تقدم (الكلمة) هذا الحوار المتميز بين المفكر الفرنسي الشهير والدبلوماسية الفلسطينية المرموقة حيث يكشفان عن تدهور القضية الفلسطينية وترديها، وعن تخلى أوروبا عن مسئولياتها المعنوية والأخلاقية والسياسية إزاءهها.

حوار بين ريجيس دوبريه وليلى شهيد

هل ستكون هناك دولـة فلسـطينـية؟

فرانسواز جيرمان روبان/ ترجمة محمد برادة

نشرت صحيفة "ليمانتيه" الفرنسية، في عدد السبت 26 أبريل 2008، حوارا بين الفيلسوف والروائي ريجيس دوبريه والسيدة ليلى شهيد مفوضة فلسطين لدى الاتحاد الأوروبي في بلجيكا واللكسومبورغ. أنجزت الحوار وقدّمت له فرانسواز جيرمان ـ روبان. ما يبرر ترجمة هذا الحوار في نظري، هو أنه يطرح تساؤلا ضروريا عن إمكان تكوين دولة فلسطينية في سياق يتسم بتصاعد العنف الاستعماري الإسرائلي ضد الفلسطينيين وضد غزة بخاصّة، وفي سياق الوعود الأمريكية والأوربية التي لا تصاحبها مواقف ملموسة لإرغام دولة الاحتلال الصهيوني في تل أبيب على احترام القانون الدولي وقبول مفاوضات جدية في أفق تأسيس دولة فلسطينية... من ثم وجب التشكيك في هذه الوعود المهدئة وفي الاستراتيجية الهشة المتبعة من لدن جميع الأطراف للوصول إلى سلام أصبح أبعد مما كان، في ظل ممارسات التقتيل والتجويع والمحاصرة وتهديم البيوت. نأمل أن يحظى هذا التساؤل: هل ستكون هناك دولة فلسطينية؟، باهتمام المحللين والمسؤولين، حتى لا تسرقنا الوعود العرقوبية مرة أخرى.       م. ب. 

بعد أن أصبحت خاضعة للضغط العسكري المستمر، غدتْ الأسس الفيزيقية والاقتصادية والبشرية لقيام دولة فلسطينية في طريق الاضمحلال: فهل لا يزال هناك مكان في فلسطين لدولة فلسطينية؟ حول هذا السؤال المنطوي على مفارقة، يتحاور مدعوَانا ليلى شهيد ممثلة السلطة الفلسطينية في بروكسيل، وريجيس دوبريه الكاتب والوسائطي (المهتم بتحليل وسائط الإعلام). ولم ينس هذا الأخير أنه فيلسوف ومن ثم عنوَن كتابه الأخير بـ (رجل حسن النية في الأرض المقدسة )، وأهداه في الآن نفسه إلى صديقه القديم فرانسوا مسبيرو الذي أوحى له بفكرة هذا الاستطلاع الصحفي "على خطى المسيح"؛ وإلى الرئيس شيراك الذي كان قد كلفه بمهمة دقيقة تتعلق بدراسة "التعايش الإثني ـ الديني" في الشرق الأدنى. وخلال بحثه عن الأناجيل وعن فلسطين، لم يعثر دوبريه منهما سوى على استحضارات شاحبة: فالنصوص المقدسة محاها الزمن،وفلسطين هشّمها الاحتلال والاستعمار. لقد عايَن المحو التدريجي والقاسي للأراضي التي كان يجب أن تصبح، ذات يوم، هي فلسطين؛ وذلك في هذه السنة التي سيتم فيها، إذا صدقنا بوش، تكوين دولة فلسطينية موعود بها من الأمم المتحدة في سنة 1947. كل ذلك، بينما الحركة الصهيونية قد حققتْ وعدها وستحتفل في شهر مايو بستين سنة من عمر إسرائيل. الربيع لإسرائيل، وشتاء النكبة للفلسطينيين.  ف. ج. روبان 

