يقدم الناقد الفلسطيني هنا تحليلا لخمس من أحدث الروايات الفلسطينية كتبها كتاب وكاتبات من جيل أطفال حجارة الانتفاضة الأولى، ويكشف لنا كيف تعمرها نكهة الموت بنية ولغة وأفقا مسدودا.

الكتابة بنكهة الموت

أعمال روائية فلسطينية في دائرة وجوديّة مغلقة

وليد أبوبكر

في ظلّ الاحتلال، يكون من الطبيعي أن يؤثّر الواقع الذي يعيشه الكاتب، ويعيشه مجتمعه، في الموضوعات التي يستقي منها مادته السرديّة؛ وللشكل الذي يقدّم به هذه المادة، في منجز روائي؛ لذلك لا يكون غريبا أن نحسّ بطعم الموت، أو نتلمس نكهته(1) في الكتابات السردية التي ظهرت حول الانتفاضة الأولى، وتعاملت معها، ومع ما قبلها، وما بعدها، بأقلام من كانوا من حجارتها في مطلع تفتّحهم على الوعي، ثم نضجوا بعد ذلك، ليكتبوا تجاربهم فيها، أو يسقطوها على تجارب أخرى، سابقة، مثل الانتداب أو النكبة، أو احتلال كامل التراب، أو أية أحداث لاحقة، تضيف استمرارا للمعاناة، مثل إعادة الاحتلال، والاجتياح الواسع والمستمرّ، الذي يحاول إلغاء الهوية الفلسطينية التي أرادت أن تتشكل في الأرض الفلسطينية، كما حاول طمس رموز هذه الهوية، القائمة منذ قرون، أو ليكتبوا وجهات نظرهم في بعض ما نتج عن اتفاقيات أوسلو من ممارسات قابلة للتسجيل أو النقد والتحليل. إن كتّاب الأدب، وخاصة الأدب الروائيّ، لا يتحركون داخل حيّز (أو فضاء) فارغ، فعالمهم، مثل عالم غيرهم، "مزدحم بالعصيّ والحجارة، والطاولات والكراسي، والحارّ والبارد، والخشن والناعم، والصاخب والهادئ، والحامض والحلو، وهو ما ينتقل إلينا عبر حواسنا الخمس، وتستجيب له عواطفنا (...) بكلمات أخرى، فإن الاستجابات العاطفية تنشأ مباشرة من الانطباعات التي تستقبلها الشخصيات، عبر حواسّ النظر والسمع واللمس والبصر والذوق والشمّ"(2) .

وإذا تذكرنا أن المادة الحكائية الخام في الرواية، تكون انتقاء مما تستقبله هذه الحواس، أو تكون الحدَث ممثّّلا في تطوّره الزمني وعلاقته السببية(3)، فلن يكون غريبا أن يسود هذا الجوّ القاتم من الإحساس بالموت، وما هو معادل موضوعيّ له في الحياة اليومية، معظم هذه المادة/ المتن، في الأعمال التي صدرت انطلاقا من هذا الزمن، وأن يكون ذلك مغلّّفا بنقد يتّسم بكثير من الحدّة التي ترافق الإحباط، أو بكثير من السخرية المرّة التي توجّه نحو الظروف المستجدّة التي أنتجت هذا الواقع، أو تعاملت معه بطريقة لا تعمل على وقف تدهوره، بقدر ما تزيده سوءا.

وإذا كان الموت هو النكهة السائدة في الأدب السرديّ لهذه المرحلة، على اعتبار أن الموت حدث ينهي الفوضى التي يعيشها الإنسان، وإن كان ذلك بشكلٍ سلبيّ أو هروبي، فإن تصوير هذه الفوضى، التي تسبق الموت، يستلزم سرداً من نوع خاصّ، يحسن جمع شتات هذه الفوضى في عمل فنّي، وهو ما لم يتخلف الكتاب الخمسة، الذين تدرس رواياتهم هنا، عن اللحاق به، خاصة وأن الموت يجد طريقه إلى هذه الروايات جميعا، فتفقد كل واحدة منها بعض شخصياتها، خلال أحداثها المتعاقبة.

في الروايات الخمس، التي صدرت عن مركز أوغاريت الثقافي، والتي تدخل في فئة الأدب الجديد، وتشكّل موضوع هذه الدراسة، سوف نلاحظ منذ البداية، أنها تغطّي زمنيا عدة عقود من تاريخ المعاناة الفلسطينية، لا بسبب التسلّط والاحتلال وحسب، وإنما بسبب التخلف والجهل والتجهيل، والاستغلال أيضا؛ ففي رواية "هواجس الإسكندر"(4) التي لا تنتمي، مثل غيرها، إلى الروايات التي تجعل من الاحتلال موضوعها الأصلي، هناك محاولة للهروب من الواقع عن طريق التعلّق بالهواجس أو الأوهام، في زمن يعود إلى الوراء، ليتحدث عن فترة انتداب لم يمنح الناس فرصة لمعايشة العصر، والتطور معه، فظلوا متعلقين بالأوهام، متآلفين معها، راضين بان يكون الصراع فيما بينهم في بعض الأوقات، بعيدا عن أسباب المعاناة، وقد تحكّم فيهم ما هو غيبيّ، وغريب، بينما ظلّ الراوي لا يستطيع أن يتجاوز تطلّعه إلى أن يقفز على ظهر حصان الإسكندر الأكبر، الذي فشل في تحقيق حلمه، بعد أن يرمي بذلك القائد التاريخيّ، في وقت ما، عن حصانه، ليقود جيشا لا يعرفه، ويحارب أعداء لا يعرفهم، في منطقة لا علاقة له بها، ودون أية خبرة في الحرب أو قدرة عليها، مع التمسك بنوع من الإيمان اليقينيّ غير المبرّر بأنه سينتصر، وسيقود المعركة إلى مصير مختلف تماما!(5) وهذه الهواجس ليست سوى تعبير عن حالة من العجز، أو التعلق بأحلام يقظة مرَضية، وهي تظل داخل الذات، لأن صاحبها لا يكون قادراً على "رمي صورته" ـ بمعنى طرح وجهة نظره ـ الواقعية الخاصة، رغم صدقها، ورغم ما تملكه من قدرة على دحض الصور الأخرى، بالبرهان الساطع، بينما "رمت صورها" جميع شخصيات الرواية الأخرى، التي تكاد تكون وهمية، لتظلّ صورته، هي الوحيدة التي لم تقفز في اللوحة(6) ، وليكون ذلك طابع الشخصية المركزية التي تروي، والتي لن تجد لها بعد ذلك مكانا في الطرق المتنوّعة التي تسلكها الشخصيات الأخرى، ولا في وجوهِها المتعدّدة الصفات، وهو ما يوحي ـ رمزيا ـ بتهافت وجهة النظر، أو عدم قدرتها على المنافسة.

وإذا كان الموت في هذه الرواية يوضع في مواجهة مع الفرح/ الزواج، فإن الجمال الذي تسبب فيه، في واقع سيّء تنقصه المغامرة، يمكنه أن يكون مبرّرا كافيا لهذا الموت؛ لذلك لا يبدو غريبا أن يخرّ صريعا من فورِه، وفي ليلةَ زفافه، الرجل الأكثر جرأة في المكان، رغم عاديته ـ كرجل ومكانة ـ بالنسبة لغيره. هذا الرجل عبّر عن جرأته حين تقدّم، دون غيره ممن يتمنون التقدم، للزواج من أجمل النساء باعتراف الجميع، المرأة التي تضفي على الحيّ بأكمله، نكهة ومذاقا خاصين، وتخلق رهبة ما لحيّ بأكمله، فيبدو كأنه مسحور، ما تسبب في أن يخاف الآخرون من التقدم لها. لكن الرجل لم يحتمل كل هذا الجمال، فسقط بمجرّد أن رأى وجهها، رغم أنه كان قد جعل كلّ رجل في الزفّة التي انتهت قبل وقت قصير، يشعر بجنازة حقيقية في داخله، جنازة لحلم لم يعد صالحا ليبقى حلما(7). وقد كان هذا الزواج امتحانا للموت، لم يلبث أن تبعه موت عبثيّ لوالد العروس الجميلة، بعد زواجها الثاني، الذي لم يقتل أحدا، والذي أنجب الراوي بعد ذلك، ضمن سلسلة من الإنجاب لا تنقطع.

الرواية لا تلمس الآلام التي جلبها الانتداب، وما جاء بعده، بشكل مباشر، إلا أن وجود ذلك يعمل كخلفية للأحداث، لا تكاد تلحظ إلا مع التأمل، وحين تدرك آثارها في بعض الشخصيات، مثل مشروم الأذن، الذي التحق في شبابه بأحد الجيوش التي "أخذت حصّتها من دمنا وانصرفت"، لا لأنه كان مواليا للجيش، بل لأنه خدم من خلاله ثوار بلاده(8). وقد خرج من ذلك العمل بأذنه المشرومة، نتيجة لعراك عاديّ، لا لحرب خاضها، ولذلك فإن أي مجال للتنافس يدخل فيه، يظل على المستوى الفردي، الشخصيّ، الذي يستخدم فيه ما يتيسر من سلاح معنويّ، بما في ذلك الدجل والكذب. مع ذلك، فإن الرواية تقدّم صورة لحركة المجتمع، في ذلك الزمن الماضي، زمن الأحداث، هي صورة يمكن أن تعمّم على كل ما جاء بعد ذلك: إنها صورة الغريب الذي حطّ على القرية من أفق غير معروف، وهو يتحرّك على محيط دائرة واسعة، مثل عقرب الساعة، حركة تمضي إلى الأمام في الزمن، ليعود معها إلى المكان ذاته باستمرار، بعد أن يكون قد مرّ بين ثماني قرى، و"كأنه أصبح خيطا وهميّا يربطها معا دون قصد"(9)، ليكون ذلك تعبيراً عن أنّ الزمن النفسيّ في الرواية، لا الزمن الموضوعي، يسير في هذه الدائرة المغلقة، أو كأنّه لا يتحرّك، وهذا أمرٌ طبيعي في قرية زراعية، تمارس حياتها ببطء وخدر، واعتماد على ما تأتي به فصول الطبيعة من مطر يسقي الزرع وشمس تنضجه دون أن يكون للإنسان ـ في ذلك الزمن ـ تدخل في فعلها الذي يتسم بالتكرار، دون أن يخلو هذا الاعتماد الكليّ من المخاطر.

الأمر ذاته سوف يلاحظ في رواية "آخر الحصون المنهارة"(10) التي يقفز زمن أحداثها نحو فترة من الاحتلال تزامنت نهايتها مع انطلاقة الانتفاضة الأولى، دون أن تدخل الرواية أجواء الانتفاضة، إلا بمقدار ما تثيره من عصبية وعنصريّة وعنف، لدى المجتمع الإسرائيلي، لأن أحداثها مرتبطة بالمأساة التي تخلقها الضرورة الموضوعية للعمل في إسرائيل، في ذلك الزمن الذي انحصرت فيه سبل العمل هناك، بتخطيط واع من الاحتلال، وبتفاوت في الأجور، وغياب وعي من جانب المزارع الفلسطيني، الذي تحول إلى عامل ـ حتى وإن كان زراعيا ـ وأهمل مهنته الأصلية، لتتوجه الرواية في محصلتها النهائية نحو حركة دائرية، تبدأ من اعتقال سياسيّ سابق، وتسير نحو تنازل قسري عن التعلم، ولتنتهي باعتقال جنائيّ جديد. وهذه الرواية، تبدأ بموت الأب، كفعل أساسي للتحول الذي يليه، وتنتهي بالموت المعنويّ للراوي، عندما يلقى به في السجن، بعد أن يمرّ مع الزمن الروائي حادثا موت آخرين، الأول لفتاة إسرائيلية عنصرية، والثاني لصديقها العنصريّ الأزعر.

