رسالة باريس
إطلالة علي مهرجان «كان» السينمائي الدولي 61
تري إلي أي "نوع" سينمائي انحازت لجنة تحكيم مهرجان "كان" السينمائي الدولي، عند توزيع جوائزها في نهاية أعظم استعراض سينمائي في العالم، والحدث الإعلامي الدولي الثالث من حيث الأهمية بعد الدورة الاوليمبية ونهائيات كأس كرة القدم، حيث استقطبت دورة المهرجان 61 الأخيرة أكثر من 4000 آلاف صحفي ومصور من أنحاء المعمورة. إضافة إلي حشد النجوم الذين حضروا المهرجان مثل شارون ستون وكاترين دينوف وكلينت ايستوود وودي الآن وكوستوريكا وستيفن سبيلبيرغ وهاريسون فورد وروبرت دونيرو والملاكم تايسون وجورج لوكاش ومادونا ولاعب كرة القدم الأرجنتيني المعجزة مارادونا وغيرهم؟ ثم ما هي المبادئ والأفكار والقيم، التي حاولت اللجنة إرسائها وتكريسها، من خلال خياراتها السينمائية الملهمة في نهاية "عيد السينما" في العالم بلا منافسة، لكي تعلي من شأن الفن السابع ابن عصرنا وزمننا و "حضارة السلوك" الكبرى في القرن الواحد والعشرين؟ كاد شون بن الممثل والمخرج الأمريكي رئيس لجنة التحكيم في مهرجان «كان» 61 يبكي من فرط تأثره، وهو يعلن في حفل توزيع الجوائز والختام عن فوز الفيلم الفرنسي "الفصل" أو بالفرنسية ENTRE LES MURS أي "بين الجدران" فوزه بجائزة السعفة الذهبية، وهو يري فرحة مخرج الفيلم لوران كانتيه والتلاميذ من الهواة الذين شاركوا في تمثيله ومجموعة طاقم الفيلم الفني، يقفزون ويتصافحون ويتعانقون ويهنئون بعضهم البعض، فأخيرا وبعد مرور 21 سنة، تمنح الجائزة لفيلم ينتمي إلي الدولة المضيفة للمهرجان، أي لفرنسا، وكانت آخر مرة يفوز فيها فيلم فرنسي بتلك الجائزة "السعفة الذهبية" في المهرجان، فيلم "تحت سماء الشيطان" للفرنسي موريس بيالام منذ أكثر من عقدين. وظهر أن لجنة التحكيم برئاسة شون بن، انحازت في اختياراتها لتوزيع جوائزها الي "سينما الواقع"، التي تحكي الآن عن هموم الناس، وتناقضات مجتمعاتنا الإنسانية، وأزماتها ومشاكلها. حيث يطرح الفيلم الفائز المأخوذ عن رواية كتبها فرانسوا بيجودو، ويحكي فيها عن ذكرياته خلال الفترة التي عمل فيها مدرسا في احدي المدارس الثانوية وقبل ان يتفرغ للتأليف والكتابة، وعن مشاكل الطلبة في تلك المدرسة وفصولها، التي تعكس أيضا هموم ومشاكل واضطرابات "جيل" كامل في فرنسا اليوم، وتمنح الفيلم واقعيته ومصداقيته. وتجعله من خلال "المدرسة"، كصورة مصغرة للمجتمع الفرنسي الكبير، ابن الحاضر وزمننا الراهن وتشمخ به عاليا. في مقابل أفلام الفارس الفكاهية التجارية الفرنسية الهشة "الهلس"، التي توظف فن السينما للتنكيت والترفيه، ودغدغة المشاعر والعواطف، وعينها علي شباك التذاكر، كما في جل أفلامنا المصرية، وتنسي الدور التعليمي المهم للسينما، كأداة ـ كما يقول المخرج و المفكر السينمائي الفرنسي الكبير جان لوك جودار ـ أداة للتفكير في مشاكل الحاضر. والجميل في الفيلم، ان كاتب الرواية بيجودو جسد بنفسه