سؤال: عندما نغلق كتابك (رجل حسن النية في الأرض المقدسة)، لا نكون بعيدين عن اليأس المطلق في ما يخص مستقبل فلسطين. إنك تحمل، من رحلتك الدراسية في عين المكان ـ والتي أنجزتها بطلب من شيراك سنة 2006 ـ معاينة قاسية تقول «الأسس الفيزيقة والاقتصادية والبشرية لدولة فلسطينية هي في طريقها إلى الزوال»؛ وتقول أيضا إنه منذ 1938 «عاينتْ الإدارة البريطانية استحالة إنشاء دولتين في فلسطين، إحداهما يهودية والأخرى عربية»، وإذن كل ذلك الكفاح وخطط السلام هما من أجل لا شيء؟ وهل أنت يا ليلى شهيد متفقة مع هذا التشخيص؟

ريجيس دوبريه: في روايته (الصّدْع)، يقول سكوت فيتزرالد: «علينا أن نفهم بأن الأشياء هي من غير أمل ومع ذلك علينا أن نغيرها». صحيح، ففي هذا الفضاء الذي اكتشفته بعد سنوات من خلال تحليل الخرائط الدقيقة التي هي ثمرة عمل مميّز أنجزة جغرافيو الأمم المتحدة، عاينتُ تطبيق برنامج من دون ضجة ولا صحفيين، ويتمثل ببساطة في الوصول إلى الحدود التي هي حاليا حدود دولة إسرائيل: أي نهر الأردن. وعلى هذا النحو يتوسع استيطان، لا بكيفية ماكيافيلية، وإنما بطريقة حيوية تلقائية وقاسية في الآن نفسه، وترافق هذا الاستيطان أعمال للبنيات التحتية وتحويل المياه، واحتلال الأعالي. ووصل مستعمرة بأخرى وترسيم المستوطنات العشوائية بسرعة... باختصار، يتعلق الأمر بسيرورة هي أشبه بمرداس لا يتطابق أبدا مع الصورة التي نكونها عنه من الخارج. أمام هذا الواقع، أجدني أمام هذه الصعوبة: هل نترك المواء الدبلوماسي ـ الإعلامي يردد على مسامعنا بأنه «بعد سنة ستكون هناك دولتان» وأن «مؤتمر أنابوليس حرك أمل السلام» وأننا «نحن، فرنسا، ندعو إلى تجميد المستوطنات»؟... هل يجب أن نترك هذا الحجاب من الدخان؟ أم علينا أن نجهر بالحقيقة كما هي؟

في نظري، ما هو موئس هو أن نوافق على شاشة الدخان الحاجبة. سيكون ذلك بمثابة التصديق على لعبة حكومة تبذل الجهد للحصول على التوافق في الخارج، بينما هي شرسة قاسية في الداخل. ولعبة الغرب المزدوجة تتمثل في أنه يترك الأقوى يفعل ما يشاء مع حمايته من خلال سلسلة من التصريحات المهدئة. فهل يجب أن نمزق هذا الحجاب مع ما ينطوي عليه من خطر تثبيط وإضعاف معنوية أصدقائنا الفلسطينيين؟ إنه مأزق. شخصيا، أنا أكتب للرأيي العام، للفرنسيين والأوربيين، ولا أريد لهم أن يستنيموا إلى تأكيدات مغلوطة. 

ليلى شهيد: رجعتُ من سفرة إلى فلسطين بعد غياب امتد أربع سنوات، وأنا مفجوعة ومنهارة من معاينتي إلى أي حد تقهقرت الأحوال. لدي انطباع أنه بعد أربع سنوات، أصبحت الأمور غير قابلة للتغيير، انطلاقا من القدس التي لم يعد لها اليوم وجود بوصفها مدينة عربية في المنطقة الشرقية، وإسرائلية في المنطقة الغربية. والمكان الذي يبدو فيه الجدار أكثر ما يكون مُنفرا وصعبا هو القدس؛ لأنه هناك يكتسي كله الإسمنت. بينما في أمكنة أخرى، وعلى امتداد 700 كلومتر،قد نصادف تسييجا مع أسلاك شائكة. لكن في القدس المدينة الشاسعة التي اتسعت عشرات المرات عما كانت عليه سنة 1967، فإن الجدار كله من الإسمنت وارتفاعه 9 أمتار.