ثم تدخل الانتفاضة كجزء أساسي من مادة "القادم من القيامة"(11)، لكن دون مباشرة في شرح تفاصيلها أيضا، إلا بمقدار ما تتركه من تأثير على شخصيتها الأساسية التي بقيت حيّة، والتي تبدأ رحلتها بهجرة، وتنتهي بعودة مليئة بالخسارة الذاتية والعامة. وأحداث هذه الرواية تستذكر الانتفاضة كخلفيّة، لتدخل في تداعيات اتفاقيات أوسلو وما أنتجته من سلبيات بعد ذلك. تبدأ الرواية أيضا بموت، يغيّب أحد الأصدقاء الثلاثة، الذين تدور الرواية حول علاقتهم وأفعالهم، شهيداً بيد العدو، وهو ينقل سلاح المقاومة، في بداية مرحلة التحول إلى استخدام السلاح، وتثني بموت الصديق الثاني، الذي يكون موتاً أقرب إلى الانتحار، بسبب الإحباط الذي غرق فيه، داخل حاضر سيء، جاء بديلا لماض أفضل، لتنتهي بالصديق الثالث، العائد اختيارا من منفاه الاختياري، إلى ما يشبه الموت المعنوي أيضا.

وتسير "عرّافو السّواد"(12) في الدائرة ذاتها، لكن من خلال انعكاس الواقع على العلاقات العاطفية، وعلى الشخصيات، داخل مدينة محبطة بكاملها هذه المرة، رغم أنها "المدينة التي أخذت حقّ كلّ المدن، وانتصارات كلّ المدن، (...) (لكنّها) استسلمت قبل أن تتفتح أنوثتها وثورتها"(13). وتكون أحداث الرواية في فترة هدوء، بين خضوع سريع للاحتلال وانتظار بطيء لعودته، وهي فترة عامرة بالقلق والهزيمة وعدم الثقة، ولا يمكن التنبؤ بموعد لانتهائها. ترصد الرواية علاقة ثلاثية استبداليّة معقدة، بين (هو وهي)، بين امرأة وحبيبها الهارب، هجرة ومرضاً، الذي سبق له أن تعرض لإصابة قديمة بالرصاص، ظلت فاعلة داخله، على المستوى العضوي الذي يجعل حاجته إلى العلاج دائمة، والنفسي الذي يدخل التردد في حسم الموقف كطابع في حياته، لترى (هي) في أخيه صورة بديلة للحبيب الغائب، دون أن تعرف الصلة التي تجمعهما، ولتكتشف بعد ذلك أنهما حين يكونان معا، لا تكون، "ثلاثة نلتقي كلما اجتمع اثنان منا. أما (...) حين كنّا جميعا معا، استحالا اثنين من دوني. لم نكن ثلاثة، كانا اثنين، أو بالأصحّ كانا شخصاً واحداً افترق في جسدين، وكنت آخر بعيداً عنهما"(14)، بدلا من أن يقتل أحدهما الآخر في ذاتها. لكنّ الرواية تسير في الاختيار نفسه، حين تبدأ بموت الأب، وتنتهي باقتراب موت (هو)، الحبيب الهارب، لتتحوّل أحداثها إلى دائرة، تنتهي حيث تبدأ.

ولا تختلف رواية "لغة الماء"(15) عن ذلك في التحوّلات التي تجري فيها، فبالرغم من أنها ترصد مقاومة صلبة للاجتياح الإسرائيلي لمدينة نابلس القديمة، متابعة الصورة من داخل المعركة، في تفاصيلها اليومية، وحجم الموت الذي يحدث داخلها، فإن أحداثها تشكّّل دائرة أخرى، مثل غيرها، عبر محيط متواصل من القتل والتدمير والاعتقال، لأن الاجتياح الكبير، ليس سوى مقدّمة لاجتياح يليه، كما تؤكّد أحداث الرواية تتابعا وتذكّرا، تضاف إلى الصورة مقاومة عنيدة، مع أنها لا تملك ـ في واقع الأمر ـ ما يؤهّلها لأكثر مما تستطيع.

إن مصائر الشخصيات الأساسية، أو الوقائع الأساسية التي تشكل متن هذه الروايات الخمس، تشير إلى حجم الإحباط الذي تنطلق منه، وحجم الألم الذي يعيشه وطن تنتمي إليه، نتيجة عوامل متعددة، قليل منها يجيء من الداخل، من خلال التسارع أو التهوّر وعدم تقدير إمكانيات الخصم(16)، أو غياب الاهتمام بالفعل، وبعضها الآخر يأتي من الخارج، ولا تقصّر الأسباب الداخلية في مساعدته.

على مستوى السرد ذاته، أو التغيرات التي يحدثها السارد في المادة الحكائية الخام، يمكن أن يكون تأثر الكتابة الروائية بهذه المادة، وبالواقع الذي ينتجها، مفاجئا وعامّاً إلى حدّ كبير، يشير إلى حساسية عالية لدى الكتاب تجاه ما يجري في مجتمعهم؛ فهذا التأثر يدخل بالكتابات الروائية مجالات تتجاوز ما عرف عن الرواية الفلسطينية من ميل إلى الشكل التقليديّ في السرد، بسبب اعتقاد سائد، تؤكد الروايات الجديدة أنه غير صحيح، يشير إلى أن ذلك الشكل يسمح للكتابة بأن تستوفي قضاياها الموضوعية (الوطنية)، حتى دون القفز عن بعض التجارب الحداثيّة المعروفة، التي حاولت الدخول في صيغ مختلفة، أو غير تقليدية، من السّرد(17). معظم الروايات الجديدة، لا يقبل ما درجت عليه غالبية ما سبقها من أعمال روائية فلسطينية، وهي تميل في سردها إلى ما يمكن أن يسمى "التفتيت"(18)، أو زحزحة التطابق بين النظام التّتابعي للأحداث الموصوفة، ونظام تواليها في الرواية، وهو ما يشكّل سمة أساسية داخل الرواية الحديثة عند التعبير عن الواقع الذي تتعامل معه، وهو ـ هنا ـ واقع لا يستطيع الروائيّ أن يجسّده بنجاح، بأشكال مستهلكة(19).

والتذكّر هو العملية التي يقوم عليها بناء الرواية، وهو يعني استدعاء الماضي بتفاصيله من الأحداث والأمكنة والأزمنة (ماذا، وأين، ومتى)، لا من أجل سرده كما هو، أو إعادة ترتيبه تصاعديا أو تنازليا في الزمن، وإنما من أجل تجديد معرفتنا به، لأن الذاكرة انعكاس لما حدث في الماضي، على عقلنا في كل وقت، أو هي، بمعنى آخر، نوع من التجلّّي، لأن الانعكاس يفقد شكله المصنوع، ليحمل في طبيعته سمة فنية، تجعل ما ينعكس، لا يظهر كما كان، في طبيعته الأولى، وإنما لا يظهر منه إلا جماله(20). فالروايات الخمس السابقة تعتمد على التذكّر، وهي تعيد ترتيب أحداثها زمنيا بأشكال متعدّدة، ليس بينها الشكل التتابعيّ التقليدي، وإن تفاوت الخروج على هذا الشكل بين رواية وأخرى، انطلاقا من طريقة السرد، ومن نوعية السارد، وأساسا من قدرة الكاتب على ضبط هذه العملية المعقدة. وتشترك الروايات جميعا في أنها تلتقط فترة زمنية قصيرة نسبيا، ثم تدور حولها عن طريق استخدام الذاكرة، أو ما هو في مقامها، مثل الأحلام (وخصوصا الكوابيس) والتداعي، لتعود إلى رصد التتابع الزمنيّ من خلال تداخلاته. ولا يتمّ ذلك بمعزل عن الحدث الروائيّ ذاته، لأن عملية الرصد تركز على "تتابع الزمن من خلال تتابع الأحداث"(21) ، حتى يكتمل الوصول إلى الصورة الشاملة، انطلاقا من ذلك الامتداد الزمني المحدود.

وفي مثل هذا الزمن القصير، تكون الشخصيات مضغوطة، فاقدة كلّ تناسب، إذا حكمنا عليها بما نعرفه عن بضع ساعات من حياتها، دون الرجوع بأي شكل إلى ما سبق الفكرة التي هي قيد المعالجة. ولكي يكون لحياة هذه الشخصيات معنى، يجب أن نفهمها في ضوء ماضيها الذي تكيف بردود فعلها للحاضر(22). إن رواية "عرّابو السواد" مثلا، تختصر الزمن في مجموعة من المشاوير واللقاءات التي تجري في شوارع رام الله ومقاهيها لبضعة أيام، خلال إحدى الرحلات الدورية التي يقوم بها (هو)، عائدا من غربته، لكن هذه الحالات تستدعي أخرى سابقة، تمتدّ في الماضي زمنا أطول، قبل القطيعة التي حدثت بين (هُما)، وهجرة الأول ومرضه، وتعرّف الثانية على شقيقه. أما رواية "القادم من القيامة" فتستغرق أياما وليالي معدودة، تبدأ مع الشعور بمرور الزمن/ العمر، مع لحظة الدخول في مرحلة تحوّل شخصيّ مقلق فيه، ثم تملأ فراغاتها الزمنية بالاتصالات الهاتفية المتبادلة وباسترجاع الماضي، وبالأحلام التي تستعاد، عن ذكريات أيام خلت، هي التي شكلت التاريخ الذاتي للشخصيات، والتاريخ العام لقضيتهم. وربما كانت هذه الرواية من أكثر الأعمال توجّها نحو استرجاع الماضي، تماهياً كليّاً معه، مع نسيان كل ما يحيط بالكتابة من ذات، وموادّ، ومنافع، ومتلقّين ونقاد، وأخلاقيات، مهما كانت عزيزة، إلا باعتبار الماضي "تلك التجربة، وذلك الشخص، وتلك الحالة، وذلك الزمن"(23).

وتستغرق "هواجس الإسكندر" جلسة واحدة، يروي فيها السارد أمام من يمكن أن يعتبر قرينا له، حكاية تمتدّ طويلاً في الماضي، لكنّها في معظم أحداثها غير التكميلية لا تزيد عن شهور. أما "لغة الماء" فهي لا تغطّي زمنيا سوى بضعة أيام، هي فترة الاجتياح الكبير والقاسي للمدينة القديمة في نابلس، مع تنويعات على ماضي الشخصيات التي تعايش الحدث، وعلاقاتها القديمة، بالآخرين وبالوطن؛ بينما تجري الأحداث الأساسية في "آخر الحصون المنهارة" في فترة قصيرة من الزمن، تفصل بين بداية الفصل الجامعي الشتويّ أوائل الخريف، ومنتصف الشتاء في العام نفسه، وإن تأخرت المحاكمة، وزمن الكتابة ـ ضمنيا ـ عاما آخر.

