يقدم لنا الكاتب والشاعر التونسي هنا بعض آليات الحراك الشعري التونسي في السبعينات وكيفية استشرافه لآفاق شعرية وتعبيرية جديدة، وتخليقه لعلاقات متفردة مع المتن الشعري العربي المعاصر.

تلك التلال عند المنخفضات

شعر السبعينيات بتونس

عبدالوهّاب الملوّح

لم تكن قصيدة "الأصنام" التي ألقاها جعفر ماجد في المؤتمر التاسع للأدباء العرب بالقيروان سنة 1973 ردّة فعل شاعر تونسي على الوضع العربي وقتها؛ لعلها في حقيقتها هجوم شعري على أولئك الذين رفعوا راية التجديد في الشعر والأدب عموما ودعوا إلى التمرد على الأساليب التقليدية في الكتابة ومجاوزة المعهود وعى رأسهم أساسا عز الدين المدني الذي أصدر كتابا جريئا ومختلفا للمناخ السائد وقتها "في الأدب التجريبي" قبل عام من إلقاء هذه القصيدة. سوف لن يصل الأمر بين المجددين على قلتهم والقدامى في سبعينيات القرن الماضي بتونس إلى درجة المعارك الأدبية الساخنة والمتواترة التي شهدتها ساحات الأدب في مصر خصوصا ولكن سيكشف مدى عمق الهوَّة وبعد المسافة بين الأقلية الداعية للتجديد والتجريب والأكثرية التي تلتزم بالموروث دون ا، تعمل على تثويره أو حتى نفض الغبار عنه.

وفي الوقت الذي كان فيه الشعر العربي بالمشرق ـ لبنان ومصر والعراق ـ قد حقق انجازات عظيمة خلخلت السواكن وكسرت الانساق وأعادت النظر في الرؤى والمفاهيم؛ ومضى أشواطا بعيدة في البحث عن تقنيات مختلفة وأدوات مغايرة؛ متجاوزا الكلاسيكي وهو يحطم الأصنام ويهدم أٍكان هياكل معبد المقدس في القول الشعري ويزلزل أسسه فينأى بعيدا في المغامرة على الصعيد النظري كما في المنجز الابداعي؛ في هذا الوقت الذي ترسخت فيه قصيدة التفعيلة كما نظرت لها الراحلة نازك الملائكة والسياب بدأ نجم قصيدة النثر يستقطب الأنظار ويسيل الحبر وطالت المغامرة استكشاف مجاهيل مختلفة تماما في الكتابة وظهر النص المفتوح عند بعض الرواد من مثل أدونيس؛ كان شعراء أوائل السبعينيات في بلاد الشابي يزدادون تعلقا بتقليد التقليد؛ والقصيدة عندهم أبعد من أن تكون مجالا للبحث الجمالي والتفجير اللغوي والتجريب في الأسلوب بما يستدعيه من التكثيف الدلالي والتأويل الرؤيوي المغاير للوجود.

لم يكن ثمة من سبيل للمس من قدسية القصيدة وأسلوب قرضها واجتراحها فهي التي لا يمكن نظمها إلا على هدي مما جاء به الأولون وفقا لقوانين الخليل ومعارضة للشعراء القدامى لذلك سيوفق جمال الدين حمدي وعبد العزيز قاسم وأحمد اللغماني وجعفرر ماجد وهم فرسان القول الشعري في ذلك الوقت؛ سيوفقون في نظم قصائد بالغة الفصاحة؛ متينة البلاغة واضحة الأغراض شديدة الانضباط للموازين وزحافاتها وأعرضها العمودية منها والقليل من قصيدة التفعيلة الذي اجترحوه؛ وهي كتابات موغلة في الرومنطيقية ذاتية في مقارباتها؛ فأحمد اللغماني الذي كان الشعر عنده انفعال تعبيري في توجه رومنطيقي صريح يكشف هموم الذات في علاقتها بالآخر ـ الطبيعة؛ الوطن؛ الحبيبة؛ الزعيم؛ يجلي تأوهاتها بنفس ملحمي أحيانا تدعمه الخبرة الفائقة في كيفية تشغيل الآلة الوزنية ويسنده معجم لغوي فخم وبليغ ينضاف إلأيه القدرة على بناء جملة محكمة البنيان وفق المعايير النحوية الدقيقة وما يزينها من محسنات بديعية تنهل أساسا من البلاغة القديمة الاستعارة والكناية والتورية ألخ الخ الخ... يقول في قصيدة "أيها الروح.. حبيبي 

الجمال الذي فتننت به كنت أضحى حربا على ناظريا
لا الأغاريد ولا الأزاهير تسته وي فؤادي ولا جمال المحيا
حيث روحي مازال منها وما استم تع أن نفضت منها يديَّا

لن يختلف عنه عبد العزيز قاسم كثيرا ولو أنه عمل أحيانا على كتابة قصيدة التفعيلة لكن بقي أسير الرؤيا المعتادة في كيفية اجتراح القصيدة يقول في قصيدة "التضخم البشري":

في البيت سبعة صبية مازال ثامنهم جنين
الأم تحمله كما حمل الحشا داء دفين
هرمت ولم تعد الشباب بريئة منها السنون

أما جمال الدين حمدي فجاءت قصائده في شكل تفجعات ذاتية تغلب عليها السوداوية والتشاؤمية يقول في قصيدة "راحل مع الليل":

سأمضي... سأمضي مع الليل وحدي ليلفظني الدرب أنى شاء
فقد كان قربي منط فجر وأبعدني عنك هذا المساء
ولف وجودي.. وحي زفرات يصارعها الصمت والكبرياء

هذه التشاؤمية البالغة سينأى عنها جعفر ماجد ليتغني بالحبيبة على في استعادة للمقاربة النزارية للمرأة دون القدرة على بلوغ جرأة صاحب بلقيس على المستويين: الشكلي والمضموني يقول في قصيدة "الساحرة":

سئمت الكلام الذي حفظوه
عن العشق والعاشقين
فقل لي كلاما بلا ذاكره
فكل المواعيد ألغيتها من سنين.

ستأكد التقليد على مستوى الشكل مع ميل إلى تلمس قضايا الأمة ونزعة الى التعبير عما تكابده الجماهير من معاناة على الصعيد الاجتماعي والسياسي متطلعة في كتاباتها على الإفصاح عما تصبو إليه الطبقات الكادحة من الشعب متفاعلة مع طموحاته و خيباته في غنائية رومنطيقية تترواح بين الملحمية والذاتية وهو الشأن في قصائد الميداني بن صالح وأحمد القديدي وشيئا ما محي الدين خريف؛ ورغم تغير اتجاه دفة القول عند هذه الجماعة الأخيرة إلا ا، سياستهم للقصيدة بقيت أسيرة المنظور التقليدي حبيسة الرؤيا الكلاسيكية للشعر ولعل كتابات منور صمادح حتى المتأخرة منها كانت الأقرب إلي المجازفة والجرأة.

سيكون للواقع العربي عموما وللشأن السياسي في تونس دورهما في دفع هذا الاتجاه؛ اتجاه توظيف الشعر لقضايا الجماهير الكادحة والقادحة لتوجهات مختلفة في التعامل مع الشعر فظهرت جماعة " في غير العمودي والحر" بدعواتها إلى التمرد على العمود متناغمة مع ما جاء من أفكار في كتاب "الأدب التجريبي" دون المخاطرة بتبني كل ما جاء فيه من أفكار خلاقة ومبدعة وداعية للبحث والمكابدة الابداعية على أن تكون الكتابة "إحراج يومي" كما يقول عزالدين المدني؛ لقد عمل أصحاب "في غير العمودي والحر" على الثورة على قانون الخليل وتحرير النص من جميع القيود العروضية والبلاغية واللغوية لينهلوا من المخزون اللغوي الدارج أوفياء في التحامهم بقضايا الجماهر والتعبير بأصواتها لذلك جاءت قصائد الطاهر الهمامي والحبيب زناد أشبه ببيانات سياسية أو تظاهرات احتجاجية تعلب عليها الخطابية المباشرة والتصريح لا التلميح والكلام اليومي مكان اللغة المكثفة المشحونة دلاليا؛ يقول الطاهر الهمامي في قصيدة "عجلات مطاط":

وعربه
للسواقط والساقطين والسقَّاط
ومن سقطوا أو اسّاقطوا
وألفوا السقوط والانحطاط
وأنا وأنت والشارع يدوسنا يمشي علينا ويسوقنا يلهبنا بالسياط.
أما الحبيب الزناد فهو يقول في قصيدة "من زمن ما":
لف ودوران
دوران ولف
ركوع الكلب جوعا يهرب هروبا يجري
قف قف قف
صف مصفوف والإنسان
الكلب على عينيه غشاوة.

هكذا كانت مقاربة جماعة "في غير العمودي والحر" للشعر الطاهر الهمامي الحبيب الزناد وإلأى حد ما الشاعر نورالدين عزيزة في مجموعته "الحفر في أرض صخرية" كان هاجس التغيير قد تملك هؤلاء الجماعة لكنه لم يكن من اجل تثوير الشعر والتمرد على المؤسسة الارثودوكسية والوفاء لسارق النار بالانقلاب المتجدد فمازال الأمر بعيد عندهم عن الحفر العميق في شؤون اللغة وتصريفاتها وممكنات تجليها وكيفية تثويرها من داخلها وتفخيخها بالرؤى الخلاقة وما كان يهمهم البحث في استغلال البياض وتأويله وادماجه عنصرا من عناصر النص ولم يكن هاجس البحث الجمالي من مشاغلهم وسيبقى الاستثناء الوحيد وقتها ما كتبته فضيلة الشابي التي عملت من اجل كتابة نص مختلف على جميع الأصعدة بعيدا عن الغنائية الرومنطيقية منفلتا من إسار قيود العمود يبحث في جوهر الشعر وهو ما سيتضح شيئا ما في اشعار المختار الللغماني الذي كان يعد بالكثير لولا ان المنية وافته مبكرا.

وبين جماعة "في غير العمودي والحر" والمقلدين كان هناك مجموعة من الشعراء الجدد لا يمكن تصنيفهم ضمن أي اتجاه ذلك أنهم دخلوا مغامرة التجريب من أبواب مختلفة؛ فتنوعت أسااليبهم واختلفت عندهم الرؤى؛ كانوا يعيشون فترة المخاض ويركبون رياحا مغايرة تماما لما هو سائد ف: المنصف الوهايبي؛ علي دب؛ سويلمي بوجمعة؛ محمد أحمد القابسي؛ محمد الخالدي حميدة الصولي أظهروا توجهات مختلفة في الكتابة الشعرية وبدأـ تظهر تشكلات جديدة للمشهد الشعري التونسي ستتأكد في الملتقى الوطني الاول للشعراء بالحمامات يسنة 1981 والذي كان مناسبة لهذي التشكلات لتعلن بياناتها كما فعل ما اتفق على تسميتهم بـ "الريح الابداعية" والتي ضمت: آدم فتحي؛ المنصف المزغني؛ سوف عبيد؛ محمد العوني؛ مخمد بن صالح أو جماعة "الشعراء الصوفيين": المنصف الوهايبي ومحمد الغزي.

سوف يدخل الشعر التونسي منذ الثمانينيات مرحلة مختلفة تماما ومغايرة هي مرحلة البحث والتجريب الخارق لتولد أسماء جديدة وتظهر تجارب أشد شراسة في البحث عن جمالية جوهر الشعر.