشتهروا بالعدل وصدق البصيرة وعلو النظر. سمعنا هذا الصوت العالي من حضرات الفضلاء سعد بك زغلول أمين المستشارين في محكمة الاستئناف الأهلية، ومحمد بك سليمان أباظة المفتش بديوان الأوقاف. وقد كلفنا حضرات هؤلاء أن نعلن شكرهم لغيرة حضرة الثري الأمثل مصطفى بك الغمراوي والمساهمة منهم في المشروع باكتتاب مائة جنيه. وعليه، فقد رأينا أن نقترح على حضرة البك المشار إليه حضوره إلى القاهرة ودعوته جميع الذين اكتتبوا لتكوين لجنة عاملة للمشروع تدعو الأمة إلى الاكتتاب بنظام يكفل سيره بنجاح".
في بيت سعد باشا
حضر مصطفى بك كلمل الغمراوي إلى العاصمة وقابل أولئك الأفاضل الذين لبّوا دعوته، واتفق الجميع على الاجتماع في منزل المرحوم سعد زغلول باشا. وهذا نص محضر الجلسة الذي نشر في الصحف:
في تمام الساعة الرابعة بعد ظهر يوم الجمعة 24 شعبان سنة 1324 (12 اكتوبر سنة 1906) اجتمع في دارة عزتلو سعد بك زغلول بجهة الانشاء الموقعون على هذا بصفتهم من المكتتبين الأولين لانشاء (الجامعة المصرية) وقيد كل منهم اكتتابه للجامعة. ثم قرروا بعد المداولة ما يأتي:
ـ انتخاب لجنة تحضيرية مؤلفة من حضرات: سعد بك زغلول وكيلاً للرئيس العام، قاسم بك أمين سكرتيراً للجنة، حسن بك سعيد وكيل البنك الألماني الشرقي أميناً للصندوق، محمد بك عثمان أباظة، محمد بك راسم، حسن بك جمجوم، حسين سيوفي باشا، أخنوخ أفندي فانوس، زكريا أفندي نامق، محمود بك الشيشيني، مصطفى بك كامل الغمراوي أعضاء.
ـ تأجيل انتخاب الرئيس العام للجلسة المقبلة.
ـ نشر دعوة في جميع الصحف المحلية عربية وإفرنجية (بالحثّ على الاكتتاب للجامعة).
ـ هذه الجامعة تسمى "الجامعة المصرية".
ـ الاجتماع مرة أخرى بدعوة خصوصية لانتخاب الرئيس وأعضاء اللجنة النهائية.
بعد شهرين
في يوم الجمعة 31 نوفمبر سنة 1906 عقدت اللجنة التمهيدية جلستها الثانية في منزل حسن بك جمجوم. وكان المرحوم سعد زغلول باشا قد عين وزيراً للمعارف، فألقى خطبة أعلن فيها عن المشاركة العملية في لجنة الجامعة وأكد أنه لا يفتر عن معاضدة المشروع. وقال الأستاذ الياس بك عوض أن بطريكخانة الأقباط الأرثوذوكس قد انتدبت كلاً من مرقس حنا ومرقس فهمي للإعراب عن عطفهما على المشروع واكتتابها له بمبلغ. وألقى المرحوم قاسم أمين بك خطبة ضمّنها ما قامت به اللجنة التمهيدية من أعمال ومساع في الشهرين الماضيين. وهذه خلاصة الخطبة:
أولاً ـ اهتم (الخطيب) كثيراً في البحث عمن يرأس اللجنة من الأمراء فلم يفلح. وذلك وقفت حركة الاكتتاب.
ثانياً ـ خاطب أحد أمراء البيت الخديوي في أن يكون رئيساً للجامعة فلم يقبل ولم يرفض.
ثالثاً ـ طلب مساعدة الحكومة فلم تقبل لأنها تعتقد أن مشروعاً كبيراً كمشروع الجامعة لم يأت الوقت المناسب لأن تقوم به الأمة.