داخل هذه الدائرة الزمنية الضيقة في الروايات، يحدث السرد الذي يكون قادرا على ملء الفراغات في العمل الروائي، بطرق شتّّى، يلجأ إليها الكتاب، وتمنح كلّ واحد منهم أسلوبه الخاص في الكتابة، وبذلك يكون الزمن موضوعا للرواية، لا مجرّد دليل على نموّ الحدث وتطور الشخصيات، ما "ينعكس على الأشكال الجديدة للرواية"(24) . وأبرز ما يمكن أن يلاحظ بين الروايات الخمس، هو نوع من التشابه في أسلوب السرد، هو دون شك مستوحى ـ بوعي أو دون وعي ـ من الواقع الصعب والمعقد، الذي قد تتبدّل فيه الأحداث، أو تنقلب كليا، بين لحظة وأخرى، ما لا يسمح بانسياب طبيعيّ للزمن، لأنه كثيرا ما يقاطع فجأة ودون مقدّمات تملك منطقها الذي يمكن ضبطه، وذلك لا يسمح للشخصيات بحياة طبيعية، بسبب غياب حريتها. من خلال هذا الواقع، يمكن القول إن الروايات جميعا عمدت إلى استخدام تقنية التعدّد في الأصوات التي تروي داخلها، بدلا من الراوي الواحد، الذي ارتبطت به الرواية الفلسطينية التقليدية، سواء أكان ذلك عن طريق الغائب (الهو)، أو الذات (الأنا). مع ذلك، فإن اعتماد جميع الروايات، هذه التقنية الخاصة بتعدد الأصوات في الرواية الواحدة، ورغم التقارب في الاختيار في بعض الأوقات، لم ينتج عنه أي نوع من التشابه أو التقليد، في طريقة توظيف هذه الأصوات روائيا، لأن القدرة على التنويع، في هذا الشكل، سمحت لكلّ رواية من الروايات الخمس بالمحافظة على طابع خاص لها في هذا الشأن، أي على اختيارها الذاتي لطريقتها في استخدام التعدّد.

في رواية "القادم من القيامة"، هناك صوتان واضحان يروي كلّ منهما أحداث حياته الحالية، أو يسترجع ذكريات الماضي. يعيش الصوت الأول في المهجر منذ سنين، يثقله الحنين إلى الوطن الذي عرفه في فترة زهو سابقة، في أيام لا تنسى، كانت فيها المقاومة فعلية وجادة ومتفائلة، وتقدم على التضحية باختيار واع. أما الصوت الثاني فهو يستمرّ في الحياة داخل قريته، تثقله الكآبة بسبب ما آل إليه حال الوطن، بعد كثير من الوهم حول تحرّره. وإذا كان لكل صوت منهما سرده الخاص، إلا أنهما يتداخلان، ويكادان يخلقان، بالتدريج، ذاكرة مشتركة، تصل بهما إلى اللحظة الزمنية القصوى، التي تفرّق الأصدقاء الثلاثة عندها، باستشهاد واحد منهم، وهجرة الثاني، وتشرّد الثالث هربا من الاحتلال، ما يكفي من الزمن لتغريبه عن واقعه الجديد. تستعاد ذاكرة الصديقين (وهما دون اسمين، مثل كثير من الشخصيات الأخرى، في الروايات الأخرى، خاصة في كلّ من: هواجس الإسكندر، حيث الألقاب، وعرّابو السواد، حيث الضمائر) في لحظة واحدة، هي لحظة استكمال النضج ـ فرضيا ـ مع بلوغ سنّ الأربعين. ويتوزّع السرد بين الشخصيتين من ناحية، ويلتقي على شكل حوار، عبر اتصالاتهما الهاتفية، من ناحية أخرى، ليستكمل المتلقّي ما تطمح الرواية إلى أن تحمله رسالتها: واقع الانتفاضة، بما فيه من سمات إيجابية، تجمع الأصدقاء الثلاثة (منذ الطفولة) حول قضية الوطن، وبما فيه من سمات سلبية، تمثّلها الشخصيات الانتهازية في كلّ الأوقات، مثل شخصية الشاعر الذي يتعاون مع من يوفّر له مصلحته الذاتية، حتى لو كان من الأعداء، ثم يكرّس نفسه لمن يملك تعزيز هذه المصلحة، في مرحلة أخرى نقيضة، يسرق خلالها ما أنجزه الشرفاء، وينسبه إلى نفسه، ليترك الصديق الباقي في حالة يفقد معها طاقته على الاحتمال، حتى يقتل في مشهد أقرب إلى السلوك الهستيري الذي يقوده إلى ما يشبه الانتحار، بينما يعود الصديق المهاجر، ليطارد من قبل أبناء مجتمعه، وهم يتوهمون أنه لص، لأن السمات القديمة للمجتمع، انقلبت على ذاتها في المرحلة الجديدة، فمال هذا المجتمع إلى الاتكالية، أو الأوهام، إلى حدود التوافق مع الخداع الذي لا لبس فيه، أو تقبّله كسمة ثقافية تتأصل.

وتقترب "عرّابو السواد" من هذا الشكل من السرد، مع محافظتها على مسافة تضمن لها الخصوصية. والرواية تحتاج إلى تركيز شديد، حتى تسلّم نفسها، وتسمح بالتعرّف على الراوي، بين مقطع وآخر، وهي لا تحاول أن تسهّل على المتلقّي هذه المهمة، بسبب لغتها المتوترة، في بلاغتها الشعرية من ناحية، وموقف الراويين الأولين (هو وهي) خصوصا، من الأحداث، حتى بعد دخول الراوي الثالث (الأخ/ القرين)، ولأنّ كثيرا من السرد يأتي على شكل المونولوج الشعريّ، ولأن أحداث الرواية "داخليّة" إلى حدّ كبير، تعتمد على تحوّل المزاج النفسي لشخصياتها، مع الأحداث، أكثر من تحوّل الأحداث ذاتها. والأصوات المتعددة في "لغة الماء" قريبة من هذه التقنية، وإن كانت تتسم بكثير من الوضوح، بما يتوافق مع الواقع الدمويّ والمباشر للأحداث التي ترويها، وهو ما يجعلها تميل إلى لغة صارخة، على اعتبار أنّها تتعامل مع واقع يضع العواطف عند نهاياتها القصوى، فتكون نبرتها عالية وحادّة. وتتوزع الأصوات في الرواية بين فاطمة، بطلة السّرد الأساسيّة التي قطع ساقاها بسبب رصاصة قديمة من جنود الاحتلال، خلال مظاهرة في الانتفاضة الأولى، فصار حلمها أن تكتب رواية عن الواقع، ومحمد، حبيبها الذي لا يتحوّل عن حبّها، رغم زواجه من غيرها وإنجابه، بسبب إلحاح أهله، بعد إصابتها، وهو ما يعتبره قرارا "خاطئا منذ البدء"(25) ، ما يجعل من وحدة صوتيهما أمرا مبررا في الواقع الفنيّ. ثم يضاف إلى ذلك صوتان آخران مشتقان منهما: أوراقه التي يتركها لديها كلّما تجمع شيء منها، واستطاع إيصالها، وأوراقها التي تكتبها، وكلّها أصوات لا لبس فيها، ولها حضورها المستقرّ في سرد الأحداث، وإن كان حجم هذه الأحداث، في عمل أقرب إلى الرواية التسجيلية، يحفر شرخاً في بعض السرد، خاصّة ما يتعلق منه بالزّمن الذي ترصده الأوراق الأولى لشاب يقود المقاومة داخل مدينة تستباح.

وبين "آخر الحصون المنهارة" و "هواجس الإسكندر" تقارب كبير في استخدام الأصوات، مع فارق في القدرة على توظيفها، واستقلالية خاصة بكلّ عمل: تبدو "هواجس الإسكندر" للوهلة الأولى وكأنّها عملية سرد تقليديّ، تتابع الأحداث مع تطوّرها الزمني، من وجهة نظر طفل. لكنّ الرواية تفاجئ المتلقي بأن الذي يروي ليس طفلا، وإنما هو رجل يتذكّر. كما أنه لا يروي أو يسجّل أو يعلّق وحسب، ولكنّه يجرّد لنفسه مستمعا متخيّلاً، يعود إلى إشعار المتلقي بحضوره، كلما اقترب من نسيانه، ليكتشف في نهاية الأمر أن المستمع هو الكاتب نفسه، وباسمه الحقيقيّ أيضا، وأن الراوي شخص آخر، وكلّ ذلك في جدلية سردية متقنة إلى حدّ كبير، يمنح فيها الكاتبُ المتلقّي، منذ البداية، مفتاحا للتواصل عن طريق التمييز في الطباعة: .. "الوسواس".. يسمون هذا النفضَ من أشياء غير موجودة؛ علماء النفس.. وهذا اختصار.. اختصار جائر عقّبَ، بملامح تدلّ على أنه يتكهّن بمشاركتي علماء النفس في هذا التفسير، وتَجهَّمَ كأنه يسجّل نقطة لصالحه ضدّي، في مسألة لم أُبدِ فيها رأيا"(26) . لكن المشاركة تطلّ بشكل أقصر، وفي محاور مفصلية من الرواية التي تحافظ على المساحة الأساسية للراوي، لا لمن يقوم بدور المستمع.

كما تبدو "آخر الحصون المنهارة" في معظمها سردا تقليديا أيضا، يحدث خلال تتابع زمنيّ، يبدأ من لحظة قرار الشاب أن يترك الجامعة، بسبب وفاة الأب في حادث عمل لا تعويض له، داخل إسرائيل، وتحمّله مسؤولية العائلة من بعده، مرورا بعمله في مزرعة يملكها يهوديّ حول بيته، في قرية زراعية أقيمت على أنقاض قرية عربية مهدّمة، لتتشكل بعد ذلك علاقات متعددة الدوافع والمقاصد، بين الشاب العربي ومن حوله من أصحاب المنزل، هي في البداية علاقة ثقة عملية مع صاحب المزرعة الذي يقترب من مرحلة العجز الصحّي، ثمّ علاقة جنسية مفروضة، إلى حدّ كبير، مع زوجته، التي تعيش أعلى مراحل شبقها، وعلاقة تتسم بشيء من الألفة مع الابن المجنّد، غير المنسجم مع الثقافة العدوانية لمجتمعه، لأنه لا يجد داخله ما يستطيع أن يؤمن به، فيحاول الهروب من ذلك بالمخدرات، وأخيرا علاقة تحمل الكثير من الكراهية (غير المبرّرة سرديا، خارج السائد أو العاديّ) من قبل البنت المجنّدة، بعنصريّتها الزائدة، ما يجعل ذلك ينتهي بالقتل غير المتعمد، لهذه البنت المستفزة، والقتل دفاعا عن النفس، لصديقها العنصري الأزعر، لتقود الأحداث التالية إلى القبض على الشاب، وليفاجأ المتلقّّي بأن الرواية بكاملها مجموعة من المذكرات، كتبها الشاب، بناء على إلحاح من شخص يراسله، يكتشف في النهاية، أن ذلك الشخص، هو زميله السجين، الذي يوصف بأنه الفيلسوف المجنون، الذي شجعه على ألا يقطع سبل الوصول إلى الناس، عن طريق القلم(27) ، والذي علّّمه ماذا يكتب بعد ذلك، ثم احتفظ بالأوراق جميعا، لتتشكل منها الرواية. وقد كان في مقدور هذا الشكل من السرد، أن يكون أكثر قوة وإقناعا، لو لجأ الكاتب إلى اعتماده في وقت مبكّّر من الرواية، أو لو أنه قدّم للمتلقي ما يوحي بوجوده، لأن وقع المفاجأة، في آخر الأمر فقط، يوحي بالإقحام، رغم أن الرواية تتّجه، خاصة في نصفها الثاني، نحو الشكل البوليسي، الذي يمكنه أن يستوعب مثل هذا الكشف المفاجئ، لو كان له تمهيد معقول.

هذا النوع من التفتيت يلجأ في العادة إلى آليات متنوعة، يكون التداعي فيها سبيلاً لا غنى عنه، لدرجة أنه كثيرا ما يشكّل الآلية الأساسية في الرواية، لأن الكتابة السّردية لا تخرج عن كونها "عملية تذكّر"، تتمّ فيها العودة إلى الماضي من خلال توارد الخواطر، أو بمعنى فنيّ أدق، توارد الصور، إذ تستدعي صورة حاضرة أخرى سابقة عليها زمنيا، تمثل، في البناء الروائي، مقدمة لها؛ ففي "القادم من القيامة" مثلاً، يسجل الراوي الحاضر كما يعيشه، فيعيده أحد مثيراته التي يواجهها إلى ما استمتع به من قبل في صغره: "تنتشر أمامي على الطاولة أصناف عديدة من الحلوى والمشروبات والمكسّرات، ألتهمها في محاولة لتقمّص حالة اللذّة التي كنت أحلّق بها عندما كان والدي يأخذني صغيرا إلى المدينة، ويطعمني صحناً ساخناً من الكنافة. ما زال صوت أسناني وهي تطحنها يرنّ في أذني، وتلك الحلاوة الرهيبة التي يمتصّها لساني ما زالت ظلا أطارده، رغم مئات الأنواع والأصناف التي كنت ألتهمها. كلّ شيء هنا يفقد معناه عندي"(28) .