والمسألة الثانية، هي أن توسيع المستوطنات في القدس الشرقية هو الأهم؛ وجميع المعلومات تؤكد ذلك، خاصة تلك التي تصلنا عن طريق حركة «السلام الآن» التي أنجزت عملا جيدا عن «مراقبة» المستعمرات.إنه من تقاليد الصهيونية أن تخلق سلسلة من الأمر الواقع، وهو ما يعفي إسرائيل من ضرورة التفاوض حول الوضع الاعتباري للقدس؛ لأنه إذا استمر هذا السلوك، فلن يبقى هناك شيء يتم التفاوض بشأنه.

والشيء الثالث الذي صدمني كثيرا، هو امتداد تفرّعات الطرق لربط ما يسمونه الطريق المحيطي للقدس والذي سيضم عمليا مجموع المدينة على صعيد الواصلات العمومية والفضاء الحضري. وهذه التفريعات الطرقية لن تخدم سوى المستعمرات إذ ليس هناك مفرق واحد يقود إلى بيت حنينة أو إلى أي ضاحية في القدس الشرقية. ولذلك فإن عزل القدس عن الضفة والأراضي المحتلة هو أمر واقع، ولم يعد ممكنا الحديث عن القدس الشرقية بوصفها عاصمة لدولة فلسطين. وفي آخر المطاف، وهذا أمر له علاقة بالفرنسيين بسبب الشركتيْن (فييوليا وألستوم) المشرفتيْن على إنجاز المشروع، فإن الترموايْ سيربط المستعمرات في غرب القدس بإسرائيل، منتهكا جميع قواعد القانون الدولي. في ما تبقى من الضفة الغربية، فإن توسّع المستوطنات حول أرييل ومعالي أدوميم إلى حدود البحر الميت، وتوسيع كتلة كوش إتزيون، جعلا أنْ لم يعد هناك سوى ثلاثة كيانات مفصولة تماما عن بعضها: بانتوستان الشمال، وآخر في الوسط وثالث في الجنوب، وكلها بانتوستانات غير صالحة كأراض لدولة (فلسطينية). وعندما تقول ذلك للمسؤولين الإسرائليين، يجيبونك في منتهى الجدية بأنهم سيشقّون أنفاقا تحت المستوطنات وسيمدون جسورا فوقها،لاحترام ما هو منصوص عليه في الاتفاقات: أي اتصال الأراضي {الفلسطينية}. وهذا جواب كافكاوي ولكنهم يتلفظونه بجدية! وأول من عاينوا هذا الأمر، هم سكان فلسطين الذين لم يعودوا يتعرفون بصريا على المحيط الطبيعي الذي يعيشون فيه؛ ففي كل يوم هناك إما مستوطنة جديدة، أو "عشوائية" تصبح رسمية، أو أخرى تأخذ صفة مدينة كما هو الحال بالنسبة لأرييل أو مديين. وهذه المعاينة تسمعها على لسان معظم المواطنين،لا على لسان مسؤولي السلطة الفلسطينيين لأن هؤلاء لو قبلوا أنْ لم يعد هناك فضاءات ترابية لإنشاء دولة، لتحتّم عليهم أن يوقفوا المفاوضات أو أن يتبعوا ستراتيجية أخرى مع إسرائيل. 

سؤال: في تقريرك، تتوقع إلحاقا وضما، بعد30 سنة، لمجموع الأراضي المحتلة. وكان ساري نسيبة عميد جامعة القدس قد نشر رسالة مفتوحة ـ كما ورد في كتابه (كان هناك بلد اسمه فلسطين) ـ يطالب فيها إسرائيل بأن تضم الأراضي الفلسطينية، وهو ما يؤول في رأيه إلى أن يحصل الفلسطينيون على نفس حقوق الإسرائليين المدنية، ويوجد حلا للمشكلة خاصة وأن النمو الديموغرافي الفلسطيني مرتفع... فهل هذا هو الحل الذي تفكر فيه؟ 

