هذه مراجعة لكتاب شيق يتناول مسألة إشكالية بحق، حيث تكشف لنا هذه الدراسة في شعر النقاد أن المعرفة النظرية وحدها لاتخلق شعرا عظيما، لأنه لابد أن ترفدها معرفة حدسية أيضا.

قراءة في رواية «البق والقرصان»

للكاتب الجزائري المهاجرعمارة لخوص

نبيل دارغوثي

أصبحت الرواية الجزائرية في التسعينات علامة بارزة في الرواية العربية بفضل جهود ثلة من الكتاب الشباب، واستطاع هذا الجيل بنصوصه أن يحقق ازدهارا و مكانة مرموقة ضمن المدونة الروائية العربية. ونذكر وجها من وجوه هذا  الجيل الجديد:عمارة  لخوص. هذا الشاب الذي ولد بالجزائر  العاصمة سنة 1970 وتخرج من معهد الفلسفة بجامعة الجزائر، وتحصل على الماجستير في الأنثربولوجيا الثقافية من جامعة روما سنة 2002،  وهو الآن بصدد إعداد دكتوراه في نفس الجامعة حول المهاجرين العرب المقيمين بإيطاليا، يقيم في روما منذ سنة 1995 حيث ينشط في مجالات مختلفة كالترجمة والصحافة. وقد صدرت له روايتان الأولى بعنوان (البق والقرصان) نشرت بإيطاليا سنة 1999 في نسخة مزدوجة بالعربية والإيطالية، أما الثانية كانت  طبعتها الأولى بالجزائر عام 2003 والطبعة الثانية بلبنان سنة 2006 تحت عنوان(كيف ترضع من الذئبة دون أن تعضّك).

روايته البكر(البق والقرصان) جاءت في ثلاثة فصول معنونة على شكل اليوميات بهذا التفصيل:

الخميس 27 فبراير
الجمعة 28 فبراير
السبت 29 فبراير

فكانت كامل الرواية ترصد أحداث حياة الشخصية «حسينو» في هذه ثلاثة أيام ساعة بساعة ودقيقة بدقيقة ناقلة تفاصيل  حياته الصغيرة والكبيرة. وهذه الكتابة حول المعيشLe vécu والتفاصيل البسيطة في حياة الإنسان.كان من روادها صنع الله إبراهيم الذي كان سبّاقا في هذا الأسلوب من الكتابة عربيا  ولكن عمارة لخوص  كان أ كثر دقة و عمقا في تناول التفاصيل بكتابة فيها روح و نفس روائي دون، أن يصيب  قارئها الملل وهذا لا نجده في كتابة صنع الله إبراهيم. فهذا الشكل من الكتابة يذكرنا برواية جيمس جويس (عوليس).و هي متابعة أحداث يوم واحد عبر نص كامل.

(البق والقرصان) سبرت أغوار الحياة اليومية لحسينو وكشفت مشاعره السرية وسلطت  الضوء على شخصيته الداخلية، وهكذا جعل عمارة لخوص البطل «حسينو» كشاعر ميلان كونديرا: «شاب تقوده أمه إلى أن يعرض نفسه أمام عالم يعجز عن الدخول فيه» ويمكن اعتبار «حسينو» شخصية مفصومة تتأرجح بين المقدس والمدنس فهو يصلي ويتلو القرآن والدعاء والأذكار عند نهوضه من النوم وخلوه إليه يوميا، ولكنه يرتكب الكبائر من زنى، وشرب الخمر، ولعب القمار، إلى حد أنه حوّل صلاة الاستسقاء التي تدعو فيها الجماعة الله أن يدفع عنها الجفاف و يرزقها الغيث الى دعاء «حسينو» الله أن يجعله يفوز باللوطو لتصبح صلاته من صلاة الاستسقاء إلى صلاة الفوز باللوطو. وقد عرض النص هذه المفارقات العجيبة بفن روائي رفيع نابع عن وعي حاد ورؤية ثاقبة للمؤلف، و لعل تكوينه الانثروبولوجي مكّنه من فهم و سبر أغوار المجتمع الجزائري في ظل الهزات السياسية والاقتصادية والاجتماعية (البطالة ـ غلاء المعيشة ـ أزمة السكن ـ الظاهرة الإسلاموية)الراهنة فلم يتخلّ عمارة لخوص عن دوره كمثقف في نقد أوضاع وطنه الجزائر بسخرية سوداء. وسخرية فيها الكثير من الاستهزاء في عمل روائي يرشح بروعة فنية دون سقوطه في الإيديولوجيا المفرطة التي نجدها في الكثير من الروايات العربية. فعمل الروائي هو إيجاد شكل فني يحتوي الفوضى بأسلوب وتكنيك يصنع منه شيئا.