شخصيته الحقيقية في الفيلم ويمثل هنا لأول مرة، والجميل أيضا أن أن تكون البطولة فيه "جماعية"، وأن يعكس من خلال الكيان الطلابي الحاضر في الفيلم من خلال تلاميذ الفصل الصغار الهواة "تعددية" المجتمع الفرنسي الإثنية وتناقضاته وتعقيداته، وهو يعلي في ذات الوقت من قيمة وحضارة العلم والدراسة والتعليم علي المستوي الإنساني العام، من خلال "النموذج" الذي يطرحه الفيلم. كما تكشف دلالات ومعاني منح الجائزة لهذا الفيلم، ومجموعة الأفلام الاخري التي منحتها اللجنة جوائزها، أن لجنة التحكيم الموقرة، كانت تضع عينا علي "الواقع" وتضع العين الاخري علي "هموم" الناس في الحاضر، وعندما نقول الناس، فنحن نعني الأغلبية الصامتة المسحوقة في العالم ـ ناس باب الخلق ـ التي تعاني من مشاكل الحروب والأمراض والمجاعات والاحتباس الحراري والكوارث الطبيعية والتلوث وغلاء المعيشة وتدهور العلاج، واتساع الهوة بين الأغنياء المرفهين والفقراء الكادحين، ومشاكل تعليم الأولاد وتربيتهم، ومشاكل الفقر وارتفاع الأسعار المخيف، وهي تتعجب من بقائها علي قيد الحياة كل نهار بأعجوبة. كما تدل علي أن اللجنة برئاسة شون بن، و علي الرغم من وجود عدد كبير من الأفلام في المسابقة الرسمية، التي ضمت 22 فيلما، كانت علي ما يبدو اتفقت في ما بينها علي أن تمنح جوائزها فقط للأفلام، التي تقدم انعكاسا فنيا فريدا وأصيلا لمشاكل "الحاضر"، والحاضر فقط، علي اعتبار انه قد يكون جميلا بالفعل، ان تحكي السينما كما في فيلم "تبادل" للامريكي كينت ايستوود عن مشاكل امرأة مع سلطة البوليس، بعدما فقدت ابنها، غير أن أحداث تلك القصة الواقعية تقع عام 1928 في أمريكا أي تقع منذ زمن. والمهم الآن كما ارتأت اللجنة، لا أن تروي لنا السينما حكاية أو قصة وقعت منذ زمن وصارت في ذمة التاريخ، كما في حكاية فيلم "فالس مع بشير" الإسرائيلي لآري فولمان مثلا، الذي يحكي عن مذبحة صبرا وشاتيلا التي وقعت منذ عقدين، وجعلنا نبكي من فرط التأثر في نهاية الفيلم ولم يفز بشيء، بل أن تروي لنا قصة هي بنت "الحاضر" الآن، لكي تقذف بها في وجوهنا، وتقلقنا وتحركنا وتصدمنا. ومن هنا ندرك الكيفية التي منحت بها اللجنة جوائزها، و"المعيار" أو "المقياس" الذي تبنته في الحكم علي الأفلام، فالمهم هنا بالنسبة للجنة ليس الحكاية، بل "حدثيتها" ان صح التعبير، وحضورها القوي الراهن المعاصر الذي يفقأ العين، وكأن "رسالة" الدورة 61 كما أرادت اللجنة برئاسة شون أن تنوه، تكمن في أن نفتح أعيننا أكثر علي حاضرنا الآني الآن، لكي نحدق في مشاكل ومتناقضات واقعنا الإنساني الراهن، ببؤسه وقبحه وظلمه، بعنفه وبشاعته، ونتخذ موقفا "عاجلا" من قضايا عصرنا، اذ لم يعد هناك وقت لكي تكون السينما فيه مجرد "ترفيه" بريء فقط، وترفا لايقدر عليه سوي ملاك البيوت التي تكتظ رعبا، واستعراض عضلات وفذلكات فنية من خلال التلاعب بالصور والخدع والمؤثرات البصرية والألعاب النارية المدهشة، بل