على الوتر المشدود بين العزلة والتوق للتواصل والخلاص بالحب في عالم قاس تنساب هذه القصيدة وهي تخلق موسيقاها الزرقاء، وتسعى لصياغة عالمها وصورها وقاموسها الشعري.

موسيقى زرقاء

طالب همّاش

 

 أشعلتُ سراجَ السهرةِ في صحن ِالدارْ

وعصرتُ على الأقداحِ دماءَ العنقود ْ

فلماذا يصمتُ في العشقِ غناءُ الغيتارْ؟

ولماذا يسكتُ في الحزنِ بكاءُ العودْ؟

الليلُ سكينةُ قلبٍ ( سكرانٍ )

يتنزّلُ كمراثٍ بيضاءَ على صدري

والخمرةُ رائقةٌ ، تترقرقُ نشوتها في الإبريقْ .

وأنا أقطرُ صمتي في حوجلةِ الحزنِ الزرقاءِ ،

وماءَ عيوني في كوزِ الدمعِ الشفّافِ

وأنحلُّ بحزني في محبرةِ العتمةِ

كالأنبيقْ!

وأحدّقٌ من شبّاكِ العزلةِ في أنظارِ الناسِ الدامعةِ التحديقْ!

(أسياناً) بالحزنِ وصوتِ الأجراسِ  المهموسِ

أصبُّ الغصّةَ من صدري في كوبِ يديَّ

فتشربها الريحُ

وأبكي في الصمتِ المتعبِ رقّةَ روحي

وأكفكفُ كالباكي

سيلانَ الدمعةِ عن خدِّ صديقْ!

نفسي غارقةٌ في سرِّ الوحشةِ

تتألمُ  فيها أوجاعُ (مواويلٍ) ،

وتغطُّ يتامةُ أغنيةٍ في غصّتها ،

وتطولُ قدودْ!

فلماذا يسكتُ في الليلِ بكاءُ العودْ؟

الآنَ سأغمضُ عينيَّ وأغفو

فوق حفيدِ الشجنِ البغداديِّ

وأستعطفُ ما فيهِ من البحّةِ

والآهةِ والرجفةِ والرعشةِ والأنِّة

أستعطفُ ترجيعَ الوترِ المُرخى

وأشدُّ على ألامِ الوترِ المشدودْ!

يا سلطانَ الحزنِ المرفوعِ كقلبِ العاشقِ

فوق ذراعيْ قمرٍ مذبوحْ!

رُشَّ الخمرَ على الأوتارِ

ورتّلْ بجميلِ الصوتِ!

لتسحرَ بالأصداءِ

سرائرَ هذا الموتِ المفدوحْ!

راحتكَ اليمنى عصفورٌ واليسرى كروانٌ

وبلابلُ أوتاركَ أجراسٌ سودْ  ..

وأصابعكَ العشرةُ تتدلّى فوق الدمعةِ كالعنقودْ!

وأنا المغسولُ بماءِ الصبحِ الأبيضِ

قلبي نافورةُ حبرٍ تبكي

وعيوني ذوبُ ثريّاتٍ

فوق مرايا البلّورِ المجروحْ!

فاشرحْ صدرَ شقيقِ مراثيكَ السهرانَ

بمعزوفةِ موسيقى!

موسيقاكَ غديرٌ يسقي بستانَ دموعي،

ويربُّ بماءِ الوردِ الروحْ!

موسيقاكَ شروقٌ يتقطّرُ كالعنبِ المخمورِ

على شفة الظمآن

وفجرٌ يشرقُ كالتفّاحةِ

والإشراقُ يفوحْ ..

وشموسٌ تتشعشعُ ناعمةً تحت المطرِ العاطرِ

والرمّانُ على الأغصانِ جروحْ  ..

ما أصدى صوتكَ حين تغنّي

سكرانَ الصوتِ بأسبابِ عذابكَ في أسماعِ حزاناكَ

وتوقظُ في الليلِ الطاهرِ فردوساً من سكراتْ!

ما أصفاكَ وأنتَ تسوحُ عليلَ الأصداءِ على شطآنِ الغبطةِ 

فترقّصُ سكّيراً تحتَ المطرِ الموحشِ

أو تحفرُ في جسدِِ العودِ ضريحاً لغناءٍ ماتْ!

فترقرقْ كيفَ تشاء على موسيقى الحزنِ الأزرقِ

واغرقْ في سَكْرَةِ موسيقى

تتقطّرُ كالزنبقِ من غصنِ الأمطارْ!

لا تتركْ قلبي يتأرجحُ كالمصباحِ المطفأ في صحنِ الدارْ!

فلقد ذابَ الصمتُ

وأبحرَ عقلي كشراعٍ  أبيضَ في الليلِ

وصارتْ كأسي نهداً يتطلّعُ نحو القمرِ المولودْ!

فلماذا يسبحُ بالدمعِ غناءُ الغيتارْ؟

ولماذا يتجاوبُ مجروحاً صوتُ العودْ؟

يا سلطانَ العزلةِ إملأْ طاسكَ من سكراتِ القديسينَ

وذُبْ ساعةَ حزنٍ في صوفيّةِ هذا الليلِ

المتلألىءِ تحتَ جمالِ اللهِ ،

 كمئذنةٍ في الأسحارْ!

ذُبْ كالراهبِ في بركةِ ضوءٍ ورديٍّ

وادفنْ سرّكَ في بئرِ الأسرارْ!