ولا تكتفي الروايات بمثل هذا النوع من الحنين، بل غالبا ما تلجأ إلى العودة إلى أحداث في الماضي، في حين يهدف سردها إلى تفسير وجود الحاضر، أو توضيح العلاقات التي نشأت أو تنامت بين الشخصيات؛ ففي رواية "لغة الماء" مثلا، تلتقط الكاتبة لحظة مناسبة لتوضّح هذه العلاقات القائمة، أو لتضيف خطوطا جديدة للشخصية التي عبرت من قبل، حتى تزيد المتلقّي معرفة بها: فبعد أن استشهد أسامة، أحد شباب المقاومة، أخذت فاطمة تروي عنه: "كان يعي جدوى الفعل أكثر من الكلمة (...) بدأ تعارفنا بعراك، في واحدة من الاجتماعات الطلابية (...) اضطررنا لمغادرة مقاعدنا الدراسية (...) لنسجّل احتجاجا على إبعاد بعض نشطاء الحركة الطلابية واعتقالهم. كان الاعتصامُ اقتراحَه، لكنه لم يسر كما يجب، ولم نحقّق منه الكثير، هذا عدا عن تعطيل الدراسة. نشب شجار بيننا. تصايحنا، وبعدها تحولنا إلى أصدقاء"(29) ، ثم راحت تسرد تفاصيل كثيرة عن حياته، بدءا من طفولته، وبعض صفاته، وتواصله الإنساني، وما يحبّ وما يكره، وغير ذلك مما يعمّق صورته، كواحد من الشخصيات الأساسية في الرواية. وقد فعلت ذلك مع عديد شخصيات الرواية، بشكل مشابه، واختارت لمثل هذا التدخل/ التذكّر، أية لقطة وجدتها مناسبة لاستعادة ماضي كل شخصية.

لكنّ الحديث عن الماضي، الذي يهدف إلى أن ستكمل الصورة، قد يجيء من خلال الأسئلة التي يطرحها الحوار. وتقدّم رواية "هواجس الإسكندر" حوارها متصلا من بدايتها حتى نهايتها، (وهو حوار يكاد يبدو وكأنه قصٌّ من طرف واحد)، ليروي الأحداث جميعها، وهي في محصلتها استرجاع لماضٍ قديم: "أتغيّر كثيرا وأنا أحكي لك. أتغيّر كلّ يوم (...). أحلامي تتغيّر. يملأني أحيانا سرور غريب. سأقول لك اليوم كيف تزوّج الوغد ابن الوغد، جّدي لأبي!

هل كان وغداً؟

من يعرف معنى محدّدا لكلمة وغد؟ أنا أصفه هكذا تحبّبا. بالكاد عرفته. لكنه مغرٍ إلى حدٍّ كبير. تزوّج ببساطة لا يمكنك تصوّرها، فروت زيجتَه الأجيال"(30)، وذلك لأن والد جدّ الراوي لأبيه التقى بوالد جدته صدفة، عندما ذهبا يبولان قرب رجم حجارة، فسأل الرجل الأول الرجل الثاني إن كان يقبل أن يزوج ابنته لابنه، وجاء ردّ الثاني بكل بساطة: وهل نجد لابنتنا خيرا من ابنكم؟ وبهذا تمت المراسيم الأولى للزواج.

كما يمكن أن يكون استرجاع الماضي استنادا إلى روابط خاصة، وهو ما تلجأ إليه "آخر الحصون المنهارة"، في مرحلة من مراحلها، حين يجد راويها وبطلها بشار المحمّدي، مخمّسية قديمة من الذهب، نقش عليها اسم امرأة، يشعر بأنها تثير فيه ردّ فعل ما، فيقوم بمتابعة ذلك من خلال اسم العائلة الذي تحمله قطعة الذهب، ليكتشف أن صاحبتها كانت من سكان القرية، قبل أن يهجّر أهلها وتهدم، لتقام القرية الزراعية التي يعمل فيها على أرضها، وبذلك يجد مناسبة لإعادة سرد جزء من تاريخ النكبة، من خلال ذاكرة لا تنسى، تمتلكها امرأة عجوز: "في حدود الثمانين، فلم يبق منها سوى عينين حادتين فيهما خوف قديم، لكن لها ذاكرة حديدية تأبى الانكسار أمام العاتيات. حدثتنا عن تفاصيل ذلك اليوم الرهيب، وكأنه حدث بالأمس: عندما هاجمت عصابات الهاغانا قريتها الوادعة، قتلوا من قتلوا، وأسروا من أسروا، وسبوا النساء، كان حظّها أفضل من غيرها، لأنها تمكنت من الفرار. كانت مذعورة لدرجة أنها لم تستطع أن تمدّ يدها إلى قلادة عرسها التي سقطت منها أثناء فرارها"(31). وهو ما تفعله الرواية نفسها، من وجهة نظر الآخر، عندما يستعيد نسيم، صاحب المزرعة والبيت، ذكريات حياته الأولى بالقرب من مدينة بنغازي في ليبيا، ويصف الخداع الذي تعرّض له، وأغراه بأن يهاجر إلى ما توهّم أنه بلاد السمن والعسل، ليفاجأ بأنه جاء يسكن في "قرية أشباح بعد رحيل أهلها عنها"(32) ، حيث لم يجد سمنا ولا عسلا، وإنما نوعا من الحنين المتصل إلى دنيا غير هذه الدنيا، يعيده إليها طعم البطاطا المشوية، أو سؤال عن طاحونة يدوية قديمة، أهداها له عربيّ، ساعده على أن يعيش، في بداية هجرته، قبل أن يجبر العربي ذاته على الهجرة.

وقد تحدث العودة إلى الماضي من خلال نوع من الهلوسة التي ترافق الحمى، وتجعل صاحبها يتعلق بذلك الماضي، ويستعيد شيئا من فصوله، كما يفعل الراوي في "عرّابو السواد"، حين يبيت ليلته محموما، ويشكّ في أن موته أقرب من أن يدركه، فيستعيد صورته كطفل، ويوظّف هذا التداعي في وصف طفولة ظلّت عالقة في الذهن، وتشكلت منها سمات الشخصية، التي تذكر بسمات الطفل في "هواجس الإسكندر": "ولدت، وكنت أرى العالم متكوّما في حدقتي، ينتظر مخلّصه. وكنت أحبّ النساء كثيرا. صغيرا حين يدفعنني من غير قصد، تسري بي رجفة لذيذة تزيدني توقا لاكتشافهن. لم أكن أصادق فتيان حيّي حتى أبدو أمام الفتيات أكبر سنا"(33) . وقد اعتمدت الروايات الخمس في ملء فراغاتها الزمنية على جميع الآليات التي تستخدم في تقنية التداعي، وهي آليات تبدو عند التدقيق وكأنها حصيلة أمر أساسي واحد، هو التأثير الذي يعكسه الواقع على الشكل الروائي، أو تعكسه المادة الروائية المستقاة من الواقع، يؤكد ذلك حضور هذه الأساليب لدى جميع كتاب الرواية الشباب، الذين عايشوا واقعهم المعقد في ظلّ الموت والاحتلال، وخصوصا منذ الانتفاضة الأولى، التي أعادت تأكيد الوجود الوطني/ القومي، غير القابل للذوبان، كما كشفت عمق العدوان الذي يمارسه الاحتلال، ضدّ الوجود الفلسطيني، وحاجة هذا الوجود إلى الصمود بكلّ الوسائل، بدءا من تحسين المقاومة، وانتهاء بتحسين التعامل مع الحياة، في تفاصيلها اليومية.

ولم تكن المقاومة وحدها هاجس الروايات، بل يبدو من المفاجئ أن فعل المقاومة كثيرا ما يكون ظلا فيها، لأنّ ممارسة الحياة، وكأنها حياة طبيعية، بما هو متيسر من مقوماتها، كان الهاجس الأكثر وضوحا، لذلك لم تغب علاقات الحب عن هذه الروايات، رغم المزاج القاتم الذي يغرق أحداثها. كما لم تبتعد العلاقات داخلها عن مضامينها أيضا، من خلال الوضوح الشامل لهذه المضامين من ناحية، ومن خلال ما تمتلئ به من نقدٍ حادّ للواقع، وللممارسات الخاطئة التي تكرّسه، أو تفشل في تغييره، من ناحية أخرى، سواء أكان ذلك على المستوى السياسي، أو المستوى الاجتماعي، وهو ما تشير إليه عناوين الروايات دون استثناء. إن رواية "عرّابو السواد" مكتوبة بكاملها عن قصة حبّ استثنائية، في إطار ظروف استثنائية، تخترقها رصاصة لا تسمح لها بأن تحقّق غاياتها ـ كما تفعل رصاصة أكثر وضوحا في "لغة الماء" ـ ومع ذلك فهي تعلي راية الحب، وتعتبره غاية في حدّ ذاته، مهما كانت تعقيداته: "التقيته فأحببتك وانتهى"(34)! لكن هذا الحبّ مشروط بأن يكون داخل وطن حتى يكون، فليست هناك ثقة "بالحبّ حيث لا وطن". وفقدان الوطن فقدان للحبّ، وضياع، لأن من فقد وطنه "يحنّط أشلاءه في قلبه وداره بدلا من البحث عنه"، أما من وجد وطنه فإنه يعيش حبا "أكثر تشابكا من الحبّ بكثير"، لا توجد مفردة تصفه، ولا نهاية تليق بقيمته: لا الزواج العاديّ، ولا الزواج السرّي أو الهرب، ولا الافتراق ضاحكين، ولا الاستمرار على الحال ذاته، ولا موت الحبيب وانتحار الحبيبة أو رقصها على أشلائه. الحبّ فعل استثنائي لا شبيه له، لأنه المعادل الموضوعي للوطن(35)، فهو يكاد يستكمل ذاته بأن يكون حبّا.

تظهر هذه المعادلة بوضوح في "القادم من القيامة"، التي تتعايش فيها قصتا حبّ مختلفتين، ولكنهما تشتركان في غياب العاديّة عنهما، كما هو حال كلّ قصة حبّ فريدة أو أصيلة: كان الحب لدى الصديق الذي استشهد دهشة خالصة، كما يفترض أن يكون الحبّ الذي يفاجئ شخصا خجولا (تبدأ سيرته من اعتداء بعض الصبية عليه، في يومه الأول في المدرسة، وإسناد له ممن باتا صديقيه إلى آخر العمر)، وهو شخص مكتفٍ، ومتدين، وقنوع، وغير طامع بشيء سوى ما يقوم به لصالح الوطن. ثم جاءه الزواج والإنجاب استكمالا لهذه الدهشة، وخوفا عليها. لذلك كانت وصيته لصديقيه مكرّسة للزوجة والبنت، وكان ضياعهما بعد رحيله، بين يدي الشاعر الانتهازي، مساويا لضياع الوطن. أما الصديق المهاجر، فرغم كل النساء اللواتي جمعهن حوله في الغربة التي تزداد انفتاحا كلما ازداد معرفة ومالا، فإن ياسمين، حبّه القديم المفاجئ، القصير العمر، في الجامعة، الذي غير من طبيعته كرجل، كما يفترض أن يفعل الحبّ، هي التي ظلت حية في قلبه، لأن البتر الذي تعرض له ذلك الحب، كان عامل هجرة أساسيا، يضاف إلى العوامل التي تتعلق بما آل إليه الواقع. وكانت الحبيبة رضيت بأن يلوّثها غيره، بعكس ما وعدته، ثمّ باتت في الغربة عامل حنين، تحوّل إلى عامل عودة، لا تنجز شيئا في النهاية، لأن الوطن نفسه لم ينجز. وبذلك ارتبطت قصتا الحبّ بالوطن ارتباطا عضويا، منذ تفاؤل البدايات، حتى تعثّر النهايات.