ريجيس دوبريه: لا أرتئي حلا،لأنني لست سياسيا ولا دبلوماسيا، وأبعد ما أكون عن مستشرفي المستقبل الذين يغلطون في معظم الأوقات! ما أقوله هو أننا نشهد ما يسمى في مجال آخر، تطهيرا عِرْقيا مخففا بطريقة أو أخرى، لكنه مكتمل لأنه هو نفسه من دون استعمال الكلمة الدّالة عليه. وهو تطهير مستمر وغير مرئي. ولا تتمثل مشكلتي في أن أخطط لمشاريع وهمية وإنما عليّ أن أنطلق، كما قالت ليلى، من واقع الحال. والأمم المتحدة تتوفر على هذا الواقع من خلال كشف إحصاء الأراضي بطريقة موضوعية ودقيقة وشبه يومية... والسؤال الذي أطرحه على نفسي هو ذاته سؤال مستقبل الفلسطينيين وسلطتهم. أما المقترح الذي يقدمه نسيبة، فهو مقترح دولة ثنائية القومية الذي لا يقبله الإسرائليون؛ ويمكن أن نتفهم موقفهم لأنهم أنشأوا هذه الدولة ليتوفّروا على فضاء يكونون فيه أغلبية، ويبتعدون عن وضع الأقلية الذي عاشوا في ظله منذ عهد الامبراطور تيتيس الروماني. ولذلك يمكن أن نتفهم رغبتهم في ألاّ يصبحوا مجددا أقلية؛ فضلا عن أن منطق المشروع الصهيوني يستبعد القومية الثنائية، وإلا ما كان للصهيونية من معنى. ما يلفت انتباهي، هو هذا الصمت من لدن السلطة الفلسطينية التي يمكن أن يكون لها إمكانيتان أمام هذا الوضع: الأولى، سأحلُّ نفسي وأعيد لكم المفاتيح، ولنطبّق اتفاق جنيف رقم 4، الذي ينص على أن من يحتل بلدا عليه أن يدبر شؤونه، أي أن يدفع أجور الموظفين وتكاليف المستشفيات والطرق والمدارس... وهذا حل يتميز على الأقل بالوضوح إذ يضع الجميع أمام مسؤولياتهم. والحل الآخر، هو إرسال خرائط المنطقة إلى الرؤساء بوش وسركوزي وبلير مع كلمة تقول: «إننا نتوقف عن اللعب، فليس لنا الوسائل لمعارضة ما يتم تنفيذه على الأرض، إلا أننا واقفون على أقدامنا وواعون. إننا لا نقبل موقفكم الذي يشبه موقف «طارطوف» في مسرحية موليير. إنكم تتحدثون عن منظور للمستقبل لم يعد له علاقة بالواقع. فانتم تحثون الإسرائليين على اتخاذ قرارات فيهزون رؤوسهم موافقين ويفعلون العكس؛ وأنتم لم تأخذوا ذلك في الاعتبار قط. إننا نعتبركم مشاركين في مسؤولية الانتهاك اليومي للقانون الدولي، ولا نعتبركم مجرد محفل محايد للمراقبة. لقد تحيزتم لدولة تعتبر نفسها،لأسباب خاصة بها ويمكن تفسيرها، أنها فوق القانون».

ما أجده مُربكا وأنا صديق للقضية الوطنية الفلسطينية ـ مثلما كان يمكن أن أكون صديقا للقضية الإسرائلية في 1946 ـ هو أن أؤيد ليس فقط نكران العدالة، وإنما كذبا مستمرا وتنويما شاملا للرأي العام. وما يربكني أيضا هو أن نتحرك كثيرا كما لو أننا لا ندرك شيئا، وكما لو أن المفاوضات جارية بين طرفيْن متساويين يتوفران على حسن النية فنصبح جهازا للمساعدة. هذه هي الأسئلة التي بدأ يطرحها كثير من الفلسطينيين، وليس فقط من جانب حماس، كما يطرحها أناس مطلعون مثل سفير فرنسا ستيفان هيسيل. 

