يقدم الباحث المغربي هنا قراءته لكتاب الفيلسوف المغربي محمد المصباحي في تتبعه لتحولات العقل والوجود والخيال في فلسفة ابن رشد القرطبي وصدر الدين الشيرازي الإصفهاني.

الرشدية في مواجهة الشيرازية

تحـولات في العـقـل والوجـود والخيـال

يوسف بن عدي

 

كلمة لابد منها:
ان مقصدنا من الرشدية هو انها المنظومة الفلسفية ذات مجالات مختلفة، الطبيعة والميتافيزيقية والمنطقية والانطولوجية والسياسية، والتي تتبلور ضمن دائرة اشكالاتية عبر التلاخيص والجوامع والتفاسير. والامر نفسه بشأن الشيرازية (نسبة إلى صدر الدين الشيرازي) الحاوية للخطاب العرفاني الاشراقي وامتداده وجذوره السيناوية (كمنطلق وغاية) واقاويل ابن عربي واحاديث السهروردي وبهذا فان المواجهة هي مواجهة بين النصوص الفلسفية والمعرفية، وكيفية صياغة كل من فيلسوف قرطبة وفيلسوف اصفهان، لدلالة العقل وتحولات الوجود والتباس الماهية واللغة ذاتها المفضية إلى نشوء المذاهب الفكرية والتيارات المعرفية، وبناء الاتجاهات والنماذج ومحرك هذه المواجهة والضدية هو الفيلسوف المغربي محمد المصباحي. اذ ان النصوص صامتة وخرساء لا يستنطقها الا ذات عاقلة وفاعلة. فعلاقة محمد المصباحي بفيلسوف قرطبة علاقة ذاتية لا عرضية، اعني ان تقريب نص من النصوص الفلسفية القديمة والحديثة انما يتم ذلك بعيون رشدية. هذا لا يعني تلك القراءة المنغلقة أو الاسقاطية الهشة، بل ان قارئ "مشروع" محمد المصباحي بدءا بـ (إشكالية العقل عند ابن رشد) 1988 و(دلالات واشكالات) 1990 و(تحولات تاريخ الوجود والعقل) 1995، انتهاء بـ (الوحدة والوجود عند ابن رشد) 2002

انما يلمس تلك القراءة الخلافة والابداعية للنص الفلسفي القديم (الكندي والفارابي وابن سينا وابن باجة) والنص الحداثي وما بعد الحداثة (ريكور وهايدكر)، لكن برؤية رشدية ذات علاقة عرضية بالفلسفات اللارشدية، وعلاقة ذاتية بالتيار الأرسطي والميتافيزيقا الرشدية.

بيد ان هذه الرؤية الرشدية انما يتخللها النقد والتقويم والتعديل والاصلاح ولعل دفاع محمد المصباحي على التباس اللغة الفلسفية عند ابن رشد، وتبني الطابع الجدلي للخطاب الفلسفي... لدليل على خصوبة النص الفلسفي وتحولاته الدلالية والمفهومية والاسمية. وعلى هذا فقد تصور محمد المصباحي تاريخ الفلسفة باعتباره تاريخ التباس الدلالة والاسم المؤدي إلى وجود مأزق وصعوبات. هذه الاخيرة التي يجدر به تجاوزها وتخطيها. اذن فالدلالة هي مأزق وإشكال في الوقت ذاته أداة الحل والانفلات. فهذا الالتباس الدلالي هو الذي يساهم في تاريخ الفكر والفلسفة من بروز تيارات ومذاهب، وظهور نماذج ومقولات. ان هذه الخلفية النظرية العميقة هي مبدأ من مبادئ قراء النص الفلسفي ومفاهيمه وأثره من قبل الفيلسوف المغربي محمد المصباحي.