وقصص الحبّ متعددة في "لغة الماء"، وإن كانت قصة فاطمة ومحمد هي الأكثر تعبيرا وديمومة، بحيث تعطي نموذج الحب/ الوطن، في مرحلة تتّسم بكبرياء المقاومة، ونموذج الحبّ/ العجز الوطن/ العجز، في مرحلة المواجهة غير المتكافئة، والتخاذل المفاجئ، أو الحب/ الموت الوطن/ الموت في مرحلة التصفيات الأخيرة. وقد كانت الرواية في شأن الحبّ صورة في مرآة لرواية "عرّابو السواد"، فبالرغم من أن العلاقتين تمثلان "الحبّ في زمن الحرب"، إلا أن ذلك كان في واحدة منهما يعيش وضعية "الحبّ انتظاراً للحرب" بينما يتحول الأمر في الثانية إلى وضعية "الحرب انتظاراً للحب".

وهكذا استطاعت هذه الروايات أن تتميز بقدرتها على مزج الذاتي بالموضوعي بشكل لا افتعال فيه، وهي تتحدث عن القضية من خلال معايشتها من داخلها، لا من خلال التطلع إليها من الخارج، وبذلك تخلصت من واحد من أقدار الرواية الفلسطينية، في مراحل سابقة، هو قدر التعامل المباشر مع الموضوع الوطنيّ، بكلّ إبعاده، والإحساس بالحرج حين يحدث فيه تداخل مع الموضوع الشخصي، لدرجة أنه يبدو من الصعب تذكّر علاقة حبّ حقيقية، في تلك الكتابات التي تنتمي إلى الوطن/ القضية، انطلاقا من الانتماء إلى الوطن/ القضية، وهو ما حدّ من قدرة كثير من الكتابات الأدبية على التعبير الصادق عن الطبيعة الإنسانية، الطبيعة التي تأكل وتشرب وتحبّ، وتمارس حياتها الإنسانية بشكل إنسانيّ، حتى في الزمن/ المأزق.

ما يعزّز هذه الفرضية التي خلقت معادلة الحب/ الوطن، أو وحدة هذه الحالة في السرد الجديد، من داخل الحالة، هو غياب قصص الحبّ في الزمن الرّخو، الزمن الانتقالي الذي تتحدّث عنه بعض الروايات، كما هو الحال في زمن التحوّل البطيء والهادئ، الذي كان يمكن أن يسير في اتجاه طبيعي، لولا المعيقات الذاتية والخارجية، في "هواجس الإسكندر"؛ وزمن الخضوع الشامل، الذي يقدّم صورة للقبول بالاحتلال، والتعامل معه، باعتباره واقعا غير قابل للتحوّل، قبل أن تفاجئه ثورة البركان الساكن على شكل انتفاضة، في "آخر الحصون المنهارة". في الروايتين شهوة عارمة، وعلاقات مشروعة أو غير مشروعة: فالذكورة واحد من الهواجس الفاعلة في "هواجس الإسكندر"، الأقدم في زمنها الذي تروي عنه، وهي تعبّر عن نفسها بالتباهي بالقدرات الجنسية على حدّ التنافس، وباستخدام أسلحة التأكيد والنفي، الاستعراضية، في هذا الشأن، بينما يتحوّل الجنس إلى نوع من العبودية التي تتساوى مع الاحتلال، في "آخر الحصون المنهارة"، التالية زمنيا. وتمتلئ الروايتان بالجمال الأنثوي وبالجنس (تصريحا أو تلميحا) وبالزواج والإنجاب، والحياة التي تمارس بعاديّة مطلقة، أو بوهم مطلق، لكنهما تخلوان كليّا من قصص الحبّ الاستثنائية التي عرفتها روايات الزمن التالي، في حدوده القصوى.

كيف يمكن استعادة الذاكرة في مثل هذا الواقع، إلا عن طريق تفكيكها، حتى تظلّ ذاكرة طبيعية تستعاد بما كانت عليه، أو قريبا منه، عن طريق الوعي، أو يعاد تشكيلها، لما يُتمنّى لو كانت عليه، عن طريق أحلام اليقظة، أو الفانتازيا، أو لتتحوّل إلى ما يمكن أن يسمى بالذاكرة التحايلية، التي غالبا ما تعبّر عن نفسها عن طريق الأحلام، التي تأخذ في غالبيتها أشكال الكوابيس، في مثل هذا الواقع. ومع لجوء الروايات إلى هذا النوع من الآليات، للتعامل فنيا مع الواقع، ظلّ من السهل أن تلاحظ فيها جميعا سمات مشتركة، بشكل يدعو إلى التأمل، في الأساليب التي تتّخذها لتعميق الصورة القاسية للواقع، عن طريق موازاة هذه الصورة بما يجري في الطبيعة من ناحية، وعن طريق اللغة السردية التي ترسم بها، من ناحية أخرى.

إن طريقة التعامل مع البيئة (ومن ضمنها حالة الطقس) في الفنّ السردي الناجح، تحمل تعبيرا إضافيا عن المزاج العام للعمل الأدبي. ويبدو هذا الربط واضحا في الروايات موضوع الدراسة إلى حدّ كبير. وإذا ركزنا على الجزئية التي تتكرر في الروايات، في هذا المجال، فسوف نكتشف أن المطر، كنموذج، بكل ما يحمله من برد وثلج وعواصف قاسية، يشكّل عاملا مشتركا بين الروايات الأربع التي تتحدث عن زمن الاحتلال، لدرجة أنه يصبح خلفية مستمرة لمجموع أحداثها، أو إطارا بيئيا لهذه الأحداث. ويمكن النظر إلى رواية "هواجس الإسكندر"، التي تسبق هذا الزمن، كمقدّمة "طقسيّة" للروايات التالية، لأن أحداثها، غير المرتبطة بواقع الاحتلال، تجري في صيف "شديد الحرارة"(36)، يكفي فيه عود كبريت لإشعال جهد الناس كله، من حصاد عام كامل. ومع أن "آخر الحصون المنهارة" لا تلمس موضوع المطر بشكل مباشر، إلا أن الإشارة المقصودة إلى نهاية الحدث الأساسي عن طريق تأريخه، (24/12/1987)(37)، وهو ما يحفره الراوي على جدار السجن، تكون لها دلالتها تجاه ما يعنيه الشتاء في ذلك "المنعزل الرهيب، ذات يوم بارد من شتاء"(38) عام مقبل، وهي الدلالة التي ستكون مرتبطة بتجسيد المعاناة بعد ذلك.

وبالرغم من أن "عرّابو السواد" هي أقلّ الروايات الأخرى ارتباطا بهذا العامل البيئي، إلا أن الأصوات فيها تشكو، منذ البداية، من أنه "يكون كلّ شيء: مطر و.. مطر"، ومن أن الشتاء هنا يستمرّ "على مدار السنة"(39)، ولذلك فإن السماء تمطر باستمرار، حتى يبدو للراوي أنه وحده مقصود بالمطر، فقد "كانت تمطر يومها، ولم يكن أحد سواي قد ابتلّ. راح المطر يصبّ في روحي، وفي خيال أمنيتي، يغرس غزارته في جنباتي، ويترك الآخرين عراة، يبتلع نعومة جسدي ويخنقني"(40). وهو ليس المطر الذي يغسل الجروح، بل ذلك الذي يحوّل الإنسان إلى مزيد من الكآبة أو الحزن، أو يتركه وحيدا، "تحت المطر"(41). وتتكرّس رمزية المطر، في فعله السلبي وحده، وبشكل كليّ، في رواية "القادم من القيامة"، لتربطه بكل ما يجلبه الاحتلال من مآسٍ، ابتداء من الخوف، مرورا بالسجن، والهجرة، وصولا إلى الموت ذاته؛ فمنذ البداية، كانت الدموع التي لمعت في عين الصديق الباقي في قريته/ وطنه، وهو يودّع صديقه المهاجر، مصحوبة بالمطر، فقد "كان المطر والريح، الشيئين الوحيدين اللذين يظهران في ذلك المشهد الأخير"(42) .

يبدأ المطر قرينا للموت في الرواية، ويستمر بعد ذلك قرينا لذكريات الموت وما يرافقها من وحدة وحزن. مشهد موت الصديق الراحل، يعود إلى ذاكرة الصديق المهاجر باستمرار، وفي لحظة قاسية، يتحوّل إلى ما يشبه خطابا موجّها إلى الميت نفسه، وكأنه يسمع: "سمعت صوت الرعد. بدأ المطر ينهمر(...) كلما ازداد المطر، أسرعت أنا وصديقك في المسير نحو البلدة"(43)، بينما يصبح مقدمة لموت الصديق الباقي، بعد أن يقدم استقالته من عمل لا يرى نفسه مفيدا فيه، ويروى: "أسير في الشوارع. البرد يشتدّ في المدينة (...) تسير السيارة بسرعة جنونية، تواجه الريح. يتفجر المطر على مقدمة السيارة"(44)، وهي آخر سيارة استقلها الراوي قبل أن تقتله رصاصة جنديّ الاحتلال على الحاجز. لقد ظلّ مثل هذا المطر يتساقط بكثافة في وجه الصديقين، معا عندما كانا معا، وكلا على حدة، عندما أصبحت المسافة التي تفرق بينهما هائلة، حتى وصلا إلى نهاياتهما. وكان المطر كلّ الوقت مصحوبا بالبرد الذي يجعل الأسنان تصطكّ، كما كان مطراً مخلوطا بالوحل، لا يعني قطّ ما يعنيه المطر، في أي من رموزه الإيجابيّة.

وتكاد رواية "لغة الماء" تتحوّل إلى لغة المطر، تأثرا برمز الماء الذي يدخل في تركيب صلصال الخلق الأول، لكنه في أحداث الرواية، يعيد تركيب الحياة بالبارود والنار. وهو أيضا مطرٌ مصحوب ببرد يقول فيه الراوي وهو يشكو من قسوته: "هذا البرد! بحياتي كلها لم أرَ مثله. حتى الطقس" ضدنا"(45)، وهي حالة لا تؤثر على المقاتلين في الشوارع وحسب، ولكنها تمتد إلى الجميع، متوافقة مع العدوان الذي لا يستثني أحدا، ويجعل الجسد المحموم يلتحم بالحجر البارد، وتنشقّ فوقه صواعق السماء، التي لا تتوقف عن إرسالها مطرا ورعدا وبردا، فيظل وحيدا كما لم يكن يوما. مبتلا حتى العظام(46). إن الواقع، في مرحلة مبكّرة من المعركة في الرواية، خليط من "صوت الريح، الرعد، المطر، الرصاص، القذائف، الطائرات"(47)، وهو في مرحلة متأخّرة منها، أعضاء متشنجة "وبرد يخترق العظام، فيحيلها إلى قطع من الجليد، تشعر بتصلّبها وبرودتها في آن معا"(48). وكما يكون المطر أحد العناصر الرئيسية الفاعلة في صيرورة الأحداث، تكون غيره من عناصر البيئة، مكانا وزمانا، ما يمكن رصده أيضا. وقد عمد الكتّاب إلى تعميق الصور التي أرادوا نقلها من خلال وصف هذه الحالة الطبيعية المصاحبة، وهو وصف يعتمد أساسا على اللغة، الأداة الوحيدة أمام الكاتب، لأن اللغة الإبداعية، بعكس اللغة الوظيفية، قادرة على التطور، بحكم الخيال الذي يعمل فيها، "وبحكم الحريّة الفنية التي يتمتع بها الأديب حين يكتب، وهو يلعب بلغته، وهو ينفخ فيها من روحه معاني جديدة، ويحمّلها طاقات دلالية لم يعهدها أحد فيها من ذي قبل (...) فإذا به كأنه ينشئها لأول مرّة"(49) .