سؤال: ما رأي ليلى شهيد؟

ل. ش: أنا متفقة مع كون سيرورة المفاوضات لم تعد ذات مصداقية اليوم. كانت لها مصداقية ما بين 1993 و2000؛ وأدقق بأن المفاوضات توقفت منذ صيف 2000 إلى مؤتمر أنابوليس، أي طوال سبع سنوات؛ غير أن هذا الاستئناف لم يحقق أي تقدم بينما الواقع تقهقر كثيرا عما كان عليه. صحيح أن هناك إمكانيتيْن: إما أن السلطة المكلفة بالتفاوض، أي محمود عباس، يقول «هذه مسخرة تلغي مصداقيتي ومصداقية مجموع مسلسل السلام وإذن سأعود إلى بيتي»، تاركا هذا الملف لهيئة دولية هي غير موجودة... وإما أنه يسجل: «التفاوض لم ينجح، ويجب اتباع استراتيجية جديدة، عسكرية، سياسية، تتوخى انتفاضة شعبية لكن من نوع آخر». بعبارة أخرى، على أبو مازن أن ينهي استراتيجية أوسلو التي كان هو شخصيا المفاوض الأساسي فيها... لماذا لا يتخذ لا هذه الخطوة ولا تلك؟ لا أعتقد أن ذلك راجع إلى انعدام الشجاعة، ولا إلى كونه لا يعاين الأمور مثلنا، ولكنه إذا صرح بذلك علانية فلن تكون هناك مفاوضات بعد، وسيتحتم عليه أن يعهد بالملف إلى طرف ثالث؛ لكن من هوذلك الطرف؟ فقد أثبتت الأمم المتحدة عجزها عن الاضطلاع بدورها. والمجموعة الدولية هي لأول مرة منذ الحرب العالمية الثانية، متواطئة تماما مع الاحتلال لأنها عجزت عن أن تعامل إسرائيل على أنها دولة خاضعة للقانون.

إنها أول مرة في العالم تذهب فيها دولة بعيدا في انتهاك القانون من دون أن يطبق عليها أي صيغة للضغط، لا مباشرة ولا بكيفية غير مباشرة،لا اقتصاديا ولا سياسيا. وأظن أن السبب المباشر لما يبدو قريبا من "التعاون" ـ وهي كلمة استعملها دوبريه ـ هو في جزء منه، مسؤولية الهيئة الدولية التي لم تترك إمكانية أخرى أمام القيادة الفلسطينية. ومن ثم يوجد لدى الفلسطينيين شعور عميق بأنهم تُركوا وجها لوجه وحدهم مع إسرائيل. هناك وعيّ حاد بأن المجموعة الدولية لا تقوم بعملها تجاه المشكلة الفلسطينية؛ فهي لا تطالب بتطبيق قراراتها الصادرة عنها، ابتداء من القرار 242 الذي يرفض الاستيلاء على الأراضي بالقوة. بينما تشتغل الأمم المتحدة عندما يتعلق الأمر بالبلقان أو تيمور الشرقية أو كوسوفو أو جميع أماكن العالم الأخرى باستثناء إسرائيل. وذلك بسبب علاقات هذه الأخيرة تاريخيا مع أوروبا، ما يتيح لها التنصل من جميع واجباتها؛ وهذا ما يخلق الوهْم ـ وهو وهْم في نظري ـ بأنْ ليس هناك من حل خارج الحوار المباشر مع الإسرائليين ضمن ميزان قُوى متفاوت لدرجة أنه يُستعمل لا لتغيير الواقع، وإنما من أجل ما هو أفظع، من أجل محْو مصداقية منْ اختاروا، مثلي، التعايش. وفي نظري، ياسر عرفات هو رجل تاريخي بالنسبة للفلسطينيين وأيضا بالنسبة للإسرائليين لا لأن أوسلو أنجزت مفاوضات جيدة، فهذا غير صحيح، وإنما لأنه جعل شعبه يتبنى فكرة التعايش مع الإسرائليين. ومعنى ذلك، القبول بمشروعية إسرائيل وحمل جميع العرب على قبولها. واليوم نجد أن فقدان الثقة الذي لحق بسيرورة السلام يمس أيضا مفهوم التعايش نفسه؛ لأنه أمام عماء الإسرائليين الشامل لم تعد هناك خيارات كثيرة لدى القيادة الفلسطينية.