وحتى لا ننحرف عن باعث هذا المقال ومقاصده، والارتماء في تفاصيل النص الرشدي المعاصر من خلال "مشروع" محمد المصباحي. نقول إن التباس الدلالة والمفهوم هي المحرك الأساس في كتاب: (العقل الاسلامي بين قرطبة واصفهان) (2006)، والذي سنعمل على ابرازها عبر الفصول الاربعة الكائنة في هذا الكتاب المزمع قراءته وعرضه. فلا شك ان دلالة وابعاد العنوان (العقل الاسلامي بين قرطبة واصفهان: أو صدر الدين الشيرازي بعيون رشدية) له دلالة عميقة ورمزية منسجمة مع مكونات الفصول الاربعة... فابن رشد فيلسوف قرطبة ذو أصل عربي، وفيلسوف إصفهان صدر الدين الشيرازي ذو أصل فارسي، وبهذا فالجامع بينهما هو الملة والشريعة كثابت من ثوابت الفكر العربي الاسلامي، بالرغم من الاختلاف في النظر للدين والشريعة الاسلامية، هذا من جهة، أما من جهة ثانية، فإن قراءة المتن الشيرازي (الاسفار والمشاعر) من قبل محمد المصباحي لم يتم الا بعيون رشدية، أي برؤية رشدية، وهي بالذات لا بالعرض. غير أن تلك الرؤية الرشدية منفتحة على اللامعقول الديني (العرفانية والغنوصية). على غير النص الرشدي الرافض للمختلف أي للمعرفة القلبية والذوقية. 

أولا: الموقف الفلسفي وتاريخ الفلسفة
إن علاقة ابن رشد بتاريخ الفلسفة هي علاقة صلبة ومغلقة، اذ نجده لا يعمل إلا على الرد على الشروحات الأرسطية (الافروديسي وتامسطيوس) والافلاطونيين والافلوطينيين... وذلك بهاجس العودة إلى النسق الأرسطي الحقيقي، أعني أرسطو الكمال والحق والتمام والبرهان. في الوقت الذي نلمس فيه فيلسوف إصفهان (1572 1640) انما «يعبر عن ارادة ثابتة للخروج عن النموذج (البراديغم) الأرسطي رغبة منه في تجديد المشهد الفلسفي من خلال رؤية جديدة للعالم تقوم على الشروع في تغيير جذري لمضمون المفاهيم وآليات المناهج وآفاق النظريات الفلسفية التي اقتبسها من المشائية الاسلامية». [صفحة 5] كما ان تلك العلاقة او الموقف الفلسفي من تاريخ الفلسفة انما تختلف ايضا من جراء قراءة الفلسفة السينوية وامتداداتها (ابن عربي والسهروردي)، فعلاقة ابن رشد بابن سينا هي علاقة نقد وهدم أي "كخصم"، في حين نجد ان الشيرازي تربطه علاقة الرفقة مع الشيخ الرئيس، لذلك كان انتقاده له انتقاد الرفيق وعتاب العاشق.

على هذا فان الموقف الرشدي المناهض للتيار الافلاطوني والعرفاني الغنوصي والصوفي الاشراقي قد ساهم في بلورة رؤية جديدة للعالم والذات والعقل والانسان والماهية والوجودز مما أدى إلى «المحافظة على النزعة الكلاسيكية انتهت به عقلانية صارمة لا تريد المصالحة مع غيرها من التيارات اللاعقلانية» [صفحة 8]. على عكس الرؤية الفلسفية الخصبة في قبولها للمختلف والمغاير والتماهي مع السنوية والأرسطية والسهروردية... والتي افضت إلى «قول تحركه الرغبة في التجديد والخروج على افق الأرسطية التي آلت به إلى نوع من "الحداثة" الفلسفية التي تؤمن بالعقلانية العرفانية». [صفحة 8].

وبالتالي تنبعث جملة من التساؤلات من خلال هذه الرؤية الرشدية والشيرازية منها ما يلي: كيف يتصور ابن رشد العقل ولواحقه واقسامه؟ ما علاقة العقل بالانسان هل هي علاقة ذاتية أم عرضية؟ ما معنى عرضية الوجود وذاتية الماهية؟ ما علاقة العقل القدسي برؤية الشيرازي؟ ما دلالة الهويات العينية والوجوديات التشخيصية؟ كيف يكون الوجود بوجوده لا بماهيته؟ ثم أخيرا وليس آخرا، ما منزلة الخيال عند الشيرازي؟ وعلاقته بالمنفصل والمتصل؟ وعلاقتهما بافق ما بعد الحداثة؟ 

ثانيا: في العقل والوجود والماهية.
فلما كان ابن رشد يستند إلى المشائية الأرسطية القديمة فإنها كانت له الرؤية والمحك والبوصلة الفاصلة بين الشروحات االلاأرسطية والمضامين الأرسطية الحقيقية. وهكذا كانت نظرية العقل هي أهم النظريات الأرسطية القديمة التي قام فيلسوف قرطبة بشرحها وتفسيرها، بل أكثر من ذلك، عملية فرز النص الأرسطي عن شوائبه وبراثينه الأفلوطينية والأفلاطونية او بالأحرى اليسار الأرسطي واليمين الذي وقع في فخ اللاارسطية. إن تقريب دلالة العقل ومعناه واقسامه عند ابن رشد هي كالآتي:

1) العقل الهيولاني (العقل بالقوة والعقل المنفعل).
2) العقل الفعال.
3) العقل النظري (العقل بالملكة والعقل بالفعل).
4) العقل المستفاد (عقل التجربة الميتافيزيقية القائمة على الاتصال). [صفحة 14].