وهناك عناية واضحة في اختيار اللغة في هذه الروايات، تكون في بعضها عناية في مكانها، تنتج صورا بليغة في قدرتها على التوصيل، وتضيف كثيرا إلى النص الروائي، لأنها مناسبة لسياقه، وهناك، في بعض الأوقات مبالغة في هذه العناية، تكون على حساب السرد، فتخرج به عن وظيفة اللغة في الكتابة الروائية، إلى آفاق أخرى، قد يظنّ أنها تقترب من الشعر، وقد تكون جميلة في ذاتها، لكنّها غير ذات صلة بالمكان الذي وضعت فيه. لغة "عرّابو السواد" فيها شعرية متوازنة مع المادة التي تتعامل معها، ومع الجوّ العام للسرد، الذي تمّ اختياره بعناية. وفي هذه الرواية كثير من الصور التي تدهش المتلقّي، وتشعر الناقد بأن التوصل إليها جاء عن طريق فهم لوظيفة اللغة، وتأمّل قادر على تركيب الصّور منها، خاصة وأن ذلك يأتي متوافقا مع التوزيع المعتنى به لأحداث الرواية، والعمليات الفنية في حالات التتابع والحذف والقفز والاسترجاع، التي تملأ مساحتها، فهي حين تحاول وصف صور الشهداء التي تعرّي الجدران، "ترى الوجه المطلّ من إطار الصورة بلا شمس تحلّق على سطح ابتسامته، أبيض شامخا، هادئا ساكنا حدّ الإيحاء بأنه لم يوجد. لماذا يضيف الشهداء إلى ثقل وداعهم غياب ابتسامتهم"(50) ؟ ومثل هذه الصورة جديدة تماما، تتجاوز ما هو معروف، أو مستهلك، في وصف الشهداء، لتقدّم نمطا مختلفا من الكتابة، يشعر المتلقي أمامه بشيء من الدهشة. وهي صورة ليست وحيدة في الرواية، بل هي جزء أساسي من أسلوبها، ينسحب على وصف الشخصيات والعلاقات والمواقف والأفكار، بهذا القدر أو ذاك، لتكون اللغة هي السمة الأبرز فيها، وتمثل تعويضا عن قلة أحداثها الخارجية.

إنها اللغة التي تمنح التأمل أكبر مساحة ممكنة من العمل، ليخرج بصورة تشير ـ مثلا ـ إلى أن "الموت فاتحتي الأخيرة، لكنني كلما حدّقت في ملامحه تلاشى. البارحة كان الألم فظيعا. ألم، ألم. كلّما أتجرّد من منفى يسكنني منفى آخر. لم أكن يوما بهذا القدر من المنافي". وبالرغم من التأثر الواضح بصيغة محمود درويش، حول الوطن والحقيبة، إلا أن ذلك التناصّ تحوّل إلى صيغة خاصة لدى الكاتبة، وهي تعيد تركيب الأصل ليصبح وطنا لا يصدّق منك إلا منفاك، أو، على وجه الدقة "قصة وطن أضعناه في حقائبنا"(51). لكن هذه الجماليات اللغوية الكثيرة، لا تعفي الرواية من المبالغة فيها في بعض الأحيان، فهي حين تكرّر بعض الصيغ الجميلة، مرّة بعد مرة، تساهم في جعلها تفقد جمالياتها. إن استخدام نوع مختلف من ترتيب الكلام في عبارة مثل "وحدَهُ الزنبقُ كان يأبى إلا أن يموت أو يحيا"(52) ، يضفي جماليّة على النص، لكن تكرار هذا الترتيب، في كثير من الصور، يفقد النصّ بعض هذه الجمالية. كما أن شيئا من المقاطع القريبة من الشعر يبدو مقحما، وقد يحتاج بعضه إلى مقدّمة في حبّ الشعر، من أجل تبريره.

إن إغراء اللغة الجميلة واحد من الهنات التي يقع فيها الكتاب كثيرا، أو ينساقون معها، وهو ما يمكن أن يلاحظ بكثرة في "لغة الماء"، التي تتكرر فيها صورة الترتيب السابق (وحدك، وحده، وحدها، وحدي) كثيرا، كما تتكرر بعض المفردات بشكل يوحي بفقر في اللغة، أو بعدم منح التعبير حقه من التأمل قبل الاستقرار عليه، كما تقتضي الكتابة الفنية، وهذا واضح مثلا من عدد المرات التي وردت فيها كلمة "الوجع"، وغيرها من المفردات التي تتكرر في الرواية. وإذا كان موضوع هذه الرواية يستلزم لغة واضحة، من السهل التنويه بطريقة استخدامها معظم الوقت، إلا أن ذلك لا يعني الدخول في بلاغة لفظية تفصيلية في غير مكانها، في بعض الأوقات، فهناك ما يوحي بأن الحماسة وحدها (أو وحدَها الحماسة!) كانت وراء الصوت المشروخ بشظايا الصور وهو يقول، بعد الظنّ أنه لن يتحدّث أبدا: "اثنا عشر يوما خنقني الموت فيها تحت معطفه الطويل، أتنشّق رائحته ولا أراه. أستشعر برودة جسده، وأتحسس جسدي لأتأكد من سلامته. اثنا عشر يوما ضمّنا رحم الأرض. كنا عشرين رجلا، عشرين روحا تعلّقَ مصيرُها بخيوط عنكبوت، وكأننا من هذا النسج الواهي نصنع الحياة، نقلب الأيام على عتمتها حتى يزيد النسيج متانة. عشرين رجلا فارا هاربا مطاردا ضمتنا الأرض في رحمها أحياء، يتشرّب العظم رطوبتها، تعتاد العيون ظلمتها حين تضيق علينا بما رحبت، وتنام باقي الحواس"(53) . وقد تكون هذه الصورة بليغة بتقييم ما، في حدّ ذاتها، لكنها تفقد كلّ بلاغتها، وتبدو دخيلة على السياق، أو مكتوبة من خارجه، مستقلة عنه، حين تقال في مقام كالذي قيلت فيه، لأنها منفصلة عن الموقف الذي يجمع، بعد فراق قاس، حبيبين بينهما شوق كبير، يعزّزه خوف من الموت الذي يطارد أحدهما، والعجز الذي يلتصق بالأخرى.

وقد مالت اللغة في "آخر الحصون المنهارة" إلى أبسط أشكالها، ومع ذلك، فإن المشهد الذي يفترض أن يحمل دلالات عميقة في السياق، لم تكن العناية باللغة الموحية تنتفي منه. وقد بدا ذلك واضحا في وصف القرية العربية المهدمة، من قبل الراوي، بما يوحي بالألفة معها: "تجوّلت في أزقّتها الضيقة وحواريها الظليلة، وتنفست من هوائها العليل. كانت تنبعث من أفنيتها رائحة حياة خاصة، حتى ليهيأ للمرء أن أهلها ما غادروها إلا بالأمس القريب، فالمواقد الحطبية ما زال السّناج يكسو حجارتها، وما زالت تلوح أقنان الدجاج وخوابي الحنطة والمحاريث والمناجل المصفوفة على الحيطان"(54). وتتوالى الصور الجديدة، أو التشكيلات الأصيلة للغة بشكل مستمر في "هواجس الإسكندر" لتكون إحدى خصوصيات الأسلوب فيها، وهي غالبا ما تجيء على شكل جمل مفاجئة في قدرتها على تقديم الصورة السريعة، مثل لقطة غريبة ومقنعة في آن؛ فحين يكون التعبير عن الخوف مثلا، كماأشيع عن خوف الغريب من الجنيات، فإنه "من شدّة الخوف، ابتلع بطنه أسفل بطنه"(55) . ومن الصعب أن تحصر مثل هذه التعبيرات، لكثرتها في السياق، ولما يبدو فيها من عفوية تجعلها جزءا من لحمته، ففي هذه الرواية نرى من كان مستغرقا في التحديق في داخله، ونسمع عمن يشتغلون عادة، ولأسباب غير مفهومة، مثل حرّاس على الحكايات، ونلاحظ من يستخدم عصاه، وكأنه يهشّ بها على سني عمره، وغير ذلك كثير.

وفي حين تصبح حياة الصديق المهاجر مجرّد "رحلة من الملامح" في رواية "القادم من القيامة" فإن العناية بالأفكار فيها ـ ما تكرّسه غلبة الحوار ـ تتفوق على الصور التي تخلقها اللغة، إلا أن اللحظة المناسبة من تلك الرّحلة لا تفلت من تعميق لغويّ لها، بالمشهد الاستنكاري: "أيّ إنسان هذا؟ خرج من الحياة بلا مجد ولا بكاء ولا دموع ولا ملذات. إنه من بقايا الأنبياء، لم يأخذ شيئا. وأنت يا ياسمين: أية صورة لك هذه؟ هل الزمن هو الزمن. أية ضحكة هذه التي تقاتل الملائكة؟ أيّ شيء هذا الذي يبدو لي كسرّ مقدس؟ أين أنت الآن؟ من الذي لوّثك؟ أتذكرين رسالتك الأخيرة: لن أسمح لأحد بتلويثي غيرك. سأنتصر لقانون الطبيعة والحبّ. لم تقولي كلمة أحبك، قلت لي إن السكوت أعظم عندما يوحي"(56). ما هو مقصود في موضوع اللغة هو الاستخدام الغريب المقبول، ما يطلق عليه، كمصطلح، اسم الانزياح(57) ، الذي يخرج من الدلالة الواقعية البسيطة للّغة الوظيفية، ليمنح الكلمات ذاتها، في مواقع خاصة، وترتيب مختلف، دلالات أخرى، جديدة كليا.

آلية السرد، التي تتغلغل كثيرا في الروايات، وتشكل جزءا أساسيا من لحمتها، أو من قدرتها على التعبير، هي الآلية الأقرب إلى انعكاس الواقع المعقّد وغير المحتمل، على طبيعة السرد. إنها آلية الخروج عن هذا الواقع، إلى ما هو صورة مختلقة له، حتى وإن كانت مشتقة. وهي صورة متخيلة أو فانتازية على وجه التحديد. وهناك ما يشبه الاتفاق على أن ما هو فانتازي، أو عجائبي يدخل في نطاق الخروج عن المألوف، ليعتمد على "مزيج غريب وغير متوقع من الواقع الداخليّ والخارجي"(58)، بحيث تصبح الأحداث مما "لا يمكن أن يفسّر بقوانين هذا العالم"(59)، لأنّ الذات في الكتابة الروائية "تعيد خلق ذاتها عن طريق تحويل كلّ شيء إلى ذاتها"(60) قبل التعبير الأدبيّ عنه.