والاختيار الآخر هو إغلاق المفاوضات التي فُتحتْ في 1993 نتيجة لعدم التوصل لأي حل، وهذا ما يقول محمود عباس إنه سيفعله إذا لم يتحقق أي تغيير من الآن إلى نهاية السنة. هل هناك استرتيجية أخرى وشكل آخر للكفاح السياسي أو حتى العسكري؟ أعتقد أن الصعوبة تتمثل في "حماس" التي رفضت منذ البداية طريق التفاوض؛ وأن نعلن تخلينا عن المفاوضات معناه أننا نقر بنجاح طريق حماس، وهذا قرار صعب. ثم إن حل السلطة الفلسطينية سيكون عملا لامسؤولا، إذ لمن سنسلم الساكنة الفلسطينية؟ للإسرائليين؟ لهذيْن السببيْن تواصل السلطة عملها على طريق قد يُساء تأويله وقد يثير لدى المواطنين وأيضا عند أصدقاء فلسطين، تساؤلات عريضة. وهناك تفكير داخل المجتمع الفلسطيني في موضوع إعادة تحديد الاستراتيجية، وكأننا أنهينا دورة من تاريخنا؛ وعلى إسرائيل أن تتحمل مسؤوليتها عند نهاية هذه الدورة التي بدأت منذ 1993 والتي تمنحها لأول مرة خلال 45 سنة، اعترافا بمشروعية وجودها. وإذا لم يعد هناك أمل في إنشاء دولة فلسطينية، فإننا سنخسر جميعاً تلك المكاسب، وستبدأ دورة جديدة لا أحد يستطيع أن يرسم ملامحها. 

سؤال: هل فكرة دوبريه المتعلقة بنقل الأمم المتحدة إلى القدس تستطيع أن تغيّر شيئا؟

ر. دوبريه: هي فكرة سخيفة في الظاهر، ولكنها فاعلة على الصعيد القانوني. ذلك أن ميثاق الأمم المتحدة لا يحدد عنوانا للمقر وإذا ما أقرت أغلبية الجمعية العامة ذلك فإن مجلس الأمن لا يمكنه أن يعترض؛ وهذه الفكرة تعود إلى لويس ماسينيون الذي أحس في 1937 أن عصبة الأمم (SDN) كانت تشبه الأمم المتحدة اليوم ـ أي مجرد شيء لا يُسمى حسب تعبير دوكول ـ ولم تكن في مستوى مهامها؛ فقال ماسينيون مع نفسه سيكون ممكنا أن نقوي المنظمة العالمية لو نقلنا مقرها إلى القدس، لأنه كان يشعر أن هذه المدينة فضاء للصراع. إلا أن الأمريكيين اليوم ليس لهم فائدة في نقل مقر الأمم المتحدة التي يتحكمون في مراقبتها عبر وسائل مختلفة، من بينها التأثير المتبادل ونظام التصنت والضغوط المختلفة على الأقطار الفقيرة... وإسرائيل لا تتمنى ذلك لأنها بلد مسرف في التشبث بسيادته، ولا تريد أن تتدخل الهيئة الدولية في شؤونها. وأن يكون مقر الأمم المتحدة لديها معناه أنها ستكون محرجة عندما ترفض تطبيق القرارت. لكن في الأمد البعيد، سيكون من المفيد لجميع دول العالم أن يكون هناك سلام حيث يوجد مقر الأمم المتحدة. وسيكون ذلك ضمانا لأمن إسرائيل على المدى الطويل. فضلا عن ذلك، ستكون نقطة توازن تضمن الحياد: فليس من الصواب أن تكون المنظمة المكلفة بحماية القانون في مكان يستخدم القوة. ولا شك أن التصادُف، راهنا، الذي يجعل من عاصمة امبراطورية عاصمةً للحق الدولي هو تصادف معيب.

ل. شهيد: أنا وجدت هذه الفكرة ممتازة، ولم تخطر على بالي من قبل. ولكننا إذا لم نستطع تغيير مقر الأمم المتحدة، فإننا نستطيع أن نورطها أكثر. إننا لم نسجل حصيلة إخفاقاتها، وكثيرا ما نميل إلى إيعاز الفشل إلى الفلسطينيين خاصة في هذه الظروف. إذا لم يستطيعوا أن يتحدوا إسرائيل بدعوى أنهم لا يريدون المساس بسيادتها بينما يفعلون ذلك مع آخرين، فإن ذلك هو ما يخلق مشكلة الكيْل بمكياليْن. يقال عن الأمم المتحدة إنها شيء لا يسمى (ماشانْ)؟ لكنهم لم يجدوا بعد ما يُعوضها. وإذا أرادت إسرائيل أن تضم جميع الأراضي الفلسطينية، فستجد نفسها أمام خمسة ملايين من الفلسطينيين وسيكون عليها أن تدبر كل شيء بما في ذلك مشاكل الأمن. وربما ستحتاج يوما إلى الأمم المتحدة للخروج من "المرحاض" الذي ألقتْ بنفسها فيه.