رابعاً ـ إن سمو الخديوي أظهر ارتياحاً إلى المشروع والقائمين عليه.
وفي هذه الجلسة انتخب قاسم بك أمين رئيساً مؤقتاً. ومحمد فريد سكرتيراً. ونشطت اللجنة للعمل لإتمام مقاصدها. فأقبل السراة والأعيان على الاكتتاب لها بمبالغ طائلة. وكان أمراء العائلة الخديوية في مقدمة المكتتبين فدفع المرحوم الأمير عزيز حسن ألف جنيه والأميرة نازلي هانم حليم 300 جنيه. ووقف المرحوم حسن باشا زايد للجامعة 100 فدان في المنوفية، وعوض بك عريان المهدي 83 فداناً في بني سويف. وكان أكبر عمل قامت به اللجنة أنها أقنعت صاحب الدولة الأمير أحمد فؤاد باشا (صاحب الجلالة الملك فؤاد الأول) بقبول رياسة إدارة الجامعة.
تأسيس الجامعة الغرض منها أول مجلس إدارة لها
وفي 30 مايو سنة 1908 أصدر مجلس إدارة الجامعة البيان الآتي:
تأسست جمعية لأجل إنشاء وإدارة جامعة مصرية. والغرض من هذه الجامعة ترقية مدارك وأخلاق المصريين على اختلاف أديانهم، وذلك بنشر الآداب والعلوم. وتكون هذه الجمعية خاضعة للنظامنامة المرفقة بهذا.
وموارد هذه الجمعية هي ما يلي:
أولاً ـ المبالغ المتحصلة أو التي تتحصل بطريق الاكتتاب العمومي.
ثانياً ـ الإعانة السنوية البالغ قدرها خمسة آلاف جنيه مصري التي تبرع بها ديوان عموم الأوقاف.
ثالثاً ـ الاشتراك السنوي.
رابعاً ـ الهبات والوصايا التي صدرت أو تصدر في المستقبل برصد منقولات وعقارات باسم الجامعة.
خامساً ـ الإعانات الدورية أو غير الدورية التي يمكن أن تمنحها للجامعة الحكومة المصرية أو المصالح العمومية أو الخصوصية أو الأفراد.
ومجلس الإدارة الأول يكون مؤلفاً من: دولة الأمير أحمد فؤاد باشا رئيساً، سعادة حسين رشدي باشا وابراهيم نجيب وكيلين، وحضرة أحمد زكي بك سكرتيراً، حضرة حسن سعيد بك أمين صندوق. سعادة أرتين باشا، سعادة الدكتور علوي باشا، سعادة عبد الخالق ثروت باشا، حضرة مرقس حنا أفندي، جناب مسيو ماسبرو، حضرة يوسف صديق بك، حضرة علي ذو الفقار بك أعضاء.
تحرر هذا، وتوقع عليه مع النظامنامة المرفقة به من حضرات الأعضاء المذكورين، على خمس عشرة نسخة لكل واحد من المؤسسين الموقعين على هذا نسخة واحدة. وحفظت النسخة الأصلية بقلم سكرتارية الجامعة. (القاهرة في 20 مايو سنة 1908)
وفي أول يونيو سنة 1908 كتب دولة الأمير أحمد فؤاد باشا إلى المرحوم مصطفى فهمي باشا ناظر الداخلية خطاباً أبلغه فيه تأليف مجلس إدارة الجامعة وأسماء أعضائه وقانون الجامعة. وختم الخطاب بقوله: "ولي أمل عظيم في أن عطوفتكم تتكرمون بإجراء ما فيه الإقرار من الحكومة المصرية على أن الجامعة المصرية من الأعمال ذات النفع العام نظراً للفائدة الكبيرة التي تنشأ عن ذلك المعهد الجديد والخدم العظيمة الشأن التي سيقوم بها للبلاد، إذ يمهد للشبيبة النشيطة سبيل التخرج في العلوم العالية ويخدم القطر خدمة صحيحة ترفع من شأنه وتزيد في توطيد أركانه".