ويمكن أن ينظر إلى هذا المفهوم من ثلاث زوايا أساسية، معظمها مشتقّ من التحليل النفسي للأدب، الذي يرى، من زاوية أولى، أنه في القصّ الحديث، ثمة شكّ بخصوص العالم الذي ينتمي إليه، أهو هذا العالم، أم عالم مغاير تماما(61)، ويرى، من زاوية أخرى، أن بنية الحوادث الموضوعية، الخارجية والأساسية بالنسبة لفن القصّ، تتضاءل في المجال والدرجة، أو أنها تتقدم بشكل انتقائي ومائل، كيما تترك حيّزاً للاستبصار الذاتيّ والتحليل والتأمّل والحلم(62) ، وبذلك يصبح ما هو خارجيّ مما يتعامل معه الوعي، وما هو داخليّ، مما يختص به اللاوعي، أو العقل الباطن، مساحتين متاحتين أمام التعبير الأدبي، من زاوية أخيرة. ويبدو، في الروايات جميعها، أن الهروب إلى ما هو داخلي، في تقنيات السرد، يتكرّر بوتيرة تعبّر عن أزمة في الواقع نفسه، إذا وجدت فسحة في هذا الواقع المأزوم تسمح بشيء من التأمّل أو الخيال. وهذا الهروب يلجأ إلى كلّ الوسائل المتاحة، بدءا من الهواجس، التي كانت عنوانا لإحدى الروايات، مرورا بأحلام اليقظة، وصولا إلى ما يراه النائم من أحلام، تغلب عليها الكوابيس القادمة من كابوس الواقع. ومن السهل أن تدخل في هذا الإطار بعض عمليات التناصّ التي تلجأ إليها الروايات، من استخدام للحكايات الشعبية (هواجس الإسكندر)، إلى تلخيص لأفلام مفترَضة أو مسرحيات (القادم من القيامة)، أو لجوء إلى ما كتبه الآخرون من قبل (هواجس الإسكندر، آخر الحصون المنهارة، القادم من القيامة).

فسحة التأمل، أو الهروب من الواقع، أو الاسترخاء داخله، ليست متوفرة في "لغة الماء"، بسبب إيقاع المعركة السريع، الذي ينعكس إيقاعا لاهثا على السرد، ومع ذلك فإن القراءة والكتابة نوع من آليات الهروب، كما أن تصوّر ما في الخارج، مكانا بعد مكان، مواجهةً للعجز عن الخروج الحرّ، يدخل في هذا الباب. إن الراوية، التي لا تملك ساقين تسير بهما، تسند رأسها الملتهب على زجاج النافذة البارد. ودون أن تغادر هذا الوضع، تصف ما يدور في رأسها: "أنزل اثنتي عشرة درجة، تواجهني ساحة المنزل ودار أم دياب تعلوها دار أم العبد. على يدي اليمنى دار أبو السعيد، والباب الرئيسيّ على شمالي. أخرج من البوابة ليواجهني الشارع. أنعطف يمينا لأصل باب الساحة، وجامع النصر بساحته المبلّطة ودرجاته العريضة، تقابله الساعة تنغّم ضربات قلب أهل المدينة"(63) ، وهي الساعة التي لم يعد صوتها يسمع بعد الاجتياح. ومثل هذا الفعل لا يبقى تصوّرا مع تضاعف كابوس الاجتياح، بل يصبح فعلا حقيقيا، يتزاوج فيه الوهم مع الواقع، حين تقذف بنفسها، داخل الكرسيّ المتحرّك، في الشارع، أمام الجيب العسكري، حتى تنقذ حبيبها من الاعتقال، أو عندما تتدحرج على درج البيت، بالكرسيّ ذاته، بعد أن تسمع خبر استشهاد حبيبها، وأكثر من ذلك، عندما تتساءل عن ساقيها، بعد أن تفيق من غيبوبتها الأخيرة، وكأنها فقدتهما للتوّ، مع أنها فقدتهما منذ سنوات طويلة قبل لحظة السؤال.

وتتخذ "عرّابو السواد" بكاملها شكل الحلم، وأحداثها تتوالى مفكّكة كما في الحلم، تحتاج إلى جهد لإعادة ترتيبها في الذهن، رغم بساطتها على المستوى الواقعي. وفي هذه الرواية قد ينحرف الحلم عن معناه النفسي، فنجد مثلا أن (هو) يعاني كوابيس الثلج وظلّ الجارة التي كانت تتعرّى من أجل حمامها الليليّ، دون أن يجرؤ على رفع عينيه إلى أعلى ليرى هذا الظلّ وقد بعثت فيه الحياة، وهو ما لم يستطع أن يقوم به يوما، لذلك بات يطارده مثل كابوس، يحول (مع الواقع الذي يمثله الثلج، ببرودته لا بصفائه) دون أن يتجاوز حلمه بأن له أرضا، كما أن (هي) لم تتجاوز حلمها بشخص يشبهه: "حين التقيته سألته عنك، فأخذني وقال لي إن الحقيقة دائما ما تشبه ضدّها! وكنت أجبته: الحبّ ليس حقيقة. الحبّ كفر. والحبّ موت بطيء للرغبة والتوازن. ضحك في وجهي وأخرج منه قطة أخذت تداعبني. حين هربت ناديتها باسمها الذي لست أذكره، فأجابني هو، وأخذني بين يديه، حتى رأيتني أسبح في روحه وأصيح خوفا أنني أعترف، أعترف. لكن لا أدري بماذا كنت أريد الاعتراف"(64) !

وتمتد الرواية على "أسبوع الكوابيس"، فلا تكاد (هي) تستيقظ، حتى يستيقظ حلمها، ويقذف الشقيقين في وجهها، ويعود ليشغل لها يومها، لأن علاقتها بالشقيقين أكثر كابوسيّة في واقعها من الكابوس، لدرجة أنها تقلب الأوضاع، ليبدأ الكابوس، كما سبق، مع الخروج من حالة النوم: "بتّ ليلتي محموما، محموما أهذي (...) وحين أصبحت، وجدت جسدي معلّقا أمامي. ذهلت! في البداية اعتقدتني في جنّتي أو جهنمي، سواء سواء! لكنّ كلّ شيء كان على حاله، وكانت أمي بجانبي. سألتها كيف تراني. لم تجبني. ظلت تبكي ولم تسمعني ولم تشعر بإصبعي تمسح دمعتها! مرّة أخرى ذهلت! حاولت أن أصيح، أتوّهم، أتربّع في جسدي، لكنّ سكون ما حولي كان مخيفا حدّ الجنون"(65) . ومثل هذا الاقتباس، الذي يعتبر نموذجا لما يجري عليه النص، صحوا أو مناما، يشير إلى أن الرواية بكاملها تمثل الأسلوب النقيض للرواية التسجيلية السابقة، وبذلك يمكن أن تعتبر واحدة من نماذج الأدب الفانتازي القليلة في الأدب الفلسطيني.

الروايات الثلاث الأخرى، توظّف الفانتازيا (الأحلام/ الكوابيس غالبا)، بهذا القدر أو ذاك، في تعميق الصورة الواقعية التي تنتمي إليها الروايات بشكل عام. رواية "آخر الحصون المنهارة" تسير في خط تقليدي، قريب من "لغة الماء"، لا مكان للحلم فيها، على هذا الأساس. لكن الفارق بينهما يكمن في درجة تأثير الواقع، وإمكانية وجود فسحة فيه، وهو ما يتوفر في "آخر الحصون المنهارة"، خاصة بعد أن يصبح بشار المحمدي خائفا في الصحو، خائفا في النوم، وبعد أن يفقد الواقع دلالاته الموضوعية، وتصبح بعض أحداثه خارج المنطق: العلاقة الجنسية مع الأم مفروضة على الشاب، والانتقام من قبل الابنة العنصرية، عن طريقة محاولة اغتصابه، مفروض أيضا، وقتل الابنة يحدث بالصدفة، أما قتل صديق البنت، فقد جاء دفاعا عن النفس، ومع ذلك، فإن كل هذه المقدّمات الحقيقية تنتهي إلى نتائج مختلفة، لأن التهمة مفترضة مسبقا بالنسبة للعربيّ في إسرائيل، وهي تقدم بكل تأكيد صورة لما كان عليه الصراع على الأرض الفلسطينية، منذ طمعت الصهيونية في احتلالها، فعمدت إلى التوصل إلى نتائج غير منطقية حول حقها، تقنع بها عالما لا يرى إلا ما تقدمه له، بصياغتها الخاصة، (شبيه بعامة المستوطنين وقضاتهم)، أو تختلق مقدمات تزيف الحقائق التاريخية المعروفة، أو تغطيها بغلاف أسطوريّ، وتؤسس ادعاءاتها عليها: 

والفترة الكابوسية في حياة الشاب هي التي تقع بين القتل الأول واكتشافه، لأن القتيلة تستمرّ في ملاحقته، وهو يتقلّب في وحل الكوابيس: "يا ربّ السماء، من التي تقف أمامي الآن (...) هل ينهض الأموات من قبورهم (...) لست مجنونا ولا أعمى (...) إنها هي! (...) تقف أمامي في الضوء الذاوي (...) بلحمها وشحمها المجبول بطينة الاستعلاء (...) بالزيّ العسكريّ نفسه، والمسدس نفسه (...) أسير نحوها مضطربا فاقدا لتوازني. رعشة جهنمية تهزّ يدي.. شعور بعبثية الحياة يغمرني. ينفجر جنوني دفعة واحدة. أطبق يدي على خناقها أصرخ في وجهها صرخة مدوية: هل خرجت من القبر أيّتها العاهرة؟ كم مرّة أحتاج أن أقتلك كي تموتي"(66)؟ ومثل هذا الحلم، في الرواية، يبدو أكثر منطقية من الواقع نفسه، خاصة وأن اللغة الخاصة، والحساسة، التي يفترض أن يعتمدها تصوير الحلم، يغيب عنها التميز هنا، كما في مجمل الرواية التي تعتمد، في معظمها، لغة قريبة من اللغة الوظيفية.

وحين تتحدّث "القادم من القيامة" عن واقع ما، من خلال حلم، فإنها تعطي صورة لعنصر من عناصر التخلّف في هذا الواقع، يعمل داخليا على هزيمته إلى جانب العناصر الأخرى. ومع هذا فإن الحلم ليس غريبا كما يصفه صاحبه، لأن رؤية "شيخ وقور يلبس رداء طويلا، تصل لحيته البيضاء أسفل رقبته (...) يحمل بيده عصا، ويجرّ بيده الأخرى حمارة (...) أهل البلد على شكل طابور عظيم (...) ويمدّ كل واحد منهم إصبع سبابته بانتظار دوره (...) يمسكه الشيخ، ويضعه تحت ثدي الحمارة، ويحلب له عليه، فيمصّ الرجل إصبعه ويهرب فرحا"(67) ، لا يعتبر أمراً غريبا في مجتمع متخلّف، وهو ليس جديدا على السّرد العربي أيضا، لكنّ ما يبرّره كحلم، هو ربطه بالشخصية التي لا تتغيّر في الرواية، شخصية الكامل، الصادقة الساذجة، التي ترفض ـ وحدها، دون القرية جميعا ـ أن تلحس حليب الحمارة.

ولا تتوقف الرواية عند هذا الحلم الواقعي، لأن عملية التأمل فيها، مع استرجاع الماضي، تعمّق الإحساس بالخسارة التي تتجسّد في الحلم موتا، بعد الخطاب الذي وجه إلى الميت الشهيد: "كنت ملقى على ذلك اللوح الخشبيّ المخصص لغسل الموتى، عاريا تماما، ليس لي عضو ذكريّ. كنت حيا أنظر حولي ولا أرى إلا أقدام الناس، وأشمّ رائحة اليود وعطر الموتى والدم، وأرى عيون الكلاب اللامعة كمهاميز تمزّق لحمي (...) قال الشيخ: لا حاجة إلى الماء، إنه يغتسل بدمه"(68)، وفي هذا الحلم نوع من التماهي مع دفن الصديق الشهيد، الذي حدث في الواقع، وشكل واحدا من الدوافع للهجرة. ثم يأتي كابوس جديد، يستكمل الصورة، يستبدل فيه اللوح الخشبيّ بلوح زجاجيّ، وتختلف فيه الروائح، فهي هنا رائحة نتن تفوح من حذاء الشيخ وبنطاله، تتقاطع معها رائحة عطر الشاعر، التي تزكم الأنف، وتتّحد فيه الحبيبة القديمة والوحيدة، مع زوجة الصديق الراحل، ليخلق الجميع كابوسا له تأثيرات متنوعة، تنتهي بأن "يخلع الشيخ ملابسه الداخلية، يحشرها في فمي. بعصاه يدخلها في حلقي. لا أستطيع الصراخ؟ إنه أكثر من موت"(69)، وهو موت يحيل إلى هياكل عظمية في الكابوس التالي، الأشدّ سوادا، يكون فيه "الناس هياكل عظمية، وحدَها عيونهم تلمع، يمشون سوية على شكل مواكب. صديقي هيكل عظمي عار تماما، يجلس على كرسي خشبيّ أسود، تحمله أربعة هياكل عظمية تغنّي له (...) الأرض تفور بالدم والوحل والتراب (...) القبور ترقص شواهدها وتتمايل (...) تتحول القبور إلى أفواه. يمضغ الجميع اللحم والمطر والليل والقبور (...) قبر جدّتي غير بعيد. أقترب منه. أسلّم عليه. يحاول جاهدا الكلام. لا يخرج الصوت. يفتح فكيه أكثر، ولا يخرج الصوت"(70) .