ريجيس دوبريه: هناك فعلا شيء انتحاري في موقف الإسرائليين، وبعضهم واعٍ بذلك مثل رئيس الكنيست السابق أبراهام بورغ الذي أصدر كتاب (أن نهزم هتلر)، والذي التقيت به ووجدتُ أن ينظر إلى بعيد. ومما يبعث على الأمل، وجود عقول حرة في إسرائيل ورجال يجمعون بين ثقافة واسعة وشجاعة كبيرة، ويدركون أن سياسة القوة ليست فقط عديمة الشرعية، بل هي غير منتجة في حد ذاتها وتسبب ضعفا في النهاية. وهناك كلمة أساس لم نتلفظها، وهي كلمة المحرقة. وإسرائيل هي دولة حيث كثير من الأشياء اللامشروعة هي مباحة. لماذا؟ لأنها بالنسبة للغرب كله هي ندم وخطأ. نحس بديْن، ليس أبديا ولكن ثمنه لم يُدفع بعد واسمه الهولوكست. وهو ما يعطي لإسرائيل وضعا أونطولوجيا هو وضع الضحية. وأن نمارس ضغطا على هذا البلد، معناه أننا سنبدو، بعديّا، متواطئين في ارتكاب جريمة ضد الإنسانية. وأوروبا مشلولة أمام هذه المسألة، لأنها تحمل هذا الشعور الكبير بالذنب. ومما يكتسي دلالة أن الدول التي لم يتم فيها اعتقال اليهود ووسمهم بالنجمة الصفراء، هي الدول الأكثر موضوعية وشجاعة في ما يخص قضية فلسطين. وأنا جد متنبّه لموقف الكنيسة الأنكليكانية قياسا إلى بقية الكنائس المسيحية، وكذلك بلدان الشمال الأوروبي وإسبانيا وجميع الأقطار التي ليس لها هذه اللطخة الكريهة في ماضيها... بينما نحن يتم تذكيرنا كل يوم بالمحرقة وما يتصل بها؛ ولا تنفكّ الإذاعة والتلفزة والصحيفة تذكرنا بما حدث في فيلديف وفيشي... وهذا يعطي لإسرائيل حصانة ما من أحد يستطيع أن يخدشها. هذا بالنسبة لأوروبا؛ أما أمريكا فهي عبارة عن مستوطنة روحية للشعب العبري. وهذا مكتوب في جينات أمريكا وفي التكوين التاريخي للولايات المتحدة. وإذن عندنا في أوروبا استحالة بسيكولوجية للتدخل، وفي أمريكا استحالة ثيولوجية، وهما معا (أوروبا وأمريكا) يكونان الهيئة الدولية. وعندما نقول ذلك، لا يعود هناك ما ننتظره من الخارج... إلا إذا وقف فلسطيني في وجه الهيئة الدولية وشرع يحدثها بلغة الحقيقة قائلا: «نعم، كانت هناك المحرقة وهي جريمة لا تغتفر؛ لكن هل علينا نحن أن نكفّر عنها ونحن لم نرتكبها؟ وهل جريمة ضد الإنسانية تبرر جرائم حرب مستمرة؟». أظن أن من الواجب أن نحرك الرأي العالمي؛ والعمل الذي أنجزه عرفات تجاه شعبه وتجاه العالم العربي يجب على الفلسطيني أن ينجزه مع الضمير العالمي. عليه أن يضعه أمام بلاغته قائلا: «هل أنتم القانون أم لا؟ وإذا لم يعودوا يحترمون ما تقولونه، كفوا عن إصدار الملتمسات والقرارات. حلوا هيئتكم الدولية». لا بد من أن نكون رادكاليين قليلا حتى نكون واقعيين؛ بمعنى أن نذهب إلى جذر الأمور. وانا أجد أن الفلسطينيين ليسوا جذريين بما فيه الكفاية. وهنا لا أعني العنف وإنما الراديكالية النظرية والتطبيقية.