فردَّ المرحوم مصطفى فهمي باشا بخطاب تاريخه 6 يونيو سنة 1908 جاء فيه: "وقد سرَّنا ما بذله مؤسسوها (مؤسسو الجامعة) من الهمة الممدوحة التي يستحقون عليها جزيل الشكر. ومع الموافقة على هذا العمل الجليل ذي المنفعة العمومية الذي أرجو تعميم فائدته، فإننا نسأل الله تعالى دوام التوفيق لاستدامة النفع به.
افتتاح الجامعة
واحتفل بافتتاح الجامعة رسمياً يوم 21 ديسمبر سنة 1908 في قاعة مجلس شورى القوانين (قاعة مجلس الشيوخ الحاضرة) تحت رياسة سمو الخديو عباس باشا الثاني وحضور النظار (الوزراء) وكبار رجال الحكومة ووكلاء الدول السياسيين والقناصل ورؤساء الدين والأعيان الوطنيين والأجانب. وألقى صاحب الدولة الأمير أحمد فؤاد باشا خطبة ردَّ عليها سمو الخديو بأن وعد برعايته الجامعة وعناية حكومته السنّية بها.
عمل جلالة الملك في الجامعة
ولا يذكر اسم الجامعة المصرية إلا مقترناً باسم صاحب الجلالة الملك فؤاد الأول. فهو الذي كفلها منذ كانت فكرة. وحماها وهي طفل في المهد. وقوّاها على السير. وسافر إلى أوربا غبر مرة مستمداً لها العون من الحكومات والهيئات العلمية. وبرعايته اشتغل بالتدريس فيها كبار المستشرقين. وتحت ملاحظته وإشرافه أنشئت مكتبتها وأهديت إليها المؤلفات الثمينة في العلوم العصرية والقديمة. وهي من المكتبات العلمية المعدودة في مصر بمحتوياتها وتنظيمها وفهارسها.
وبقي جلالته قائماً بهذه المهمة حتى 29 أبريل سنة 1913 ثم استعفى من رياسة مجلس الإدارة فحمل إليه الأعضاء خطاب شكر ذكروا فيه أياديه البيضاء على الجامعة وسألوه أن يقبل رياسة الشرف.
ثم انتخب سمو الأمير يوسف كمال رئيساً لمجلس الإدارة. ولكن مشاغله الوقتية لم تسمح له بالعمل طويلاً. فانتخب صاحب الدولة حسين رشدي باشا رئيساً لمجلس الإدارة. وبقي في هذا المنصب حتى تسلمت الحكومة الجامعة القديمة في سنة 1925.
أكبر المحسنين إلى الجامعة الأميرة فاطمة هانم اسماعيل
كانت المغفور لها الأميرة فاطمة هانم إحدى كريمات الخديو اسماعيل وشقيقة صاحب الجلالة الملك في طليعة من نشّطوا الجامعة، وأكبر المحسنين إليها، إذ حبست لها 661 فداناً من الأراضي الزراعية الجيدة التربة في مديرية الدقهلية ليصرف ريعها (بعد حياة الواقفة) على الجامعة. وأهدت إليها كمية من أثمن الحلي وأنفس الجواهر لينفق ثمنها على بناء دار للجامعة. وقدّر ثمن هذه الحلي في سنة 1913 بمبلغ 22 ألف جنيه وبيع بعضها في مصر والبعض في أوربا. وقدّمت إلى الجامعة كذلك ستة أفدنة في جهة بولاق الدكرور لعمارة الجامعة، واحتفل في 30 مارس سنة 1914 بوضع الحجر الأساسي لها بحضور الأمراء والوزراء والمعتمدين السياسيين وكبار الموظفين. ولكن نشوب الحرب الكونية أوقف إتمام البناء. فاستولت عليه الحكومة مقابل جزء من الأرض التي قدمتها إلى الجامعة لعمارتها الجديدة في حديقة الأورمان بالجيزة.
