ان الاشتغال على النص بحبكة سردية تحاكي هموم الانسان الكونية هي حالة من التحدي لاعادة صياغة الذات الانسانية التي من شانها ان تفكك الكثير من حالات التماهي لدى المرء لتخلق الاستعداد المسبوق بالحافز المعرفي للاسئلة الفلسفية الكبرى عن الوجود والكون ويصبح الانسان عندها كائنا معرفيا تستبطن دواخله دوامة من رغبة البحث وحرقة الاكتشاف حين يصبح ديدنه طرح الاسئلة المستفزة لترتب فضاءا للفرجة الهادفة والاكثر صدقا وملامسة لهموم البشر، لربما تصبح اكثر جدوى من تلك الاجابات الشافية لان عنصر المتعة في الولوج الى تفكيك رتابة الحياة وخلق حافز المعرفة الكبرى والابتعاد عن جاهزية الاجابات الرتيبة قد تعني في احايين كثيرة البرود المعرفي والكسل الذهني الممجوج. وهكذا قصد الفنان عبدالحق الزروالي من عرضه المسرحي الممتع- كدت اراه – تحقيق ازدواجية معرفية وفنية بخلق اللحمة بين الذهني المتميز والعرض الفرجوي الفاتن.
وعنوان العرض قبل الدخول الى تفاصيله ربما لا يسلط هم الكشف وسبر تفاصيله للدخول في مساراته من خلال التوظيفات الرمزية والصياغات الفلسفية ليضعنا على اعتاب محطات معرفية قد تخلق ارباكا للوصول الى الحقيقة بيسر ومعرفة ماهية الذات الانسانية الضائعة في محارق الحروب والفتك والقسوة في عالمنا العربي المبتلي بهكذا حالات. يريد الفنان ان يتوحد بالمطلق مع ذاته ويقحمنا في ذات الحالة للدخول الى محرابه والتحزب معه فكرا ووجدانا ومصيرا واحدا في عوالم صوفية من نيش في الموروث الفكري الذي برد وهمش في صخب الفتنة والحروب الرخيصة وذاتية النوايا من هبوط القيم ومسخ الجميل في حياتنا التي اضحت كابوسا مرعبا وضاع الجميع في انشغالاته الحسية الرثة.
ان الفنان ينوي ان يحقق مع المشاهد نوعا من التوازن الروحي دون ان يزج نفسه في مأزق المعرفة العليا للذات البشرية، بل ان يوظف مكوناته الفكرية والجسدية كفنان يعرف ادراك حالة التماهي المقدس على الخشبة وهذا التمايز في العرض هو الانبهار الكلي بحد ذاته، انه اختبار للذات ومدى ثباتها ازاء مغريات الحياة وتلوث حقيقة الوجود الانساني. ساد العرض تشكل فني باهر وتنوع ملفت في طقوس التشخيص ليرفع المشاهد من اللحظة الحسية الى الانبهار الكلي وتحفيز مكونات المشاهد الضاربة في الصرامة و والعناد للانتقال الى اصدق لحظات المواجهة مع الذات والاخر للانفلات من لحظات الانخذال والخوف الى صيغ متقدمة من المواجهة بطرق تحريضية اراد لها طاقم العرض ان تكون صادمة لتنقل المتفرج من لحظة الترقب الى حالة المشاركة بقوة في تفاصيل العرض. اظن شخصيا ان الجهد المتميز الذي وظفه بحرص شديد الفنان المتميز عبدالحق الزروالي يستحق منا الثناء لهذا المبدع الذي عانى كثيرا لاخراج هذه التوليفة الفرجوية الفاطنة. كان النص زاخرا بالجمل والعبارات والافكار والرؤى والقيم الصوفية التي اطرت فضاء العرض، نصوصا اقتبسها مؤلف النص من ابن عربي والنفري والحلاج واثثها بنصوص باهرة وباختيار فطن وحالم لمحمود درويش وامل دنقل.
لاكثر من تسعين دقيقة تسّيد الفنان الزروالي الخشبة بتمكن ابهر الحضور وبعرض طغى عليه اسلوب الحكاية والحوار والمراجعة التأريخية تخللته حالات من الفرح والانكسار والهذيان احيانا دون ان يغفل المزحة الجميلة واستدراج المشاهد للنكتة المشوبة بالالم. كانت تشكلات نوعية مدهشة ابهرت المتفرج وكتم انفاسه طيلة وقت العرض حتى تحولت العلاقة بينهما – أي الفنان والمشاهد – الى حالة من التحدي في فهم نوايا النص واحبولاته التي لم تكن باليسيرة الوضوح على الانسان العادي ليصلا معا الى حمل الهموم المشتركة بسموها واصدق معانيها. انها المعرفة الخازنة للوجع الانساني حين يوظفها المبدع في البحث والاستقصاء للوصول الى الحقيقة بقالب درامي وتشخيص يحيل العرض الى حالات من المعايشة العاشقة مع كل مكونات العرض المسرحي.