فدروبُ الصبحِ قناديلٌ تتدحرجُ فوق حجابِ الدنيا البيضاءِ

وبعد قليلٍ تصبحُ روحكَ قبّرةً

تقرعُ بابَ الجنّةِ

وتدوزنُ بالزقزقةِ الأنهارْ.

فاسرحْ بخيالكَ في هدأةِ موسيقى ...

كم صمتكَ في الصمتِ جميلٌ،

ورقيقُ الآسِ ..

أأنتَ من الروحِ بحيث تشفُّ حزيناً

كسراجِ البلّورِ

فتسكرُ مما فيكَ شفاهُ الكاسْ؟

أم أنتَ من الرقّةِ والعطف ِ

بحيث تذوبُ بعينيكَ دموعُ الناسْ؟

نامَ الكونُ  وغابتْ في الغيبوبةِ روحُ المرأةِ

والنشوةُ تتغلغلُ في الجسدِ العاشقِ  كالأمواسْ ..

لكنّي ما زلتُ أراكَ بعيداً ،

منحنياً فوقَ أنينِ المعزفِ

كملاكٍ يبكي فوقَ النعشِ،

كمحتضرٍ يشربُ ماءَ مغيبِ الشمسِ

وينثرُ فوق أغانيهِ الميتةِ

                   إكليلَ ورودْ  .

إصح قليلاً

ليرفرفَ طيرُ النشوةِ

بين قلوبِ السهرانينَ ،

وينشقَّ عن الغسقِ النورانيِّ

صياحُ ديوكِ الفجرِ على الأسوارْ!

ويصير إلى أجنحةٍ وفراشاتٍ هذا الجسدُ الدودْ.

هطلتْ غيمةُ صيفٍ في باصرتي

فانسابَ شرابُ اللوزِ رضيعاً من صدري

وتلامعَ قزحٌ أخضرُ في صحنِ الدارْ!

فلماذا يسكتُ عن هذا السحرِ صداحُ العودْ؟

ويغمُّ جريحاً ترجيعُ الغيتارْ؟

فالليلُ رقيقُ المرآى

والخمرةُ رائقةٌ  في الإبريقْ!

مسَّ شغافي السكرُ

فأقمرَ قلبي  كهلالٍ في الليلِ

وشقّتْ عينايَ إلى فردوسِ الفجرِ طريقْ!

لكنَّ المرأةَ لم تأتِ بكاملِ شهوتها

لتصفّرَ في  القدحِ الصامتِ 

أنغامَ أنوثتها،

ونباشرَ بالشربِ التحليقْ. 

فالليلُ مليءٌ بالبحرِ وريحِ النشوةِ

والأفقُ المفتوحُ على الغامض ِ

يغري بالإبحار ْ.

إشتعلَ الليلُ ضياءً قزحيّاً

وروائحُ أزهارِ الليمونِ  الريّا

تتلألأُ كالأثداء ِ

وتوقظُ كوناً من أسرارْ .

ما أبهجَ أن يخضوضرَ هذا الصمتُ الربّانيُّ رنيناً

ويصيرَ هواءُ الأشجارِ رحيقاً،

وأنا ينبوعاً يتشهّى العنبَ الأحمرَ في النهدينِ

و يرضعُ تحتَ الأشجارْ!

ما أبهجَ أن يغدو الإبريقُ  كناريّاً بين غصونِ اللوزِ تُدارْ!

فلماذا تثلجُ دمعاً أوتارُ الغيتارْ؟

يا صاحبةَ الصوتِ الأندلسيِّ

على شباكي تتناثرُ كفراشاتِ الوردِ

أصابيعُ الثلجِ

فتبيضُّ جدائلُ داليةٍ

ويشيخُ الزيتونُ!

من أيّ سماءٍ يتحلّبُ هذا الماءُ الماطرُ ،

من أيّ فضاءٍ أزرقَ ينحلُّ على الروحِ سكونُ؟

يا خمسَ سنابلَ من خصلٍ شقراءَ

ترشُّ الضوءَ على وجهي المكسورْ!

يا سربَ حساسينَ ينقّرُ صدري

فتدورُ مع اللحنِ رحى الحزنِ الإيقاعيِّ

وتطحنُ ذراتِ البلورْ

عيناكِ قطاتانِ تغطّانِ على غصنِ دموعٍ

ويداكِ كماناتٌ وسنونو ...

فدعيها توقظُ رجعَ النهوندِ المعجونِ بحزنِ العشّاقِ

لترقصَ روحانا كجناحينِ على المعزفِ

فشحاريرُ الليلِ سهارى

والأرواحُ سكارى

تتمشّى تحت شجيراتِ الفردوسِ

وقد ذابَ العاشقُ  في رؤيا المحبوبْ!

والسحرُ بهذا الليلِ جمالٌ مصلوبْ!

فأريحي الروحَ بأغنيةٍ

تجعلُ أوجاعَ العاشقِ

تتدفقُ  كالوردِ الأحمرِ من جرح ِكمانْ ...

تجعلُ راهبةَ الصفصافِ الثكلى

تتباكى لذبولِ أخيها الرمّانْ!

تجعلُ من صرخةِ حبٍّ يائسةٍ

كرواناً يتزوّجُ في الصبحِ الباكرِ كلَّ حماماتِ البستانْ .

*        *        *

رحلَ الصاحبُ والمرأةُ  ذابتْ كالشمعةِ

في الكأسِ

وظلّتْ تتجاوبُ أصداءُ الغيتارْ

كنوافيرٍ سكرى في صحنِ الدارْ .

  talebsyr@yahoo.com