ومن السهل أن تلاحظ بعض السمات الخاصة في كوابيس هذه الرواية، وأولها أنها بمجموعها تشكّل وحدة درامية مترابطة ومتنامية، يمكن أن تتجمع فيما يشبه الحكاية المستقلة، ما يدلّ على وعي لأسلوب توظيفها، بحيث تعكس صورة موازية لما حدث ـ تدرّجا زمنيا ـ في الواقع، حتى تحوّل ـ رمزيا ـ إلى موتى وشواهد قبور. ويؤكد هذا الترابط بين الواقع وصورته وجود الشخصيات الواقعية في الكابوس، مثل الشيخ الذي يتكرّر، والكامل والصّديق الراحل والمرأتين ـ رمز الحبّ المحبط ـ والشاعر، الرّمز الانتهازي في الزمن الجديد. أما السمة الثالثة فهي تتعلق بنوع من التشابه في سرد الأحلام/ الكوابيس في الروايات التي تستخدمها، وهو ما يمكن أن يلاحظ بسهولة في "التواجد حيّا في الموت" كما أشير إليه من قبل في "عرّابو السواد"، حيث التشابه القريب من التطابق، ثم في "آخر الحصون المنهارة". والشيخ الذي يلاحق الراوي يمكن أن يلاحظ شبيه له، في "هواجس الإسكندر"، ما يوحي بتشابه التجربة، وانعكاس ذلك في التعبير عنها، يعزّز ذلك أيضا موضوع العري في الحلم.

"هواجس الإسكندر"، كما سبقت الإشارة، تدور بنيتها حول الهواجس، أو الأوهام التي يعيشها الراوي، والتي تعكس أوهاما كثيرة يعيشها المجتمع، وينسى أن يحققها، أو هو يفشل في ذلك، لذلك يكون المجال السردي منفتحا أمام الأحلام، التي تكمل فعل الهواجس، وهو ما كان جليا في تفتيت السرد، الذي جعله شبيها بالحلم (كما لوحظ في رواية أخرى)، كما كان شاملا في تجليات لغة السرد، التي تميز الرواية، لتأتي الأحلام مكملة للصورة، أو معمقة لها، فالشيخ في حلم أمّ الراوي "كبير السنّ، وقور، نورانيّ الوجه، جهم البنية، طويل اللحية أشيبها، يرتدي دشداشة بيضاء، وحطّة بيضاء دون عقال، حطّة بيضاء ناصعة"(71)، تكون مهمّته تثبيت الوهم، وهو يتنبأ للأم الحامل بجنس المولود (قبل أن يستطيع الطبّ ذلك)، ويمنحه اسما يكون غياب ارتباطه بالنصّ الدينيّ دليلا لتأكيد نوع من الشعوذة الاجتماعية المنشأ. وهذا الشيخ، بنصّه الغائب، ظلت شفتاه الصامتتان، أحيانا، مثل ثقب في اللغة البشرية، تلاحقان الراوي وتسحبانه إلى قاع بعيد(72)، هو نقيض "قمة منحدر غريب وخصب، قرب وادٍ غزير الماء على حوافّه شجر ونبات غريب.. كثيف وطويل وشديد الاخضرار"، حيث يمشي الراوي في حلمه عاريا (أيضا)، ويضرب النبات بظاهر كفه فيلتصق بها، ثم تنبت يده زغبا طحلبيا فيخاف، ثم يرى الطحلب مليئا بنصوص يقرأها ويعيشها، لكنه لا يعرف لغتها ولا مضمونها، ولا يمكنه نقلها (...) فيزداد خوفا. وحين يمرّر يده على نار لطيفة هادئة، يحترق الطحلب، وتخرج منه رائحة (...) ودخان لطيف كثيف، يطير مثل سحابة إلى سماء زرقاء صافية، لا شمس فيها ولا نجوم. وهو ما يحيل الحلم إلى نوع من الهواجس التي يصوّر بها الراوي واقعا يتحول من حلم إلى كابوس، يلخّص مقولات الروايات جميعا: "طاردت السحابة بنظري، وحدّقت فيها. تحوّلت السحابة إلى سرب من طيور سود، تشبه الغربان. وسط السرب، كان لطائر (بالحجم نفسه، وباللون نفسه)، شكل حصان بجناحين. ركّزت في الطائر/ الحصان، وصرت أرقّّصه كما أشاء. قلبي كان يختار حركاته البهلوانية في السماء البعيدة. كان يرقص كما أفكّر له أنا. يرقص ويملأني فرحا. نظرت لماء الوادي، وأسلمت جسدي للماء من قمة المنحدر. سرت مع الماء، وصرت ماء (...) في نهاية الوادي، وصلت إلى أرض أعرفها، محاجر قديمة مؤلّفة من حفر كبيرة جدا. أكوام حجارة وحصى وتراب (...) وعندما خطرت لي الوجوه الغريبة، تماما كما في الطفولة، صحوت من حلمي مرعوبا"(73) .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) حملت قصص أماني الجنيدي عنوان "امرأة بطعم الموت" (مركز أوغاريت الثقافي، رام الله، 2005)، وفي رواية داليا طه "عرّافو السواد" (مركز أوغاريت الثقافي، رام الله، 2007)، أخذت تطري نكهة الموت، ص 12.
(2) Phylis A. Whitney, Guide to Fiction Writing, The Writer, Inc, Boston, 1983, p. 105.
(3) د. نضال الصالح، النزوع الأسطوري في الرواية العربية المعاصرة، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 2001، ص65.
(4) أكرم مسلّم، هواجس الإسكندر، مركز أوغاريت الثقافي، رام الله 2003.
(5) المصدر السابق، ص 47 48.
(6) المصدر السابق، ص 59.
(7) المصدر السابق، ص 22
(8) المصدر السابق، ص 35.
(9) المصدر السابق، 12.
(10) مشهور البطران، آخر الحصون المنهارة، مركز أوغاريت الثقافي، رام الله 2005.
(11) وليد الشرفا، القادم من القيامة، مركز أوغاريت الثقافي، رام الله 2008.
(12) داليا طه، عرّافو السواد، مركز أوغاريت الثقافي، رام الله 2007.
(13) المصدر السابق، ص 69.
(14) المصدر السابق، ص 41.
(15) عفاف خلف، لغة الماء، مركز أوغاريت الثقافي، رام الله 2007.
(16) مشهور البطران، آخر الحصون المنهارة، ص37.
(17) يشار عادة في هذا المجال، مثلا لا حصرا، إلى الأعمال التالية لكل من: غسان كنفاني ما تبقى لكم؛ إميل حبيبي المتشائل؛ جبرا إبراهيم جبرا البحث عن وليد مسعود.
(18) د. نضال الصالح، ص 166.
(19) ب. س. جونسون، في: مالكولم برادلي (إعداد)، الرواية اليوم، ترجمة أحمد عمر شاهين، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 1996، ص 140.
(20) Arturo Vivante, Writing Fiction, The Writer, Inc, Boston, 1980, p. 101.
(21) د. مراد مبروك، بناء الزمن في الرواية الحديثة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 1998، ص 91.
(22) أ.أ. مندلاو، الزمن والرواية، ترجمة بكر عباس، دار صادر للطباعة والنشر، بيروت، 1997، ص 248.
(23) Arturo Vivante, Writing Fiction, p. 104.
(24) د. أمينة رشيد، تشظي الزمن في الرواية الحدجيثة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 1998، ص 8.
(25) عفاف خلف، لغة الماء، ص 13.
(26) أكرم مسلم، هواجس الإسكندر، ص 8.
(27) مشهور البطران، آخر الحصون المنهارة، ص 148.
(28) وليد الشرفا، القادم من القيامة، ص 36.
(29) عفاف خلف، لغة الماء، ص 55
(30) أكرم مسلم، هواجس الإسكندر، ص 31.
(31) مشهور البطران، آخر الحصون المنهارة، ص 56 57.
(32) المصدر السابق، ص 62.
(33) داليا طه، عرّابو السواد، ص 45.
(34) المصدر السابق، ص 63.
(35) المصدر السابق، ص 50.
(36) أكرم مسلم، هواجس الإسكندر، ص 39.
(37) مشهور البطران، آخر الحصون المنهارة، ص 139.
(38) المصدر السابق، ص 5.
(39) داليا طه، عرّافو السواد، ص4.
(40) المصدر السابق، ص 5.
(41) المصدر السابق، ص 68.
(42) وليد الشرفا، القادم من القيامة، ص 9.
(43) المصدر السابق، ص 50.
(44) المصدر السابق، ص 115.
(45) عفاف خلف، لغة الماء، ص 24.
(46) المصدر السابق، ص 59..
(47) المصدر السابق، ص 77.
(48) المصدر السابق، ص 134.
(49) د. عبد الملك مرتاض، في نظرية الرواية، عالم المعرفة، الكويت، 1998، ص 109.
(50) داليا طه، عرّابو السواد، ص 8.
(51) المصدر السابق، ص 30 31.
(52) المصدر السابق، ص 62.
(53) عفاف خلف، لغة الماء، ص 149.
(54) مشهور البطران، آخر الحصون المنهارة، ص 26.
(55) أكرم مسلّم، هواجس لإسكندر، ص 15.
(56) وليد الشرفا، القادم من القيامة، ص 72.
(57) د. عبد الملك مرتاض، في نظرية الرواية، ص 110.
(58) ت. ي. إيتر، أدب الفنتازيا، ترجمة صابر السعدون، دار المأمون، بغداد، 1989، ص 53.
(59) تزفيتن تودوروف، مدخل إلى الأدب العجائبي، ترجمة الصديق بوعلام، دار مشرقيات، القاهرة، 1994، ص 43.
(60) وليم راي، المعنى الأدبي، ترجمة يونيل عزيز، دار المأمون، بغداد 19987، ص 81.
(61) ت. ي. إيتر، أدب الفنتازيا، ص 13.
(62) ديفيد لودج، في مالكولم برادبري، جيمس مكفارلين (إعداد)، حركة الحداثة، ترجمة عيسى سمعان، وزارة الثقافة، دمشق، 1988، ص 220.
(63) عفاف خلف، لغة الماء، ص 54.
(64) داليا طه، عرّافو السواد، ص 52 53.
(65) المصدر السابق، ص 46.
(66) مشهور البطران، آخر الحصون المنهارة، ص 120.
(67) وليد الشرفا، القادم من القيامة، ص 19 20.
(68) المصدر السابق، ص 49.
(69) المصدر السابق، ص 99.
(70) المصدر السابق، ص 107.
(71) أكرم مسلّم، هواجس الإسكندر، ص 27.
(72) المصدر السابق، ص 54.
(73) المصدر السابق، ص 51 53.