من بين ميزات هذه الرواية اللغة والأسلوب اللغوي فاستعمال العامية الجزائرية وحضور كلمات باللغة الفرنسية تدل على واقعية لغوية. لأن ثنائية اللسان الجزائري هي لغة تواصله اليومي. وقد تفطّن الناقد التونسي كمال الرياحي لميزة هذه اللغة في تشكيل جمالية هذا النص الروائي بقوله في دراسته «لغة الحياة و حياة اللغة»: «عمارة لخوص تعمد استعمال العامية الجزائرية لأغراض فنية وإيديولولجية». وهناك من ذهب مذهبا آخر أن هذه اللغة سوقية لا تمت بصلة للأدب والأدبية. فهذه النفس المريضة التي تعتقد أنها وارثة سبويه وحامية اللغة العربية، لا تفقه شيئا من فن الرواية. فالبلاغة ليست في أن نكتب بأسلوب الجاحظ، أو سجع الحريري. هذا النوع من البلاغة نوع متحفي لأن نصّ (البق والقرصان) يكتب ببلاغة أخرى وقد كان طه حسين محقا حينما قال: «نريد أن يفهمنا الناس، كما نريد أن نفهم الناس، لهذا نتحدث إلى الناس بلغة الناس... نحن أحياء نحب الحياة ولا نحب الموت».

فأحيانا نجد في اللغة السوقية بلاغة أشد من الفصحى كعرض صورة فنية بلغة بسيطة قريبة من الناس. ولعل أبلغ صورة فنية أتى بها عمارة لخوص هي افتتاح النص بكلمة فرنسية "Bordel" ( الماخور) وانتهائه بترديد كلمة "يدكم في شكوبي (الذكر)". وهذه الصورة هي اختزال وتكثيف للحياة التي نعيشها. فعند الولادة ننزل من بطون أمهاتنا لنمسك من أرجلنا ورؤوسنا إلى أسفل ونضرب على مؤخراتنا لنأخذ في الصراخ والبكاء، وترجمة هذا الصراخ والبكاء «لماذا نزلنا إلى هذا العالم-الماخور؟» وهكذا تبدأ رحلة القمع من القابلة أولا ثم الأم ـ الأب ـ الأخ ـ الأخت ـ الجار ـ الجارة ـ الصديق ـ الصديقة ـ المعلم ـ رئيس العمل ـ الزميل ـ الزميلة ـ الحبيبة ـ الزوجة ـ الابن ـ الابنة، إلى الزمن والدهر لتستقر بنا الرحلة في قبر مقاسه مترين على نصف متر. ومن ثم لم يبق بعد هذا المآل إلا أن نردد لهذه الحياة ما ردده «حسينو» في آخر الرواية.

(البق والقرصان) رواية استثنائية بقدرتها على استيعاب فوضى العالم، وخراب الحياة، وكينونة الإنسان. مؤكدة سؤال ميلان كوينديرا «ألا يغدو وجود الرواية اليوم أشدّ ضرورة من أي وقت مضى؟»  


كاتب و صحفي ثقافي من تونس
nabildarghouth@yahoo.fr