ليلى شهيد: صحيح ان الفلسطينيين أخذوا في الوقوع في شرك الدبلوماسية المتزنة، مثلهم مثل العالم أجمع. لقد آمنوا بنظام عالمي جديد حيث سينال كل واحد موضعه. وأنا متفقة على التحليل المتعلق بالشلل الذي أصاب الهيئة الدولية؛ ولأجل ذلك لا أنفك أقول للمحافل الأوروبية: «إسرائيل ليست مشكلتنا فقط بل هي أيضا مشكلتكم؛ فهي جزء من تاريخكم، وتُكوّن جزء من حاضرنا ومن مستقبلنا، لا من ماضينا. ولا يمكنكم أن تصفوا حسابكم مع ماضيكم وأنتم تكتفُون بأن ترسلوا إلينا مساعدة إنسانية». أعتقد أن مقترح التعايش الذي قدمه ياسر عرفات، كان مبنيا على هذه المعاينة: حتى ونحن لم نكن مسؤولين تاريخيا عن إبادة اليهود، فإننا نتحمل مسؤولية كون هذه جريمة ضد الإنسانية قد وقعت. متمثلين لذلك، قبلنا أن نعترف بإسرائيل ورغبتها في تأسيس دولة قومية حيث لم توجد أبدا دولة يهودية.

لأجل ذلك، نحس على صعيد النضج السياسي والأخلاقي، أننا متقدمون على كثير من الصراعات القومية: فقد أدمجنا مَن كان عدونا التاريخي في رؤيتنا إلى مستقبلنا الخاص؛ وهذا استحقاق قلما يُعتَرف به للفلسطينيين. وتتمثل المأساة في أنه، بسبب العناد الإسرائلي وشعور العالم بالذنب تجاه إسرائيل، نسجل لأول مرة في التاريخ، صعودا لمعاداة السامية في العالم العربي، الذي لا يفهم أن يكون الرد الوحيد لإسرائيل هو المزيد من طرد الفلسطينيين وبناء المستوطنات والجدران الوقائية... ولكن علي أن أقول بأنه يوجد في إسرائيل مواطنون عادلون أود أن أشيد بهم، وكذلك المناضلون ضد الاستعمار الذين يرون أبعد من السياسيين الإسرائليين. إنه يوجد في المجتمع الإسرائيلي، على مستوى الكتابة، مساءلات جوهرية مثل الكتاب الأخير لأبراهام بورغ الذي يجسر على أن يسمي الأشياء بمسمياتها وأن يصف أوضاع مجتمعه مع ما في ذلك من احتمال تعرضه للسحل... وهناك أيضا المؤرخ شلوم زاند الذي نشر كتابا بالعبرية يتساءل فيه إذا كان من الممكن أن نتحدث عن شعب يهودي... وعلى هذا النحو نجد في الفكر الصهيوني اليهودي تفكيرا يضع موضع تساؤل أشياء ومسلمات كثيرة.

ما يحملني على اليأس، في المقابل، هو أوروبا؛ فأنا أعمل منذ سنتيْن في محافل أوروبية هي أحد التجمعات الجهوية الأكثر اعتبارا في العالم؛ غير أن هذه الأوروبا تبدو عاجزة عن أن توجد سياسيا ومع ذلك ترتمي في مشاريع جديدة، مثل الآتحاد من أجل البحر المتوسط: فكيف يمكن أن نتكلم عن مثل هذا الاتحاد مع وجود صراع مهم في داخله لم يستطيعوا أن يجدوا له حلا على امتداد 13 سنة من مسلسل مشروع برشلونة؟ مرة أخرى يضعون رأسهم في التراب مثل النعامة؛ وأنا أحس بالقلق لأنني أرى أن هناك قُوّى سياسية أخرى في المنطقة (الأصوليون) تسعى لأن تكسب مستفيدة من إخفاقاتنا وإخفاق الللائكيين/ العلمانيين وأنصار التعايش. إن الذين لهم رؤية مضادة لرؤيتنا هم بصدد تحقيق نصر على الأرض كل يوم، وليس فقط في فلسطين؛ بل إن ذلك يمتد من موريتانيا إلى العراق... وبصراحة وصدق، أنا أحس بيأس تجاه موقف أوروبا أكبر مما أحسه أمام مجتمعي فلسطين وإسرائيل اللذين سيجدان، فيما أظن، الوسائل للخروج من المأزق على رغم الإخفاقات التي نعيشها جميعا.