وأشار الأستاذ لطفي السيد بك في خطبته (يوم 7 فبراير الماضي 1928) إلى مبرّة الأميرة فاطمة اسماعيل، وقال أن اسمها سينقش على باب كلية الآداب اعترافاً بفضلها وخدمتها للجامعة.
الجامعة في عهدها الأول
بدأت الجامعة أعمالها في سنة 1908 1909 وألقيت فيها محاضرات قيّمة لنفر من علماء مصر وأوربا المشهورين. وقد تطورت المحاضرات في السنوات التالية واتسعت في بعض مناحيها مما يطول تفصيله هنا.
وكان الإقبال على هذه المحاضرات في البدء عظيماً، وبلغ عدد المنتسبين والمستمعين في السنة الأولى 723 منهم 48 سيدة، وكان الانتساب والاستماع بأجرين. ثم أخذ الإقبال يقلّ شيئاً فشيئاً. وألغي رسم الحضور ولم يقيد بشرط ما. ومع ذلك تناقص عدد الحاضرين تناقصاً مدهشاً. حتى أن بعض المحاضرين لم يكن يجد في بعض الأحيان أكثر من عشرة مستمعين بعضهم ممن لايدركون شيئاً من العلم الذي يحاضرهم فيه.
اعتراف الحكومة بشهادات الجامعة القديمة
وفي سنة 1913 1914 دارت المخابرة بين الجامعة ونظارة المعارف وكان على رأسها حينئذ المرحوم أحمد حشمت باشا، للحصول على امتياز خاص بالمتخرجين في قسم الآداب الحاملين إجازته فحولت لهم امتيازاً، واشترطت أن تمثل في لجنة امتحان العالمية بعضوين من أعضاء الجامعة الثلاثة.
وهذا الامتياز هو أن يكون راتب الحاصلين على شهادة الجامعة من 15 إلى 20 جنيهاً في الشهر بدلاً من 12 إلى 16جنيه عند تعيينهم مدرسين في مدارس المعارف.
وكتب صاحب الدولة ثروت باشا في 13 مايو سنة 1915 (وكان حينئذ وزيراً للحقانية) إلى رئيس مجلس إدارة الجامعة يقول:
"إن وزارتي راغبة في تشجيع التعليم العالي الذي يلقى في فروع العلوم الجنائية بالجامعة وستمنح الأولوية في الانتخاب لوظائف أعضاء النيابة عند تساوي المرشحين لهذه الوظائف للحائزين منهم على إجازة فرع العلوم الجنائية..."
دكاترة الجامعة القديمة وأطاريحهم
حصل على دكتوراه الجامعة بحسب نظامها القديم سبعة. وفي ما يلي اسم كل منهم واسم أطروحته (رسالة ـ Thése) مرتبين بحسب سني تقدمهم للامتحان:
1) الدكتور طه حسين: أبو العلاء المعري.
2) حسن ابراهيم أفندي: عمر بن العاص.
3) أحمد بيلي أفندي: صلاح الدين الأيوبي.
4) حامد أفندي المرعشلي: فتح الأندلس وأول عهد العرب بها.
5) الشيخ زكي مبارك: الغزالي.
6) المسيو اسرائيل ولفسون: تاريخ اليهود في بلاد العرب في الجاهلية وصدر الإسلام.
7) أحمد فريد رفاعي أفندي: عصر المأمون.
ميزانية الجامعة في سنواتها الأولى
سنة 1908 كان الإيراد 21210 جنيه، منه 13844 من الاكتتابات، والمنصرف 2742ج.
1909 ـ 1910 الإيرادات 7202 جنيه، والمصروفات 8545 جنيه.