ينبغي أن تكون "ضرورة" وحاجة، مثل رغيف العيش، والهواء الذي نستنشقه، للتفكير في مشاكلنا الحالية، والوعي بأهمية التغيير. ولذلك، وانطلاقا من ذاك "المنظور" وزعت اللجنة برئاسة شون جوائزها، فمنحت جائزة أفضل سيناريو لفيلم "صمت دارنا" للأخوين داردين من بلجيكا الذي يحكي عن "واقع" المهاجرين اليوم، من خلال قصة مهاجرة البانية تتحايل للبقاء علي قيد الحياة في بلجيكا، هربا من حياة الفقر والحاجة في بلدها بأي ثمن، حتي لو اضطرها الأمر لارتكاب الجريمة، وعلي الرغم من أن الفيلم الذي أعجبنا، لايرقي الي مستوي فيلميهما الأثيرين "روزيتا" و "الطفل" اللذين حصدا جائزتي سعفة ذهبية من قبل في المهرجان، ونعتبر أن منح الأخوين جائزة السيناريو هي بمثابة تكريم لهما علي النهج السينمائي الواقعي الذي اعتنقاه، ومسيرتهما دوما علي ذلك الخط، وتركيزهما علي هموم الحاضر في بلجيكا، وتعاطفهما مع قضايا الغرباء والهامشيين المنسيين في المجتمعات الاوروبية الرأسمالية الاستهلاكية التي لا ترحم، كما في بلدهما. ومنحت جائزة أفضل ممثلة الي الممثلة ساندرا كورفيلوني من البرازيل التي لعبت دور الأم "كلوزا" المكافحة في فيلم "خط التمرير" لوالترساليس ودانييلا توماس، الأم التي تعاني الأمرين في تربية أبنائها الأربعة، وتشقي كخادمة من أجل أن توفر تضمن لهم ظروف العيش الكريم، رغم أحوال وأوحال البؤس والفقر في مدينة سان باولو في البرازيل، وأخطار الضياع والإدمان علي المخدرات والانحراف التي تترصدهم ككل أبناء الطبقات الفقيرة المسحوقة. ونعتبر تلك الجائزة أيضا بمثابة تكريم للسينما في أمريكا اللاتينية، و حضورها وتوهجها في كل تظاهرات المهرجان كما نوهنا. وعلي الرغم من إننا لم نعجب بفيلم "تشي" للأمريكي ستيفن سودربيرغ الذي يحكي عن مسيرة المناضل الطبيب الأرجنتيني تشي جيفارا، واعتبرنا ان الفيلم لم ينجح علي الرغم من طوله الذي يتجاوز الأربع ساعات، لم ينجح في ان يقول لنا لماذا أصبح جيفارا "أسطورة" في عصرنا، وان الإجابة علي هذا السؤال، لم تكن بحاجة الي فيلم طويل وممل كهذا الفيلم الذي لايلمح حتي ولو من بعيد الي تواطؤ المخابرات الأمريكية السي آي ايه في عملية اغتيال البطل الثوري الشهيد جيفارا علي يد العسكر في بوليفيا، إلا إننا اعتبرنا أيضا ان الممثل الامريكي بينيسيو دو لو تورو، تألق وبرز في دور المناضل الثوري العظيم، ورشحناه للحصول علي جائزة افضل ممثل، وكان يستحقها عن جدارة، ونعتبر أيضا ان منحه تلك الجائزة، هي تحية الي الفيلم وتحية أيضا الي أصحابه وهدفهم النبيل في تصوير قصة كفاح "أيقونة" من إيقونات النضال ضد الامبريالية والاستعمار في عصرنا. وكان من الطبيعي أيضا من ذلك المنظور أن تمنح اللجنة الجائزة ألكبري للمهرجان الي فيلم "غمورة" الايطالي لماتيو جارون، الذي نجح في الكشف عن آليات وأساليب هيمنة الكومورا ـ المافيا النابوليتنية ـ اليوم علي أقدار مدينة، وتحكمها في أهلها، وسيطرتها علي الجريمة المنظمة فيها، واعتبرناه أحد أهم الأفلام القوية التي بهرتنا في المهرجان، حيث يصدمنا بل يرعبنا بواقعيته الدموية، وكان موريتزيو بروسي كاتب الرواية الواقعية المأخوذ عنها الفيلم قد حضر الي المهرجان، وشارك في المؤتمر الصحفي الخاص بالفيلم تحت حراسة مشددة، بعد ان تلقي تهديدا بالقتل من عصابات الكومورا. ولا يسير هذا الفيلم "السياسي" علي نهج الأفلام السياسية الباهرة التي ظهرت في الستينيات في أعمال الايطالي فرانشيسكو روزي كما في فيلمه "سلفاتور جوليانو" 1961 مثلا، بل يجدد ايضا في "النوع" ـ أفلام الجريمة ـ ويضيف اليه من عنده، فيزيد من جرعة الواقعية وحدتها وبشاعتها وعنفها، ولا يحكي قصة كما في فيلم "الأب الروحي" لكوبولا مثلا، بل يجعنا نحبس أنفاسنا خوفا ورعبا من هول ما يحدث في الفيلم وجنونه، الذي انفجر مثل قنبلة في وجوهنا، ونحن نتابع أحداثه ونتفرج علي مصائر أبطاله في المهرجان. كما اهتمت اللجنة بفيلم "الديفو" الايطالي لباولو سرانتينو ومنحته جائزة لجنة التحكيم الخاصة لأنه يحكي عن مصير رجل سياسة معمر ( 7 سنة) من نوع نادر وفريد، وتحكي من خلال احتلاله لأرفع وأخطر المناصب السياسية في ايطاليا عن تناقضات المجتمع الايطالي وتعقيداته وسلطة المافيا. كما استحق فيلم "قرود" للتركي نوري بيلغ شولان الذي يحكي عن انهيار أسرة بالكامل لعدم قدرتها علي مواجهة "الواقع" في تركيا اليوم جائزة أفضل إخراج، وكنا أفردنا مقالا كاملا من "كان" للحديث عنه، وعن اسلوبه وموضوعه وبنيانه، في محاولة للكشف عن أسرار صنعة الإخراج فيه التي بهرتنا، وهو يستحق تلك الجائزة عن جدارة، وكنا رشحناه بقوة للحصول علي سعفة الدورة 61 الذهبية لجماله وقدرته علي الحكي بالصمت، وفنه. ونالت الممثلة الفرنسية القديرة كاترين دينوف، والممثل والمخرج الامريكي الكبير كلينت ايستوود جائزة "كان" الحادي والستين الخاصة لمجمل أعمالهما، وكنا نوهنا بدور كاترين في فيلم "حكاية عيد الميلاد" الفرنسي، وحضورها الشجاع المؤثر في فيلم "بدي شوف" للثنائي اللبناني جوانا حاجي وخليل جورجي، كما ذكرنا إعجابنا الكبير بفيلم ايستوود "تبادل" وصدقت توقعاتنا بحصوله علي جائزة خاصة في المهرجان، وحصول فيلم "جوع" للمخرج الانجليزي ستيف ماكوين، الذي يحكي عن المناضل الايرلندي بوبي ساندز الذي دفع حياته ثمنا لحصول وطنه علي حريته، من خلال إضرابه عن الطعام في السجن، وكان قد عرض في تظاهرة "نظرة خاصة"، حصوله كما توقعنا علي جائزة "الكاميرا الذهبية"، كأفضل عمل أول في جميع تظاهرات "كان" 61 الرسمية وغير الرسمية، كما بمجرد ما شاهدناه في حفل افتتاح تظاهرة "نظرة خاصة" اعتبرناه "تحفة" سينمائية، و أهم فيلم سياسي في المهرجان علي الفور، ورشحناه مباشرة للحصول علي تلك الجائزة، ولاشك ان الحديث عن هذه الأفلام، إضافة الي الأفلام العربية التي عرضت في المهرجان وأعجبتنا أو أزعجتنا، يحتاج الي وقفة أخري في عدد مقبل من (الكلمة).
تري إلي أي "نوع" سينمائي انحازت لجنة تحكيم مهرجان "كان" السينمائي الدولي، عند توزيع جوائزها في نهاية أعظم استعراض سينمائي في العالم، والحدث الإعلامي الدولي الثالث من حيث الأهمية بعد الدورة الاوليمبية ونهائيات كأس كرة القدم، حيث استقطبت دورة المهرجان 61 الأخيرة أكثر من 4000 آلاف صحفي ومصور من أنحاء المعمورة. إضافة إلي حشد النجوم الذين حضروا المهرجان مثل شارون ستون وكاترين دينوف وكلينت ايستوود وودي الآن وكوستوريكا وستيفن سبيلبيرغ وهاريسون فورد وروبرت دونيرو والملاكم تايسون وجورج لوكاش ومادونا ولاعب كرة القدم الأرجنتيني المعجزة مارادونا وغيرهم؟ ثم ما هي المبادئ والأفكار والقيم، التي حاولت اللجنة إرسائها وتكريسها، من خلال خياراتها السينمائية الملهمة في نهاية "عيد السينما" في العالم بلا منافسة، لكي تعلي من شأن الفن السابع ابن عصرنا وزمننا و "حضارة السلوك" الكبرى في القرن الواحد والعشرين؟
كاد شون بن الممثل والمخرج الأمريكي رئيس لجنة التحكيم في مهرجان «كان» 61 يبكي من فرط تأثره، وهو يعلن في حفل توزيع الجوائز والختام عن فوز الفيلم الفرنسي "الفصل" أو بالفرنسية ENTRE LES MURS أي "بين الجدران" فوزه بجائزة السعفة الذهبية، وهو يري فرحة مخرج الفيلم لوران كانتيه والتلاميذ من الهواة الذين شاركوا في تمثيله ومجموعة طاقم الفيلم الفني، يقفزون ويتصافحون ويتعانقون ويهنئون بعضهم البعض، فأخيرا وبعد مرور 21 سنة، تمنح الجائزة لفيلم ينتمي إلي الدولة المضيفة للمهرجان، أي لفرنسا، وكانت آخر مرة يفوز فيها فيلم فرنسي بتلك الجائزة "السعفة الذهبية" في المهرجان، فيلم "تحت سماء الشيطان" للفرنسي موريس بيالام منذ أكثر من عقدين. وظهر أن لجنة التحكيم برئاسة شون بن، انحازت في اختياراتها لتوزيع جوائزها الي "سينما الواقع"، التي تحكي الآن عن هموم الناس، وتناقضات مجتمعاتنا الإنسانية، وأزماتها ومشاكلها.
حيث يطرح الفيلم الفائز المأخوذ عن رواية كتبها فرانسوا بيجودو، ويحكي فيها عن ذكرياته خلال الفترة التي عمل فيها مدرسا في احدي المدارس الثانوية وقبل ان يتفرغ للتأليف والكتابة، وعن مشاكل الطلبة في تلك المدرسة وفصولها، التي تعكس أيضا هموم ومشاكل واضطرابات "جيل" كامل في فرنسا اليوم، وتمنح الفيلم واقعيته ومصداقيته. وتجعله من خلال "المدرسة"، كصورة مصغرة للمجتمع الفرنسي الكبير، ابن الحاضر وزمننا الراهن وتشمخ به عاليا. في مقابل أفلام الفارس الفكاهية التجارية الفرنسية الهشة "الهلس"، التي توظف فن السينما للتنكيت والترفيه، ودغدغة المشاعر والعواطف، وعينها علي شباك التذاكر، كما في جل أفلامنا المصرية، وتنسي الدور التعليمي المهم للسينما، كأداة ـ كما يقول المخرج و المفكر السينمائي الفرنسي الكبير جان لوك جودار ـ أداة للتفكير في مشاكل الحاضر. والجميل في الفيلم، ان كاتب الرواية بيجودو جسد بنفسه شخصيته الحقيقية في الفيلم ويمثل هنا لأول مرة، والجميل أيضا أن أن تكون البطولة فيه "جماعية"، وأن يعكس من خلال الكيان الطلابي الحاضر في الفيلم من خلال تلاميذ الفصل الصغار الهواة "تعددية" المجتمع الفرنسي الإثنية وتناقضاته وتعقيداته، وهو يعلي في ذات الوقت من قيمة وحضارة العلم والدراسة والتعليم علي المستوي الإنساني العام، من خلال "النموذج" الذي يطرحه الفيلم.
كما تكشف دلالات ومعاني منح الجائزة لهذا الفيلم، ومجموعة الأفلام الاخري التي منحتها اللجنة جوائزها، أن لجنة التحكيم الموقرة، كانت تضع عينا علي "الواقع" وتضع العين الاخري علي "هموم" الناس في الحاضر، وعندما نقول الناس، فنحن نعني الأغلبية الصامتة المسحوقة في العالم ـ ناس باب الخلق ـ التي تعاني من مشاكل الحروب والأمراض والمجاعات والاحتباس الحراري والكوارث الطبيعية والتلوث وغلاء المعيشة وتدهور العلاج، واتساع الهوة بين الأغنياء المرفهين والفقراء الكادحين، ومشاكل تعليم الأولاد وتربيتهم، ومشاكل الفقر وارتفاع الأسعار المخيف، وهي تتعجب من بقائها علي قيد الحياة كل نهار بأعجوبة. كما تدل علي أن اللجنة برئاسة شون بن، و علي الرغم من وجود عدد كبير من الأفلام في المسابقة الرسمية، التي ضمت 22 فيلما، كانت علي ما يبدو اتفقت في ما بينها علي أن تمنح جوائزها فقط للأفلام، التي تقدم انعكاسا فنيا فريدا وأصيلا لمشاكل "الحاضر"، والحاضر فقط، علي اعتبار انه قد يكون جميلا بالفعل، ان تحكي السينما كما في فيلم "تبادل" للامريكي كينت ايستوود عن مشاكل امرأة مع سلطة البوليس، بعدما فقدت ابنها، غير أن أحداث تلك القصة الواقعية تقع عام 1928 في أمريكا أي تقع منذ زمن. والمهم الآن كما ارتأت اللجنة، لا أن تروي لنا السينما حكاية أو قصة وقعت منذ زمن وصارت في ذمة التاريخ، كما في حكاية فيلم "فالس مع بشير" الإسرائيلي لآري فولمان مثلا، الذي يحكي عن مذبحة صبرا وشاتيلا التي وقعت منذ عقدين، وجعلنا نبكي من فرط التأثر في نهاية الفيلم ولم يفز بشيء، بل أن تروي لنا قصة هي بنت "الحاضر" الآن، لكي تقذف بها في وجوهنا، وتقلقنا وتحركنا وتصدمنا.
ومن هنا ندرك الكيفية التي منحت بها اللجنة جوائزها، و"المعيار" أو "المقياس" الذي تبنته في الحكم علي الأفلام، فالمهم هنا بالنسبة للجنة ليس الحكاية، بل "حدثيتها" ان صح التعبير، وحضورها القوي الراهن المعاصر الذي يفقأ العين، وكأن "رسالة" الدورة 61 كما أرادت اللجنة برئاسة شون أن تنوه، تكمن في أن نفتح أعيننا أكثر علي حاضرنا الآني الآن، لكي نحدق في مشاكل ومتناقضات واقعنا الإنساني الراهن، ببؤسه وقبحه وظلمه، بعنفه وبشاعته، ونتخذ موقفا "عاجلا" من قضايا عصرنا، اذ لم يعد هناك وقت لكي تكون السينما فيه مجرد "ترفيه" بريء فقط، وترفا لايقدر عليه سوي ملاك البيوت التي تكتظ رعبا، واستعراض عضلات وفذلكات فنية من خلال التلاعب بالصور والخدع والمؤثرات البصرية والألعاب النارية المدهشة، بل ينبغي أن تكون "ضرورة" وحاجة، مثل رغيف العيش، والهواء الذي نستنشقه، للتفكير في مشاكلنا الحالية، والوعي بأهمية التغيير. ولذلك، وانطلاقا من ذاك "المنظور" وزعت اللجنة برئاسة شون جوائزها، فمنحت جائزة أفضل سيناريو لفيلم "صمت دارنا" للأخوين داردين من بلجيكا الذي يحكي عن "واقع" المهاجرين اليوم، من خلال قصة مهاجرة البانية تتحايل للبقاء علي قيد الحياة في بلجيكا، هربا من حياة الفقر والحاجة في بلدها بأي ثمن، حتي لو اضطرها الأمر لارتكاب الجريمة، وعلي الرغم من أن الفيلم الذي أعجبنا، لايرقي الي مستوي فيلميهما الأثيرين "روزيتا" و "الطفل" اللذين حصدا جائزتي سعفة ذهبية من قبل في المهرجان، ونعتبر أن منح الأخوين جائزة السيناريو هي بمثابة تكريم لهما علي النهج السينمائي الواقعي الذي اعتنقاه، ومسيرتهما دوما علي ذلك الخط، وتركيزهما علي هموم الحاضر في بلجيكا، وتعاطفهما مع قضايا الغرباء والهامشيين المنسيين في المجتمعات الاوروبية الرأسمالية الاستهلاكية التي لا ترحم، كما في بلدهما.
ومنحت جائزة أفضل ممثلة الي الممثلة ساندرا كورفيلوني من البرازيل التي لعبت دور الأم "كلوزا" المكافحة في فيلم "خط التمرير" لوالترساليس ودانييلا توماس، الأم التي تعاني الأمرين في تربية أبنائها الأربعة، وتشقي كخادمة من أجل أن توفر تضمن لهم ظروف العيش الكريم، رغم أحوال وأوحال البؤس والفقر في مدينة سان باولو في البرازيل، وأخطار الضياع والإدمان علي المخدرات والانحراف التي تترصدهم ككل أبناء الطبقات الفقيرة المسحوقة. ونعتبر تلك الجائزة أيضا بمثابة تكريم للسينما في أمريكا اللاتينية، و حضورها وتوهجها في كل تظاهرات المهرجان كما نوهنا. وعلي الرغم من إننا لم نعجب بفيلم "تشي" للأمريكي ستيفن سودربيرغ الذي يحكي عن مسيرة المناضل الطبيب الأرجنتيني تشي جيفارا، واعتبرنا ان الفيلم لم ينجح علي الرغم من طوله الذي يتجاوز الأربع ساعات، لم ينجح في ان يقول لنا لماذا أصبح جيفارا "أسطورة" في عصرنا، وان الإجابة علي هذا السؤال، لم تكن بحاجة الي فيلم طويل وممل كهذا الفيلم الذي لايلمح حتي ولو من بعيد الي تواطؤ المخابرات الأمريكية السي آي ايه في عملية اغتيال البطل الثوري الشهيد جيفارا علي يد العسكر في بوليفيا، إلا إننا اعتبرنا أيضا ان الممثل الامريكي بينيسيو دو لو تورو، تألق وبرز في دور المناضل الثوري العظيم، ورشحناه للحصول علي جائزة افضل ممثل، وكان يستحقها عن جدارة، ونعتبر أيضا ان منحه تلك الجائزة، هي تحية الي الفيلم وتحية أيضا الي أصحابه وهدفهم النبيل في تصوير قصة كفاح "أيقونة" من إيقونات النضال ضد الامبريالية والاستعمار في عصرنا.
وكان من الطبيعي أيضا من ذلك المنظور أن تمنح اللجنة الجائزة ألكبري للمهرجان الي فيلم "غمورة" الايطالي لماتيو جارون، الذي نجح في الكشف عن آليات وأساليب هيمنة الكومورا ـ المافيا النابوليتنية ـ اليوم علي أقدار مدينة، وتحكمها في أهلها، وسيطرتها علي الجريمة المنظمة فيها، واعتبرناه أحد أهم الأفلام القوية التي بهرتنا في المهرجان، حيث يصدمنا بل يرعبنا بواقعيته الدموية، وكان موريتزيو بروسي كاتب الرواية الواقعية المأخوذ عنها الفيلم قد حضر الي المهرجان، وشارك في المؤتمر الصحفي الخاص بالفيلم تحت حراسة مشددة، بعد ان تلقي تهديدا بالقتل من عصابات الكومورا. ولا يسير هذا الفيلم "السياسي" علي نهج الأفلام السياسية الباهرة التي ظهرت في الستينيات في أعمال الايطالي فرانشيسكو روزي كما في فيلمه "سلفاتور جوليانو" 1961 مثلا، بل يجدد ايضا في "النوع" ـ أفلام الجريمة ـ ويضيف اليه من عنده، فيزيد من جرعة الواقعية وحدتها وبشاعتها وعنفها، ولا يحكي قصة كما في فيلم "الأب الروحي" لكوبولا مثلا، بل يجعنا نحبس أنفاسنا خوفا ورعبا من هول ما يحدث في الفيلم وجنونه، الذي انفجر مثل قنبلة في وجوهنا، ونحن نتابع أحداثه ونتفرج علي مصائر أبطاله في المهرجان. كما اهتمت اللجنة بفيلم "الديفو" الايطالي لباولو سرانتينو ومنحته جائزة لجنة التحكيم الخاصة لأنه يحكي عن مصير رجل سياسة معمر ( 7 سنة) من نوع نادر وفريد، وتحكي من خلال احتلاله لأرفع وأخطر المناصب السياسية في ايطاليا عن تناقضات المجتمع الايطالي وتعقيداته وسلطة المافيا.
كما استحق فيلم "قرود" للتركي نوري بيلغ شولان الذي يحكي عن انهيار أسرة بالكامل لعدم قدرتها علي مواجهة "الواقع" في تركيا اليوم جائزة أفضل إخراج، وكنا أفردنا مقالا كاملا من "كان" للحديث عنه، وعن اسلوبه وموضوعه وبنيانه، في محاولة للكشف عن أسرار صنعة الإخراج فيه التي بهرتنا، وهو يستحق تلك الجائزة عن جدارة، وكنا رشحناه بقوة للحصول علي سعفة الدورة 61 الذهبية لجماله وقدرته علي الحكي بالصمت، وفنه.
ونالت الممثلة الفرنسية القديرة كاترين دينوف، والممثل والمخرج الامريكي الكبير كلينت ايستوود جائزة "كان" الحادي والستين الخاصة لمجمل أعمالهما، وكنا نوهنا بدور كاترين في فيلم "حكاية عيد الميلاد" الفرنسي، وحضورها الشجاع المؤثر في فيلم "بدي شوف" للثنائي اللبناني جوانا حاجي وخليل جورجي، كما ذكرنا إعجابنا الكبير بفيلم ايستوود "تبادل" وصدقت توقعاتنا بحصوله علي جائزة خاصة في المهرجان، وحصول فيلم "جوع" للمخرج الانجليزي ستيف ماكوين، الذي يحكي عن المناضل الايرلندي بوبي ساندز الذي دفع حياته ثمنا لحصول وطنه علي حريته، من خلال إضرابه عن الطعام في السجن، وكان قد عرض في تظاهرة "نظرة خاصة"، حصوله كما توقعنا علي جائزة "الكاميرا الذهبية"، كأفضل عمل أول في جميع تظاهرات "كان" 61 الرسمية وغير الرسمية، كما بمجرد ما شاهدناه في حفل افتتاح تظاهرة "نظرة خاصة" اعتبرناه "تحفة" سينمائية، و أهم فيلم سياسي في المهرجان علي الفور، ورشحناه مباشرة للحصول علي تلك الجائزة، ولاشك ان الحديث عن هذه الأفلام، إضافة الي الأفلام العربية التي عرضت في المهرجان وأعجبتنا أو أزعجتنا، يحتاج الي وقفة أخري في عدد مقبل من (الكلمة).