وقد غير صدر الدين الشيرازي خريطة العقل بالمعنى الرشدي الأرسطي القديم، وذلك بجعله العقل بالملكة والعقل بالفعل "هويتين مستقلتين"، فضلا على إضافته للخريطة عقلا قدسيا {صفحة 15}. وهكذا فان الرؤية الرشدية للعقل انما توجهها النموذج الفيزيائي، تقسم الوجود إلى مادة وصورة، قوة وفعل... وبهذا فالعقل، عقل هيولاني (مادي) وعقل فعال. وقد ساق محمد المصباحي نظرية العقل وعلاقتها بالاشكال النفسي والاشكال العقلي وعلاقتهما بالعقل والجسم والنفس انطولوجيا ومعرفيا. هذا الاشكال النفسي الغائب في خطاب صدر الدين الشيرازي، بل إن هذا الاخير يجعل العقل فيه «الانتقال صعودا وهبوطا من هذا المستوى إلى ذلك عن طريق الشدة او الضعف» {صفحة 16}. يقول محمد المصباحي: «الاشكال النفسي لا محل له من الاعراب في نظرية العقل الشيرازية، وهذا ما يجعلها على طرفي نقيض نظرية ابن رشد العقلية». {صفحة 19} وبذلك فإن أفق الشيرازي هو أفق فيزيائي قديم القائل بان «الشيء بحيث يتجدد ويتطور في نفس ذاته من غير ان يبطل ذاتا ووجودا، ويحدث شيء اخر منفصل الوجود والذات عنه، بل كاشتداد الحرارة في نفسها». {صفحة 19}.

وقد عرج محمد المصباحي على طبيعة الكلام عن نظرية العقل في سياق تلخيص كتاب "النفس" الذي كان مركز ثقل ابن رشد هو العقل الفعال لا العقل الهيولاني، مما يدل على تماهيه مع صدر الدين الشيرازي. في الوقت الذي حصل تحول مذهبي في كتاب "جوامع النفس" وكتاب "تفسير النفس" حيث صار جوهر العقل الهيولاني هو الاستعداد، غير أن موضوعه وحامله هو "المادة العاقلة"، {صفحة 28}. كما اضحت الذات لا تعرف ذاتها الا عبر معرفتها للعالم، فالانسان «ليس انسانا الا عبر معرفته للعالم، فاذا الانسان مضاء بنور العالم، فلأن العالم اضيء بنور الذات». {صفحة 30}. في حين تسعى اطروحة صدر الدين الشيرازي عبر صياغة جديدة لدلالة المعرفة والعقل، إذ رفض المفهوم المشائي التجريد كوسيلة للمعرفة، وناهض فكرة التوسط نحو تاسيس القول الفلسفي بصيغة مباشرة دون الوساطة والمباشرة لا عبر ماهياتها، كل ذلك في سياق تاسيس مفهوم اساسي لدى فيلسوف اصفهان هو «الحركة الجوهرية» والتي تربط بين الاتصال المعرفي والانطولوجي، اذ لا حدود غير قابلة «للاختراق بين الوجود الفيزيائي والنفسي والعقلي». {صفحة 46}. كما انه سوى بين المقولات العشر، «فإذا اشتد الكم ينقلب إلى كيف واذا اشتد الجوهر يخرج من نوعه إلى نوع اخر». {صفحة 46}. فهذا التحول في الدلالة والاسم أدى إلى الانفلات من المشائية الأرسطية ومبادئها الطبيعية والميتافيزيقية، ومن ثمة، انعكس هذا التحول المذهبي والفلسفي على مسالة الوحدة بين الذات والعقل والانسان من حيث هي «وحدة ذاتية عند الشيرازي، ووحدة عرضية عند ابن رشد».