1910 ـ 1911 الإيرادات 8738 جنيه، والمصروفات 6662 جنيه.
1911 ـ 1912 الإيرادات 9588 جنيه، والمصروفات 11017 جنيه.
1912 ـ 1913 الإيرادات 10654 جنيه، والمصروفات 10898 جنيه.
1913 ـ 1914 الإيرادات 9096 جنيه، والمصروفات 8394 جنيه.
1914 ـ 1915 الإيرادات 6368 جنيه، والمصروفات 8118 جنيه.
وفي السنة الأخيرة (1914ـ1915) كان رأس مال الجامعة 46625 جنيهاً. وقيمة الأطيان الموقوفة 17 ألف جنيه.
ثم جاءت الحرب. وانقصت الحكومة ووزارة الأوقاف إعانتهما للجامعة. وقلت التبرعات والاكتتابات والمرتبات، فانحطت الميزانية إلى أقل من النصف.
من الأمة إلى الحكومة
وأدركت الحكومة في سني الحرب العالمية أن الجامعة أصبحت غير قادرة على السير في المهمة التي تصدت لها. فألفت لجنة لبحث الموضوع وقدمت تقريراً أشارت فيه بجمع المدارس العالية في إدارة واحدة. وفي سنة 1923 أشار جلالة الملك على وزير المعارف بوضع نظام للجامعة. فاتصل بمجلس إدارة الجامعة القديمة، وتم التعاقد بين الطرفين على إدماجها في الجامعة الجديدة على أن تكون الجامعة القديمة نواة لكلية الآداب. وفي 11 مارس سنة 1925 صدر مرسوم ملكي بقانون إنشاء الجامعة المصرية وتنظيمها في 23 مادة ننقل منها المواد الآتية:
مادة 1 ـ تنشأ في مدينة القاهرة جامعة تسمى "الجامعة المصرية" وتتكون من الكليات الآتية: كلية الآداب، كلية العلوم، كلية الطب وتشمل فرع الصيدلية، كلية الحقوق، وغير ذلك من الكليات التي يجوز أن تنشأ فيما بعد بمرسوم بناء على طلب وزير المعارف العمومية وبعد أخذ رأي مجلس الجامعة.
تندمج في الجامعة مدرستا الطب والحقوق والجامعة المصرية الحالية على أن تعتبر على التوالي كليات الطب والحقوق والآداب.
مادة 2 ـ من اختصاص الجامعة المصرية كل ما يتعلق بالتعليم العالي الذي به تقوم الكليات التابعة لها، وعلى العموم فإن عليها مهمة تشجيع البحوث العلمية والعمل على رقي الآداب والعلوم في البلاد.
مادة 8 ـ يعين مدير الجامعة بمرسوم بناء على طلب وزير المعارف العمومية، وهو يدير الجامعة من حيث التعليم ومن حيث الإدارة. ويمثلها في جميع ما لها وما عليها.
مادة 12 ـ مجلس إدارة الجامعة هو الهيئة المنوط بها شؤون الجامعة سواء فيما يتعلق بالتعليم والامتحانات ومنح الدرجات والدبلومات والشهادات الأخرى، أو فيما يتعلق باستثمار أموالها وإيراداتها وإدارتها والتصرف فيها.
مادة 17 ـ تكون اللغة العربية هي لغة التعليم في الجامعة، ما لم يقرر مجلس الجامعة في أحوال خاصة استعمال لغة أجنبية.
واختير الأستاذ أحمد بك لطفي السيد مديراً للجامعة المصرية منذ تولتها وزارة المعارف.