"كدت اراه″ كانت لحظات من التماهي المطلق بين الذات والكون متمثلا باسمى مكوناته ليصل الى ذروة المعرفة وهنا ينبغي التأكيد وبقوة الى الهم الذي انتاب دواخل المبدع الزروالي ليضع اصبعه على الخلل في التركيبة الانسانية المعقدة لكنها ماهية وجودنا منذ الازل وحتى اللحظة، محاولا الامساك بالخيط المعرفي في ادق مكوناته للاجابة عن سرالوجود الكوني واسئلته الحارقة: " من انا ولماذا اعيش وما الذي ينبغي فعله للخلاص من ورطة الوجود المسخ الى عوالم اكثر رحابة لاحقق ذلك التوافق الروحي بصوفية نقية بين الانسان ومكونات محيطه وعوالمه الارحب". كان النص مغرقا بالادعية الصوفية، اضفت على العرض صفاءا روحيا يتحرر المتلقي من خلالها من رتابة اللحظة الى حالات من الشغف الانساني البهي بسريرة من النوايا الطافحة بالمعاني " لا انا من الاحياء ولا من الاموات". "المعرفة نار تأكل المحبة من الخلف".
"ليس عندي وقت لعشق المرأة، انه عشق الاله الانقى.." انا طبن الله كلما احترق ازداد صلابة".
هذا التماهي مع الذات يحيل الفنان في تشكلاته الجسدية والروحية الى ملاك اقرب منه الى كائن ارضي. استمتع الحضور القليل جدا وللاسف الشدديد لهذه الحالة الباعثة على الاستغراب. وهذا الجمهورالعاشق لفن الخشبة، بعرض جديد في محتواه ونصه وطريقة اخراجه وسينوغرافيته، كان نسيجا باهرا اطّر قدرة التشخيص وفرادة العرض الفني بفرجة رائعة. يبدأ العرض بموسيقى هادرة كأنها صخب الحرب واصوات القصف المخيفة، قصد مخرج العرض الى لملمة الذات والانكفاء للحظة المعايشة للولوج الى فضاء المشاهدة.
" انتظروا يا من هناك″ يسمع صراخ امرأة يغم النفس، صدى من بعيد، تتداخل الاصوات "هل من احد هناك ؟ انا المتروك لوحدي، بعد رحيل الاهل، لا وطن ولا اهل ولا حتى صديق" انه الضياع بداية الحكاية وكأنه يريد ان يعيدنا الى طينة الخلق الاولى ببرائتها ودهشتها واحساسها بالضياع.
"اريد حقي ضيعوه، صار حقي كدقيق، فوق شوك بعثروه، ثم قالوا لحفاة، يوم ريح اجمعوه، عمري كله وانا ابحث عن مبتغاي لاعرف معناي". كان العرض احتفالية من الطقوس المركبة والعالمة بتفاصيل الفرجة المسرحية الهادفة والجادة ليشغل حيزا بات لدى الكثير من المهتمين هما حقيقيا لغياب مسرح على هذه الشاكلة وليعيد مجد المسرح المغربي الذي اسس لمرحلة عاصرت اعمالا جادة قبل ان بصل الى مرحلة الانتكاسة التي يعانيها المسرح الان.
انه ليس بالامر الهين ان يتحمل ممثل بمفرده اعباء هكذا عرض وكأننا امام جوقة من الممثلين بحركاتهم المختلفة واصواتهم المتعددة بتعدد الحوارات والشخوص والاسماء والامكنة لاكثر من تسعين دقيقة. انه الممثل الشامل الذي يغطي كامل العرض، مؤلفا ومشخصا ومتسّيدا للخشبة بتلقائية مذهلة وبسرد حكائي سلس ودون توقف، ذلك هو الاحتفاء الحقيقي بقدرة الذات المبدعة لتحيل الخشبة الى عالم من القيم والافكار والابداع الفني القادر على فضح المروق الفكري لسدنة التسليع وثقافة السلطة الهابطة والمهادنة ونفض الغبار عن المسكوت عنه في تأريخنا الذي شوهه وما فتئ مدجنو فكر الانهزام والمساومات الرخيصة.
كان ذلك نبشا ذكيا في الموروث الفكري بانقى حالاته واغترافا ليس مكرورا بل فاطنا وجسورا ليصبح المشاهد الباحث عن لحظات من المؤانسة والنقاء جزءا اساسيا من العرض وكأنه يشارك بطريقة او باخرى في راهنية اللحظة البهية والخاطفة لامتلاك الحدث.وهنا ينبغي ان نستحضر تجارب الفنان الكبير الطيب الصديقي وجهوده في توظيفه للتراث في جل اعماله المسرحية الرائدة في نبشه للذاكرة الشفاهية والمكتوبة وتقديمها باسلوب فرجوي مبهر.
قام بتأليف النص المسرحي و تشخيص العرض الفنان عبد الحق الزروالي.
إخراج : محمد الغرملي
الأغاني والموسيقى التصويرية : محمد الدرهم
سينوغرافيا : يوسف العرقوبي
الديكور : عبد الصمد الكوكبي
الطبع والدعاية : عدنان اعراب
المحافظة : رضا الخليفي، رشيد عرابي، امين الزروالي.
شاعر ومترجم عراقي مقيم في المغرب