لقد تصور الشارح الاكبر الوجود باعتباره «صفرا من المعنى»، ولا يتم ملئه إلا عبر المقولات ومركزية الجوهر العلية والدلالية، أما صدر الدين الشيرازي فقد اعتبر الوجود "ممتلئ"، مما اسفر على «عرضية الوجود على الذات» وهذا هو النموذج العيني «لدفاعه عن اصالة الوجود الفردي المشار اليه» ضد النموذج الماهوي والانطولوجي. وهكذا فان الاسس العميقة من وراء القول بعرضية الوجود ترتد إلى النقاط التالية:

ـ تقسيم الوجود إلى واجب ومكن.
ـ الانطلاق من نظرية الفيض للوجود، بحيث ياتي الفاعل من الخارج.
ـ الانطلاق من النظرية الحدية للماهية التي تقتضي عدم دخول الوجود في حد الموجود.

وبذلك فالوجود موجود بوجود لا بذاته ولا بغيره، اذ بدون الوجود الماهية غير موجودة، وهذه هي «الوحدة الواقعية التشيئية لا الوحدة الانطولوجية» {صفحة 64}. ومن ثمة، فإن لهذه الرؤية انعكاسات نظرية وفلسفية في تاريخ الفلسفة بين اصحاب «عطالة الوجود في مقابل امتلاء الماهية» وما بين وحدة «امتلاء الوجود وعطالة الماهية».

إن التباس الدلالة و تحولها إلى بناء مذاهب فكرية وإنشاء رؤى فلسفية وكلامية مختلفة ومتباينة المفاهيم ودلالتها، والأسماء ومضامينها، والنماذج ومحتوياتها. إن هذا الالتباس هو أداة وجود نظريات منها الاشتراك في الاسم ونظرية التواطؤ ونظرية التشكيك... هذه الاخيرة التي تدل بالمعنى الأرسطي الرشدي وجود مركزية الجوهر العلية ووجود مقولات عرضية التي لا قوام لها إلا بالمركز أي الجوهر (كموضوع و كذات) من خلال المنظور الطبيعي التكويني والمنظور الانطولوجي. فهذا التصور المشائي لا حضور له عند صدر الدين الشيرازي الذي يأخذ التشكيك «نحو الوجود العيني» والتشكيك يندرج ضمن دائرة التفاوت في الوجود على أساس الشدة والضعف. إنها علاقة متحرك بمتحرك، لا علاقة جوهر بمقولات. وبهذا فإن «الطبيعة التشكيكية بين ابن رشد الذي مال بها نحو جانبها الكلي، في حين مال الشيرازي بها نحو طابعها المشخص والعيني، أي بين تشكيك تفاوت في الاشتداد و الضعف، لا تشكيك تقديم و تأخير» [صفحة 83]. فعلاقة التشكيك برؤية ابن رشد والشيرازي لم يمنع محمد المصباحي من الوقوف بجانب صدر الدين باعتباره قد فتح »باب الاجتهاد والإبداع الفلسفي على مصرعيه بعد ان أغلقه بجهة ما ابن رشد بفعل عمق ولائه للأوائل وبره بهم!» [صفحة 83]. وهذا الانحياز ينبع ـ كما سبق الإشارة آنفا ـ من انفتاح أستاذنا على النص الفلسفي القديم والحديث برؤية خصبه وفعالة. 

ثالثا: تحولات الصورة و الخيال...
ساد في تاريخ الفلسفة تصورات ميتافيزيقية كبرى «لنظرية الصورة»، فهناك الصورة المفارقة والصورة الجوهرية (الطبيعية) والصور الذهنية، والتي تختلف مقاربتها وفق المناهج النقدية والانطولوجية والمنطقية والطبيعية. ولقد دافع صدر الدين الشيرازي على جوهرية الصورة وأولويتها الانطولوجية والمعرفية. فالمادة في رأي هذا الفيلسوف، «أمر مبهم لا قوام له إلا بالصورة القائمة بها» [صفحة 104]. والمادة هي الأمر المستهلك في الصورة. ومن ثمة، فالصورة «مقومة بالعلة وتجعلها ثانيا متقدمة بالذات على المادة، وأقدم تحصلا وثبوتا عليها، وثالثا تجعلها من مقام الفعل، في حين تبقى الهيولى قوة محضة، ورابعا الشراكة تجعل الصورة امرا ضروريا لا يمكن للهيولى أن يكمل فيضانها عن واهب الصور بدونها» [صفحة 108]. بالرغم من وجود التباس وعدم الكفاية الواضحة في مسألة الصورة وفق كلام المصباحي، فإن الصورة البرزخية كانت منفذ وأداة الخروج من مأزق انتساب الصورة. إن القوة المتخيلة هي من اكثر «القوى النفسية انفصالا عن الجسم وقربا من العقل» {صفحة 16}. فالخيال هو «الجزء الوحيد من النفس الذي يبقى بعد الموت [...] لأنه لا يحتاج إلى الاعضاء» {صفحة 17}.

ولعل مفهوم الخيال قد عرف اهتماما كبيرا في السياق الاوروبي بعصريه، الحداثة والحداثة البعدية. فأفق ما بعد الحداثة هو افق شذاري وانشطاري، لا اصل له، ولا منطلق... أعني لا يتحكم في فكر ما بعد الحداثة مرجعية محددة وجودية أو ماركسية أو فينومينولوجية. بل إنه ذو طبيعة زئبقية. وعلى هذا، فإن طابع المقارنة الذي يتسم به الفصل الرابع من كتاب (العقل الاسلامي بين قرطبة واصفهان) (2006) إنما ينبني على المغامرة الدلالية والفلسفية وفق "مبدأ عام" وهي أن «قناعتنا بأن لكل حضارة لحظة حداثتها وما بعد حداثتها» {صفحة 118}. فلما كان كل فكر ما بعد الحداثي، فكر بدون مرجعيات، وفكر بدون الاصول والماهيات، فإن أسلوب صدر الدين الشيرازي هو أسلوب انتقائي، أي ينهل من «كل المناهل الممكنة للحكمة والمعرفة والعرفان شأن ذلك شأن مفكري ما بعد الحداثة» {صفحة 121}. لذا اقترح فيلسوف اصفهان خريطة جديدة لقوى حسية باطنية مكونة من ثلاث قوى بدلا من خمس قوى كما هو الامر في الفلسفة الاسلامية المشائية. «وحصر انواع الادراكات في ثلاث وهي: الحس والخيال والعقل» {صفحة 125}، وهي تطابق العوالم الثلاثة: عالم العقل النوري وعالم المثل الخيالي وعالم الكون والفساد.

وقد سمى صدر الدين الشيرازي الخيال، بـ "الخيال المنفصل" مقابل "الخيال المتصل" فالخيال اذن جوهر، لا بالمعنى الأرسطي (جواهر مادية وجواهر مفارقة) بل بمعنى جديد، يقتضي وجود عالم جديد هو "عالم ما بعد الطبيعة الخيالي" {صفحة 127}. فضلا على أن الخيال عند الشيرازي أيضا له وظيفة أيديولوجية عقدية، وليست فحسب أداة المعرفة ومبدأ الوجود... أعني خيال «من اجل الملة، والانسان من حيث هو كائن مليّ» {صفحة 135}. وأخيرا وليس آخرا، فإن فكر ما بعد الحداثة باعتباره فكر عدمي انتقائي، لا أصل ولا هوية له، فهو في تضاد مع فكر الشيرازي «المؤمن بالبداية والنهاية وبالمتعالي وبالثواب والعقاب». 

عود على بدء
استطاع نص: (العقل الاسلامي بين قرطبة واصفهان) (2006) تقريب دلالات العقل والوجود والماهية واشكالاتها في تاريخ الفلسفة وفق مرجعية مشائية أرسطية يمثلها أبو الوليد بن رشد، ومرجعية عرفانية غنوصية يمثلها صدر الدين الشيرازي. لقد تبينت لنا تلك التحولات الدلالية والتباسها المسفرة إلى بناء المذاهب الفكرية والفلسفية... إنه بالرغم من اشتراك الفيلسوفين، قرطبة واصفهان، في اللغة الفلسفية والمفاهيم والمقولات فإن الاختلاف بينهما هو اختلاف في بناء الرؤية وتأسيس الاستراتيجية... ومن ثمة، فإن محمد المصباحي قد استثمر: "المنهج الاشكالي الدلالي"، الذي يتبع مسار الاسماء والمفاهيم وتحولاتها في النص ذاته، لا من خلال التاريخ والايديولوجيا والسياسة. بيد أن السؤال الاشكالي الاساس هو: هل مقاربة الميتافيزيقا العرفانية الذوقية بالرؤية الرشدية وأدواتها، هو تفكيك للنظام البرهاني أم هو تقوية له بالذات أم بالعرض؟.

أكاديمية مراكش ـ المغرب