الحالة الحاضرة في الجامعة (1928)
يبلغ عدد الطلبة في الجامعة الآن 2341 (كلهم من الحاصلين على البكلوريا) ومنهم 12% اعفوا من المصروفات، و2% اعفوا من نصف المصروفات كل على قدر اجتهاده. وهم يتلقون العلم في أربع كليات:
1ـ كلية الآداب: وتنقسم إلى ستة أقسام. يبتدئ الشخص في كل منها من أول سنة. وهي: اللغة العربية واللغات السامية. الآثار المصرية. الفلسفة وعلم الاجتماع. التاريخ والجغرافيا. اللغات الحية. الآداب اليونانية والرومانية. وتمنح الليسانس في الآداب بعد دراسة أربع سنوات. ودرجة الماجستير بعد الحصول على الليسانس بسنتين وتقديم أطروحة ترضاها الجامعة. ودرجة الدكتوراه لمن حصل على الليسانس وقدم رسالتين ترضاهما الكلية. وقد خصصت في كلية الآداب دراسة تحضيرية للحقوق الغرض منها الثقافة، وإن كانت تشمل أيضاً درساً في مقدمة الشريعة الإسلامية.
وعدد الطلبة في هذه الكلية 506 منهم 348 يحضرون للحقوق، و159 للآداب.
2ـ كلية العلوم: تدرس فيها الآن الرياضة البحتة والرياضة التطبيقية والكيمياء والنبات والحيوان والجيولوجيا. وفيها قسم خاص لتحضير طلبة الطب في سنة واحدة. وستمنح الجامعة درجة ماجستير ودرجة دكتوراه في العلوم بالأوضاع والشروط المقررة في اللائحة. وعدد الطلبة في كلية العلوم 378، منهم 253 يحضرون للطب، و 125 للعلوم.
3ـ كلية الحقوق: أدخل على خطط الدراسة ومناهج التدريس في هذه الكلية تعديل جديد يتناول قصر مدة الدراسة المؤهلة لدرجة الليسانس على ثلاث سنوات. والتوسع في بعض المواد وتغيير في ترتيب سنيها. وأنشيء فيها قسم للدكتوراه.
وعدد الطلبة في هذه الكلية 599، منهم 504 في قسم الليسانس، و95 في قسم الدكتوراه.
4ـ كلية الطب: جعلت مدة الدراسة فيها أربع سنين وثلاثة أشهر لنيل درجة بكلوريوس في الطب. وأنشئت فيها درجات عالية وشهادات للتخصص وهي: دكتوراه في الطب، ماجستير في الجراحة، ماجستير في جراحة طب الأسنان، ماجستير في الصيدلة، دبلوم التخصص في طب المناطق الحارة والصحة العامة، دبلوم التخصص في الرمد. وعدد طلبة الكلية 858، منهم 633 في قسم الطب والجراحة، و92 في طب الأسنان، و29 في الصيدلة، و86 في الممرضات، و18 في قسم مساعدي الصيدلة.
لغة التعليم في الجامعة
قال الأستاذ أحمد لطفي السيد في خطبته يوم 7 فبراير الماضي 1928:
"وقد تحسن الإشارة هنا إلى أن الجامعة لم تستطع أن تجعل اللغة العربية لغة التعليم كما هو مرجو، وإن كان لها في التعليم حظ عظيم في كلية الحقوق، وفي بعض أقسام الكليات الأخرى. والمأمول أن قسط اللغة العربية في التعليم يزداد شيئاً فشيئاً بالزمان، وكلما أمكن ذلك من غير أن تستتبع صعوبة في الاتصال بالحركة العلمية في أوربا ذلك الاتصال الذي يجب على العلم المصري أن يرقاه بفضل رعايته، ولهذا الغرض ينبغي ألا يستغنى التعليم المصري عن اللغات الأجنبية تعليماً لذاتها، وأداة للتعليم إلى زمن غير قريب".
ميزانية الجامعة في سنة 1927 تربو على ربع مليون جنيه
بعد أن كانت ميزانية الجامعة في سنواتها الأولى تتراوح بين خمسة آلاف جنيه وعشرة آلاف جنيه أصبحت في سنة 1927 تربو على ربع مليون جنيه. وهذا بيانها مجملة: